المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

‌الفصل الثالث

تأملات وتعليقات عن آثار المأساة

مأساة الموريسكيين وعلاقتها بانحطاط اسبانيا. آثار نفى الموريسكيين المخربة. ركود الزراعة وخراب الضياع الكبيرة. تأثر محاكم التحقيق. ذيوع العملة الزائفة. تقرير مجلس الدولة عن الاضطراب الاقتصادى. تعليقات الدكتور لى. خطأ السياسة الإسبانية. آراء التفكير الإسبانى. تأييد الأحبار لسياسة الإبادة. حملة دون لورنتى عليها. رأى الكردينال ريشليو. آراء المؤرخين الإسبان. مأساة النفى بين التأييد والإنكار. آراء لافونتى وخانير وبكاتوستى ومننديث إى بلايو. تعليقات النقد الحديث. أقوال الدكتور لى. أقوال العلامة سكوت. أقوال مننديث بيدال. أقوال المستشرق كوندى.

تعليق المستشرق لاين بول.

تلك هى قصة الموريسكيين أو العرب المتنصرين: قصة مؤسية تفيض بألوان الإستشهاد المحزن، ولكن تفيض فى نفس الوقت بصحف من الإباء والبسالة والجلد، تخلق بأعظم وأنبل الشعوب. وقد لبثت السياسة البربرية التى اتبعتها اسبانيا النصرانية، واتبعها ديوان التحقيق الإسبانى، إزاء العرب المتنصرين على كر العصور، مثار الإنكار والسخط، يدمغها المفكرون الغربيون، والإسبان أنفسهم، حتى يومنا بأقسى النعوت والأحكام.

ويرى النقد الحديث، أن العمل على إبادة الموريسكيين، كان ضربة شديدة لعظمة اسبانيا ورخائها؛ ولم تنهض اسبانيا قط من عواقب هذه السياسة الغاشمة، بل انحدرت منذ نفى الموريسكيين، من أوج عظمتها التى سطعت فى عصر شارلكان وفيليب الثانى، إلى غمرة التدهور والإنحلال التى مازالت تلازمها حتى عصرنا.

بل ترجع عوامل هذا الانحلال، إلى ما قبل مأساة الموريسكيين ببعيد، أو بعبارة أخرى إلى السياسة التى اتبعتها اسبانيا النصرانية، نحو الأمة الأندلسية، منذ بداية عصر الغلبة والفتح، فى أوائل القرن الثالث عشر. فقد كانت القواعد والولايات الإسلامية الزاهرة، تسقط تباعاً فى يد اسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تفقد فى نفس الوقت أهميتها العمرانية والاقتصادية، إذ كانت العناصر الإسلامية الذكية النشيطة من السكان، تغادرها إلى القواعد الإسلامية الباقية، فراراً من عسف

ص: 411

النصارى، وتغادرها حاملة أموالها وفنونها وصنائعها، تاركة وراءها الخراب والفقر والضيق الاقتصادى. واستمر سيل لهذه الهجرة المخربة زهاء قرنين، حتى سقطت غرناطة، واحتشدت البقية الباقية من الأمة الأندلسية فى المنطقة الجنوبية، فى بعض القواعد الأندلسية القديمة، مثل بلنسية ومرسية، وهاجرت قبل سقوط غرناطة وبعده، جموع غفيرة من المسلمين إلى إفريقية، واستحالت الأمة الأندلسية غير بعيد، إلى شعب مهيض ممزق هو شعب الموريسكيين أو العرب المتنصرين. ومع ذلك فقد لبثت هذه الأقلية الأندلسية المضطهدة، عاملا خطيراً فى اقتصاد اسبانيا القومى، وفى ازدهار زراعتها وتجارتها وفنونها وصناعاتها. وكان الموريسكيون يحملون الكثير من تراث الأمة المغلوبة، وإلى نشاطهم ودأبهم، يرجع ازدهار الضياع الكبيرة التى يملكها السادة الإقطاعيون. فلما اشتد بهم الإضطهاد والعسف، وأخذت يد الإبادة تعمل لتمزيق طوائفهم، وسحق نشاطهم وقتل مواهبهم، ولما اتخذت اسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء اسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعى الذى برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيدى الماهرة، وكسدت التجارة التى كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التى كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التى استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضى الزمن نتائجها المخربة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوى عمرانها، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلت جهود الإصلاح والتقدم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين، وفقدت معظم المدن الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة أربعة أخماس سكانها، وعم الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيم على اسبانيا كلها جو من الفاقة والركود والانحلال.

وإذا كان النقد الحديث، ينوه بخطورة السياسة التى اتبعتها اسبانيا، فى إبادة الأمة الأندلسية ونفى الموريسكيين، كعامل قوى الأثر فيما أصاب اسبانيا من أسباب الدمار والبؤس والانحطاط، التى لم تبرأ منها حتى عصرنا، فإنه يعتمد فى هذا الرأى على طائفة من النتائج المادية والأدبية، التى ترتبت على "النفى"، وحرمان اسبانيا من الثروات العقلية والفنية والصناعية، التى كانت تتمتع بها الأمة الأندلسية

ص: 412

وقد ظهرت هذه الآثار المخربة، بالأخص فى محيط الزراعة والصناعة، وكان تدهور إيراد الضياع الكبيرة، وإيراد الكنائس والأديار، دليلا على ما أصاب قوة اسبانيا المنتجة، الزراعية والصناعية، بسبب نفى طائفة كبيرة، من أنشط طوائف السكان وأغزرهم إنتاجاً. وكان من الحقائق المعروفة أن السكان الإسبان، كانوا يبغضون الأعمال الزراعية والفنية، ويعتبرونها أمراً شائناً، وأن الإسبانى لا يربى أولاده لمزاولة العمل الشريف، وأن أولئك الذين لا يجدون عملا فى الجيش أو الحكومة، يلتحقون بالكنيسة. ويبدى المؤرخ الإسبانى الكبير ناباريتى أسفه لوجود أربعة آلاف مدرسة فى عصره (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر)، يتعلم فيها أبناء الفلاحين، بينما تهجر الحقول، ولأن أولئك الذين لا يجدون منهم عملا فى الكنيسة لنقص تعليمهم، يحترفون التسول أو التشرد أو السرقة. وقد كتب سفراء البندقية منذ القرن السادس عشر إلى حكومتهم ينوهون بهذه الحقائق، ويصفون الإسبان بأنهم زراع وعمال كسالى، يحتقرون العمل اليدوى، حتى أن ما يمكن عمله فى البلاد الأخرى فى شهر، يعمله الإسبان فى أربعة أشهر (1).

ويردد الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى سفير سلطان المغرب مولاى اسماعيل إلى اسبانيا، وقد زارها فى سنة 1691، أعنى بعد النفى بثمانين عاماً، عن الإسبان مثل هذا الرأى إذ يقول فى رحلته:

" وبحصول هذه البلاد الهندية (يقصد أمريكا) ومنفعتها وكثرة الأموال التى تجلب منها، صار هذا الجنس الإسبنيولى اليوم أكثر النصارى مالا، وأقواهم مدخولا، إلا أن الترف والحضارة غلبت عليهم، فقلما تجد أحداً من هذا الجنس يتاجر أو يسافر للبلدان بقصد التجارة كعادة غيرهم من أجناس النصارى مثل الفلامنك والإنجليز والفرنسيس والجنويين وأمثالهم، وكذلك الحرفة التى يتداولها السقطة والرعاع وأراذل القوم يتأبى عنها هذا الجنس، ويرى لنفسه فضيلة على غيره من الأجناس المسيحيين"(2).

وقد كان النبلاء والأحبار، وأصحاب الضياع الكبيرة بوجه عام، يعتمدون فى تعهد أراضيهم وفلاحتها، على نشاط الموريسكيين وبراعتهم، فلما وقع النفى

(1) Lea: The Moriscos ; p. 379 - 381

(2)

رحلة الوزير الغسانى المسماة "رحلة الوزير فى افتكاك الأسير"(العرائش 1940) ص 44 و 45

ص: 413

جمد النشاط الزراعى، وخلت معظم الضياع من الزراع، وأقفر كثير من القرى، وهدمت ضياع كثيرة لخلوها من السكان، ولاسيما فى منطقة بلنسية، واضطر النبلاء إلى استقدام العمال الزراعيين من الجزائر الشرقية (البليار) وأنحاء البرنيه وقطلونية، ومع ذلك فقد حدث نقص ملحوظ فى غلات الضياع الكبيرة، ولم ينتفع النبلاء بما أصابوه من الاستيلاء على الأراضى التى نزعت، وتعذر عليهم تعميرها وفلاحتها، وحاق بهم الضيق حتى اضطر العرش إلى منح كثيرين منهم نفقات سنوية من خاصة أمواله، هذا فضلا عما أصاب طوائف السكان الأخرى، التى كانت تتصل بالموريسكيين فى المعاملات والتبادل، من العسر والضيق.

وكما انحط دخل الكنائس والأديار، فكذلك خسر ديوان التحقيق شطراً كبيراً من دخله، مما كان يصيبه من مصادرة أموال الموريسكيين والحكم عليهم بالغرامات الفادحة، واضطرت الحكومة أن تعول كثيراً من محاكم التحقيق، التى أوشكت على الإفلاس، من جراء اختفاء الجماعة التى كانت تزدهر بمطاردتها واستصفاء أموالها. وقد بيعت أملاك الموريسكيين وأراضيهم بمبالغ كبيرة، ولكن العرش استولى عليها، ووزع معظمها على أصفيائه من الوزراء والنبلاء والأحبار، ولم ينل ديوان التحقيق سوى جزء يسير منها.

ويقدمون مثلا لما أصاب اسبانيا من الخراب من جراء "النفى"، هو مثل مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية)(1) عاصمة لامنشا، فقد أسس هذه المدينة ألفونسو العالم فى القرن الثالث عشر، ومنح سكانها شروطاً حرة مغرية، شجعت كثيراً من اليهود والمسلمين على النزوح إليها. وفى سنة 1290 م كان دافعوا الضرائب فيها من اليهود (8828)، فلما أخرج اليهود منها فى سنة 1492، حل محلهم الموريسكيون من غرناطة، ولما أخرج منها هؤلاء مع المدجنين القدماء، خربت المدينة وعفا رخاؤها وانحطت زراعتها، وخربت صناعة النسيج التى أنشأها الموريسكيون فيها، وهبط عدد سكانها فى سنة 1621 إلى 5060 نفساً ونحو ألف أسرة فقط، فى حين أنها كانت تضم من السكان قبل " النفى "اثنتى عشرة ألف أسرة (2).

وكان مما ترتب على نفى الموريسكيين أيضاً، ذيوع العملة الفضية الزائفة، وقد تركوا وراءهم منها مقادير عظيمة، وكانت لهم بصنعها براعة خاصة. وأحدث

(1) Ciudad Real

(2)

Lea: The Moriscos ; p. 372 - 384

ص: 414

ذيوع النقد الزائف اضطراباً شديداً فى المعاملات، وحاولت الحكومة جمعه، والمعاقبة على ترويجه بعقوبات رادعة بلغت حد الإعدام، ولكنها لم تفلح فى استئصال الشر، واستمرت هذه الحركة أعواماً طويلة، وعمد الإسبان بدورهم إلى التزييف، وعوقب كثير منهم أمام محاكم التحقيق والمحاكم المدنية، وعانى التجار والمتعاملون كثيراً من الضرر والإرهاق.

ولم تمض أعوام قلائل على نفى الموريسكيين، حتى ظهرت هذه الآثار المخربة كلها فى حياة المجتمع الإسبانى بصورة مزعجة، وهال العرش والحكومة ما أصاب الأمة من ضروب البؤس والخراب، وطلب رئيس الحكومة الدوق دى ليرما فى سنة 1618، إلى مجلس الدولة، أن ينظر فى هذا الأمر، ويعمل على تحقيقه ومعالجته، وقدم مجلس الدولة تقريره بعد عام، وأشير فيه إلى خراب المدن والقرى، ولكنه لم يشر إلى نفى الموريسكيين، وإلى تكاثر عدد رجال الدين وتزييف العملة، وبغض الشعب للعمل الشريف، بل حاول أن يرجع الشر إلى فداحة الضرائب، وإلى الترف الذى تعيش فيه الطبقات الممتازة، وإسراف الملك فى الإغداق على أصفيائه؛ وكذلك اهتم مجلس النواب (الكورتيس) بالأمر وقدم عنه تقريراً إلى الملك. ومع أن التقارير الحكومية التى وضعت عن هذه المحنة، لم تشر إلى نفى الموريسكيين كعامل أساسى فيما أصاب اسبانيا من الخراب والفقر، فقد كان فى القرارات الملكية ما ينطق بهذه الحقيقة. ففى سنة 1622 أصدر الملك فيليب الرابع، قراراً بخفض الضرائب فى بلنسية يشير فيه إلى هجرة السكان، وإلى ما خسرته المدينة من ضروب الدخل، التى كانت تجبى على ما يستهلكه الموريسكيون، وما خسره التجار من انقطاع التعامل معهم.

على أن جهود العرش والحكومة، لم تجد شيئاً فى تخفيف هذه الضائقة، التى طافت بالمجتمع الإسبانى، وشملت سائر الطبقات سواء فى الإنتاج أو الاستهلاك.

ومضى وقت طويل قبل أن تستقر الأحوال نوعاً، وتفيق الزراعة والصناعة والتجارة من الضربة التى أصابتها.

يقول الدكتور لى: "إنه لا يمكن لفريق من السكان، كان يعتمد عليه مدى القرون، فى القيام بقسط عظيم من الإنتاج والتنظيمات المالية فى البلاد، أن يمزق فجأة وينبذ، دون أن يبث ذلك الخراب الواسع، ويثير معتركا من المشاكل يمتد أثرها إلى أجيال مرهقة"

ص: 415

ثم ينعى على السياسة الإسبانية تخبطها وقصر نظرها فيقول: "وإنه لمن خواص السياسة الإسبانية فى ذلك العصر، أنه لم يفكر أحد فى هذه الشئون، ولم يحتط لها أحد فى المباحثات الطويلة، التى جرت فى قضية الموريسكيين. وقد حدثت ثمة مناقشات لا نهاية لها حول مختلف المشاريع ومزاياها، والوسائل التى ينفذ بها النفى، وماذا يسمح به للمنفيين، وماذا يكون مصير الأطفال. ولكن النتائج المحتملة تركت للمصادفة، واحتقرت التفاصيل العملية، واحتقر رخاء الفرد، وهو ما يوضح فشل السياسة الإسبانية"(1).

تلك هى النتائج المادية الواضحة، الإقتصادية والاجتماعية، التى جنتها اسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت اسبانيا زهاء قرن، تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقى من فلول الأمة الأندلسية، فى الأرض التى بسطت عليها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول، إلى شراذم معذبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقى عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت فى سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضى عليها بالتشريد والنفى النهائى، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع اسبانيا أن جاء نفى الموريسكيين، فى وقت أخذت فيه عظمة اسبانيا ورخاؤها، ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسبانى إلى حياة الدعة والخمول، وأخذ سكانها فى التدهور، فجاء نفى الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية اسبانيا، التى أخذت فى التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفى الموريكسيين، ويعتبره عاملا بعيد المدى فيما أصاب اسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والإنحلال.

على أن التفكير الإسبانى يختلف فى قبول هذا الرأى وتقدير مداه؛ ويهاجمه وينكره بالأخص رجال الدين، وقد كانوا منذ البداية روح هذه السياسة المخربة، وأكبر العاملين على تنفيذها. وقد استقبل رجال الدين نفى الموريسكيين بأعظم مظاهر الغبطة والرضى، واعتبروه ذروة النصر الدينى؛ ويقول أحدهم وهو القس بليدا وهو من مؤرخى القرن الماضى، فى كتابه الذى نشره دفاعاً عن هذا الإجراء:

(1) Lea: The Moriscos ; p. 387

ص: 416

"بأن عصر اسبانيا الذهبى بدأ بذهاب الموريسكيين، وأن اسبانيا قد حققت به وحدتها الدينية، وأنقذت من مشاغلها الداخلية، وأن النفى كان أعظم حادث بعد بعث المسيح، واعتناق اسبانيا للنصرانية"(1). ويقول حبر آخر: "لقد زعم الموريسكيون أن رخاء اسبانيا قد ذهب مذ أكرهوا على التنصير، ولكن الرخاء قد عم بنفيهم، وازدهرت التجارة، وساد الأمن فى الداخل والخارج"(2). ويقول الحبر بثنتى دى لافونتى فى تاريخه الدينى، إنه من السخرية أن يقال إن نفى الموريسكيين كان سبباً فى انحطاط اسبانيا، فإن أمة قد تفقد مائة وخمسين ألفاً فى وباء أو حرب أهلية. ثم يتساءل فى تهكم لماذا ينحى على فيليب الثالث بمثل هذا اللوم؟ على أنه يعترف مع ذلك بأن النفى كان سبباً فى تدهور دخل الأشراف والكنائس (3).

ويرى آخرون من الأحبار أن اسبانيا قد دفعت بالنفى ثمناً باهظاً، ولكن تحملهم نزعة فلسفية فيقولون إن وفرة الرخاء تذهب بالفضائل، وإنه لا بأس من التقشف مع الإيمان، وإن الفقراء استطاعوا بعد إجلاء الموريسكيين أن يجدوا أعمالا (4).

ولكن حبراً ومؤرخاً إسبانياً كبيراً، هو دون لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق، يحدثنا عن وسائل الديوان ونفى الموريسكيين فى قوله:"كانت هذه الوسائل بقسوتها الشائنة، تذكى روع الموريسكيين من تلك المحكمة الدموية، وكانوا بدلا من التعلق بالنصرانية، وهو ما كانت تؤدى إليه معاملتهم بشىء من الإنسانية، يزدادون مقتاً لدين لم تحملهم على اعتناقه سوى القوة، وكان هذا سبب الإضطرابات التى أدت فى سنة 1609 إلى نفى هذا الشعب، وعدده يبلغ المليون يومئذ، وهى خسارة فادحة لإسبانيا تضاف إلى خسائرها الفادحة، ففى مائة وتسع وثلاثين سنة انتزع ديوان التحقيق من اسبانيا ثلاثة ملايين، ما بين يهود ومسلمين وموريسكيين"(5).

ويقول الكردينال ريشليو الفرنسى، وهو من أعظم أحبار الكنيسة فى مذكراته وكان معاصراً للمأساة:"إنها أشد ما سجلت صحف الإنسانية جرأة ووحشية".

(1) Bleda: Defensio fidel in Causa Neophglorum aive Morischorum in

Hispania

(2)

Lea: The Moriscos ; p. 366

(3)

Lea: ibid ، p. 394 & 396

(4)

Lea: ibid، p. 367

(5)

Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817)

ص: 417

هذا عن الأحبار. وأما عن آراء البحث الإسبانى الحديث، فإنها تختلف فى تقدير آثار نفى الموريسكيين اختلافاً بيناً، بيد أنها تميل على الأغلب إلى الاعتراف بفداحة الآثار المخربة التى أصابت اسبانيا من جرائه، وإلى اعتباره عاملا قوياً فى تدهور اسبانيا وانحلالها. بيد أنها مع ذلك تحاول الاعتذار عن النفى، ويرى البعض أنه كان إجراء طبيعياً، وضرورة لا محيص منها، وينكر البعض الآخر أنه كان كارثة أو أنه ترتبت عليه آثار مخربة. وقد رأينا أن نورد هنا طائفة من آراء عدة من أكابر المؤرخين والمفكرين الإسبان المحدثين، وأن نوردها بدقة وإفاضة تسمحان بفهم الروح الإسبانية، إزاء هذا الحدث التاريخى الخطير، وتقديرها على حقيقتها.

يقول دانفيلا إى كوليادو:

"وهكذا تحقق نفى الموريسكيين الإسبان، بغض النظر عن كونهم شبانا أو شيوخاً، صالحين، أو عقماء، مذنبين أو أبرياء. وكانت مسألة الوحدة السياسية تحمل فى ثنيتها ضرورة الوحدة الدينية، وضع خطتها الملكان الكاثوليكيان، وحاول تحقيقها الإمبراطور كارلوس الخامس (شارلكان) وفيليب الثانى، ولكنهما ارتدا خشية من عواقبها. أما فيليب الثالث، فكان يزاول سلطانه عن يد أصفيائه، ولذا ألفى سلطة العرش الدينية والسياسية، أيسر وأهون. وكانت الحرب الدينية تضطرم ضد الجنس الأندلسى، وقد ألفت عواطف الروح الرقيقة نفسها، وجهاً لوجه أمام المسألة السياسية. ودخلت الإنسانية والدين فى صراع وخرج الدين ظافراً وفقدت اسبانيا أنشط أبنائها، وانتزع الأبناء من حجور أمهاتهم وحنان آبائهم، ولم يلق الموريسكى أية رأفة أو رحمة. ولكن الوحدة الدينية بدت ساطعة رائعة فى سماء اسبانيا، واغتبطت الأمة إذ أضحت واحدة فى جميع مشاعرها العظيمة.

" كان الموريسكيون شديدى المراس. وكان الوطن ينشد وحدة معنوية، تغدو متممة للوحدة السياسية، التى تحققت باندماج سائر العروش فى شبه الجزيرة، وكان عنصر تناقض قوى، كالذى تمثله طائفة الموريسكيين، لا يكون فقط عقبة شديدة يصعب تذليلها، ولكنه كان استحالة مطلقة، تحول دون تحقيق الغاية، التى تتجه إليها الحركة العامة للفكر القومى. وكانت الصعوبة كلها تجثم فى الدين.

ولم تكن اللغة التى تبدو خاصة قومية أخرى، تكون يومئذ أو فى أى وقت عقبة بمثل هذه الخطورة، ففى شمال اسبانيا، وفى شرقها، توجد اللهجات المختلفة، من الجليقية والقطلونية والميورقية والبلنسية وغيرها. وكذلك يوجد مثل هذا

ص: 418

التباين فى النظم القضائية، والثياب والعادات الخاصة بكل منطقة، ولكن ذلك لم يكن عقبة كأداء فى سبيل وحدة الدين، والروح القومى، ولم يخلق مثل المعضلة الدائمة، التى خلقها الدين بالنسبة للموريسكيين، والتى جعلتهم فى حالة دائمة من التربص والتوجس. إن ما بذله كارلوس الخامس وفيليب الثانى، لإخضاع الموريسكيين للنصرانية، مما لا يمكن وصفه، ولكن جهودهم كلها ذهبت عبثاً. ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من الخضوع، لبث الموريسكيون فى عصر فيليب الثالث، يضطرمون بنفس الروح المتمردة، التى كانت لأسلافهم الذين أخضعوا بالسيف، وقد ارتضوا حالتهم كمحنة مؤقتة عابرة، ولم ينبذوا الأمل قط، ولم يتركوا قط الوسائل التى يعتقدون أنها تمكنهم ذات يوم من الأخذ بالثأر، واسترداد استقلالهم وسيادتهم".

ثم يقول: "وإنها لخرافة أن يقال إن الموريسكيين كانوا عنصراً مفيداً فى إنتاج اسبانيا، ولو أنهم كذلك لحملوا الرخاء إلى بلاد المغرب حيث ذهبوا"(1).

ويقول المؤرخ الكبير مودستو لافونتى، وسنرى أنه يذهب فى الصراحة وتقدير الحقائق المنزهة إلى أبعد حد:

"وعلى أى حال فإن مراسيم فيليب الثالث الشهيرة ضد الموريسكيين، قد جردت اسبانيا -وقد كانت يومئذ جد مقفرة من السكان بسبب الإدارة السيئة والحروب المستمرة- من طائفة كبيرة من السكان، أو بعبارة أخرى من السكان الزراعيين والتجاريين والصناعيين، من السكان المنتجين، أولئك الذين يساهمون بأكبر قسط فى الضرائب. وكان أقل ما فى ذلك تسرب الملايين من الدوقيات، التى حملتها الطائفة المنفية معها، فى الوقت التى كانت فيه المملكة تعانى من قلة النقد، فكان نقص الذهب الفجائى على هذا النحو أشد وطأة عليها. وكذلك وقع ضرر أفدح بذيوع النقد الزائف أو المنقوص، الذى روجه المنفيون بسوء قصد قبل رحيلهم. وأسوأ ما فى ذلك كله، هو أنه فقد برحيلهم العنصر العامل الذكى المتمرس فى الفنون النافعة. وهم قد بدأوا بالزراعة، وزراعة السكر والقطن والحبوب، التى كان لهم فى إنتاجها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش فى الرى بواسطة السواقى والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً،

(1) M. Danvilla y Collado: La Expulsion de los Moriscos Espanoles.

(Madrid 1889) p. 320-22

ص: 419

كان له أثره فى الإنتاج العظيم الذى امتازت به مروج بلنسية وغرناطة؛ ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوكة، وهى صناعات برع الموريسكيون فيها أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الميكانيكية، وهى حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرونها، ومن ثم فقد احتكرها الموريسكيون واختصوا بها. وقد عانى كل شىء من نقص فى السواعد وفى البراعة، وهو نقص جعلت المفاجأة من المستحيل تداركه، ثم غدا بعد ذلك مَلؤه مبهظاً بطيئاً صعباً.

"ويقول نفس المؤرخ البلنسى الذى شهد النفى، وكتب عقب إتمامه، إنه ترتب على ذلك أن بلنسية، وهى حديقة اسبانيا الغناء، استحالت إلى قفر جاف موحش. وحدث هنالك كما حدث فى قشتالة، وفى باقى البلاد، أن بدا شبح الجوع الداهم؛ وبالرغم من أنه قد جىء بسكان جدد إلى الأماكن التى هجرها الموريسكيون، لكى يتدربوا على العمل فى الحقول والمصانع والمعامل، إلى جانب أولئك القلائل الذين ارتضوا البقاء (وهو اعتراف مخجل بلا ريب). على أن مثل هذا التمرن لم يؤت نتائجه السريعة، والتدرب والدأب ليسا من الفضائل التى ترتجل، ولم يكن من السهل أن يعوض مثل هذا الجنس من البشر، وهو الذى استطاع بعبقريته، ومركزه الخاص فى البلاد، ووفرة براعته، وجلده، أن يحقق ما يشبه قهر الطبيعة، واستغلالها لسائر مبتكراته. وهكذا حل مكان ضجيج القرى، الصمت الموحش فى الأماكن المهجورة، وبدلا من السيل المستمر من العمال والصناع فى الطرق، حل خطر لقاء الأشرار الذين يذرعونها، ويجثمون فى أطلال القرى المهجورة. وإذا كان ثمة بعض السادة الإقطاعيين قد غنموا من تراث المنفيين، فقد كان عدد الذين خسروا أعظم بكثير، وبلغ الأمر بالبعض أن طلبوا نفقات للطعام. أما الذين غنموا، فقد كانوا بلاشك هم الدوق دى ليرما وأسرته وقد استولوا على نصيب مما تحصل من بيع منازل الموريسكيين.

"ومن ثم فقد اعتبر نفى الموريسكيين من الناحية الاقتصادية، بالنسبة إلى اسبانيا أفدح إجراء مخرب يمكن تصوره. وإنه ليمكن أن نغض الطرف عن المبالغة التى دفعت بأحد الساسة الأجانب، وهو الكردينال ريشليو، أن يسميه "أعرق إجراء فى الجرأة والبربرية مما عرفه التاريخ فى أى عصر سابق" والحق أن الصدع الذى أصاب ثروة اسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول إنه لم يبرأ حتى عصرنا

ص: 420

"فأما من الناحية الدينية، فقد كان هذا الإجراء، ثمرة الأفكار التى سادت فى اسبانيا قبل ذلك بقرون، وثمرة البغض التقليدى المتأصل، الذى يكنه الشعب لغالبيه وأعدائه الألداء القدماء. وليس مما يمكن إنكاره، أنه كان مؤيداً لفكرة الوحدة الدينية، التى دأب على العمل لتحقيقها وإكمالها الملوك الإسبان والشعب الإسبانى. بيد أنا لا نعتقد أنه كان من البراعة (ما عدا اعتباره صراعاً مقرراً هو من خصائص العصور الوسطى) أن نصل إلى الوحدة الدينية بطريق إفناء أولئك الذين يعتنقون عقائد أخرى. وقد كانت البراعة أن نعمل على اجتذاب المخالفين المعاندين، بالتعاليم والإقناع، والحزم، والرفق، وتفوق الحضارة.

وأما كونه إجراء سياسياً، قصد به إلى تحقيق سلامة الدولة وسلامها، فقد كان ممكناً أن نبرر اتخاذه لو كانت المؤامرات حقيقية وخطيرة، وكانت الخطط شنيعة، وكانت الوسائل قوية، والخطر داهماً، وذلك كما افترض الوزير المقرب، والأسقف ربيرا والنصحاء الآخرون. أجل لم يك ثمة شك فى أنه كانت هنالك مكاتبات وعلائق ومشاريع معادية لإسبانيا، بين بعض الموريسكيين البلنسيين وببن المغاربة والترك، بل بينهم وبين بعض الفرنسيين. بيد أننا لم نقتنع بأن هذه الخطط كانت من الجسامة والخطر بمثل ما كان يصورها أنصار النفى، ولم نقتنع بأن النصارى المحدثين فى بلنسية كان لهم من القوة ما يمكن أن يثير مخاوف ذات شأن، كما أنه لم يكن ثمة ما يثير المخاوف من جانب الموريسكيين فى أراجون وفى مرسية، مثلما زعمت الوفود التى أتت من هذين الإقليمين، وكذلك لم يكن الموريسكيون فى قشتالة يعرفون التآمر أو يقدرون عليه. وعلى أى حال فإنه متى ذكرنا، أننا بعد مضى أكثر من قرن على قهر الموريسكيين وإخضاعهم لقوانين المملكة، وتفريقهم ومزجهم بالإسبان والنصارى، لم نوفق إلى تأليفهم فى العادات والعقائد، أو أن ندمج بقية الأمة المغلوبة فى الكتلة الكبرى للأمة الغالبة، ولم نوفق إلى جعلهم نصارى واسبانيين، ثم لجأنا بلا ضرورة إلى وسيلة إفناء جيل برمته، متى ذكرنا ذلك فإنا لا نستطيع أن ننظر بعطف إلى مهارة فيليب الثالث والملوك الذين سبقوه، ولا إلى حزمهم أو سياستهم" (1).

ويقول فلورثيو خانير، وهو يحذو حذو لافونتى فى تقديره وتعليله، وينقل بعض أقواله:

(1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1862)

T. VIII، p. 211-214

ص: 421

"ومع ذلك، فإنه لمصلحة الدين، والسلام الداخلى، وسلامة الدولة، قد وقع الإغضاء عن المزايا التى كان يسبغها الموريكسيون على الصناعة والتجارة والزراعة، بل وعلى ثروة الأمة الإسبانية كلها، وذلك حينما أخرج بواسطة مراسيم فيليب الثالث، آلاف من الصناع الموريسكيين، يحملون معهم بذور الحضارة والحرث. وقد قال كامبومانس الشهير: "إن بدء تدهور صناعاتنا يرجع إلى سنة 1609، حينما بدئ بنفى الموريسكيين. فمن ذلك الحين، تبدأ مع خراب المصانع صيحات الأمة المتوالية؛ وعبثاً يحاول ساستنا أن ينسبوا بؤس القرن السابع عشر، إلى أسباب أخرى، فهى وإن كانت جزئية، لا يمكن أن تضارع ضربة بهذه المفاجأة، وهى ضربة لم تستطع الأمة حتى اليوم أن تنهض من عثارها".

ولقد أحدثت مزاولة العرب للمهن الفنية فى الإسبان أثرين سيئين، الأول أنهم اعتبروا هذه المهن من الأمور الشائنة، والثانى أنهم لم يتعلموا شيئاً منها حتى لا يتشبهوا بأولئك الذين يزاولونها. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكرو القطن والحبوب، التى كان للموريسكيين فى إنتاجها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش فى الرى بواسطة السواقى والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره فى الإنتاج العظيم الذى امتازت به مروج بلنسية وغرناطة الخصبة، ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهى صناعات برع فيها الموريكسيون أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الميكانيكية وهى حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرون مزاولتها، ومن ثم فقد كان الموريسكيون يحتكرونها، وقد وقع من جراء ذلك نقص فى الأيدى وفى المهارة كان من المستحيل مَلؤه فى الحال، ثم غدا بعد ذلك مَلؤه مبهظاً بطيئاً صعباً. وقد بلغ النقص فى الأنفس، وفقاً للدراسات التى قمنا بها لنتائج الحادث، على الأقل نحو مليون. ثم يأتى بعد ذلك نقص العملة الذهبية، بسبب الكميات الكبيرة التى حملوها معهم من الدوقيات، وأخيراً يأتى ذيوع النقد الزائف أو ناقص الوزن، وهو الذى ملئوا به المملكة قبل نزوحهم منها، على أن الضرر الفادح الذى لم يعوض لسنين بعيدة، هو بلا ريب ما أصاب الزراعة والصناعة والتجارة.

"ومن ثم ففى وسعنا أن نقول عن بلادنا بحق، إن بلاد العرب السعيدة، قد استحالت إلى بلاد العرب القفراء، وعن بلنسية بوجه خاص، إن حديقة اسبانيا الغناء قد استحالت إلى صحراء جافة مشوهة. وقد حل شبح الجوع بالاختصار

ص: 422

فى كل مكان، وحل مكان المرح الصاخب للقرى العامرة، الصمت الموحش فى الأمكنة المهجورة، وبدلا من أن ترى أمامك العمال والصناع، فإنك تغامر بأن تقابل قطاع الطرق يملؤونها ويجثمون فى أطلال القرى المهجورة. ولئن كان ثمة فريق من السادة الملاك الذين أفادوا من تراث المنفيين، فقد كان ثمة عدد أكبر بكثير ممن خسروا، وانتهى بعضهم إلى الموقف المؤلم، بأن يلتمسوا من الحكومة نفقة لإطعامهم، ولم يك بينهم أحد قط ممن غنم كما غنم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على جزء من أثمان بيع منازل الموريسكيين، وبلغ نحو خمسة ملايين ونصف ريال.

"وإذاً فقد كان نفى الموريسكيين من الناحية الإقتصادية، يعتبر بالنسبة إلى اسبانيا، أفدح إجراء مخرب يمكن تصوره. وإنه ليمكن أن نتسامح فى المبالغة التى يصفه بها سياسى أجنبى هو الكردينال ريشليو، حيث يصفه بأنه " أعرق إجراء فى الجرأة والبربرية مما عرفه التاريخ فى أى عصر سابق". والحق أن الصدع الذى منيت به ثروة اسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول إنه لم يبرأ حتى يومنا"(1). بيد أن خانير مع ذلك يقول إن النفى كان ضرورة دينية وسياسية، وإن الوحدة الدينية، تغدو اليوم أسطع جوهرة للأمة الإسبانية.

ويعلق المؤرخ الإجتماعى وبكاتوستى، فى الفصل الذى عقده عن "بؤس اسبانيا العام" فى كتابه عن "عظمة اسبانيا وانحلالها" على نفى الموريسكيين بما يأتى: "كان نفى الموريسكيين من أفدح المصائب التى نزلت باسبانيا. أجل لقد وجد أيام الملكين الكاثوليكيين بعض المتعصبين الذين كانوا يقترحون هذا النفى ويعملون له. ولكنهم وجدوا عقبة كأداء فى معارضة الملكة إيسابيلا. وفى سنة 1529، بذل أسقف إشبيلية، جهوداً مضاعفة فى هذا السبيل، وكذا طوال حكم فيليب الثانى، كان هذا الموضوع يثار من وقت إلى آخر. ولكن أمكن فقط فى عصر فيليب الثالث المحزن، أن يرتكب هذا الخطأ الفادح.

"والمسئولية الكبرى التى تقع على عاتق هذا الملك، وعلى نصحائه وأسلافه، تتلخص فى أنهم لم يحموا مصالح الموريسكيين المادية، فيمهدوا لتلك الطائفة العاملة، سبل الحياة المستقرة الهادئة؛ ولم يكن لهم من القوة أو الكياسة أو الحزم ما يمكنهم

(1) D. Florecio Janer: Condicion Social de los Moriscos de Espana

(Madrid 1875) p. 100 & 101

ص: 423

من إخضاع هذه الطائفة المتمردة، التى عاشت فى اسبانيا فى أوقات، كانت فيها الأحقاد فى أوج اضطرامها بين الغالبين والمغلوبين.

"ولقد أثار الإسراف فى فرض الضرائب وبخس الأعمال، والاضطهاد الدينى، ومساوىء ديوان التحقيق، هذه الأرواح التى قابلت حكومة ضعيفة التدبير، حتى أنه أضحى من المحتوم أن يتخذ هذا الإجراء الشاذ المتطرف.

"إن المؤرخين والساسة الذين دافعوا عن نفى الموريسكيين، بعضهم للدفاع عن أخطاء هذه المدرسة، وبعضهم لكى يشيد بالعمل الرائع، إنما يدافعون عن أمور سيئة، أو يرغبون فى أن يضعوا السياسة والسلطة فوق رأس الأمة، وهم فى تبرير مثل هذا الإجراء، لم يراعوا إلا ضرورة الساعة. وإذا فرضنا جدلا ضرورته السياسية باسم السلام والسكينة العامة، وهى التى اتخذت لتبرير كثير من الأخطاء، بل وكثير من الجرائم، فإننا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الموقف المحزن، قد خلقته أخطاء السلطة التى واجهت تلك المشكلة القاسية، ورأت أن تقصى الموريسكيين عن اسبانيا، لأنها شعرت أنها عاجزة عن إخماد ثوراتهم المستمرة.

إن فَقْدَ هذه السواعد فى الأعمال الزراعية، وفى كثير من الفنون والأعمال، والازدراء الذى كان الإسبان يضمرونه لهذه الطائفة ولنشاطها، والسرعة التى وقعت بها هذه الخسارة، وعدم تحوط الحكومة، التى لم تحاول بأية وسيلة أن تعوض عن نشاطها، وزيادة الضرائب وغيرها من المغارم، التى أضحى عبؤها يقع فقط على عاتق الشعب الإسبانى، لكى يعوض ذلك ما خسرته الدولة مما كان يؤديه الموريكسيون: هذه ربما كانت الأسباب السريعة للبؤس العام.

ولقد قام بعض المؤرخين ببحوث مدهشة لتقدير عدد المنفيين، ونحن لا نجاريهم فى ذلك، إذ يبدو لنا العدد أمراً لا أهمية له. وسواء أكان المنفيون كثرة أو قلة، فقد كانوا هم الوحيدون الذين يعملون، وقد أحدث خروجهم من المملكة اضطراباً خطيراً.

بمثل هذه العوامل، وصل البؤس الداخلى فى المملكة إلى حد لا يمكن تصوره، ولا تمكن مقارنته، هذا بينما كان البلاط يغرق فى الحفلات الشائقة، وينسب لفيليب الثالث ما كان يمكن صدوره من فيليب الثانى أو كارلوس الخامس" (1).

(1) D. Felipe Picatosti: Estudios sobre la Grandeza y Decadencia de

Espana. (Madrid 1887) . p. 101 & 102

ص: 424

ويرى العلامة مننديث إى بلايو، وهو من أعظم المفكرين، والنقدة الإسبان المحدثين، أن نفى الموريسكيين كان نتيجة محتومة لسير التاريخ، ويشرح رأيه فى كتابه عن "الخوارج الإسبان" على النحو الآتى:

"ولنقل الآن رأينا فى مسألة النفى بكل وضوح وإخلاص، وذلك بالرغم من أنه يستطيع أن يتكهن به من تتبع القصة السابقة، بروية وبلا تحيز، ولن أتردد فى الجهر به، وإن كان من المؤسف أن يكون ثمة ما أخر إبداءه. فهل كان من الممكن أن يقوم الدين الإسلامى بيننا فى القرن السادس عشر؟ من الواضح أن لا، بل ولا يمكن أن يكون ذلك الآن فى أى جزء من أوربا. فكيف يستسيغ وجوده فى تركيا أولئك الإنسانيون الأجانب الذين يصفوننا بالبربرية لأننا قمنا بإجراء النفى؟ وإنهم لأسوأ مائة مرة من المسلمين الخلص، مهما كان دينهم عائق لكل تمدن، أولئك النصارى المنافقون، والمرتدون والمارقون، الذين لم يحسن إخضاعهم وأولئك الإسبان الأوغاد، الأعداء الداخليون، خميرة كل غزو أجنبى، الجنس الذى لا يقبل الاندماج، كما أثبتت ذلك التجارب المحزنة مدى قرن ونصف. فهل يعتبر ذلك تبريراً لأولئك الذين مزقوا عهود غرناطة، أو لأولئك الثوار الذين أضرموا الهياج فى بلنسية ونصروا الموريسكيين بصورة منافية للدين؟ كلا على الإطلاق.

بيد أنه وقد سارت الأمور منذ البداية على هذا النحو، فإنه لم يكن من الممكن أن تكون ثمة نتيجة أخرى، فقد كانت الأحقاد والشكوك المتبادلة، تضطرم باستمرار بين النصارى القدامى والمحدثين، وقد لطخت بقاع البشرات بالدماء غير مرة، وفقد الأمل فى تحقيق التنصير بالوسائل السلمية، وذلك بالرغم من تسامح ديوان التحقيق، والغيرة الطيبة التى أبداها رجال مثل تلافيرا، وفيلانيفا، وربيرا، وإذاً فلم يك ثمة محيص من النفى. وأكرر أن فيليب الثانى قد أخطأ فى كونه لم ينفذه فى الوقت المناسب. وإنه لمن الحق أن نعتقد أن الصراع من أجل البقاء والمعارك، والمذابح بين الأجناس، تنتهى بصورة أخرى غير النفى أو الفناء. ذلك أن الجنس الأدنى ينهار دائماً، ويفوز بالنصر مبدأ القومية الأقوى.

وأما إن النفى كان حدثاً مقوضاً، فهذا ما لا ننكره، فإنه من المقرر أنه فى العالم يمتزج الخير والشر دائماً. وخسارة مليون بأسره من الناس، لم تكن هى السبب الأساسى فى إقفار بلادنا من السكان، وإن كان لها أثر فى ذلك. وبعد فإن ذلك يجب ألا يعد إلا كإحدى قطرات الماء فى جانب نفى اليهود، واستعمار أمريكا،

ص: 425

والحروب الخارجية فى مائة مكان معاً، وعدد الجند النظاميين الضخم، وهى أسباب نوه بها كلها بإيجاز اقتصاديونا القدامى، ومنهم من لم يتردد كالحبر فرناندث ناباريتى فى نقد نفى الموريسكيين بعد وقوعه بأعوام قليلة. وما كانت يل وليست الأجزاء المقفرة من السكان فى اسبانيا، هى التى تركها العرب، كما أنها ليست أسوأها زراعة، وهو ما يدل على أن الخسارة التى لحقت بالزراعة، من جراء نفى كبار الزراع المسلمين، لم تكن عميقة أو باقية الأثر، كما قد يتبادر إلى الذهن، لو أننا وقفنا فقط عند عويل أولئك الذين تأملوا الحقول المجدبة غداة تنفيذ أوامر النفى. ونحن أبعد من أن نعتقد مع الشاعر الساذج الشيوعى نوعاً جسبار دى أجيلار، أنه لم يخسر بالنفى سوى السادة الذين فقدوا أتباعهم المسلمين، وأن الكثرة من الناس قد غنمت، وغدا:

الأغنياء فقراء، والفقراء أغنياء

والصغار كباراً، والكبار صغاراً

ذلك أن مثل هذه النظريات، وإن أملاها الإخلاص والحماسة الشعبية، اللذان يضطرم بهما الشاعر، ليست إلا من أسخف وأضل ضروب الاقتصاد السياسى. ذنك أن مملكة بلنسية كلها كان لزاماً أن تخسر، وقد خسرت برحيل مثل هذا العدد الجم من عمال مهرة هادئين مثابرين، وقد كانوا حسبما يصفهم السكرتير فرنسيسكو إدياكيث "يكفون وحدهم لإحداث الخصب والرخاء فى سائر الأرض، لبراعتهم فى الزراعة، وقناعتهم فى الطعام". هذا بينما يصف هذا السكرتير النصارى القدماء بقوله "إنهم قليلو الخبرة فى الزراعة". على أنه من المحقق أنهم تعلموا، وأن بلنسية قد عمرت فيما بعد، وأن سائر الطرق الزراعية ونظم الرى البديعة، التى ربما كان من الخطأ أن تنسب إلى العرب وحدهم، قد أحييت فى هذه المناطق حتى أيامنا.

وإذا كان تدهور الزراعة مما لا ينكر، ولعله مبالغ فيه، فإن تأثر الصناعة كان أقل. ذلك لأن الصناعة كانت قبل ذلك بنصف قرن قد أصيبت باضمحلال واضح، وكذلك لأن الصناعات الرئيسية، إذا استثنينا الورق والحرير، لم تكن فى أيدى الموريسكيين، وقد كانوا دائماً عمالا أكثر منهم صناعاً. فإذا قيل مثلا إن المناسج التى بلغ عددها من قبل فى إشبيلية ستة عشر ألفاً، لم يبق منها فى عهد فيليب الخامس سوى ثلاثمائة، ونسب ذلك كله إلى واقعة النفى، فإن أصحاب هذا

ص: 426

القول ينسون أنه لم يكن فى إشبيلية أحد من الموريسكيين، وأن هذه المصانع كانت قد تركت قبل النفى بخمسين عاماً، كأنما آثر أجدادنا أن يحققوا الثراء بالحرب فى إيطاليا وبلاد الفلاندر، وبغزو أمريكا، وكأنهم كانوا ينظرون باحتقار سخيف مؤسف للفنون والأعمال الصناعية. إن اكتشاف العالم الجديد، والثروات التى كانت تتدفق من هنالك، فتثير الجشع، وتذكى أطماعاً يسهل تحقيقها: ذلك هو السبب الحقيقى الذى أسكت مناسجنا وأمحل زراعتنا، وجعل منا أول طائفة من المغامرين المحظوظين، ثم بعد ذلك شعباً من الأشراف المتسولين، وإنه لمن المضحك أن ننسب إلى سبب واحد، ربما كان أقل الأسباب، ما كان نتيجة لأخطاء اقتصادية يعسر علينا أن نتبين علاقتها بالتعصب الدينى.

والخلاصة أنه متى تدبرنا المزايا والمضار، فإننا ننظر إلى إجراء النفى العظيم، بنفس الحماسة التى امتدحه بها لوبى دى فيجا وثرفانتس، وكل اسبانيا فى القرن السابع عشر، باعتباره ظفراً لوحدة الجنس ووحدة الدين واللغة، والتقاليد.

أما الأضرار المادية فقد شفاها الزمن، وقد استحال ما كان صحراء بلقع قاتمة، إلى مهاد خصبة وحدائق غناء. وأما الذى لا يشفى، وأما الذى يترك دائماً الأحقاد الدموية الأبدية، فهى جرائم تشبه جرائم الوندال. ولما هدأت آثار النفى، أضحى النفى ليس فقط إجراء محموداً، بل كذلك إجراء ضرورياً. لم يكن ميسوراً أن تحل العقدة، فكان لابد من قطعها، ومثل هذه النتائج تقترن دائماً بالانقلابات المفروضة" (1).

ويعلق العلامة الدكتور لى، وهو من أحدث الباحثين فى هذا الموضوع على آراء المفكرين والمؤرخين الإسبان بقوله: "إذا كان نفى الموريسكيين كما يقول مننديث إى بلايو، نتيجة محتومة لقانون تاريخى، وإذا كان قد غدا ضرورة فى عهد فيليب الثالث، فقد كانت ضرورة مصطنعة، خلقها تعصب القرن السادس عشر، وإذا كان وجود المدجنين، منذ أيام ملوك ليون وقشتالة وأراجون فى الأراضى الإسبانية، من الأمور المأمونة، وذلك فى الوقت الذى كان فيه زعماء اسبانيا النصرانية يشغلون بحروب أهلية مضطرمة، ويواجهون دول العرب والمرابطين والموحدين القوية، وإذا كان فى وسع الملوك النصارى فى هذه العصور

(1) M. Menendez y Pelayo: Historia de los Heterodoxes Espanoles

p. 339 - 343

ص: 427

المضطربة، أن يركنوا إلى ولاء رعاياهم المسلمين أثناء الحرب، وأن يفيدوا من نشاطهم أثناء السلم، فإن الضرورة السياسية للوحدة الدينية، بعد أن غدت اسبانيا دولة قوية موحدة، وغدا المسلمون طوائف ممزقة، لم تكن بلا ريب سوى ضرب من الخيال المغرق الذى يخلقه التعصب. وقد كان هذا التعصب، نتيجة لتعاليم الكنيسة المستمرة، وهى التعاليم التى اعتنقتها اسبانيا مذ غدت قوة عالمية. وما أن انحدرت اسبانيا إلى طريق التعصب، حتى دفعه توقد المزاج الإسبانى إلى نهايته المحتومة باكتمال لا نظير له. ولما قضت غطرسة الكردينال خمنيس العنيفة، على ثقة المسلمين فى عدالة اسبانيا وشرفها، اتخذت الخطوة المحتومة فى طريق لم تكن له سوى نهاية واحدة

ولقد كان الموريسكيون بالضرورة أعداء فى الداخل، حملوا بكل وسيلة على بغض دين فرض عليهم بالقوة، وتبلورت مثله فى الظلم والاضطهاد وفظائع ديوان التحقيق، وكان من المستحيل فى ظل المؤثرات الدينية، التى غلبت على السياسة الإسبانية، أن يعامل الموريسكيون بالرفق والتسامح، وبهما فقط يمكن العمل على إرضائهم، وتحقيق رخائهم، وبث محبة النصرانية فى قلوبهم. وقد كانت كل محاولة لتلطيف الموقف، تزيده سوءاً حتى غدوا إغراء دائماً لاتصال كل عدو من الخارج، ومثاراً دائماً لجزع السياسة الإسبانية. فلما اضمحلت قوة اسبانيا، وفقد حكامها الثقة بالنفس، لم يكن ثمة بد من أن يتوج قرن من الغدر والظلم، بالنفى والإبعاد. وقلما يقدم لنا التاريخ مثلا، كوفئت فيه السيئة وأمثالها، وطمت كوارثه، كذلك الذى ترتب على جهود الكردينال خمنيس بما يطبعها من تعصب مضطرم".

ثم يقول: "على أنه مهما كان من فداحة الضربة، فقد كان الميسور تداركها بسرعة لو أن اسبانيا كانت تملك الحيوية القوية، التى مكنت أمماً أخرى من أن تنهض من كوارث أشد. إن انحلال اسبانيا لا يرجع فقط إلى خسارتها لجزء من السكان، بنفى اليهود والعرب المتنصرين، فقد كان من المستطاع أن تعوض هذه الخسارة؛ ولكن الخطب يرجع إلى أن اليهود والعرب المتنصرين كانوا من الناحية الإقتصادية أقيم عنصر بين سكانها، وكان نشاطهم معيناً لحياة الآخرين، وبينما كانت أمم أوربا الأخرى تنهض وتسير إلى الأمام فى مضمار التقدم، كانت اسبانيا، وشعارها أن تضحى كل شىء فى سبيل الوحدة الدينية، تنحدر سراعاً إلى غمر البؤس والشقاء، وتغدو جنة للأحبار والقساوسة، وعمال ديوان التحقيق، تخمد

ص: 428

فيها كل نزعة إلى الرقى العقلى، وتقطع فيها كل صلة مع العالم الخارجى، ويشل فيها كل جهد يبذل فى سبيل التقدم المادى. وقد كان من العبث أن تنهمر ثروات العالم الجديد، إلى أيدى شعب لا تقل مواهبه الطبيعية عن أى شعب آخر، وإلى أرض كانت مواردها عظيمة، مثلما كانت حينما جعلتها براعة العرب ونشاطهم فى طليعة الأمم الأوربية ازدهاراً. ومهما كانت قيمة الخدمات التى أدتها إيسابيلا الكاثوليكية والكردينال خمنيس، فإن السيئ فى عملهما يفوق الحسن، لأنهما علما الأمة أن الوحدة الدينية هى أول غاية يجب تحقيقها، وقد ضحت فى سبيل هذه الغاية برخائها المادى ورقيها العقلى" (1).

وأخيراً يجمل الدكتور لى خلاصة بحثه المستفيض فى مأساة المويسكيين فى هذه العبارة الموجزة القوية؛ "إن تاريخ الموريسكيين لا يتضمن فقط مأساة تثير أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء، التى اتحدت لتنحدر باسبانيا فى زهاء قرن، من عظمتها أيام شارل الخامس إلى ذلتها فى عصر كارلوس الثانى"(2).

ويقول العلامة سكوت: "لقد كانت نتائج هذه الجريمة التى ارتكبت ضد الحضارة، سواء البعيد منها والمباشر، ضربة لاسبانيا. فقد عصفت بموارد عيشها، ودفع بها القحط إلى الخراب، وأضحى من الضرورة أن تمد الحكومة يد الغوث إلى كثير من الأسر النبيلة، التى أودى بثرواتها تصرف العرش الانتحارى، وخيم الصمت والوجوم على مناطق شاسعة، كان يغمرها الخصب الأخضر، وظهر اللصوص والخوارج على القانون مكان الزراع والصناع، وحل الجزاء المروع عقب مأساة لم تقدم على مثلها لحسن الطالع أية أمة أخرى، مأساة أنزلت منذ وقوعها بالأمة التى ارتكبت فظائعها، كل صنوف الدمار والويل حتى الجبل الأخضر"(3).

ويمكن أن نلخص رأى النقد الإسبانى المعاصر فيما سمعته من العلامة الأستاذ مننديث بيدال، أعظم المؤرخين والنقدة الإسبان فى عصرنا، فقد حدثته وأنا بمدريد عن قضية الموريسكيين ونفيهم، فأدلى إلىّ بالآراء الآتية:

"لا ريب أن اسبانيا قد منيت من جراء نفى الموريسكيين بخسارة مادية لأنها

(1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 395 -397 & 399 - 401

(2)

Lea: The Moriscos، p. V.

(3)

Scott: The Moorish Empire in Europe ; V. III. p. 328

ص: 429

خسرت بإخراجهم شعباً مجدًّا عاملا بارعاً فى الزراعة والصناعة، ولكن الواقع أن حركة الإنقلاب البروتستانتى حملت اسبانيا على أن تتبع من جانبها سياسة كاثوليكية شديدة، وكان من جراء ذلك أن اشتدت فى معاملة الموريسكيين، ويمكن أن نصف هذه السياسة بأنها كانت عنيفة مغرقة.

ولم يكن نفى الموريسكيين خطوة موفقة، وكان أيضاً من آثار الحركة الرجعية الكاثوليكية. وما كان ملك قوى مثل فيليب الثانى ليقدم على اتخاذ مثل هذه الخطوة، ولكن ولده فيليب الثالث كان ملكاً ضعيفاً يعوزه الذكاء والحصافة. وقد غلبت السياسة الدينية والكنسية فى هذه المسألة. ويبدو خطأ هذه السياسة بالأخص من الناحية العنصرية، فإن العلامة ربيرا يعتقد أن الموريسكيين كان نصفهم على الأقل من الإسبان الخلص الذين اعتنقوا الإسلام فى عهود مختلفة، ثم أرغموا على التنصير بعد سقوط غرناطة وصاروا موريسكيين.

ويسلم الأستاذ بيدال بأن نفى الموريسكيين كان من عوامل انحلال اسبانيا، ولكنه يرى من البالغة أن يقال إنه السبب الرئيسى لهذا الانحلال. ثم يقول:"الواقع أن هذه مسألة معقدة، وأعتقد أن من أهم أسباب انحلال اسبانيا، عنف السياسة الكنسية المناهضة لحركة الإصلاح الدينى - البروتستانتية - وهو عنف لم يقع مثله فى أى بلد أوربى آخر بل انفردت به اسبانيا والكنيسة الإسبانية".

ويبدى دى مارليس الذى اتخذ مؤلف كوندى أساساً لكتابه عن "تاريخ دولة المسلمين فى اسبانيا والبرتغال" حماسة فى تقدير تراث الأمة الأندلسية وما أصاب اسبانيا من جراء القضاء عليها، ويعلق فى خاتمة تاريخه على مأساة الموريسكيين فى تلك العبارات الشعرية المؤثرة:

"وهكذا اختفى من الأرض الإسبانية إلى الأبد ذلك الشعب الباسل اليقظ الذكى المستنير، الذى أحيى بهمته وجِدّه تلك الأراضى، التى أسلمتها كبرياء القوط الخاملة إلى الجدب، فدر عليها الرخاء والفيض، واحتفر لها عديد القنوات، ذلك الشعب الذى أحاطت شجاعته الفياضة فى السعود والشدائد معاً، عرش الخلفاء بسياج من البأس، والذى أقامت عبقريته بالمران والتقدم والدرس، فى مدنه صرحاً خالداً من الأنوار، التى كان ضوؤها المنبعث ينير أوربا، ويبث فيها شغف العلم والعرفان، والذى كان روحه الشهم يطبع كل أعماله بطابع لا نظير له من العظمة والنبل، ويسبغ عليه فى نظر الخلف، لوناً غامضاً من العظمة الخارقة، ودهاناً سحرياً

ص: 430

من البطولة، يذكرنا بعصور هومير السحرية، ويقدم لنا فيهم أنصاف آلهة اليونان، ولكن شيئاً لا يدوم فى هذا العالم. فإن هذا الشعب قاهر القوط، الذى كان يبدو أنه صائر خلال القرون، إلى أقصى الأجيال، قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثاً يسائل اليوم السائح الفريد، قفار الأندلس المحزنة، التى كان يعمرها من قبل شعب غنى منعم. ظهر العرب فجأة فى اسبانيا، كالقبس الذى يشق عباب الهواء بضوئه، وينشر لهبه فى جنبات الأفق، ثم يغيض سريعاً فى عالم العدم، ظهروا فى اسبانيا فملأوها فجأة بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلها كوكب من المجد شملها من البرنيه إلى صخرة طارق، ومن المحيط إلى شواطىء برشلونة. ولكن هوى يضطرم إلى الحرية والاستقلال، وخلقاً متقلباً يميل إلى الخفة والمرح، ونسيان الفضائل القديمة، وميل نكد إلى التمرد والثورة، يثيره دائماً خيال ملتهب، وشهوات وأطماع عنيفة، ونزعة إلى التغلب وغيرها، من عوامل الاضمحلال، قد عملت شيئاً فشيئاً، على هدم ذلك الصرح العتيد، الذى شاده رجال كطارق وعبد الرحمن الناصر ومحمد بن الأحمر، وأفضت بالعرب إلى خلافات داخلية، فلّت من بأسهم وحملتهم إلى هاوية الفناء.

خرج ملايين العرب من اسبانيا، حاملين أموالهم وفنونهم، ثروات الدولة، فماذا أنشأ الإسبان مكانهم؟ لا نستطيع أن نجيب، بشىء، إلا أن حزناً خالداً يغمر هذه الأرض، التى كانت من قبل تتنفس فيها أبهج الطبائع. أن ثمة بعض الآثار المشوهة ما زالت تقوم فى هذه البقاع الموحشة، ولكن صرخة حقيقية تدوى من أعماق هذه الأطلال الدارسة: الشرف والمجد العربى المغلوب، والانحلال والبؤس للإسبانى الظافر" (1).

ويقول الأستاذ لاين بول فى مقدمة كتابه عن "العرب فى اسبانيا"؛ "لبثت اسبانيا فى يد المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها الزاهرة يبهر أوربا، وازدهرت بقاعها الخصبة بمجهود الفاتحين، وأنشئت المدائن العظيمة فى سهول الوادى الكبير، فلم يبق ثمة ما يذكرنا بماضيها المجيد، سوى الأسماء والأسماء فقط - وتقدمت بها الآداب والعلوم والفنون، دون سائر الأمم الأوربية، ولم تثمر وتكتمل زهرة العلوم

(1) De Marlès: Histoire de la Domination des Arabes et des Maures en

Espagne et Portugal (redigé sur l'Histoire de M. Joseph Condé ; V. III.

p. 404 - 406

ص: 431

الرياضية والفلكية والنباتية، والتاريخ والفلسفة والتشريع، إلا فى اسبانيا المسلمة، فكل ما يدعو إلى عظمة أمة وسعادتها، وكل ما يؤدى إلى رقى باهر وحضارة سامية، فاز به مسلمو اسبانيا.

ثم ذوت عظمة اسبانيا بسقوط غرناطة. وقد سطعت لمدى قصير أشعة من ضوء الحضارة العربية، فوق الأرض التى كان ينعشها بحرارته. ثم تضاءلت عظمة عصور فرناندو وإيسابيلا، وشارل الخامس، وفيليب الثانى، وكلومبوس وكورتيس وبيثارو، لتموت بموتها دولة عظيمة. ثم خفقت أعلام الخراب بسيادة ديوان التحقيق وسادت اسبانيا بعد ذلك ظلمة حالكة؛ فأصبح لا يعرف الأطباء بأرض كانت علومها منيرة إلا بالجهل والقصور

وقضى على فنون إشبيلية وطليطلة وألمرية وعفت صناعاتها؛ وسحقت المعاهد العامة حتى تزول بزوالها آثار الإسلام، وخربت المدائن الكبيرة، وذوت نضرة الوديان الخصبة، فحل البؤساء والدهماء واللصوص مكان الطلاب والتجار والفرسان: ذلك مبلغ انحطاط اسبانيا يعد إقصائها للعرب، وهكذا يبدو البون شاسعاً بين أدوار تاريخها" (1).

(1) Lane - Poole: The Moors in Spain

ص: 432