المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأندلس والممالك النصرانية الإسبانية في أواخر عصر الموحدين (أوائل القرن الثالث عشر) - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الأندلس والممالك النصرانية الإسبانية في أواخر عصر الموحدين (أوائل القرن الثالث عشر)

خريطة:

‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

.

ص: 29

ابن يوسف بن عبد المؤمن، الملقب بالمخلوع، ولكن الأمور لم تهدأ بذلك ولم تستقر، إذ ظهر بالأندلس، مدع جديد للخلافة، هو السيد أبو محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور، والى مرسية، وأعلن نفسه خليفة للموحدين باسم العادل، وذلك في شهر صفر سنة 621 هـ. وأيدته في دعوته معظم القواعد الكبرى، وكان ولاة قرطبة وغرناطة ومالقة، وإشبيلية، يومئذ من أخوته، أولاد المنصور. ثم سار العادل إلى إشبيلية، وهنالك وصلته بيعات أهل مراكش وبلاد المغرب. وقام أشياخ الموحدين بمراكش بخلع الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم دبروا قتله غيلة (شعبان 621 هـ) وعندئذ قرر العادل العبور إلى المغرب، وترك أخاه السيد أبا العلاء إدريس بن المنصور والياً لإشبيلية، وهي يومئذ قاعدة الحكم الموحدى بالأندلس.

وعبر العادل البحر إلى المغرب في أواخر سنة 622 هـ. وتربع على كرسى الخلافة. وكانت أحوال الدولة الموحدية قد ساءت يومئذ ومزقتها الأهواء والفتن، وتضعضع سلطانها في معظم أنحاء المغرب والأندلس. ولم يمض قليل على قيام العادل في الخلافة حتى خرج عليه بالأندلس، أخوه أبو العلاء إدريس والى إشبيلية، ودعا لنفسه، وتسمى بالمأمون، وكان من أعداء هذه الحركة الجديدة في مراكش أن قام الموحدون بقتل العادل، ولكنهم لم يعلنوا بيعة المأمون، بل أقاموا مكانه في الخلافة ولد أخيه، يحيى بن الناصر (شوال 624 هـ) ولما علم المأمون بذلك، استشاط سخطاً، وقصد إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، وطلب إليه العون على انتزاع العرش من ابن أخيه، وقدم إليه عدداً من الحصون الأندلسية الهامة، ودفع إليه مبلغاً طائلا من المال، وتعهد بأن يمنح النصارى في مراكش امتيازات عديدة، وأن يسمح لهم ببناء كنيسة لهم، وفي نظير ذلك أمده ملك قشتالة بفرقة من جنوده ليستعين بها على مقاتلة خصمه. وعبر المأمون إلى المغرب في حشوده من العرب والموحدين والقشتاليين، وذلك في أواخر سنة 626 هـ (1228 م)، وقصد تواً إلى مراكش. وخرج الخليفة يحيى بن الناصر للقائه في قواته. ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها يحيى، وفر ناجياً بنفسه، ودخل المأمون مراكش، وتربع على كرسى الخلافة.

وكان المأمون، أميراً وافر الهمة والعزم، يجيش بمشاريع وأطماع عظيمة. فقضى الأعوام القلائل التالية في العمل على توطيد سلطانه بالمغرب، واستبد بالحكم

ص: 30

واستعمل الشدة والعنف، في قمع كل نزعة إلى الخروج، وقضى بمرسومه الشهير، على رسوم المهدى ابن تومرت وتعاليمه ونظام حكومته، باعتبارها نظماً رجعية، لا تتفق مع روح الدين الصحيح، وفتك بخصومه والناكثين لبيعته من الموحدين وغيرهم. فسرت روح السخط إلى معظم القبائل، وأخذ الزعماء المتوثبون يرقبون الفرص. ثم مرض المأمون وتوفى فجأة، وهو في إبان سطانه ومشاريعه، وذلك في شهر ذى الحجة سنة 629 هـ (1232 م)، فخلفه ولده الفتى أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد.

وبينما كان المغرب يضطرم بعوامل الثورة والانتقاض على هذا النحو، وكرسى الخلافة الموحدية يهتز إزاء أطماع الخوارج والمتوثبين، كان سلطان الموحدين بالأندلس يهتز في الوقت نفسه، ويتداعى بسرعة، وينهار حكمهم تباعا. ففي تلك الآونة، ظهر زعيم أندلسى جديد، ينتمى إلى بيت عريق في الزعامة والملوكية، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة القدماء، وكان يومئذ فتى متواضعاً من أهل مرسية من طوائف الجند. ظهر يدعو إلى دعوة جديدة، تمثل فيها روح الأندلس الحقيقية، وهي وجوب العمل على تحرير الأندلس من نير الموحدين والنصارى معا. وكان تحالف المأمون مع ملك قشتالة، وتنازله له عن الحصون الأندلسية، وتعهده بأن يمنح النصارى في أراضيه امتيازات خاصة، وذلك مقابل عونه له بالجند على محاربة خصومه: كان ذلك يسبغ على دعوة ابن هود قوة خاصة، ويدفع الأندلسيين إلى الانضواء تحت لوائه. وظهر ابن هود لأول مرة في أحواز مرسية في سنة 625 هـ (1228 م)، في الوقت الذي أخذ فيه سلطان الموحدين، يضطرب ويتصدع في الثغور والنواحى، ثم أغار على مرسية في عصبته القليلة، واستطاع أن ينتزعها من يد حاكمها الموحدى السيد أبي العباس. وأخذ نجمه يتألق من ذلك الحين، فأعلن أنه يعتزم تحرير الأندلس من الموحدين والنصارى معاً، والعمل على إحياء الشريعة وسننها، ودعا للخلافة العباسية، وكاتب الخليفة المستنصر العباسى ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وتلقب بالمتوكل على الله. ولم يمض سوى قليل حتى دخلت في طاعته عدة من قواعد الأندلس، ومنها جيان وقرطبة وماردة وبطليوس. ثم استطاع أن ينتزع غرناطة

ص: 31

قصبة الأندلس الجنوبية، من المأمون وذلك في سنة 628 هـ (1231 م)(1).

وفي العام التالى (629 هـ) توفى المأمون خليفة الموحدين حسبما تقدم، وهو في طريقه إلى مراكش، ليعمل على إنقاذ عرشه من المتغلبين عليه. وبينما كان سلطان الموحدين بالأندلس يدنو سراعاً من نهايته، كانت دولتهم بالمغرب تدخل في دور الانحلال وتجوز مراحلها الأخيرة. وبالرغم من أنه لاح مدى لحظة، في ظل الخليفة أبي الحسن على السعيد (640 - 646 هـ)، الذي خلف الرشيد، أن الدولة الموحدية سوف تنهض من كبوتها، وتسترد قوتها، وتصمد أمام هجمات بني مَرين المتوالية، فإن مصرع السعيد الفجائى في الحرب ضد أمير تلمسان، قضى على هذه البارقة. ثم جاء الخليفة المرتضى بالله (646 - 665 هـ)، فضمت الخلافة الموحدية في ظله سراعاً إلى المنحدر، ثم اختتمت حياتها، بعد ذلك بقليل في فاتحة سنة 668 هـ (سبتمبر 1269 م)، على يد آخر خلفائها الواثق أبي دبوس، لتقوم على أنقاضها دولة بني مرين الفتية الشامخة.

وقد خاض ابن هود، قبل أن تستقر دعوته، مع الموحدين والنصارى معارك متوالية. فأما عن صراعه مع الموحدين، فقد بذل الخليفة المأمون قبل عبوره إلى المغرب محاولة لإخماد حركة ابن هود في المشرق، فلم يفلح (626 هـ)، وكان من أثر هذا الفشل، أن تمكنت دعوة ابن هود، وقامت إشبيلية عاصمة الأندلس الموحدية بالدخول في طاعته. على أن ابن هود لم يحرز مثل ذلك التوفيق في محاربة النصارى. ذلك أن ألفونسو التاسع ملك ليون، رأى أن ينتهز فرصة اضطراب الأحوال في الأندلس، وانهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة، فخرج في قواته إلى منطقة الغرب الأندلسية، وزحف على مدينة ماردة، وضرب حولها الحصار. ولما علم ابن هود بذلك، سار في بعض قواته نحو الغرب لينقذ المدينة المحصورة، واشتبك مع الليونيين في معركة هزم فيها، واستولى الليونيون على ماردة، ثم احتلوا بعد ذلك بقليل مدينة بطليوس، وذلك في أواسط سنة 627 هـ (1230 م). وكان فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهو ولد ألفونسو التاسع ملك ليون، يرقب الفرصة في نفس الوقت، لينتزع ما يمكن انتزاعه من أراضى الأندلس المتاخمة لقشتالة. فسير قواته لمقاتلة ابن هود، وقد كان يبدو في نظره

(1) تحدثنا عن ظهور ابن هود تفصيلا في كتابنا (عصر المرابطين والموحدين) القسم الثاني ص 389 - 393.

ص: 32

يومئذ زعيم الأندلس الحقيقى. وكان ابن هود قد استطاع في تلك الآونة، أن يبسط سلطانه على الولايات والشواطىء الجنوبية، فيما بين الجزيرة الخضراء وألمرية، وفيما بين قرطبة وغرناطة، وكان يرى في مقاتلة النصارى عاملا لتدعيم دعوته وسلطانه. فسار للقائهم والتقى الجيشان في فحص شريش على ضفاف نهر وادى لكه، ولكن ابن هود هزم للمرة الثانية بالرغم من تفوقه في العدد (أواخر 630 - 1233 م)، وسار فرناندو بعد ذلك لاجتياح أبدة، فسقطت في يده بعد حصار قصير (631 هـ - 1234 م).

على أن سقوط قرطبة كان أعظم ضربة نزلت يومئذ بالأندلس. وكان ابن هود عقب هزيمته في شريش، قد جمع قواته، وسار لقتال خصمه ومنافسه الجديد محمد بن الأحمر في أحواز غرناطة، وألفى النصارى من جانبهم الفرصة سانحة للزحف على قرطبة. وكانت عاصمة الخلافة القديمة، بالرغم من دخولها في طاعة ابن هود، تعانى من حالة مؤلمة من الاضطراب والفوضى، ولم يكن لها حاكم أو زعيم يجمع الكلمة أو يتزعم حركة الدفاع ضد النصارى. وكان القشتاليون في الحصون القريبة، يشعرون بضعف العاصمة التالدة، وإمكان مهاجمتها، فاجتمعت بعض قوى الفرسان القشتالية المرابطة في حصون الحدود، وسارت نحو قرطبة، وهاجمت قسمها الشرقى المسمى " بالشرقية"، واقتحمته ليلا، وعلى غرة من أهله، واستطاعوا الاستيلاء على بعض أبراجه، ولكنهم رأوا أن الاستيلاء على المدينة ذاتها ليس بالأمر السهل، ولابد لتحقيقه من قوات ضخمة. وعلم فرناندو الثالث، وهو في طريقه إلى ليون بما تم من استيلاء قواته على بعض أبراج المدينة، وبما تبين من ضعف وسائل الدفاع عنها، فارتد إليها مسرعاً تلاحقه قواته من سائر الأنحاء، وضرب الحصار حول المدينة، وبادر أهل قرطبة بالتأهب للدفاع عن مدينتهم، وأرسلوا إلى ابن هود أميرهم الشرعى، يطلبون الغوث والإنجاد. وقدر ابن هود خطورة الموقف، واعتزم في الحال أن يسير إلى إنجاد المدينة المحصورة، فسار في قواته نحو قرطبة، ونزل في إستجة على مقربة منها، ولكنه لبث جامداً لا يحاول الاشتباك مع النصارى. وفي بعض الروايات أن ابن هود رأى جيش القشتاليين يفوقه في الأهبة والكثرة، فنكل عن الاشتباك معه. وفي البعض الآخر، أن ابن هود، وصله وهو على مقربة قرطبة صريخ أبي جميل

ص: 33

زيان زعيم بلنسية لمعاونته ضد خايمى (1) ملك أراجون، الذي اشتد في مناوأته وإرهاقه؛ ولاح له أن السير إلى بلنسية التي كان يطمح إلى امتلاكها أيسر وأجدى، فترك قرطبة لمصيرها، مؤملا أن يصمد أهلها للدفاع عنها، أو يستطيع إنقاذها فيما بعد. ولبث النصارى على حصار قرطبة بضعة أشهر، ودافع القرطبيون عن مدينتهم وعن دينهم وحرياتهم، أعنف دفاع وأروعه، ولكنهم اضطروا في النهاية، وبعد أن أرهقهم الحصار، وفقدوا كل أمل في الغوث والإنقاذ، إلى التسليم. ودخل القشتاليون قرطبة في 23 شوال سنة 633 هـ (29 يونيه سنة 1236 م)، وفي الحال حولوا مسجدها الجامع إلى كنيسة (2). وقد كان هذا شعارهم كلما دخلوا قاعدة أندلسية، وذلك إيذاناً بظفر النصرانية على الإسلام. وكان لسقوط العاصمة الخلافية التالدة، أعظم وقع في الأندلس وفي سائر جنبات العالم الإسلامى، وكان ضربة مميتة أخرى صوبتها اسبانيا النصرانية، إلى قلب الأندلس المفككة المنهوكة القوى (3).

ولم يلبث ابن هود أن توفى بعد ذلك بقليل في أوائل سنة 635 هـ (1237 م). وكانت وفاته في ثغر ألمرية، في ظروف غامضة. وكان قد سار إليها معتزماً أن ينقل بعض قواته في البحر لإنجاد أمير بلنسية، فقيل إن وزيره ونائبه في ألمرية أبا عبد الله محمد بن عبد الله الرميمى استضافه في قصره، ودبر قتله غيلة، وزعم في اليوم التالى أنه توفى مصروعاً. وكان الرميمى قد قام بدعوته في ألمرية ووفد عليه في مرسية، فقدر ابن هود عونه، وولاه وزارته وعينه حاكماً لألمرية، ثم تغير

(1) خايمى Jaime وهو الرسم الإسبانى لاسم يعقوب.

(2)

وما زال جامع قرطبة العظيم قائماً إلى يومنا بأروقته وعقوده وأعمدته الإسلامية كاملا كما كان أيام المسلمين. بيد أنه حول إلى كنيسة قرطبة الجامعة، وأقيمت الهياكل في سائر جوانبه تحت عقوده القديمة، وأقيم في وسطه مصلى كبير على شكل صليب Crucéro، وقد أزيلت قبابه ونقوشه الإسلامية. ولم يبق محتفظاً بنقوشه القديمة سوى محاريبه الثلاثة. وما زال هذا الأثر الأندلسى العظيم إلى جانب تسميته بكتدرائية قرطبة يحمل اسمه الإسلامى القديم " المسجد الجامع " La Mezquita Aljama. راجع كتابى الآثار الأندلسية الباقية (الطبعة الثانية ص 20 - 33).

(3)

راجع في سقوط قرطبة، ابن خلدون ج 4 ص 169 و 183؛ ونفح الطيب ج 2 ص 585 حيث يشير إليه إشارة عابرة مع تحريف في التاريخ، إذ يذكر أن سقوطها كان في سنة 636 هـ.

وراجع التكملة لابن الأبار (القاهرة) ص 202. وقد تحدثنا عن سقوط قرطبة تفصيلا في كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " القسم الثاني (ص 418 - 425).

ص: 34

عليه فيما يقال من أجل جارية نصرانية رائعة الحسن، كان يودعها لديه وقد أغراها الرميمى واستأثر بها، فسار إلى ألمرية لمعاقبته، وخشى الرميمى العاقبة فدبر مصرعه، ولجأ إلى الجريمة احتفاظاً بسلطانه. وكان مصرع ابن هود على هذا النحو في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (21 يناير 1138 م)(1).

وهكذا توفى ابن هود وهو في ذروة سلطانه ومشاريعه، ولم تطل وثبته التي لبثت إلى الأندلس مدى لحظة قصيرة أملا خلباً، سوى بضعة أعوام، فانهارت بوفاته دولته التي لم يتح لها كثير من أسباب الاستقرار والتوطد (2).

وكان المتوكل بن هود أميراً شجاعاً، كريم الصفات، يضطرم إخلاصاً وغيرة للقضية التي نصب نفسه للاضطلاع بها، ولكنه لم يكن بصفاته وموارده كفؤا لتلك المهمة العظيمة، وكانت تعتور جهوده نفس المثالب القديمة التي كانت تصدع دائماً من جهود الزعماء الأندلسيين، والتي تتلخص في مصانعة النصارى، ومداراتهم، ومساومتهم على حساب المصالح القومية.

وعلى أثر وفاة ابن هود وانهيار دولته، بادر خايمى ملك أراجون بانتهاز الفرصة السانحة فغزا ولاية بلنسية. وكان قد استولى قبل ذلك بأعوام قلائل على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في سنة 627 - 632 هـ (1230 - 1235 م).

وكانت بلنسية، في الوقت الذي اضطرم فيه شرقى الأندلس بثورة ابن هود، ما تزال في أيدى الموحدين، ويحكمها واليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ابن يوسف بن عبد المؤمن. ولما استولى ابن هود على مرسية، خرج السيد أبو زيد في قواته لمحاربته، ولكنه ارتد مهزوما إلى بلنسية. فكان لذلك وقع عميق في بلنسية ذاتها، ونهض الشعب البلنسى ليحطم نير الموحدين، وشعر السيد أبو زيد بحرج الموقف، ونهض في نفس الوقت زعيم من آل مردنيش، زعماء بلنسية السابقين، هو الأمير أبو جميل زيان بن مردنيش، يحاول انتزاع السلطة، والتف حوله الشعب البلنسى، وعندئذ بادر السيد أبو زيد، وغادر بلنسية في أهله وأمواله والتجأ إلى أحد الحصون القريبة، ولكنه لما رأى تفاقم الموقف، اعتزم أمره

(1) ابن خلدون ج 4 ص 169، ونفح الطيب ج 2 ص 582 و 583، والبيان المغرب القسم الثالث ص 235 و 236.

(2)

راجع في ثورة ابن هود ووفاته، ابن خلدون ج 4 ص 168 - 170؛ والإحاطة ج 2 ص 90 - 94؛ ونفح الطيب ج 2 ص 581 - 583.

ص: 35

سار ملتجئاً إلى خايمى الأول ملك أراجون (626 هـ)، وعقد معه معاهدة تعهد فيها بأن يعطيه جزءاً من الحصون والأراضى الإسلامية التي يستردها أو يفتتحها، ثم زاد على ذلك، بأن اعتنق النصرانية، وانضم بكليته إلى أعداء أمته ودينه، وأخذ يسير مع حلفائه النصارى في غزواتهم المتوالية لأراضى بلنسية. وأخذ الملك خايمى يستولى تباعا على حصون بلنسية الأمامية، ثم هزم البلنسيين، بقيادة أميرهم زيان، هزيمة شديدة في موقعة أنيشة (ذى الحجة 634 - أغسطس 1237). ولم تمض على ذلك أشهر قلائل، حتى سار خايمى في قواته صوب بلنسية وضرب حولها الحصار (رمضان 635 هـ)، وأخذ يضربها بالآلات المخربة. ودافع البلنسيون عن مدينتهم أشد دفاع، وبعث الأمير أبو جميل كاتبه الفقيه الشاعر المؤرخ، ابن الأبار القضاعى بصريخه سفيراً إلى الأمير أبي زكريا الحفصى عاهل إفريقية، وألقى ابن الأبار بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي نشير إليها فيما بعد، وبعث الأمير أبو زكريا عدة من السفن محملة بالعتاد والأموال إنجادا للمدينة المحصورة ولكنها لم تستطع اختراق الحصار، واضطر البلنسيون آخر الأمر إلى التسليم بعد أن استنفذوا كل وسائل الدفاع، وسقطت بلنسية في أيدى الأرجونيين، وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر صفر سنة 636 هـ (9 أكتوبر سنة 1238 م)(1)، وانهارت بذلك سائر خطط الدفاع عن شرقى الأندلس. وأتبع خايمى فتح بلنسية بالاستيلاء على شاطبة ودانية ولقنت وأوريولة وقرطاجنة، وذلك في سنة 641 - 644 هـ. وأما ولاية مرسية فقد استولى عليها في البداية الأمير أبو جميل زيان، عقب فقده لبلنسية، ولكن الزعماء المحليين آثروا الانضواء تحت حماية ملك قشتالة، فتقدموا إليه يلتمسون مهادنته ومحالفته على الوضع المأثور، وهو أن يسمح لهم باستبقاء مدنهم في طاعته وتحت حمايته، فأجابهم فرناندو ملك قشتالة إلى ملتمسهم، وبعث إليهم ولده ألفونسو. ودخل النصارى مرسية صلحاً سنة 640 هـ (1243 م). وبذلك سقطت ولاية بلنسية ومرسية وشرقى الأندلس كله في أيدى النصارى في أعوام قلائل فقط، وكانت نفس المأساة تتكرر في ذلك الوقت نفسه، بصورها وأوضاعها المحزنة، في غربي الأندلس حسبما نفصل بعد (2).

(1) ابن خلدون ج 4 ص 167. والحلة السيراء لابن الأبار ص 190.

(2)

تناولنا حصار بلنسية وافتتاحها، وسقوط باقى قواعد الشرق تفصيلا في كتابنا "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثاني ص 437 - 464.

ص: 36

- 2 -

وفي تلك الآونة العصيبة، التي أخذت فيها قواعد الأندلس العظيمة: قرطبة، وبلنسية ومرسية وإشبيلية، تسقط تباعاً في يد النصارى، والتي أخذت الأندلس تواجه فيها شبح الفناء من جديد كما واجهته أيام الطوائف، كانت عناصر الفتنة والفوضى تتمخض عن قيام مملكة إسلامية جديدة في جنوبى الأندلس هي مملكة غرناطة. وقيام هذه المملكة في الطرف الجنوبى للدولة الإسلامية القديمة، يرجع إلى عوامل جغرافية وتاريخية واضحة. ذلك أن القواعد والثغور الجنوبية التي تقع فيما وراء نهر الوادى الكبير آخر الحواجز الطبيعية، بين اسبانيا النصرانية وبين الأندلس المسلمة، كانت أبعد المناطق عن متناول العدو وأمنعها، وكانت في الوقت نفسه أقربها إلى الضفة الأخرى من البحر، إلى عُدوة المغرب وشمال إفريقية حيث تقوم دول إسلامية شقيقة، وحيث تستطيع الأندلس وقت الخطر الداهم، أن تستمد الغوث والعون من إخوانها في الدين. وقد كان لها في ذلك منذ أيام الطوائف أسوة، بل لقد كان صريخ الأندلس يتردد في تلك الآونة ذاتها على لسان شاعرها وسفيرها ابن الأبار القضاعى، حينما دهم العدو بلنسية في سنة 635 هـ (1237 م)، وكان الصريخ موجهاً من أميرها أبي جميل زيان، إلى أبي زكريا الحفصى ملك إفريقية (تونس)، وهو الذي ردده الشاعر في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:(1)

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

وهب لها من عزيز النصر ما التمست

فلم يزل عز النصر منك ملتمسا

وحاش مما تعانيه حشاشتها

فطالما ذاقت البلوى صباح مسا

يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً

للحادثات وأمسى جدها تعسا

في كل شارقة إلمام بائقة

يعود مأتمها عند العدا عرسا

وكل غاربة إجحاف نائبة

تثنى الأمان حذاراً والسرور أسى

تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم

إلا عقائلها المحجوبة الأنسا

وفي بلنسية منها وقرطبة

ما ينسف النفس أو ما ينزف النَّفسا

مدائن حلها الإشراك مبتسما

جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا

وصيرتها العوادى العابثات بها

يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا

(1) تراجع هذه القصيدة في نفح الطيب ج 2 ص 578 وما بعدها؛ وفي أزهار الرياض ج 3 ص 207 وما بعدها، وهي من غرر القصائد الأندلسية السياسية.

ص: 37

وفي قول الشاعر يتمثل هذا المغزى التاريخى. الذي لبث أحقاباً يربط بين الأندلس وبين الدول الإسلامية الشقيقة في عدوة المغرب، وقد كان يتمثل واضحاً كلما اشتد الخطر بالأمة الأندلسية، ولاح لها شبح الفناء في جزيرتها المنقطعة قوياً رهيباً.

وقد قامت مملكة غرناطة، التي شاء القدر أن تكون ملاذ الأمة الأندلسية دهراً طويلا آخر، في ظروف متواضعة. وذلك أنه لما ضعف أمر الموحدين بالأندلس، وخرج عليهم محمد بن يوسف بن هود الملقب بالمتوكل كما قدمنا، وأخذت قواعد الأندلس تخرج من قبضتهم تباعاً، ينتزع بعضها ابن هود وثوار النواحى، والبعض الآخر ينتزعه النصارى، كان من الزعماء الذين ظهروا أثناء الفتنة محمد بن يوسف النصرى المعروف بابن الأحمر سليل بني نصر، وهم في الأصل سادة حصن أرجونة (1) من أعمال ولاية جيّان. وهو محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر ابن قيس الخزرجى. ويُرجع بنو نصر نسبتهم إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وأحد أكابر الصحابة، فهم بذلك من أعرق البطون العربية. وقد أشار إلى هذه النسبة بعض مؤرخى الأندلس ومنهم الرازى (2). وكان لبنى نصر وجاهة وعصبية. وولد محمد بن يوسف في أرجونة سنة 595 هـ (1198 م) ونشأ في مهاد الفضيلة والتقشف جندياً وافر الجرأة والعزم، يتزعم قومه، ويقودهم إلى مواطن النضال، وكان بالرغم من تقشفه وتواضعه يجيش بأطماع كبيرة، وكانت حوادث الأندلس يومئذ تقدم لأولى العزم والإقدام كثيراً من فرص الظهور والمغامرة، فلما تفاقمت الفتنة، واضطربت الشئون في الثغور والنواحى، وكثرت غزوات النصارى لقواعد الأندلس، وظهر ابن هود على الموحدين في الثغور الشرقية، لاحت لمحمد ابن يوسف فرصة العمل. وكان هذا الزعيم المتواضع الموهوب معاً، يبدو لكثير من الزعماء وذوى الرأى، معقد الآمال في إنقاذ ما بقى من تراث الأندلس، فالتفت حوله الصحب والأنصار، أولا في أرجونة موطن أسرته وعصبته، وفي الجهات المجاورة لها. وبينما كان ابن هود يعمل لتوطيد سلطانه في شرقى الأندلس وجنوبها، كان محمد بن يوسف يعمل من جانبه في الأنحاء الوسطى، ولم يلبث

(1) ومكانه اليوم بلدة أرجونه Arjona وهي بلدة صغيرة تقع شمال غربي مدينة جيان، وجنوبى بلدة أندوجر.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 170، والإحاطة ج 1 ص 158 وج 2 ص 59 و 60، وأزهار الرياض ج 1 ص 167.

ص: 38

أن أطاعته جيّان وبسطة ووادى آش وما حولها من البلاد والحصون، وبسط حكمه على تلك الأنحاء بالرغم من معارضة ابن هود. ثم اتجه ببصره إلى القواعد والثغور الجنوبية باعتبارها أقرب ميدان للعمل، وأبعد الأماكن عن متناول العدو، ورأى في الوقت نفسه، أن يستظل بدعوة أحد الأمراء المسلمين الظاهرين، فدعا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية (تونس) وتلقى منه بعض العون. وقيل أيضاً إنه حذا حذو ابن هود في الدعاء للخليفة المستنصر بالله العباسى؛ ونادت قرمونة وقرطبة وإشبيلية بطاعته لمدى قصير وذلك في أواسط سنة 629 هـ، ثم عدلت قرطبة وإشبيلية عنه إلى طاعة ابن هود. ولما اضطرمت الثورة في إشبيلية، واستطاع زعيمها القاضى أبو مروان الباجى أن يبسط حكمه عليها، وأن يخرج منها عامل ابن هود، بادر محمد بن يوسف إلى محالفته على معارضة ابن هود ومقاتلته، وهزماه سوياً في بعض المواقع. ولكن محمداً غدر بعد ذلك بالباجى ليخلو له الجو ودس عليه من قتله. ولم يمض قليل على ذلك حتى أطاعته شَريش ومالقة، وكثير من القواعد والحصون القريبة (سنة 630 هـ). أما إشبيلية وقواعد غربي الأندلس فقد احتفظت باستقلالها في ظل بعض الزعماء المحليين. وهرع إلى لوائه كثير من المسلمين الذين غادروا المدن التي وقعت في يد النصارى، واستطاع أن يحشد جيشاً كبيراً من الفرسان والرجالة، يؤازره في تنفيذ خططه ومشاريعه (1).

ولما قويت دعوة ابن هود، وامتد سلطانه نحو الغرب والجنوب، واستولى على غرناطة وأقره الخليفة العباسى على دعوته، رأى محمد بن يوسف (ابن الأحمر) مصانعته والانضواء تحت لوائه، فانحاز إليه وجاهر بطاعته (631 هـ) ولكن ابن هود ما لبث أن توفى في أوائل سنة 635 هـ وانهارت دولته كما قدمنا.

وعندئذ بادر محمد بن يوسف إلى العمل، لاجتناء تراثه في الأنحاء الوسطى. وكان ابن هود قد ولى على غرناطة عتبة بن يحيى المغيلى، وكان خصما لابن الأحمر يأمر بسبه على المنابر، وكان ظلوماً جائراً، فلما اشتدت وطأته على أهل غرناطة، ثار عليه جماعة من أشرافها بزعامة ابن خالد، واقتحموا القصبة والقصر في عصبتهم، وقتلوا عتبة وأعلنوا طاعتهم لابن الأحمر، وبعثوا إليه يستدعونه؛ فسار ابن الأحمر إلى غرناطة ودخلها عند مغيب الشمس في يوم من أواخر رمضان

(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 279، وابن خلدون ج 4 ص 169، واللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب ص 31.

ص: 39

سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م)، وهو يرتدى ثياباً خشنة وحلة مرقعة، ونزل بجامع القصبة وأم الناس لصلاة المغرب، ثم خرج من المسجد إلى قصر باديس، والشموع بين يديه، ونزل فيه مع خاصته، وبذا غدت غرناطة حاضرته ومقر حكمه، وكان ذلك لأشهر قلائل فقط من وفاة ابن هود (1).

وما كاد ابن الأحمر يستقر في حاضرته الجديدة، حتى عول على افتتاح ألمرية وسحق ابن الرميمى وزير ابن هود وقاتله، فسار إليها في بعض قواته وحاصرها مدة، فلما اشتد عليها الحصار غادرها الرميمى من جهة البحر بأهله وماله في سفينة خاصة، وسار إلى تونس مستظلا بحماية أميرها أبي زكريا الحفصى، وملك ابن الأحمر ألمرية وامتد بذلك سلطانه إلى سائر الشواطىء الجنوبية.

وكان من أعظم أعوان محمد بن يوسف في تلك المعركة التي انتهت بتحقيق رياسته، أصهاره بنو أشقيلولة وهم أسرة قوية نابهة من المولدين. وكان كبيرهم أبو الحسن بن أشقيلولة من رجالات الأندلس وزعمائها وقت الفتنة، وكان من خصوم ابن هود ومن المقاومين لحركته، فانحاز إلى محمد بن يوسف منذ الساعة الأولى، وعاونه على مقاومة خصومه، وتوثقت أواصر الزعيمين بالمصاهرة، إذ تزوج أبو الحسن أخت محمد بن يوسف وتزوج ولده أبو محمد عبد الله بن أشقيلولة من ابنته. ولما استقام الأمر لابن الأحمر، ندب صهره أبا الحسن لحكم وادى آش، وندب أبا محمد لحكم مالقة. ولما توفى أبو الحسن خلفه في حكم وادى آش ولده أبو إسحق. وتمكن نفوذ بني أشقيلولة في الرياسة وكانوا عضداً لابن الأحمر، ولكن أطماعهم كانت تتجاوز حكم المدن، وكان ابن الأحمر في أواخر عهده يستريب بهم ويخشى بأسهم، وقد ظهرت أعراض انتقاضهم غير بعيد (2).

ويرى المستشرق الإسبانى دى لاس كاخيجاس، أن قيام مملكة غرناطة في ظل بني نصر، يبدو لغزاً حقيقياً. ذلك أنها ولدت في ظروف غير ملائمة، بل ضعيفة ذابلة، ونشأ ابن الأحمر، لا كابن هود أو ابن مردنيش؛ وكلاهما ينتمى إلى أسرة حكمت ولاياتها منذ أيام الموحدين، ولكن وحيداً في بلده أرجونة

(1) اللمحة البدرية ص 35؛ وراجع الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، وهو مؤلف مجهول (طبع الجزائر سنة 1920) ص 60، وفيه أن دخول ابن الأحمر مدينة غرناطة كان في آخر رمضان سنة 636 هـ. ولكن معظم الروايات على أن دخوله كان في 635 هـ.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 197.

ص: 40

كحدث غير عادى، بل ودون رسوخ محلى. وقد كانت قوته الحقيقية، فضلا عن جرأة حركته، تتركز في أسرته الخاصة، وفي جمع من الأصدقاء والحلفاء مثل بني أشقيلولة المولدين.

ثم يبدى دهشته من أن مملكة غرناطة بالرغم من تكوينها من هضاب وبسائط يغلب عليها القفر أكثر مما يغلب الخصب، وامتداد رقعتها من جيّان شمالا إلى الجزيرة جنوباً، وبالرغم من أن الجند النصارى كانوا في أحيان كثيرة يخترقونها يسهولة حتى مرج غرناطة، فإن هذه العوامل كلها لم تكن شيئاً إزاء الحوادث المستقبلة. ولم يمنع تردد مؤسسها وتقلبه، ولا ظروفها الجغرافية والاقتصادية السيئة، من تقدمها وازدهارها، ومن بقائها مدى قرنين ونصف سليمة موطدة، وهي خلال هذا المدى الطويل تستأثر بأطماع النصارى الفتحية. ثم يقول:"حقاً إن ذلك كله لغريب، بل إنه لينبو عن الإيضاح"(1).

وهكذا نشأت إمارة غرناطة الصغيرة، من غمر الفوضى التي سادت الأندلس، على أثر انهيار سلطان الموحدين، ولكنها كانت في حاجة إلى الاستقرار والتوطد، وكان محمد بن يوسف يواجه في سبيل هذه المهمة كثيراً من الصعاب، وكانت الأندلس قد مزقتها الحرب الأهلية شيعاً، وانتثرت إلى حكومات ومناطق عديدة، وكان ابن الأحمر يحظى بتأييد جمهرة كبيرة من الشعب الأندلسى ولا سيما في الجنوب. ولم يك ثمة ما يمنع من التفاف الأمة الأندلسية كلها حول لواء هذا الزعيم المنقذ، ولكن روح التفرق والتنافس كانت متأصلة في نفوس المتغلبين والطامعين، وكان أصاغر الزعماء والحكام يؤثرون الانضواء تحت لواء ملك النصارى، والاحتفاظ في ظله بمدنهم وقواعدهم، على مظاهرة ابن الأحمر والانضواء تحت لوائه. وحدث ذلك بنوع خاص في مرسية وشرقى الأندلس حسبما أشرنا من قبل، حيث ارتضى والى مرسية محمد بن على بن هود وحكام لقنت وأوريولة وقرطاجنة وجنجالة وغيرها، أن يعقدوا الصلح مع ملك قشتالة على أن يعترفوا بطاعته ويؤدوا له الجزية، وأن يبقوا متمتعين في ظله بحكم مدنهم ومواردهم. وعلى أثر ذلك سلمت مرسية ودخلها ألفونسو ولد فرناندو الثالث ملك قشتالة في احتفال فخم (شوال 640 هـ - أبريل 1243 م). وهكذا كان الخلاف بين أبناء الأمة الأندلسية في تلك الآونة العصيبة، ويذهب إلى حد التضحية

(1) Isidro de la Cagicas: Los Mudéjares (Madrid 1918) p. 425 & 426.

ص: 41

بأقدس المبادىء وأسمى الاعتبارات، وكانت وشائج القومية والدين والخطر المشترك كلها، تغيض أمام الأطماع الشخصية الوضيعة، وكان فرناندو الثالث يرى فى ابن الأحمر بعد اختفاء ابن هود، زعيم الأندلس الحقيقى والخصم الذى يجب تحطيمه. وكان ابن الأحمر من جانبه يقدر خطورة المهمة التى ألقاها القدر على عاتقه، وكان يضطرم عزماً وإقداماً لمحاربة النصارى، واستخلاص تراث الوطن من أيديهم، فما كاد يستقر فى غرناطة حتى نشط إلى محاربة النصارى وكانوا قد عاثوا فى أحواز جيان وخربوها، وسار إلى قلعة مرتش (1) فى قوة كبيرة، وضرب حولها الحصار (636 هـ)، ولكن النصارى قدموا لإنجادها بسرعة، واضطر ابن الأحمر إلى رفع الحصار، ثم اشتبك فى معركة حامية مع النصارى، وكان يقودهم ردريجو ألونسو وهو أخ غير شرعى لفرناندو الثالث، وهزمهم هزيمة شديدة، قتل فيها قائد مرتش، وعدة من أكابر الفرسان وأحبار قلعة رباح. على أن مثل هذه المعارك المحلية لم تكن حاسمة فى سير الحوادث. وكان فرناندو الثالث يرقب نهوض هذه القوة الأندلسية الجديدة بعين التوجس ويتأهب لمقارعتها، فما كاد ينتهى من إخضاع الثغور الشرقية والاستيلاء على مرسية، حتى عمد إلى مهاجمة ابن الأحمر، وكان يتوق إلى الانتقام لموقعة مرتش، وبعث لقتاله جيشاًَ قوياً بقيادة ولده ألفونسو. وعاث النصارى فى منطقة جيان واستولوا على حصن أرجونة موطن بنى نصر، وعدة حصون وأماكن أخرى من أملاك أمير غرناطة، تم حاصروا غرناطة نفسها (642 هـ - 1244 م)، ولكنهم ردوا عن أسوارها بخسائر فادحة. وفى العام التالى زحف النصارى على جيان وحاصروها، حتى كادت تسقط فى أيديهم. فلما رأى ابن الأحمر تفوق النصارى وعبث المقاومة، آثر مصانعة ملك قشتالة ومهادنته، فسار إلى لقائه فى معسكره، وقدم إليه طاعته، ويرى بعض الباحثين أن قدوم ابن الأحمر على هذا النحو إلى فرناندو، إنما كان تنفيذاً لاتفاق سابق، تم فيه التفاهم على تحديد مملكة غرناطة (2). وعلى أى حال فقد تم الاتفاق على أن يحكم ابن الأحمر مملكته وأراضيه باسم ملك قشتالة وفى طاعته، وأن يؤدى له جزية سنوية، قدرها مائة وخمسون ألف قطعة من الذهب (دوبلاس)، وأن يعاونه فى حروبه ضد أعدائه، فيقدم إليه عدداً من الجند أينما طلب منه ذلك،

(1) مرتش، وبالاسبانية Martos، بلدة حصينة تقع على مقربة من جنوب غربى مدينة جيان.

(2)

Prieto y Vives: De como debio nacer el Reino de Granada p. 14.

ص: 42

وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابى (الكورتيس)، باعتباره من الأمراء التابعين للعرش (1). وسلم ابن الأحمر إلى فرناندو جيّان وأرجونة وبركونة وبيغ والحجار وقلعة جابر (2) رهينة بحسن طاعته، ونزل له عن أرض الفرنتيرة لعجزه عن الاحتفاظ بها (3). وفى مقابل هذا الثمن الفادح عقد ملك قشتالة السلم مع ابن الأحمر لمدة عشرين سنة، وأقره على ما بقى بيده من القواعد والحصون (643 هـ - 1245 م)(4). وهكذا أمنت غرناطة شر العدوان مدى حين، وقبل ابن الأحمر أن يضحى استقلاله السياسى وهيبته الأدبية احتفاظاً بأراضيه، وتطلعاً إلى ظروف أفضل يستطيع فيها النضال والصمود.

وفى تلك الفترة العصيبة، كانت الفتنة تمزق ما بقى من أوصال الأندلس، ويهرع الزعماء المسلمون الأصاغر، إلى مصانعة ملك قشتالة والانضواء تحت لوائه، وكانت اسبانيا النصرانية قد انتهت من الاستيلاء على الولايات الشرقية كلها، ولم يبق عليها سوى التهام الولايات الغربية. ولم يكن مثل ابن الأحمر وهو أعظم زعماء الأندلس يومئذ، مشجعاً على غير هذا المسلك المؤلم. ففى سنة 645 هـ (1247 م) نزل القاضى ابن محفوظ وهو من زعماء الغرب لملك قشتالة عن مدينة طبيرة، والعلى، وشلب، والخزا نة، ومرشوشة، وبطرنا، والحرة (5). وكان فرناندو الثالث يتأهب فى تلك الآونة ذاتها، لافتتاح إشبيلية أعظم القواعد الأندلسية. وكان قد استطاع قبل ذلك بأشهر أن يستولى على مدينة قرمونة حصن إشبيلية الأمامى، وذلك بمعاونة محمد بن الأحمر، وفقاً للتحالف المعقود بينهما، ثم عمد

(1) Cronica General (Ed. Pidal) Vol. I. p. 74.

(2)

البيان المغرب القسم الثالث ص 367، والذخيرة السنية ص 72. وجيان وبالاسبانية Jaen من قواعد الأندلس القديمة وتقع جنوب شرقى قرطبة، وشمال غرناطة. وأرجونة سبق التعريف بها. وبركونة Porcuna تقع جنوبى غربى أرجونة؛ والحجار Higuera تقع جنوب بركونة وكلتاهما من أعمال مدينة جيان، وبيغ أو بيغو Priego وتقع جنوب شرقى قرطبة.

(3)

ابن خلدون ج 7 ص 190، والفرنتيرة La Frontera هى المنطقة الساحلية الواقعة غربى الجزيرة الخضراء والممتدة من ثغر قادس جنوباً حتى طرف الغار.

(4)

الذخيرة السنية ص 73؛ واللمحة البدرية ص 36، والإحاطة ج 2 ص 65.

(5)

الذخيرة السنية ص 76. وتقع هذه الأماكن كلها فى ولاية " الغرب " Algarve فى جنوبى البرتغال، ويحدد موقعها طبيرة Tavira وهى تقع على المحيط على مقربة من الحدود الإسبانية؛ وشلب Silves وهى تقع فى أقصى جنوب البرتغال الغربى على مقربة من المحيط.

ص: 43

بعد ذلك إلى افتتاح باقى الحصون القريبة من إشبيلية. واستطاع ابن الأحمر بنصحه وتدخله، أن يقنع معظم أصحابها بتسليمها لملك قشتالة، مقابل تعهده بأن يحقن دماء المسلمين، وأن يمنحهم شروطاً سخية. ولم تأت أواسط سنة 1247 م (645 هـ) حتى كان ملك قشتالة، قد استولى على جميع الحصون الأمامية لإشبيلية، وانتسف سائر البسائط والضياع القريبة منها.

وبدأ النصارى حصارهم لإشبيلية فى أغسطس سنة 1247 م (جمادى الأولى سنة 645 هـ). وحشد فرناندو حول المدينة المحصورة قوات عظيمة حشدت فى سائر أنحاء قشتالة، وتسابق الأمراء والأشراف والأحبار النصارى، فى الاشتراك فى هذه الحملة الصليبية الخطيرة، ورابط أسطول قشتالى قوى فى نهر الوادى الكبير إحكاماً لمحاصرة المدينة من جهة البحر، واضطر ابن الأحمر أن يقدم وفقاً لتعهده قوة من الفرسان للمعاونة فى حصار الحاضرة الإسلامية والاستيلاء عليها. وهكذا أرغم هذا الزعيم المسلم على أن يشرب الكأس المرة إلى الثمالة، فى محالفة أعداء وطنه ودينه. وتقول بعض الروايات الإسلامية، إن ابن الأحمر كان يرمى بمعاونة النصارى على هذا النحو، إلى الانتقام من أهل إشبيلية لخذلهم إياه ونكولهم عن طاعته (1). وصمم أهل إشبيلية على الدفاع عن مدينتهم جهد الاستطاعة، ولكن الموقف داخل المدينة كان غامضاً ومضطرباً. ذلك أن إشبيلية، مذ خلعت طاعة الموحدين، عند اضطراب أمرهم، وانهيار سلطانهم، كباقى القواعد الأندلسية، لم تقم بها زعامة موحدة، ولا تحدثنا الرواية الإسلامية عن أولئك الزعماء الذين ألقى القدر إليهم مهمة الدفاع عن إشبيلية فى تلك الآونة العصيبة، ولكنا نعرف بعض الأسماء من الرواية النصرانية المعاصرة، ومن بعض إشارات عابرة فى الرواية الإسلامية، فهى تذكر لنا قائد الفحص شقّاف، والرئيس ابن شعيب، ويحيى ابن خلدون، ومسعود بن خيار. وكان القائد شقاف، فى الواقع، هو الزعيم الحقيقى الذى يتولى أمر الدفاع، وعليه تعقد الآمال. وطال الحصار حول إشبيلية وأخذ يشتد يوماً بعد يوم، وكانت المدينة المحصورة تتلقى من وقت إلى آخر من عُدوة المغرب، بعض المؤن عن طريق الوادى الكبير. ولما تفاقمت أهوال الحصار وضع شاعر إشبيلية يومئذ إبراهيم بن سهل الإشبيلى الإسرائيلى، قصيدة مؤثرة يستصرخ فيها أهل العدوة، ويستحثهم على المبادرة إلى نصرة إخوانهم فى الدين وفيها يقول:

(1) ابن خلدون ج 7 ص 190.

ص: 44

وِرداً فمضمون نجاح المصدر

هى عزة الدنيا وفوز المحشر

نادى الجهاد بكم بنصر مضمر

يبدونكم بين القنا والضُّمَّر

خلوا الديار لدار عز واركبوا

عبر العجاج إلى النعيم الأخضر

وتسوغوا كدر المناهل فى السرى

ترووا بماء الحوض غير مكدر

يا معشر العرب الذين توارثوا

شيم الحمية كابراً عن أكبر

إن الإله قد اشترى أرواحكم

بيعوا ويهنئكم وفاء المشترى

أنتم أحق بنصر دين نبيكم

ولكم تمهد فى قديم الأعصر

أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا

ذاك البناء بكل لدن أسمر (1).

وطال حصار إشبيلية زهاء ثمانية عشر شهراً، وأبدى المسلمون آيات من البسالة والجلد فى الدفاع عن حاضرتهم، ولكن هذه البسالة لم تغن شيئاً أمام عزم النصارى وتصميمهم. وأخيراً اضطر الإشبيليون إلى قبول مصيرهم المحتوم، وارتضوا تسليم المدينة، على أن يؤمن المسلمون فى أنفسهم وأموالهم، وأن يمهلوا شهراً لتسوية شئونهم وإخلاء دورهم والتأهب للرحيل، ووضع ملك قشتالة الترتيبات اللازمة لنقل أهل المدينة بالبر والبحر إلى الجهات التى يقصدونها. وفى 23 ديسمبر سنة 1248 م (أوائل رمضان سنة 646 هـ) دخل فرناندو الثالث مدينة إشبيلية فى موكب فخم، وذلك بعد أن حكمها المسلمون أكثر من خمسة قرون، وحكمها الموحدون زهاء قرن. وفى الحال حوّل مسجدها الجامع إلى كنيسة، وأزيلت منها معالم الإسلام بسرعة، وتفرق معظم أهلها المسلمين فى الحواضر الإسلامية الباقية، ولا سيما غرناطة. وكان سقوط إشبيلية إيذاناً بسقوط سائر المدن والحصون الإسلامية الواقعة فيما بينها وبين مصب الوادى الكبير وفى المناطق المجاورة. وهكذا استولى للنصارى تباعاً على شريش وشذونة وقادس وشلوقة وغليانة وروضة أوروطة وأركش وثغر شنتمرية (2)، وغيرها من قواعد الوادى

(1) راجع هذه القصيدة بأكملها فى الذخيرة السنية ص 74 وما بعدها.

(2)

شريش وبالإسبانية Jerez تقع على مقربة من مصب نهر وادى لكه شمال ثغر قادس، وشذونة Medina Sidonia تقع جنوب شرقى قادس وسط أرض الفرنتيرة، وقد اشتهرت بالموقعة التى حدثت على مقربة منها بين طارق فاتح الأندلس والقوط وانتهت بفتح اسبانيا، وقادس Cadiz، تقع جنوب شريش على المحيط الأطلنطى، وشلوقة وهى الآن مدينة San Lunar، وتقع شمالى شريش على المحيط، وروضة هى Ruta أو Roda، وتقع على مقربة من شلوقة على المحيط، وأركش Arcos =

ص: 45

وحصونه، وسلم ابن محفوظ فى الوقت نفسه للنصارى حصن اللقوة ووادى أنة وشنتل والحصين وشلطيش، على أن يستبقى حكم لبلة وأحوازها (1). وعاون ابن الأحمر النصارى فى الاستيلاء على ثغر قادس. وهكذا بسط القشتاليون سلطانهم على سائر الأراضى الإسلامية الواقعة غربى ولاية الأندلس، وأخذت رقعة الدولة الإسلامية تنكمش بسرعة مروعة (2).

وكان موقف ابن الأحمر من هذه الحوادث موقفاً شاذاً مؤلماً، فقد كان يقف إلى جانب أعداء أمته ودينه، وكان يبذل للنصارى ما استطاع من العون َالمادى والأدبى، وكان معظم الزعماء المسلمين من حكام المدن والحصون الباقية، وقد أيقنوا بانهيار سلطان الإسلام فى الأندلس، يهرعون إلى احتذاء مثاله. وإلى الانضواء تحت لواء ملك قشتالة، وكانت هذه المناظر المؤلمة تتكرر فى تاريخ الأندلس منذ الطوائف، حيث نرى كثيراً من الأمراء المسلمين يظاهرون النصارى على إخوانهم فى الدين، احتفاظاً بالملك والسلطان. ولكن ابن الأحمر كان يقبل هذا الوضع المؤلم إنقاذاً لتراث لم يكتمل الرسوخ بعد، وتنفيذاً لأمنية كبيرة بعيدة المدى. ذلك أنه كان يطمح إلى جمع كلمة الأندلس تحت لوائه. وإدماج ما تبقى من تراثها وأراضيها فى مملكة موحدة، تكون مُلكاً له ولعقبه. ولم تكن تحدوه رغبة فى توسع يجعله إلى الأبد أسيراً لحلفائه النصارى، مثلما كان يفعل أسلافه زعماء الطوائف. بل كانت تحدوه قبل كل شىء رغبة فى الاستقلال، والتوطد داخل حدود إمارته المتواضعة. وقد لبث يعمل على تحقيق هذه الغاية فى ولاية غرناطة والولايات المجاورة، وهو يصانع النصارى ويتجنب الاشتباك معهم، ويشهد التهامهم لأشلاء الوطن الممزق، وقلبه يتفطر حزناً وأسى.

= تقع شمال شرقى شريش وسط المثلث الإسبانى، وشنتمرية هى ثغر شنتمرية الغرب Sta Maria de Algarve وتقع جنوبى البرتغال على المحيط، ومكانها اليوم مدينة فارو البرتغالية.

(1)

الذخيرة السنية ص 85. وتقع هذه الأماكن فى ولاية الغرب على مقربة من مدينة أونية (ولبة Huelva الحديثة) شرقى نهر أوديل.

(2)

راجع حوادث حصار إشبيلية وسقوطها فى البيان المغرب القسم الثالث ص 381 و 382 وابن خلدون ج 4 ص 190، والذخيرة السنية ص 71 - 76، ومن المراجع القشتالية بالأخص: Cronica General (Ed. Pidal) Vol. I، No. 1080 - 1125، وقد أفردنا لسقوط إشبيلية، فى كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " فصلا كبيراً، ويراجع فى القسم الثانى منه ص 466 - 488.

ص: 46

على أن ابن الأحمر لم يكن يعتزم المضى فى ذلك المسلك المؤلم المهين إلى النهاية، فقد كانت نفسه الوثابة تحدثه من وقت إلى آخر، بأن يحطم هذه الأغلال الشائنة التى صفدته بها محالفة النصارى، وكان كلما آنس ازدياد قوته ورسوخ سلطانه صلبت قناته وذكا عزمه، وكان يتجه ببصره إلى ما وراء البحر، إلى إخوانه فى الدين فى عدوة المغرب، وكان جرياً على السياسة الأندلسية المأثورة يرى فى ملوك العدوة، عضداً له قيمته فى مغالبة النصارى، وكانت حوادث المغرب تتمخض فى ذلك الحين بالذات عن قيام دولة جديدة قوية هى دولة بنى مرين. ومع أن الكفاح بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بنى مرين الناشئة (1)، كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بنى مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس. وعبر القائد أبو معرف محمد بن إدريس بن عبد الحق المرينى وأخوه الفارس عامر، البحر فى نحو ثلاثة آلاف مقاتل، جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بنى مرين. وكانت حوادث الأندلس المؤسية تحدث وقعها العميق فى المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم فى الدين، وكان علماء المغرب وخطباؤه وشعراؤه يبثون دعوة الغوث والإنجاد، ومن ذلك قصيدة مؤثرة وضعها أبو الحكم مالك بن المُرَحِّل، وقرئت فى جامع القرويين بفاس فى يوم جمعة من أيام سنة 662 هـ، وبكى الناس تأثراً لسماعها ومما جاء فيها:

استنصر الدين بكم فاستقدموا

فإنكم إن تسلموه يسلم

لاذت بكم أندلس ناشرة

برحم الدين ونعم الرحم

فاسترحمتكم فارحموها إنه

لا يرحم الرحمن من لا يرحم

ما هى إلا قطعة من أرضكم

وأهلها منكم وأنتم منهم (2).

وكان لاهتمام المغرب بإنجاد الأندلس صداه. وكان ابن الأحمر قد بدأ فى الوقت نفسه يشعر بمقدرته على مواجهة النصارى والخروج على طاعتهم، وحماية مملكته الفتية من عدوانهم. ولما فاتحه النصارى بالعدوان وغزوا أراضيه فى سنة 660 هـ (1261 م)، استطاع بمعاونة قوات من المتطوعة والمجاهدين الذين

(1) سنعود إلى التحدث عن قيام دولة بنى مرين فى موضع آخر.

(2)

راجع الذخيرة السنية ص 108 - 112 حيث يورد القصيدة بأكملها.

ص: 47

وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوها فى ميدان الحرب لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين. ولما عبرت الكتائب المرينية بعد ذلك بقليل (662 هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر ابن إدريس أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى، ولكن لمدى قصير فقط (1)، وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة. ولكن الحوادث ما لبثت أن تجهمت للأندلس مرة أخرى. ذلك أن ملك قشتالة (ألفونسو العاشر) خشى هذه البادرة على خططه وغزواته، وخشى بالأخص أن تتضاعف الأمداد من وراء البحر فيشتد ساعد أمير غرناطة، ومن ثم فقد عول أن يضاعف أهبته وضغطه على القواعد الأندلس الباقية. ففى أواخر سنة 662 هـ (1263 م) نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى (2)، ودخلها دون خيل قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبى كثيراً منهم وذلك بالرغم من تسليمها بالأمان. وفى العام التالى (663 هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة فى العمل على افتتاح ما بقى من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحى الأندلس، وعادت الرسائل تترى على أمراء المغرب وزعمائه، بالمبادرة إلى إمداد الأندلس، وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خصوصاً وقد بدأ عدوان النصارى يحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر فى ذلك الوقت على يد دون نونيو دى لارا (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663 هـ - 1264 م). وكتب الفقيه أبو القاسم العزفى صاحب سبتة رسالة طويلة إلى قبائل المغرب، يستنصرهم فيها ويحثهم على الجهاد فى سبيل الأندلس، وفيها يقول:"ولا تخلدوا بركون إلى سكون، والدين يدعوكم لنصره، وصارخ الإسلام قد أسمع أهل عصره، والصليب قد أوعب فى حشده، فالبدار البدار، بإرهاب الجد وأعمال الجهاد فى نيل الجد .. "(3). وتكرر مثل هذا الصريخ إلى سائر أمراء إفريقية، وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر بالله الحفصى صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر

(1) الذخيرة السنية ص 112.

(2)

سبق أن أشرنا إلى سقوط إستجة فى يد النصارى سنة 1237 م، أعنى قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً (ص 20). والظاهر أنها بقيت خلال هذه المدة بيد حكامها المسلمين تحت حماية ملك قشتالة على نسق كثير من المدن الأندلسية الأخرى، التى لبثت حيناً بيد حكامها المسلمين بعد تسليمها صلحاً للنصارى.

(3)

راجع هذه الرسالة فى الذخيرة السنية ص 113 - 122.

ص: 48

هدية ومالا لمعاونته (1). ولكن هذه المساعى لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعواماً أخرى تواجه عدوها القوى بمفردها وتتوجس من سوء المصير.

ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصاً من أن يخطو خطوة جديدة فى مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له فى أواخر سنة 665 هـ (1267 م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شَريش والمدينة والقلعة وغيرها. وقيل إن ما أعطاه ابن الأحمر يومئذ من البلاد والحصون المسورة للنصارى بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها فى غرب الأندلس (2)، وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى (3).

وهكذا فقدت الأندلس معظم قواعدها التالدة فى نحو ثلاثين عاماً فقط (627 - 655 هـ) فى وابل مروع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسى الذى كان قبل قرن فقط، يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هى مملكة غرناطة. وقد أثارت هذه المحن التى توالت على الأندلس، فى تلك الفترة المظلمة من تاريخها لوعة الشعر والأدب، ونظم شاعر العصر أبو الطيب صالح بن شريف الرندى، مرثيته الشهيرة، التى مازالت تعتبر حتى اليوم من أروع المراثى القومية وأبلغها تأثيراً فى النفس، وفيها يبكى قواعد الأندلس الذاهبة، ويستنهض همم المسلمين أهل العدوة لإنجاد الأندلس وغوثها، وإليك بعض ما جاء فى هذه المرثية الشهيرة التى خلدت ذكر ناظمها على كر الأحقاب:

لكل شىء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هى الأمور كما شاهدتها دول

من سرَّه زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقى على أحد

ولا يدوم على حال لها شان

يمزق الدهر حتما كل سابغة

إذا نبت مشرفيات وخرصان

(1) الذخيرة السنية ص 125.

(2)

راجع الذخيرة السنية ص 127. وقد سبق أن أشرنا إلى تنازل ابن الأحمر لملك قشتالة عن أرض الفرنتيرة، وفيها تقع شريش وقادس وغيرها، ولكن هذا التنازل كان اسميا، واضطر النصارى إلى افتتاح هذه المدن بصورة فعلية. وكان سقوط شريش وقادس فى يد ألفونسو العاشر سنة 1262 م. والظاهر أن المقصود هنا مصادقة ابن الأحمر على استيلاء النصارى على هذه القواعد.

(3)

يضع ابن الخطيب تاريخ عقد ابن الأحمر الصلح مع النصارى للمرة الثانية فى سنة 662 هـ.

ص: 49

فجائع الدهر أنواع منوعة

وللزمان مسرات وأحزان

وللحوادث سلوان يهونها

وما لما حل بالإسلام سلوان

دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

هوى له أحد وانهد ثهلان

فاسأل بلنسيةً ما شأن مرسية

وأين شاطبة أم أين جيَّان

وأين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شان

وأين حمص وما تحويه من نزه

ونهرها العذب فيّاض وملآن

قواعد كن أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركان

تبكى الحنيفية البيضاء من أسف

كما بكى لفراق الإلف هيمان

على ديار من الإسلام خالية

قد أقفرت ولها بالكفر عمران

حيث المساجد قد صارت كنائس ما

فيهن إلا نواقيس وصلبان

حتى المحاريب تبكى وهى جامدة

حتى المنابر ترثى وهى عيدان

أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

ماذا التقاطع فى الإسلام ينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان (1).

وقضى ابن الأحمر الأعوام القليلة الباقية من حكمه، فى توطيد مملكته وإصلاح

(1) راجع هذه المرثية البليغة بأكملها فى نفح الطيب ج 2 ص 594 و 595، وفى أزهار الرياض ج 1 ص 47 - 50. وقد التبس الأمر على المقرى فى تعيين العصر الذى قيلت فيه هذه القصيدة والذى عاش فيه ناظمها صالح بن شريف فوصفه بأنه خاتمة أدباء الأندلس (أزهار الرياض ج 1 ص 47). وذكر فى نفح الطيب أن أبياتاً أخرى أضيفت إليها تشتمل على ذكر بسطة وغرناطة وغيرهما ليست من نظم صاحبها لأنه توفى قبل سقوطها (أى غرناطة) مما يدل على اعتقاد المقرى بأن أبا الطيب عاش فى أواخر أيام مملكة غرناطة (أواخر القرن التاسع الهجرى). بيد أنه واضح من سياق القصيدة. وذكر القواعد الأندلسية التى تبكيها وهى بلنسية ومرسية وشاطبة وجيان وقرطبة وإشبيلية، وهى التى سقطت كلها فى يد النصارى بين سنة 635 هـ و 650 هـ، أن الشاعر قد عاش فى هذا العصر. ومن جهة أخرى فقد ذكر صاحب الذخيرة السنية صراحة أنها نظمت حينما نزل ابن الأحمر للنصارى سنة 665 هـ عن عدد كبير من القواعد الأندلسية. وقد توفى أبو الطيب الرندى بعد هذه الأحداث بنحو عشرين عاماً فى سنة 684 هـ. وسنعود إلى ترجمته فى الكتاب الرابع.

ص: 50

شئونها؛ وكان مذ شعر باستقرار الأمور فى مملكته، قد اختار لولاية عهده ولده الأمير أبا سعيد فرج بن محمد بن يوسف، ولكن هذا الأمير توفى فى سنة 652 هـ، فاختار مكانه لولاية العهد ولده محمداً أكبر أولاده من بعده. وهكذا أسبغ ابن الأحمر على رياسة بنى نصر صفة الملوكية الوراثية (1). ولم تقع فى تلك الفترة حوادث ذات شأن، فقد لزم النصارى السكينة حيناً. ولكن ظهرت عندئذ أعراض الانتقاض على بنى أشقيلولة أصهار ابن الأحمر ومعاونيه؛ وكان ابن الأحمر قد زوج فى سنة 664 هـ إحدى بناته لابن عمه الرئيس أبى سعيد بن اسماعيل بن يوسف ووعده بولاية مالقة، فنمى ذلك إلى واليها أبى محمد بن أشقيلولة، وهو أيضاً زوج ابنته، فغضب لذلك وأعلن العصيان والاستقلال بحكم المدينة، فسار ابن الأحمر لقتاله تعاونه قوة من حلفائه النصارى، وحاصروا مالقة ثلاثة أشهر، ولكنهم ارتدوا عنها خائبين (665 هـ - 1266 م). وعاد ابن الأحمر فسار إلى مالقة مرة أخرى فى سنة 668 هـ، ولكنه لم ينل منها مأرباً (2).

وفى تلك الآونة عاد النصارى إلى التحرك والتحرش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة ألفونسو العاشر إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها، وعاد ابن الأحمر يتوجس شراً من نيات النصارى، فبعث إلى أمير المسلمين السلطان أبى يوسف المرينى ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ونصرة إخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويخبره بما بدا من عدوان النصارى ونيتهم فى القضاء على ما بقى من ديار الأندلس، ولكن ابن الأحمر لم يعش ليرى نتيجة هذه الدعوة، إذ توفى بعد ذلك بقليل.

وكان محمد بن الأحمر يتمتع بخلال باهرة من الشجاعة والإقدام، وشغف الجهاد، والمقدرة على التنظيم، إلى جم التواضع والبساطة. ويقدم لنا ابن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية عنه هذه الصورة المؤثرة: "كان هذا الرجل آية من آيات الله فى السذاجة والسلامة والجمهورية، جندياً ثغرياً، شهماً، أيِّداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعوة والراحة، مؤثراً للتقشف والاجتزاء باليسر، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافى السلاح، شديد العزم، مرهوب الإقدام،

(1) الإحاطة ج 2 ص 65، واللمحة البدرية ص 36، والذخيرة السنية ص 88.

(2)

الذخيرة السنية ص 125 و 129.

ص: 51

عظيم التشمير، محتقراً للعظيمة، مصطعناً لأهل بيته، فضاً فى طلب حظه، حامياً لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشراً للحروب بنفسه، تتغالى الحكايات فى سلاحه وزينة ديابوزه، يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد فى أموره " (1).

وكان يعرف بالشيخ ويلقب بأمير المسلمين، وهو اللقب الذى غلب على سلاطين غرناطة فيما بعد. وهو الذى ابتنى حصن الحمراء الشهير، وجعله دار الملك، وجلب له الماء، وسكنه بأهله وولده. وأما تسميته بابن الأحمر فقد اختلفت فى شأنها الرواية. ويقال إن هذه التسمية ترجع إلى نضارة وجهه واحمرار شعره؛ ويرى البعض أنها أُسبغت عليه لإنشائه حصن الحمراء، ولكن سوف نرى عند الكلام على تاريخ الحمراء، أن هذا الاسم أقدم من الدولة النصرية ببضعة قرون، وأنه لا صلة بين هذا الإسم الذى أطلق على الحصن والقصور الملكية، التى أنشأها محمد بن يوسف وبنوه من بعده، وبين تلقيبهم ببنى الأحمر، كما أنه ليس ثمة بين القبائل العربية أية قبيلة تحمل هذا اللقب، ويمكن أن ينسب إليها بيت غرناطة الملكى (2). وكان ابن الأحمر يباشر الأمور بنفسه، ويدقق فى جمع الأموال والجبايات حتى امتلأت خزائنه بالمال والسلاح. وكان يعقد للناس مجالس عامة يومين فى الأسبوع، يستمع فيها إلى الظلامات وذوى الحاجات، ويستقبل الوفود، وينشده الشعراء. وكان يجرى فى تصريف شئون الملك على قاعدة الشورى، فيعقد مجالس يحضرها الأعيان والقضاة ومن إليهم من ذوى الرأى، للاسترشاد برأيهم، ونصحهم (3). وكان فى مقدمة وزرائه أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد زعيم جيّان، وهو الذى مكنه من التغلب عليها، والقائد أبو عبد الله محمد بن محمد الرميمى ولد صاحب المرية السابق. وكان بين كتابه المحدث الشهير أبو الحسن على بن محمد بن سعيد اليحصبى اللوشى. وكان من شعرائه أبو الطيب الرندى

(1) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 2 ص 61.

(2)

راجع مقدمة أطلس " الحمراء " Alhambra الذى وضعه Owen Jones & Jules Goury وكتبها المستشرق جاينجوس ( London 1842) ص 5 الهامش. وتسمى الدولة النصرية على الأغلب بدولة بنى الأحمر، ويؤثر ابن خلدون تسميتها بذلك الاسم (ج 4 ص 170 وما بعدها).

(3)

ابن خلدون ج 7 ص 190؛ واللمحة البدرية ص 31.

ص: 52

صاحب المرثية الشهيرة، وهو الذى سبقت الإشارة إليه. وكان أثيراً لديه، وقد نظم فى مدحه بعض غرر قصائده.

وإليك كيف يصور النقد الغربى الحديث خلال منشىء مملكة غرناطة وظروف مملكته: "كان محمد بن الأحمر من أبرع أولئك الأمراء الذين كان لهم فضل خلال العصور المضطربة، فى الدفاع عن الإسلام ومجد المسلمين، وكان جريئاً بعيد الغور، ولكن مكره لم يكن راجعاً إلى طبيعة خبيثة وضيعة، ولكن إلى خلق خصومه الذين كان مرغماً على مقارعتهم. ففى العصور الوسطى كان قانون الأمم وعقد المعاهدات، ومجاملات الفروسية وشروط السلم الشريف، تفهم بطريقة ناقصة، وكثيراً ما تنتهك بعمد، وكانت معظم نقائص هذا الأمير العظيم، ترجع إلى أخلاق العصر المنحلة، وكانت بوادر خضوعه لأعدائه الألداء مظاهر فقط لسياسة محكمة التدبير، أقدم عليها لإحراز ملكه وتوطيد سلطانه، وكان تقدم الغزو المستمر يرهق مملكته، ولكنها كانت تغدو أقوى ويغدو الدفاع عنها أيسر، كلما انكمشت حدودها. وكان القشتاليون كلما احتلوا مدينة جديدة، هرعت منها جمهرة من المهاجرين العاملين إلى غرناطة، فتزيد سكانها كثرة على كثرة، يحملون معهم ثروات عظيمة، وصفات هى أثمن من الثروة لدولة منحلة: النشاط والاقتصاد، والمقدرة على هضم الظروف الجديدة، وذكرى المظالم السابقة، وآلام المطاردة المحزنة، وأمل الانتصاف، وشعور لا يقهر ببغض النصرانية. وكان الاندماج السياسى لهذه الجماعات المنفية المضطهدة، فى حماية الجبال التى تظلل ملاذها الأخير، هو الذى عاون فى حفظ مملكة غرناطة الزاهرة لمجدها المستقبل ومحنتها الغامرة "(1).

وتوفى محمد بن الأحمر فى التاسع والعشرين من جمادى الثانية سة 671 هـ (ديسمبر 1272 م) على أثر سقطة من جواده، حين عوده من معركة رد فيها جمعاً من الخوارج الذين حاولوا الزحف على الحمراء فى منتصف جمادى الثانية من العام المذكور، فحمل جريحاً إلى القصر وتوفى بعد ذلك بأسبوعين، وقد قارب الثمانين من عمره، ودفن بالمقبرة العتيقة بأرض السبيكة (2). وكانت مملكة

(1) Scott: The Moorish Empire in Europe، V. II p. 433-34.

(2)

الإحاطة ج 2 ص 66. وقد كان اسم السبيكة يطلق على البسيط الذى يقع جنوب شرقى

الحمراء.

ص: 53

غرناطة قد توطدت دعائمها نوعاً، واستقر بها ملك بنى نصر الفتىّ على أسس ثابتة. وكان من حسن الطالع أنه لم يظهر فى مملكة غرناطة فى بداية أمرها زعماء خوارج ينازعون بنى نصر زعامتهم. ولذا لم نشهد فى هذه الأندلس الجديدة مأساة الطوائف مرة أخرى، وإن كان تاريخ الدولة النصرية لم يخل من ثورات وانقلابات محلية عديدة. وقد كان من غرائب القدر أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، استطاعت غير بعيد، أن تعيد لمحة من مجد الأندلس الذاهب، كما استطاعت بكثير من الشجاعة والجلد، أن تسهر على تراث الإسلام فى الأندلس، زهاء مائتين وخمسين عاماً أخرى.

ص: 54