المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامستاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الخامستاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

‌الفصْل الخامسُ

تاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

انقسام اسبانيا النصرانية فى القرن الحادى عشر. تنافس الإمارات النصرانية. القضاء على مملكة نافار وعودها. اتحاد قطلونية وأراجون. الممالك النصرانية خلال القرن الثانى عشر. تنافسها وتنابذها. اجتماع كلمتها فى الصراع ضد المسلمين. قشتالة وأراجون. القيصر الفونسو ريمونديس. تحالف قشتالة وأراجون ضد نافار. اختفاؤها كمملكة مستقلة. فرناندو الثالث ملك قشتالة. اندماج مملكة ليون فى قشتالة. غزو فرناندو الثالث للأراضى الإسلامية. استيلاؤه على أبدة وقرطبة ومرسية. غزوه لأراضى ابن الأحمر. استيلاؤه على إشبيلية. وفاته وتلقيبه بالمقدس. مملكة أراجون. ملكها خايمى. غزوه للجزائر الشرقية. استيلاؤه على ميورقة. حصاره لبلنسية وسقوطها. استيلاؤه على دانية. وفاته وتلقيبه بالفاتح.

- 1 -

لما انهارت الدولة الإسلامية الكبرى بالأندلس، فى أوائل القرن الحادى عشر الميلادى، وانتثرت إلى عدة دول وإمارات صغيرة متنافسة هى دول الطوائف، كانت اسبانيا النصرانية تجوز حالة مماثلة من تعدد الإمارات والدول، وإن لم تبلغ ما بلغته اسبانيا المسلمة من الإنقسام والتفرق. والحقيقة أن اسبانيا النصرانية كانت قد اتحدت فى أوائل القرن الحادى عشر تحت سلطان ملك قوى، هو سانشو الثالث الملقب بسانشو الكبير (شانجُه) ملك نافار (نبرَّة أو بلاد البشكنس)، وكانت المملكة النصرانية تمتد يومئذ، من جبال البرنيه شرقاً إلى شانت ياقب غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوباً. فلما توفى سانشو فى سنة 1035 م، قسمت مملكته الكبيرة بين أولاده الأربعة، فاختص ولده فرناندو بقشتالة وغرسية بنافار؛ وحكم راميرو رقعة ضيقة تمتد جنوباً بشرق باسم مملكة أراجون، فكان هذا مولد هذه المملكة النصرانية التى نمت بسرعة ولعبت فيما بعد أعظم دور فى تاريخ النضال بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية. وحكم ولده الرابع كونثالو ولاية سوبرابى فى أواسط البرنيه. وأما مملكة ليون وجلّيقية فى الغرب فكان يحكمها صهره برمودو الثالث. وكانت تقوم ثمة فى الشرق على

ص: 84

شاطىء البحر إمارة قطلونية المستقلة ويحكمها آل برنجير (1). وهكذا انقسمت المملكة النصرانية إلى عدة وحدات متنافسة. وكان من حسن طالع المسلمين أن يقع هذا الإنقسام، فى الوقت الذى انهارت فيه الدولة الإسلامية الكبرى، وتقاسمت أشلاءها دول الطوائف الضعيفة، وبذا قام مدى حين نوع من التوازن بين القوتين المتداعيتين. على أنه بينما استمرت الأندلس فريسة الاضطراب والتفرق، إذا باسبانيا النصرانية تسير بخطوات متعاقبة فى سبيل الإتحاد والتوطد. ومع أن هذه الخطوات لم تكن دائما ثابتة الأثر، فإنها كانت تعمل بمضى الزمن على توحيد قوى الممالك النصرانية لمواجهة العدو المشترك أعنى اسبانيا المسلمة. وكانت قشتالة تعمل باستمرار لضم مملكة ليون إليها، وقد نجحت غير مرة فى تحقيق مشروعها بالعنف لمدى قصير. وكانت أراجون تتوق إلى ضم إمارة قطلونية التى كانت تحجبها عن البحر، وكانت المملكتان تعملان معاً للقضاء على مملكة نافار الصغيرة، وقد ائتمرتا بالفعل على اقتسامها بالعنف، فاستولت قشتالة على القسم المحاذى لنهر إيبرو، واستولت أراجون على القسم الواقع على جبال البرنيه، وبذلك اختفت مملكة نافار مدى حين (1076 م). ولكن هذه المملكة الصغيرة الباسلة عادت فاستردت استقلالها بعد ذلك بنحو ستين عاماً. وذلك أنه حينما توفى ألفونسو المحارب ملك أراجون وتولى الملك مكانه أخوه الراهب راميرو سنة 1134 م، رفع النافاريون على العرش أميراً من سلالة ملوكهم القدماء هو غرسية راميرس، وانفصلت نافار بذلك عن أراجون وقشتالة، واستأنفت حياتها المستقلة حقبة أخرى. ولكن أراجون وقطلونية أتيح لهما أن يتحدا غير بعيد فى مملكة موحدة، وذلك أن ريمون برنجير أمير قطلونية تزوج بترونلا ابنة راميرو ملك أراجون، ولما توفى راميرو دون عقب تولى ريمون برنجير أيضاً ملك أراجون واتحدت المملكتان تحت تاج واحد، وقامت مملكة أراجون الكبيرة من ذلك الحين (1137 م)(2).

كانت الممالك الإسبانية النصرانية خلال القرن الثانى عشر خمساً، هى قشتالة

(1) سبق أن فصلنا تاريخ إمارة قطلونية وحكامها من آل برنجير، فى كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " - القسم الأول - ص 499 - 502.

(2)

ذكرنا تفاصيل اتحاد قطلونية وأراجون فى "عصر المرابطين والموحدين" - القسم الأول ص 498 و 510.

ص: 85

وليون وأراجون ونافار والبرتغال، وكانت البرتغال قبل ذلك ولاية من ولايات جلِّيقية أو إمارة تخضع لها، ولم تفز باستقلالها إلا فى منتصف القرن الثانى عشر، فى عهد أول ملوكها المستقلين ألفونسو هنريكيز (1). وكانت هذه الممالك النصرانية الخمس دائمة الخلاف والتنافس، هذا فضلا عما كان يعانيه كل منها من الثورات والحروب الداخلية حول وراثة العرش. بيد أن هذه الممالك المتنافسة، كانت تجتمع دائماً تحت علم واحد هو علم النضال ضد اسبانيا المسلمة، فنرى جيوشها تجتمع متحدة فى موقعة الفزلَاّقة للقاء الجيوش الإسلامية المتحدة (479 هـ - 1086 م). وبالرغم من أن جيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، لقيت بمفردها جيوش الموحدين بقيادة يعقوب المنصور فى موقعة الأرك الشهيرة (593 هـ - 1195 م)، وهى التى ظفر الموحدون فيها بالنصر الباهر، فإنه لم تمض خمسة عشر عاما أخرى، حتى عادت اسبانيا النصرانية تشعر كلها بشعور واحد، هو شعور الخطر المشترك إزاء العدو المشترك. ومن ثم فإنه لما نشبت موقعة العقاب (609 هـ - 1212 م) وهى ثالثة المواقع العظيمة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية فى اسبانيا منذ الزلاقة، اجتمعت جيوش الممالك الاسبانية النصرانية كلها - قشتالة وأراجون ونافار - فى قواتهم، ومعهم أمداد كبيرة من ليون ومن البرتغال، للقاء الجيوش الموحدية بقيادة محمد الناصر ولد يعقوب المنصور، وفيها أصيب المسلمون بهزيمة مروعة، كانت بدء الإنحلال العام فى قوى الموحدين وقوى الأندلس. وهكذا كانت اسبانيا النصرانية تبدو إزاء اسبانيا المسلمة، كلما جدّ الخطر، موحدة الرأى والقوى. على أن الممالك النصرانية كانت تشعر فوق ذلك، أن هذا التقسيم الجغرافى المتعدد يفت فى قواها، ولا يلائم مصالحها القومية. وكانت قشتالة وجارتها الشرقية أراجون، هما أقوى الممالك النصرانية وأكبرهما رقعة، وكانت كلتاهما تطمح إلى التوسع وضم ما يليها من أراضى الممالك الصغرى، فكانت أراجون تطمح بعد انضمام قطلونية إليها، إلى انتزاع ولايات نافار المجاورة لها، وكانت قشتالة تطمح إلى ضم قرينتها وجارتها القديمة ليون، وإلى انتزاع ما بقى من ولايات نافار المجاورة لها، وهى ولايات البشكنس؛ وكانت إمارة البرتغال

(1) تحدثنا تفصيلا عن قيام مملكة البرتغال وملكها ألفونسو هنريكيز فى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الأول - ص 521 - 528. ويعرف الفونسو هنريكيز فى الرواية العربية، بابن الرنق أو ابن الرنك تحريفاً لهنريكيز أو إنريكى الإسبانية.

ص: 86

الصغيرة الناشئة تدافع عن كيانها واستقلالها بصعوبة، خلال هذه الأطماع المضطرمة، وقد استطاع ملك قشتالة القوى ألفونسو ريمونديس (1117 - 1157 م) الذى تلقب بالقيصر، أن يبسط على اسبانيا النصرانية فى أواخر حكمه حماية عامة، على أنه لم يحكم بالفعل سوى قشتالة وليون وجلِّيقية.

وفى أواخر القرن الثانى عشر، عادت الحرب الأهلية تعصف بالممالك النصرانية، وتضطرم بين نافار وبين قشتالة وأراجون. ونراها تضطرم عقب موقعة الأرك، بين قشتالة وبين نافار وليون المتحالفين على قتالها. وكانت نافار المملكة الصغيرة الباسلة تدافع عن استقلالها إزاء أطماع جيرانها الأقوياء دفاعاً متواصلا، ولاسيما فى عهد ملكها سانشو السابع آخر ملوكها الأقوياء، وكان سانشو ينظر إلى تحالف جارتيه قشتالة وأراجون بعين الجزع، ويستشعر منه الخطر الداهم على ملكه واستقلال أمته، ولم يكتف بالتحالف مع ليون وهى المملكة الصغيرة الأخرى التى تخشى على استقلالها من أطماع قشتالة، بل حاول أن يستمد عون سلطان خليفة الموحدين الظافر يعقوب المنصور، وأن يعقد معه محالفة دفاعية، وسار فى بطانته إلى إشبيلية يحاول لقاءه، ولكن الخليفة المنصوركان قد توفى فى ذلك الحين. ولما عاد سانشو ألفى جاريه القويين بيدرو الأول ملك أراجون وألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد انقضا فى غيابه على نافار يحاولان اقتسامها؛ وبالرغم مما أبداه النافاريون من الدفاع الباسل فقد استطاع ألفونسو أن ينتزع ولايات بسكونية وأن يضمها إلى مملكته (سنة 1200 م)، واستطاع بيدرو أن ينتزع بعض الأراضى المجاورة لأراجون، ولم يبق من مملكة نافار القديمة سوى جزئها الشمالى. ولم تمض فترة قصيرة أخرى حتى ذهب هذا الجزء إلى حوزة حكام فرنسا الجنوبيين بطريق المصاهرة والوراثة (1234 م). وبذلك اختفت هذه المملكة الصغيرة الباسلة من بين ممالك اسبانيا النصرانية.

ولم يمض قليل على ذلك حتى اختفت مملكة ليون القديمة، جارة قشتالة من الغرب. وذلك أنه لما توفى ألفونسو الثامن (النبيل) ملك قشتالة فى سنة 1214 م، خلفه ولده الطفل هنرى، وكانت كبرى بناته الأميرة برنجيريا قد تزوجت بألفونسو التاسع ملك ليون، ثم طلقت منه بعد أن رزقت بعدة أولاد أكبرهم فرناندو. وثار فى قشتالة مدى حين نزاع على وصاية الملك الطفل هنرى، ثم توفى قبل أن يبلغ رشده قتيلا فى حادث. وكان ألفونسو النبيل قد قرر فى وصيته أنه إذا انقرض

ص: 87

عقبه من الذكور، فإن العرش يؤول عندئذ إلى ابنته الكبرى برنجيريا ثم إلى أعقابها الشرعيين، وهكذا قدر لفرناندو ولد برنجيريا من ألفونسو التاسع ملك ليون، أن يرقى عرش قشتالة باسم فرناندو الثالث، وهو الذى غدا فيما بعد من أعظم ملوك قشتالة. ولما توفى أبوه ألفونسو التاسع ملك ليون وجليقية فى سنة 1230 م، خلفه أيضاً فى ملك ليون باعتباره وارث العرش الشرعى، وبذلك اتحدت مملكتا قشتالة وليون تحت تاج واحد، واختفت مملكة ليون وجليقية القديمة من عداد الممالك الإسبانية النصرانية، وأضحت قشتالة بهذا الاتحاد أقوى الممالك الإسبانية، وأوسعها رقعة وأغناها موارد، واستطاع فرناندو الثالث بفضله أن يحرز التفوق على المسلمين، وأن يفتتح قواعد الأندلس العظيمة قرطبة وجيان وإشبيلية، وهى التى عجز عن افتتاحها جميع أسلافه من الملوك النصارى.

وهكذا غدت الممالك الإسبانية النصرانية منذ أوائل القرن الثالث عشر، ثلاثا فقط، هى قشتالة وأراجون والبرتغال، وبينما قنعت البرتغال بالعمل على توطيد استقلالها وافتتاح الأراضى الإسلامية الواقعة فى جنوبها، وهى التى تعرف بولاية الغرب، إذا بقشتالة وأراجون تعملان معا للمضى فى تحقيق الغاية القومية والدينية الكبرى، التى تعمل لها اسبانيا النصرانية منذ قرون، وهى القضاء على الدولة الإسلامية بالأندلس واستخلاص تراث الوطن القديم.

- 2 -

فى الوقت الذى انهارت فيه دولة الموحدين بالأندلس، على أثر انهيارها فى المغرب، وملك ابن هود مرسية وشرقى الأندلس، وغلب ابن الأحمر على بعض القواعد الجنوبية والوسطى، مثل وادى آش وبسطة وجيان، وغلب بعض الزعماء على إشبيلية وقواعد ولاية الغرب، وأخذ هؤلاء الزعماء المسلمون يتربص بعضهم ببعض ويحاول كل منهم أن ينتزع ما فى يد الآخر من القواعد والحصون، شعرت مملكة قشتالة المتحدة القوية بأن الفرصة قد سنحت لتسديد ضربتها المميتة إلى الأندلس وبادر ملكها فرناندو الثالث بغزو الأراضى الإسلامية. وكانت معظم القواعد والحصون المتاخمة لقشتالة دون دفاع يذكر، فافتتح عدداً من الحصون واستولى على مدينة أُبَّدة فى سنة 1232 م (631 هـ). وفى أوائل سنة 1233 م سار فرناندو لغزو قرطبة عاصة الخلافة القديمة، وكانت أثناء الحرب الأهلية قد انضوت تحت لواء ابن هود ونادت بطاعته، وهاجم القشتاليون قصبتها الشرقية بشدة، وضربوا

ص: 88

خريطة:

الأنْدلس بَعْد الانْهيار، مملكة غرناطة والممالك النصرانية الإسْبانية فى القرن الرابع عشر.

ص: 89

حولها الحصار، وكان ابن هود يضع خططه يومئذ لغزو بلنسية وقد وصله عندئذ صريخ أميرها زيان حينما هاجمه خايمى ملك أراجون، فلم يشأ إنجاد المدينة المحصورة بالرغم من مسيره إليها، خصوصاً وقد علم أن النصارى هاجموها بقوات كبيرة، فترك قرطبة لمصيرها، ودافع أهل قرطبة عن مدينتهم أعظم دفاع، واشتبكوا مع النصارى خارج المدينة وفى داخلها فى عدة معارك دموية شديدة، ولكن هذه البسالة لم تغن شيئاً، وسقطت عاصمة الأندلس القديمة، ودخلها القشتاليون فى 29 يونيه سنة 1236 م (23 شوال سنة 633 هـ) ورفعوا الصليب فى الحال فوق مسجدها الجامع تنويها بظفر النصرانية، وكان سقوط قرطبة نذيراً بما انتهت إليه الأندلس من بالغ الضعف والفوضى.

ولما اشتدت الحرب الأهلية بين المسلمين فى شرقى الأندلس، بعث فرناندو الثالث ولده ألفونسو إلى مرسية، واستولى عليها صلحا فى سنة 1243 م (640 هـ). ثم التفت إلى إمارة غرناطة الناشئة التى أخذت تنمو ويشتد ساعدها فى ظل ابن الأحمر فانتزع منها حصن أرجونة وعدة حصون أخرى، ووصلت قواته إلى أحواز غرناطة، ثم أرسل جيشه لمحاصرة جيَّان فى العام التالى (سنة 1245 م)، وشعر ابن الأحمر أنه عاجز عن صد هذا السيل الجارف، فاضطر إلى عقد الصلح والانضواء تحت حماية ملك قشتالة حسبما فصلنا من قبل، وبلغ فرناندو الثالث بذلك ذروة القوة والسلطان، وأضحت الأندلس الجنوبية كلها تحت حمايته ورهن مشيئته.

وأخذ فرناندو فى الوقت نفسه يتأهب لافتتاح إشبيلية أعظم قواعد الأندلس، وفى سنة 1247 م (644 هـ) بث قواته فى أحواز إشبيلية فاستولت على معظم الحصون القريبة منها، وسير فرناندو فى الوقت نفسه أسطولا فى مياه الوادى الكبير لكى يحول دون وصول الأمداد والمؤن إلى المدينة من ناحية البحر؛ وكان يتولى الدفاع عن إشبيلية نفر من الزعماء البواسل. وأبدى المسلمون إصراراً وجلداً فى الدفاع عن مدينتهم، ولكن النصارى أحكموا حصارها، واستمر الحصار طول الشتاء، ثم حشد فرناندو فى العام التالى حولها قوات جديدة، وسارع إلى نجدته كثير من المتطوعة النصارى من أراجون والبرتغال ومنهم كثير من الأحبار والرهبان، واضطر ابن الأحمر صاحب غرناطة إلى معاونة حليفه وحاميه فرناندو ببعض قواته، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل. وفى النهاية اضطرت الحاضرة

ص: 90

الإسلامية الكبيرة إلى التسليم، ودخلها النصارى فى 23 ديسمبر سنة 1248 (أوائل رمضان سنة 646 هـ)، وفى الحال حولوا مسجدها الجامع إلى كنيسة جرياً على سنتهم، وبذلك وقعت معظم القواعد الإسلامية الكبرى فى يد النصارى، ولاح شبح الفناء للأندلس واضحا منذراً.

وتوفى فرناندو الثالث فى مايو سنة 1252 م، بعد أن حكم قشتالة خمسة وثلاثين عاما، ودفن فى إشبيلية آخر فتوحه، وقد غدت منذ افتتاحها عاصمة لقشتالة مكان طليطلة، وقد أسبغت عليه فيما بعد صفة القداسة، فسمى بسان فرناندو (القديس فرناندو) وذلك تنويها بما تم على يديه من ظفر عظيم للنصرانية.

وأما مملكة أراجون فقد تخلفت حينا عن قرينتها قشتالة فى مناهضة المسلمين، وكان ملكها بيدرو الثانى، الذى خلف أباه ألفونسو على العرش فى سنة 1196 م، أميراً وافر الشجاعة والفروسة، ولكنه شغل بتنظيم شئون مملكته الداخلية ومقاومة سلطان الأشراف، ثم حج إلى رومة ليتلقى تاجه من يد البابا. ولما عاد إلى أراجون شغل حينا بمحاربة الألبيين وغيرهم من الملاحدة فى جنوب فرنسا، وتوفى قتيلا فى إحدى المعارك (سنة 1224 م). فخلفه ولده خايمى (يعقوب) طفلا بالرغم من معارضة عميه سانشو وفرناندو، وثارت من جراء ذلك فى أراجون حرب أهلية استمرت عدة أعوام، ولكنها انتهت بفوز خايمى وحزبه على الثوار، فعاد إلى الجلوس على العرش دون منازع وذلك فى سنة 1227 م.

وما كاد خايمى (1) يستقر فى عرشه، حتى اعتزم أن ينزل ميدان الحرب ضد المسلمين، وأن يحاول الفوز بنصيبه من الأراضى الأندلسية، فبدأ بغزو الجزائر الشرقية (جزائر البليار) القريبة من شواطىء أراجون، وسير إليها فى سنة 1229 م (626 هـ) حملة بحرية قوية. وكانت ميورقة وباقى الجزائر الشرقية يومئذ تابعة لإمارة بلنسية التى يسيطر عليها الأمير أبو جميل زيان بن مدافع بن مردنيش، ويحكمها من قبله أبو يحيى بن يحيى أو محمد بن على بن موسى وفق رواية أخرى، فنزل النصارى إلى الجزيرة، ولكنهم لقوا داخلها مقاومة عنيفة، ودافع المسلمون

(1) خايمى وبالإسبانية Jaime، تكتب أحياناً فى الرواية العربية " جايمس" (ابن الخطيب: الإحاطة ج 1 ص 548 و 559 و 572، واللمحة البدرية ص 83 و 107). ورأيناها فى كثير من الوثائق العربية المحفوظة بمحفوظات أراجون تكتب هكذا: دون جيمى، دون جقمى، دون جاقمة.

ص: 91

عن جزيرتهم بمنتهى الشدة والبسالة، ولكنهم اضطروا فى النهاية إلى التسليم (صفر سنة 627 هـ). ومع ذلك فقد استمرت المقاومة فى شُعَب الجزيرة بعد ذلك حينا، واضطر خايمى أن يعود إليها مرتين حتى أتم إخضاعها فى سنة 1233 م، وسلمت منورقة وهى ثانية الجزائر للنصارى بعد ذلك ببضع سنين (1).

وما كاد ملك أراجون يستولى على جزيرة ميورقة حتى وجه عنايته إلى فتح بلنسية، وسار إلى غزوها فى جيش ضخم فى سنة 1238 م، (رمضان سنة 635 هـ) واستطاع أن ينتزع الحصون الواقعة حولها تباعا. وكانت بلنسية قد سادها الاضطراب والفوضى من جراء الحرب الأهلية، ومع ذلك فقد تأهبت بقيادة أميرها أبى جميل زيان لمقاومة النصارى، وطوق النصارى المدينة من البر والبحر، وبعث الأمير أبو جميل وزيره وكاتبه ابن الأبَّار القضاعى إلى أمير إفريقية (تونس) أبى زكريا الحفصى يستغيث به، وألقى ابن الأبار بين يديه قصيدته الشهيرة التى مطلعها:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

وبادر الأمير أبو زكريا بإغاثة بلنسية، وبعث إليهم بعض الأمداد والمؤن فى عدة سفن، ولكنها لم توفق إلى الاتصال بالمدينة المحصورة، واستمر الحصار أشهراً واشتد الكرب بالمسلمين، وضاعف النصارى هجماتهم حتى اضطرت المدينة المحصورة فى النهاية إلى التسليم بشرط أن يؤمّن أهلها فى النفس والمال، وأن يغادرها من شاء منهم، وكان سقوط بلنسية فى يد النصارى فى 28 سبتمبر سنة 1238 م (17 صفر سنة 636 هـ).

وعلى أثر سقوط بلنسية تابع خايمى غزواته لباقى الأراضى الإسلامية المجاورة لها، واستولى على دانية ولقنت فى سنة 1244 م (641 هـ). ثم استولى على شاطبة وأوريولة فى سنة 1246 م (آخر سنة 644 هـ). وقرر خايمى أن يجلى جميع السكان المسلمين عن الأراضى التى تم افتتاحها، فهرعت منهم جموع غفيرة إلى مملكة غرناطة حتى ضاقت بسكانها، وهاجر الكثير منهم إلى إفريقية،

(1) تناولنا فتح الأرجونيين للجزائر الشرقية تفصيلا فى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثانى ص 402 - 409.

ص: 92

وأخذت القواعد والثغور الإسلامية القديمة تتحول تباعا إلى مدن نصرانية، وأخذت الكثرة المسلمة تتحول بسرعة إلى أقلية من المدجنين، تعيش فى ظل الحكم الإسبانى فى ذلة وخضوع.

وعنى خايمى بعد ذلك بإصلاح الشئون الداخلية، وتمت فى عهده عدة إصلاحات تشريعية خطيرة. ووضع مشروعا لتقسيم المملكة بعد وفاته بين أولاده الأربعة، ولكنه لم يتحقق لوفاة أكبر أولاده ألفونسو، ولما أثاره من اضطراب فى أنحاء المملكة. وتوفى خايمى بعد حكم طويل حافل فى سنة 1274 م، وقد أسبغت عليه فتوحاته فى الأراضى الإسلامية لقب "الفاتح".

ص: 93