المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌1 - قشتالة

‌الفصْل التاسِع

تاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

ألفونسو العاشر ملك قشتالة. مشاريعه نحو مملكة غرناطة. الحرب الأهلية فى قشتالة. ولاية سانشو الباسل. الخلاف بينه وبين النبلاء. عقد الهدنة بين غرناطة وقشتالة. ولاية فرناندو الرابع ووصاية أمه. اضطراب الأحوال فى قشتالة. توطد مركز فرناندو. غزو القشتاليين لأراضى الأندلس. استيلاؤهم على جبل طارق. ولاية ألفونسو الحادى عشر والوصاية عليه. زحف القشتاليين على غرناطة. هزيمتهم ومقتل زعمائهم. طغيان ألفونسو وعيثه. عبور سلطان المغرب إلى الأندلس. هزيمة المسلمين. غزو القشتاليين للجزيرة الخضراء. حصار جبل طارق وفشل النصارى. ولاية بيدرو القاسى. طغيانه وعنفه. الحرب الأهلية فى قشتالة. انتصار الكونت هنرى وارتقاؤه للعرش. ازدهار قشتالة فى عهده. ولاية خوان الأول. الخلاف بينه وبين البرتغاليين. مصرعه وولاية ولده هنرى الثالث. توطد السلام والأمن فى عهده. ولاية خوان الثانى والوصاية عليه. ضعفه ولهوه. فرناندو الوصى يُدعى لولاية عرش أراجون. الصراع بين خوان والأشراف. التهادن بين قشتالة وغرناطة. ولاية هنرى الرابع. اضطراب الأحوال فى عصره. استيلاء القشتاليين على جبل طارق. بيدرو الثالث ملك أراجون. النزاع حول عرش نابل. افتتاحه لصقلية. ألفونسو الثالث. ضغط النبلاء عليه. خايمى الثانى. الاستقرار فى عهده. ألفونسو الرابع. طغيان النبلاء وامتيازاتهم. بيدرو الرابع. الحرب الأهلية بين العرش والنبلاء. استيلاء بيدرو على الجزائر الشرقية. استرداده لصقلية. ولاية خوان الأول. ولاية مرتين الأول. الصداقة بين أراجون وغرناطة. وفاة مرتين وجلوس فرناندو صاحب أنتقيرة على العرش. حكمه المطلق. ولده ألفونسو الخامس. افتتاحه لمملكة نابل. أخوه خوان يحكم أراجون. ازدهار مملكة نابل. ولاية خوان الثانى لعرش أراجون. الحرب الأهلية فى أراجون. الحرب بين أراجون وفرنسا. وفاته وولاية ولده فرناندو. عود إلى تاريخ قشتالة. النزاع حول العرش بعد وفاة هنرى الرابع. أخته الأميرة إيسابيلا. قصة زواجها من فرناندو الأرجونى. معارضة أخيها هنرى. موافقتها على هذا الزواج. شروط الزواج وعقده. إعلان ولاية إيسابيلا عقب وفاة أخيها. خوانا ابنة الملك هنرى. مشروع زواجها من ملك البرتغال. غزو ملك البرتغال لقشتالة. ارتداده وفشل مشروعه. ارتقاء فرناندو عرش أراجون. اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون. اسبانيا النصرانية الموحدة. فرناندو الكاثوليكى وصفاته وخلاله. إيسابيلا الكاثوليكية وصفاتها وخلالها. انحلال مملكة غرناطة. عزم فرناندو وايسابيلا على القضاء عليها.

‌1 - قشتالة

لما توفى فرناندو الثالث ملك قشتالة فى شهر مايو سنة 1252 م، خلفه فى الملك ولده ألفونسو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم El Sabio لشغفه بالعلوم والآداب

ص: 169

حسبما أشرنا من قبل. وشغل ألفونسو بالشئون والإصلاحات الداخلية، ولاسيما الإصلاحات التشريعية. وكان المجتمع الإسبانى فى هذا العصر يشعر بحاجة شديدة إلى تشريعات تتفق مع تطوراته، وتقضى على ما كان يعتوره من شذوذ فى تكوينه، وتحدّ من طغيان الأشراف والسادة، وتلطّف من حدة التنافس والبغضاء بين الطوائف. وقد رأينا أن خايمى الفاتح ملك أراجون كان فى الوقت نفسه يضطلع فى مملكته بمثل هذا الدور الإصلاحى الهام. وكان ألفونسو تحدوه أطماع إمبراطورية ضخمة، إذ كان يطمح إلى تاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وذلك بسبب انحداره من أم ألمانية من آل هوهنشتاوفن هى ابنة الإمبراطور فيليب، وقد أنفق فى سبيل هذا المشروع الخيالى أموالا طائلة، واضطر لحاجته إلى المال أن يصدر نقداً زائفاً، وأن يتخذ إجراءات، كان لها أسوأ الأثر فى سير الأحوال الاقتصادية.

وكان ألفونسو بالرغم من اشتغاله بالشئون الداخلية، يجرى على خطة أسلافه فى متابعة غزو الأراضى الإسلامية. وفى أوائل عهده استطاع أن ينتزع مدينة قادس من سكانها المسلمين، بمعاونة حليفه ابن الأحمر صاحب غرناطة. بيد أن أمير غرناطة محمداً الفقيه، لما شعر بعد ذلك بما يدبره ملك قشتالة من خطط للقضاء على المملكة الإسلامية، عبر البحر إلى المغرب يطلب الغوث والعون، من السلطان أبى يوسف يعقوب المنصور. وقد رأينا فيما تقدم كيف استجاب المنصور إلى صريخ الأندلس، وعبر البحر إلى اسبانيا غير مرة وأثخن فى جيوش قشتالة.

وفى أواخر عهد ألفونسو العاشر ساءت الأحوال فى قشتالة، وثار الأشراف على العرش، لمحاولته أن يقضى على سلطانهم وامتيازاتهم. ثم خرج على ألفونسو ولده سانشو مناديا بحقه فى العرش، وكونه أولى من ولد أخيه المتوفى المرشح لولاية العهد. واضطرمت فى قشتالة حرب أهلية خسر فيها ألفونسو عرشه، والتجأ إلى السلطان أبى يوسف فأمده بالمال والجند حسبما فصلنا ذلك فى موضعه. واستمرت الحرب الأهلية بين ألفونسو وولده سانشو، حتى توفى ألفونسو فى سنة 1284 م فى إشبيلية، منبوذاً مهزوما، وبذلك انتهت الحرب الأهلية فى قشتالة.

واستمر ولده سانشو الملقب بالباسل El Bravo على عرش قشتالة مدى حين بلا منازع، ولكنه لم يلبث أن اختلف مع النبلاء الذين آزروه ضد أبيه من قبل، ومع إخوته الأصاغر، وكذلك مع أبناء أخيه الأكبر فرناندو الذى توفى قبل وفاة أبيه، وثارت حول عرش قشتالة من جديد منازعات واضطرابات لا نهاية

ص: 170

لها. وعمد سانشو إلى الدس والغيلة للتخلص من خصومه، وأبدى فى مطاردتهم قسوة متناهية. وفى تلك الفترة التى اضطربت فيها شئون قشتالة، آثر سانشو أن يستجيب إلى عقد السلم مع مملكة غرناطة، وكان ابن الأحمر من جانبه يتوق إلى عقد مثل هذه الهدنة مع قشتالة، لما كان يساوره من جزع من جراء تدخل سلطان المغرب أبى يوسف المنصور فى شئون الأندلس، بصورة خشى معها على سلطانه حسبما فصلنا ذلك فى موضعه، وعلى ذلك تمتعت غرناطة ببضعة أعوام من السكينة والسلام.

ولما توفى سانشو فى سنة 1296 م، خلفه ولده فرناندو الرابع طفلا فى السادسة من عمره، وتولت الوصاية عليه أمه ماريا دى مولينا، وبالرغم مما أبدته أمه من الشجاعة فى الذود عن العرش وعن الملك الطفل، ومن براعة فى تصريف الشئون، فقد كان عهده عهد اضطراب وفوضى، وعاد النبلاء والمتنافسون فى طلب العرش إلى تدبير الثورات المتعاقبة، واضطر الملك الطفل وأمه إلى الفرار من إشبيلية، والالتجاء إلى حماية أهل آبلة الذين آزروه واستقبلوه بترحاب وحماسة. ولما بلغ فرناندو أشده، استطاع أن يعود إلى عرشه بمؤازرة أصدقائه وأنصاره، ولكنه أبدى قصوراً وعجزاً فى تسيير الشئون، كما أبدى عقوقاً ونكراناً لأمه، التى كفلته وحمته فى طفولته. وفى عهد فرناندو ساءت العلائق بين قشتالة ومملكة غرناطة، وعاد النصارى إلى غزو أراضى المسلمين. وكان من أعظم الحوادث فى هذا العهد، استيلاء القشتاليين على ثغر جبل طارق، وذلك فى سنة 709 هـ (1310 م).

ولما توفى فرناندو خلفه على العرش ولده الطفل ألفونسو (الحادى عشر)، ولما يبلغ الحول من عمره، وتولى الوصاية عليه الدون بيدرو والدون خوان وهما زعيما النبلاء. وبالرغم مما كان يسود قشتالة يومئذ من ضروب الاضطراب والفوضى، فقد اعتزم رهط الأمراء والنبلاء المضى فى غزو الأراضى الإسلامية، وعاث الجند القشتاليون فى بسائط غرناطة، واستولوا على عدة من الحصون، وهزموا المسلمين فى موقعة شديدة (1317 م). وكان ذلك فى بداية عصر السلطان أبى الوليد إسماعيل. وبعد ذلك بعامين زحف الجند القشتاليون، بقيادة الدون بيدرو والدون خوان الوصيين وعدد كبير من الأمراء، على العاصمة الأندلسية ذاتها، والتقى المسلمون والنصارى على مقربة من غرناطة، وكانت موقعة هائلة كتب فيها النصر للمسلمين وقتل الدون بيدرو والدون خوان ومعظم الأمراء القشتاليين (1319 م).

ص: 171

وانتهز المسلمون هذه الفرصة، فقاموا بعدة غزوات ناجحة فى أراضى قشتالة. واستولوا على بعض القواعد والحصون حسبما فصلنا ذلك فى موضعه. وفى خلال ذلك تفاقمت الأمور فى قشتالة واشتد النزاع بين النبلاء، واستمرت هذه الحال طوال عهد الوصاية.

ولما بلغ الملك الطفل أشده، وتولى أمور الملك بنفسه، أخذت تتكشف صفاته المثيرة شيئاً فشيئاً. وبالرغم مما أبداه من مقدرة فى ضبط المملكة وتسيير الشئون، وما قام به من الإصلاحات الإدارية والقضائية، لتوطيد النظم التى يقوم عليها المجتمع القشتالى، فقد كان يلجأ إلى أشد أساليب العنف والقمع، وكان القتل وسيلته المثلى لحماية العرش وصون الدولة، وقد زهق على يديه كثير من الأمراء والنبلاء والزعماء، دون إجراءات ودون محاكمة، حتى لُقِّب من أجل ذلك "بالمنتقم". وكان البلاط القشتالى فى عهده مرتعا للفجور والإثم. وكانت الملكة الشرعية الأميرة ماريا البرتغالية تعيش منبوذة فى عزلة مطبقة، وتسيطر على القصر والدولة خليلة الملك إليونورا دى كزمان، وقد رزق منها ألفونسو بعدة أبناء غير شرعيين. وهكذا كانت قشتالة تجوز يومئذ عهداً من الإرهاب، والانحلال السياسى والاجتماعى.

ومع ذلك فقد كان ألفونسو الحادى عشر ملكا قوى البأس والعزم. وكان يضطرم نحو المملكة الإسلامية بمشاريع خطرة. وكانت غرناطة شعوراً منها بالخطر الذى يحدق بها. قد استغاثت بجارتها القوية وراء البحر مرة أخرى، وبعث السلطان أبو الحسن المرينى جيوشه لنجدة الأندلس، واجتمعت جيوش الممالك النصرانية، قشتالة وأراجون للقاء الجيوش المغربية وهزمتها فى موقعة دموية فى سنة 1339 م؛ فاعتزم السلطان أبو الحسن أن يثأر لنفسه من تلك الهزيمة، وجاز البحر بنفسه إلى الأندلس فى أسطول وجيش عظيمين، واجتمعت الجيوش النصرانية بقيادة ألفونسو الحادى عشر، والتقت بجيوش الأندلس والمغرب على ضفاف نهر سالادو فى الجزيرة الخضراء، ونشبت بين الفريقين موقعة حاسمة هزم فيها المسلمون شر هزيمة وسقط معسكر سلطان المغرب ومخيمه فى يد النصارى حسبما فصلنا فى موضعه، وكان ذلك فى 30 أكتوبر سنة 1340 م (جمادى الأولى سنة 741 هـ)، واستولى النصارى على طريف والجزيرة الخضراء.

واستمرت غزوات النصارى لأراضى غرناطة بضعة أعوام أخرى. وفى سنة

ص: 172

1349 م زحف القشتاليون على سهول الجزيرة الخضراء. وكان ثغر جبل طارق الذى استولى عليه النصارى مدى حين قد عاد إلى المسلمين، واعتزم ملك قشتالة أن يحاول استرداده، فضرب حوله الحصار الصارم، واستمر الحصار زهاء عام، والمسلمون داخل الصخرة صامدين، وملك غرناطة يرابط بجيشه من وراء النصارى. ثم فشا الوباء فى جيش النصارى، وهلك منه عدد جم، وكان ملك قشتالة فى مقدمة الضحايا، فاضطر النصارى إلى رفع الحصار، وأنقذ جبل طارق بما يشبه المعجزة (سنة 1350 م).

وهكذا توفى ألفونسو الحادى عشر ملك قشتالة فى إبان قوته ومجده، ولما يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره، فخلفه ولده بيدرو الثانى الملقب بالقاسى الذى تعرِّفه الرواية الإسلامية "بدون بطره". وبيدرو شهير فى الرواية الإسلامية أولا لأنه هو الملك الذى أوفد إليه المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون سفيراً من قبل ملك غرناطة، ووصف لنا فى التعريف سفارته لديه وإقامته فى قشتالة (1). وثانيا لأنه معاصر للوزير ابن الخطيب مؤرخ غرناطة، وقد تناول أخباره فى تاريخه بتفصيل ووضوح.

ولجأ بيدرو الثانى إلى نفس الأساليب الدموية التى لجأ إليها أبوه فى توطيد سلطانه، فأسرف فى قتل خصومه، وبسط على قشتالة حكم إرهاب مروع، وقيل إنه لجأ إلى قتل زوجه الشرعية بلانش دى بوربون بالسم ليتزوج من خليلته، وعهد بإدارة حكومته إلى رهط من اليهود ارتيابا منه فى أبناء وطنه، وأنشأ له حرساً من المدجَّنين. ونشب الخلاف بينه وبين إخوته غير الشرعيين أبناء إلينورا دى كزمان، ولاسيما كبيرهم الكونت هنرى دى تراستمارا. وانحاز الأشراف إليهم، واضطرمت قشتالة مدى أعوام بثورات داخلية، ثم استحالت إلى حرب أهلية ضروس، واستطاع الكونت هنرى أن يحصل على معاونة ملك فرنسا، وأن ينتزع لنفسه عرش قشتالة، وفر بيدرو واستغاث بالأمير أدوارد ولى عهد انجلترا المعروف بالأمير الأسود، فأمده بجنده واستطاع أن يسترد عرشه مدى حين.

ولكن أخاه الكونت هنرى عاد إلى محاربته فهزم وقتل فى موقعة مونتيل فى سنة 1368 م. وقد عرضنا إلى هذه الحوادث بالتفصيل فى حديثنا عن عصر السلطان محمد الغنى بالله. وقد كانت تربطه ببيدرو الثانى معاهدة صداقة وتحالف، وكانت

(1) راجع كتاب العبر ج 7 ص 306 وما بعدها.

ص: 173

غرناطة إلى جانبه فى محنته، وكان لهذه الحوادث صدى خاص فى الرواية الإسلامية عرض إليه ابن الخطيب فى كتابه "الإحاطة" على نحو ما قدمنا.

وعلى أثر موقعة مونتيل استقر الكونت هنرى دى تراستمارا مكان أخيه على العرش (1368 م)، وبدأ بذلك ثبت جديد من ملوك قشتالة. وفى عهده استتب الهدوء والنظام فى قشتالة، وأقبل الأشراف على تأييده، وكان للمدن التى آزرته فى جنوده لنيل العرش امتيازات خاصة، وكذلك ازدهر البرلمان القشتالى (الكورتيس) واشتد ساعده، ولكنه لم يوفق إلى الحد من طغيان العرش. وأبدى الكونت هنرى فى تسيير الشئون الداخلية مقدرة، وأصاب نجاحا يذكر، واستطاع فى ميدان الشئون الخارجية أن يرغم البرتغال على عقد الصلح، وأن يهزم حملة بحرية فى مياه لاروشل. وكان حكمه على العموم فترة رخاء وأمن. وفى عهده انتهزت مملكة غرناطة فرصة اشتغال قشتالة بشئونها الداخلية فنظمت قواها، وأغارت غير مرة على أراضى قشتالة فى غزوات ناجحة، حسبما أشرنا إلى ذلك فى موضعه.

ولما توفى الكونت هنرى فى سنة 1379 م، خلفه على العرش ولده خوان (يوحنا) الأول. وكان الأمير جون أوف جونت ولد إدوارد الثالث ملك انجلترا قد تزوج كبرى بنات بيدرو الثانى، وأخذ يطالب باسمها بعرش قشتالة، وكادت تضطرم من أجل ذلك حرب أهلية جديدة، ولكن خوان الأول استطاع أن يجتنب هذا الخطر بالتفاهم مع الأمير جون، والاتفاق معه على أن يقترن ولده بالأميرة كونستانس كبرى بنات الأمير الإنجليزى، وتم بذلك الزواج اتحاد فرعى ألفونسو الحادى عشر، وزوال خطر الحرب الأهلية المترتب على خصومتهما حول العرش، وحاول خوان الأول من جهة أخرى أن يطالب بعرش البرتغال عقب وفاة ملكها فرناندو سنة 1383 م باسم زوجه الأميرة بياتريس، وهى الإبنة الوحيدة للملك المتوفى، وثارت من جراء ذلك بين قشتالة والبرتغال حرب هزم فيها القشتاليون فى موقعة "الخبرونا" فى سنة 1385 م، واضطر ملك قشتالة أن ينزل عن دعواه.

وتوفى خوان الأول قتيلا على أثر سقوطه عن جواده (أكتوبر سنة 1390 م) فخلفه على عرش قشتالة ولده هنرى (إنريكى) الثالث حدثا. وكان سقيما عليلا، ولم يطل أمد حكمه حينما بلغ الرشد سوى أعوام قلائل. بيد أنه استطاع فى حكمه القصير أن يوطد النظام والأمن داخل مملكته، وأن يقضى على شغب الأشراف،

ص: 174

وأن يسترد منهم كل الإقطاعات التى انتزعوها من العرش إبان طفولته. وفى عهده نشبت الحرب حيناً بين المسلمين والنصارى، وانتهت بعقد الهدنة بين الفريقين، ثم توفى شابا فى أواخر سنة 1406 م.

فخلفه ولده خوان الثانى طفلا فى نحو الثانية من عمره، ووضع تحت وصاية أمه الملكة كونستانس الإنجليزية، وعمه الأمير فرناندو الذى يعرف بفرناندو صاحب أنتقيرة، نظراً لاستيلائه على هذه القاعدة من المسلمين فى سنة 1412 م.

وطال حكم خوان الثانى زهاء نصف قرن، وكان أميراً ضعيف الرأى والعزم سيئ الخلال، يعشق اللهو وينفق أوقاته فى حفلات الصيد والفروسة وقرض الشعر، وكان عمه الوصى فرناندو فى الأعوام الأولى من طفولته، يقبض على زمام الأمور بحزم وبصيرة. بيد أنه دعى منذ سنة 1412 م إلى تبوىء عرش أراجون بقرار من الكورتيس، فترك قشتالة لمصيرها. وما كاد خوان الثانى يبلغ أشده، حتى بدأ النضال بينه وبين الأشراف من أجل السلطة وفرض الضرائب، وشغلت قشتالة مدى حين بأمر هذا النضال. وفوض الملك شئون الدولة إلى وزيره وصفيه ألبارو دى لونا، فاستأثر بكل سلطة، واستطاع أن يوطد نفوذ العرش، وأن يحقق النظام والأمن. فلما اقترن خوان بزوجه الثانية إيسابيلا البرتغالية، عملت على تحريره من نفوذ وزيره القوى، وما زالت به حتى أسقطه وأقصاه. ويقال إن هذا التصرف الغادر نغص عليه حياته فى أعوامه الأخيرة. وتوفى خوان الثانى فى يوليه سنة 1454 م فى بلد الوليد، وقد رزق من زواجه الثانى بابنته إيسابيلا وهى التى تبوأت العرش فيما بعد، وعرفت بإيسابيلا الكاثوليكية، وكان لها أعظم شأن فى تاريخ اسبانيا النصرانية.

وفى معظم عصره ساد نوع من السلام والتهادن بين غرناطة وقشتالة، وكانت حفلات الفروسية الأندلسية الشهيرة تجمع بين الأشراف والسادة من الفريقين، فى جو من التعاطف والمودة. ولكن غرناطة ما لبثت أن شغلت بثوراتها الداخلية التى تعاقبت حول العرش فى عصر السلطان الأيسر وخلفائه. وكان بلاط قشتالة يلعب عندئذ دوره المأثور، فى إذكاء عوامل الخلاف بين المتنافسين من أمراء غرناطة، وتغليب البعض على الآخر، والتمهيد بذلك لإضعاف مملكة غرناطة والقضاء عليها.

وخلف خوان الثانى ولده هنرى (إنريكى) الرابع، وكان كأبيه أميرا ضعيفاً

ص: 175