المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

‌الفصل الأول

بدء التحول فى حياة المغلوب

نقص الروايات العربية عن المأساة الأندلسية. علة هذا النقص. اهتمام الرواية الإسبانية بالإفاضة فيها. هجرة الأندلسيين إلى المغرب. وإنشاؤهم لمدينة تطوان. بداية عصر الإستعباد. السياسة الإسبانية ومصير المسلمين. أقوال الرواية القشتالية. اتجاه ملكى اسبانيا إلى النكث. تعليق النقد الحديث. بدء الاضطهاد. تحوير المعاهدة. خمنيس يحاول تنصير المسلمين. بعض من تنصر من أكابرهم. إحراق الكتب العربية. تعليق النقد الحديث على هذا العمل. الروايات الإسلامية عن مأساة التنصير. صدى المحنة فى مصر. نفى المسلمين من البرتغال. أمة الموريسكيين أو العرب المتنصرين. قرار مجلس الدولة. الثورة فى بعض النواحى. التنصير المغصوب. نشاط فرناندو وإيسابيلا. إستغاثة المسلمين بملك مصر. سفارة فرناندو إليه. الثورة فى فليا لونجا وهزيمة الإسبان. جنوح فرناندو إلى اللين. أقوال الرواية الإسلامية عن هذه الحوادث. حشد المسلمين والمتنصرين فى أحياء خاصة. تحريم إحراز السلاح عليهم. حظر هجرتهم إلى غرناطة. تحريم بيع الأملاك.

لم يكن ظفر اسبانيا النصرانية بالاستيلاء على غرناطة، وسحق دولة الإسلام فى الأندلس، سوى بداية النهاية فى مصير الأمة الأندلسية، ولم يكن فقد السيادة القومية، وفقد الإستقلال والحرية، والذلة السياسية، والاضطهاد الدينى والاجتماعى، وهى المحن التى تنزل بالأمة المغلوبة، سوى لمحة يسيرة مما كتب على الأمة الأندلسية أن تعانيه على يد اسبانيا النصرانية. أجل كان مصير مسلمى الأندلس بعد فقد دولتهم وزوال مملكتهم، من أروع ما عرفت الأمم الكريمة المغلوبة، وكان مأساة من أبلغ مآسى التاريخ.

تلك هى مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومن الأسف أن الرواية الإسلامية لم تخص تاريخ الأمة الأندلسية بعد سقوط غرناطة بكثير من عنايتها، ولم ينته إلينا عن تلك المأساة سوى رسائل وشذور يسيرة، بل لم ينته إلينا سوى القليل عن مراحل التاريخ الأندلسى الأخيرة قبل سقوط غرناطة، ولا توجد لدينا عن تلك المرحلة سوى رواية إسلامية واحدة هى كتاب "أخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر" الذى سبقت الإشارة إليه غير مرة، والذى كتبه فى سنة 947 هـ (1540 م) أعنى بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة، كاتب مجهول كان فيما يبدو

ص: 308

من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها، وأرغموا على التنصر، ولكنهم بقوا مع ذلك مسلمين فى روحهم وسريرتهم. وقد كانت هذه الرواية أساساً لكل ما كتبه المسلمون المتأخرون عن سقوط غرناطة. ولم تصل إلينا إلى جانب هذه الرواية الوحيدة، سوى رسائل وشذور وقصائد نقلها إلينا المقرى مؤرخ الأندلس فى مؤلفه "أزهار الرياض"، ومعظمها مما كتبه أدباء المغرب عقب وقوع المأساة بقليل.

ونستطيع أن نرجع هذا النقص فى الرواية الإسلامية عن حوادث المأساة الأندلسية إلى عاملين: الأول هو أنه فى عصور الإنحلال والسقوط تخمد الحركات الأدبية والفكرية، وتقل العناية بالتدوين التاريخى، كما تقل فى جميع نواحى التفكير والأدب، وأن نظام الطغيان المطبق والاضطهاد المروع، الذى فرض على العرب المتنصرين، كان كفيلا بإخماد كل صوت وتحطيم كل قلم. والثانى وهو ما نرجحه، هو فقد معظم الكتب والوثائق العربية التى وضعت فى هذا الوقت، والتى استطاع المقرى أن ينقل إلينا شذوراً منها، مما يدل على أن بعضها كان موجوداً حتى عصره أعنى فى القرن السابع عشر. ومن الغريب أن صاحب "أخبار العصر" لم يقدم إلينا عن مأساة العرب المتنصرين سوى نبذة يسيرة، مع أنه عاصر معظم حوادثها، وشهدها على الأغلب. ولسنا نجد ما نفسر به هذا الصمت من جانب الرواية الإسلامية الوحيدة، التى انتهت إلينا عن سقوط غرناطة، وما تلاه من الحوادث والخطوب، إلا نظام الإرهاب الشامل، الذى سحق كل متنفس للشعب المغلوب.

على أن هذه المرحلة المؤلمة من تاريخ الأمة الأندلسية، تشغل بالعكس فى تاريخ اسبانيا القومى حيزاً كبيراً يمتد زهاء قرن وربع، وتخصه الرواية الإسبانية بكثير من عنايتها. ولكن الرواية الإسبانية تتأثر دائماً بالعوامل القومية والدينية إلى أبعد حد، وتنظر دائماً إلى ذلك الإستشهاد المفجع، الذى فرضته اسبانيا على العرب المتنصرين، وإلى تلك الأعمال المروعة التى كانت ترتكبها محاكم التحقيق (1) باسم الدين، وإلى تلك الوسائل البربرية، التى اتخذت لتشريد العرب المتنصرين وإبادتهم، بعين الكبرياء والرضى، وترى فيها دائماً نوعاً من الإنقاذ القومى، وتطهيراً للدين والوطن من آثار الإسلام الأخيرة. وهى تحيط هذه المرحلة من تاريخ اسبانيا، بكثير من القصص والأساطير الحماسية، التى تشيد بظفر اسبانيا

(1) هى المعروفة خطأ " بمحاكم التفتيش " Inquisition، Inquisicion، وسنعود إلى

الكلام عليها

ص: 309

النصرانية، وبما أسبغته العناية الإلهية على خطتها وسياستها، فى إبادة تراث الإسلام والعرب المتنصرين، وفى القضاء إلى الأبد على آثار تلك الدولة الإسلامية المجيدة، التى ازدهرت فى اسبانيا زهاء ثمانية قرون، وعلى حضارتها وآدابها، وكل ذلك التراث العظيم الباهر.

على أن الرواية الإسبانية بالرغم من تأثرها العميق بالعوامل القومية والدينية، تعرض علينا حوادث هذا النضال الأخير فى أسلوب مؤثر. وقد لا تضن فى بعض المواطن والمواقف بعطفها، وأحياناً بإعجابها، على تلك الأمة المغلوبة الباسلة، التى لبثت تناضل حتى الرمق الأخير عن كرامتها، وعن تراثها القومى والروحى.

- 2 -

لبثت السياسة الإسبانية بعد سقوط غرناطة، وبعد أن حققت اسبانيا النصرانية بالقضاء على دولة الإسلام فى الأندلس، أعظم أمانيها القومية، مدى حين تلتزم جانب الرواية والاعتدال.

ولما غادر فرناندو وإيسابيلا غرناطة بعد دخولها، أوصيا حاكمها الجديد الكونت تندليا (المركيز دى مونتخار فيما بعد) بالرفق فى معاملة الرعايا الجدد، والعمل على التقريب بين العناصر. وكان من أثر ذلك فى البداية أن رغب الكثيرون فى البقاء، واشتروا الرباع العظيمة من الراحلين بأبخس الأثمان (1). وهناك من جهة أخرى ما يدل على أنه ما كاد يتم تسليم غرناطة حتى بدأ أعيان المسلمين فى بيع أملاكهم وضياعهم إلى القادة والأشراف القشتاليين الذين قدموا للتوطن فى المدينة المفتوحة، فمثلا باع القائد أبو عبد الله محمد الينشتى إلى القائد القشتالى أندريس قلدرون حديقته ومنزله بباب الفخارين، وذلك فى جمادى الثانية سنة 897 هـ (مارس 1492 م)، وباعت فاطمة بنت أبى القاسم الأبار إلى نفس القائد القشتالى حديقتها الكائنة بربض باب الفخارين، وذلك فى نفس التاريخ، وباع عدة آخرون من المسلمين أملاكهم فى مرج غرناطة وفى عين الدمع، إلى بعض أعيان القشتاليين، وذلك فى نفس السنة (1492 م)(2). واتخذت الأهبة من جهة أخرى لنقل المسلمين الراغبين فى الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، وفى مقدمتهم

(1) أزهار الرياض، ج 1 ص 67.

(2)

راجع: "وثائق عربية غرناطية" الوثائق رقم 181 (ص 130)، ورقم 184 (ص 134) ورقم 85 (ص 135)

ص: 310

بنو سراج وغيرهم من أنجاد غرناطة القدماء، وأقفرت مناطق بأسرها من أعيان المسلمين، ولاسيما منطقة البشرات. وكان تدفق سيل المهاجرين دليلا على أن الشعب المغلوب، لم يكن واثقاً فى ولاء سادته الجدد، وأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين التوجس والريب.

ويفصل لنا صاحب أخبار العصر بعض حركات الهجرة التى وقعت على أثر سقوط غرناطة، فيقول لنا إن من بقى من المسلمين فى مالقة عبروا البحر إلى باديس وعبر أهل ألمرية إلى تلمسان، وعبر أهل الجزيرة الخضراء إلى طنجة، وعبر أهل رندة وبسطة وحصن موجر وقرية قردوش وحصن مرتيل إلى تطوان وأحوازها، وعبر أهل لوشة وقرية الفخار وبعض أهل غرناطة ومرشانة وأهل البشرَّة إلى أراضى قبيلة غمارة، وعبر أهل بيرة وبرجة وأندرش إلى ما بين طنجة وتطوان، وعبر أهل بلِّش إلى سلا، وخرج كثير من أهل غرناطة إلى بجاية ووهران وقابس وصفاقص وسوسة، وخرج أهل مدينة طريف إلى آسفى وأزمور (1).

وقد كان ممن هاجر من غرناطة إلى العدوة عقب سقوطها بقليل جماعة من أهلها برياسة زعيم جندى هو أبو الحسن على المنظرى (أو المندرى) وكان من أكابر جند الجيش الغرناطى، فنزلوا فى موقع قرية مرتيل (أو مرتين) الواقع على البحر على مقربة من تطوان، وكانت يومئذ خربة مهجورة، فاستأذن الأندلسيون سلطان فاس، محمداً الشيخ الوطَّاسى، فى تعميرها وسكناها، فأذن لهم، فأقاموا فوق موقعها القديم محلة حصينة بها مسجد وقصبة، وكان ذلك فى سنة 898 هـ (أواخر سنة 1492 م). وفى رواية أخرى أن الأندلسيين الذين عمروا تطوان لأول مرة، وفدوا إلى العدوة قبل سقوط غرناطة ببضعة أعوام فى سنة 888 هـ (1483 م)، وأنهم كانوا نحو ستين أو ثمانين. ثم جاء من بعدهم عقب سقوط غرناطة قوم آخرون، قاموا بتوسيعها وتحصينها، وعلى أى حال فإن المرجح أن هجرة المنظرى وقومه كانت عقب سقوط غرناطة، وأن هذا الفوج من المهاجرين الأندلسيين هو الذى يجب أن يحسب حسابه فى تعمير تطوان وتحصينها. ومن ذلك الحين تغدو تطوان ملاذا لكثير من الأسر الأندلسية التى أرغمت على التنصير، ثم آثرت الهجرة إلى دار الإسلام فراراً من اضطهاد الإسبان ومحاكم التحقيق، وعادت إلى دينها القديم، وما تزال بها أعقابهم إلى اليوم (2).

(1) أخبار العصر (طبعة العرايش) ص 48.

(2)

راجع الإستقصاء للسلاوى (ج 2 ص 162)، ومختصر تاريخ تطوان للسيد محمد داود =

ص: 311

وهكذا أبدى فرناندو وإيسابيلا فى الأعوام الأولى رفقاً وليناً فى معاملة المسلمين، ولاح مدى حين أن اسبانيا النصرانية تنوى أن تحافظ على العهود التى قطعت، وعاش المسلمون بضعة أعوام فى نوع من السكينة والاطمئنان.

ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً ذلك الشعب الذكى النابه، وكانت الكنيسة تجيش دائماً بنزعتها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة فى القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية فى اسبانيا؛ وكانت مملكة غرناطة القديمة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجّنين فى منطقة بلنسية، وفى منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراجون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامى. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة فى قلب اسبانيا النصرانية، شغلا شاغلا للسياسة الإسبانية.

والظاهر أن السياسة الإسبانية، لبثت مدى حين مترددة فى انتهاج المسلك الذى تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء والعرفان فى اسبانيا، وكانت براعتهم قدوة فى الزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وخلالهم قدوة فى النشاط والمثابرة والزهد والعفة والرفق، وكانوا على الجملة من أفضل

= (ص 14 - 17). وقد أتيح لى أن أزور تطوان غير مرة وأن أتجول فى ربوعها القديمة، وهى اليوم تكون القسم الشرقى والشمالى من مدينة تطوان الحديثة، وما تزال بها بقايا المسجد والقصبة المنسوبين لأبى الحسن المنظرى. وقد علمت من صديقى العلامة السيد محمد داود مؤرخ تطوان، أنه ما يزال يوجد بها إلى اليوم كثير من أعقاب الأسر الموريسكية القديمة، ما تزال تحمل أسماءها الموريسكية معربة لا تبغى بها بديلا لأنها عنوان الأرومة الأندلسية. وإليك طائفة من هذه الأسماء نوردها كما تثبت بالعربية، ونورد مقابلها الإسبانى:

ملينة ( Molina) . أولاد مرتين ( Martin) . مدينة ( Medina) . مراريش ( Morales) . الطريس ( Las Torres) . صالص ( Salas) . برميخو ( Bermejo) . مرشينة ( Marchina) . قسطيلية ( Castillo) . بايص ( Paez) . الركينة ( Requina) . لوقش ( Lucas) . راغون ( Aragon) .

وفى معظم مدن المغرب الأخرى مثل الرباط وسلا والدار البيضاء ومراكش وفاس وغيرها، يوجد أعقاب كثير من الأسر الموريسكية. يحملون حتى اليوم ألقابهم الموريسكية القديمة معربة. وقد أورد لنا صاحب كتاب "مقدمة الفتح من تاريخ رباط الفتح" جملة كبيرة منها، مثل أسر بركاش. وبلافريج. ونكيطو، وملاط. ودنية. والرندة. وملين. ومرينو. واشكلانط. وبلانيو. وإبيرو. ولباريس. وكريسبو. وكيلطو. ومربيش. ورودياس. وبلامينو. وباينة. وبونو. والقسطالى.

وفرتون. وقديره. وفلوريش. وغيرها (الكتاب المذكور ص 215)

ص: 312

العناصر الذين يمكن أن تضمهم دولة متمدنة (1). ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة فى سبيل تحقيق مثلها، ولم تكن السياسة الإسبانية فى تلك الفترة من تاريخ اسبانيا سوى أداة لينة فى يد الكنيسة، التى بلغت عندئذ ذروة قوتها ونفوذها.

ويصف لنا مؤرخ اسبانى عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين فى قوله:"إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة، كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح، أن يعمل على سحق طائفة محمد من اسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء، إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس فى ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل فيه إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة، لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون فى صفاء وسلام مع النصارى، أو يحافظون على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم"(2).

ولم تكن هذه السياسة فى الواقع بعيدة عما يخالج ملكى اسبانيا، فرناندو الخامس وزوجه الملكة المتعصبة إيسابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن للعهود التى قطعت للمسلمين بتأمينهم فى أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، لتحول دون تحقيق أغراض السياسة القومية. ذلك أن فرناندو لم يحجم قط عن أن يقطع العهود والمواثيق متى كانت سبيلا لتحقيق مآربه، وأن يسبغ على رياسته الغادرة ثوب الدين والورع، ولكنه لم يعتبر نفسه قط ملزماً بعهود يقطعها متى أصبحت تعارض سياسته وغاياته.

ويعلق النقد الغربى الحديث على ذلك بقوله: "ولو نفدت هذه العهود (العهود التى قطعها لمسلمى غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل اسبانيا كل التغيير، ولجمع الامتزاج الرفيق بين الأجناس، ولغاض الإسلام مع الزمن، ولتفوقت المملكة الإسبانية فى فنون الحرب والسلم، وتوطدت قوتها ورخاؤها. ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذى انقضى، وأفضى التعصب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلة مروعة، فاتسعت الهوة بين الأجناس على كر الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدت إلى علاج كان من جرائه أن تحطم رخاء اسبانيا"(3).

(1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 7

(2)

Luis del Marmol: Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada ;

Lib. I. Cap. XXII

(3)

Dr. Lea: The Moriscos، p. 22

ص: 313

وأخذت سياسة الإرهاق تجرف فى طريقها كل شىء، ونشط ديوان التحقيق، ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحى الكنيسة وتأييد العرش، إلى مزاولة قضائه المدمر. وكانت مهمة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة)، ومطاردة الكفر والزيغ بكل ما وسعت، وكان جل ضحاياها فى البداية من اليهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين. وسنعرض فى فصل خاص إلى تاريخ هذه المحاكم وإجراءاتها ووسائلها، التى تنافى كل عدالة وكل قضاء متمدن.

وهكذا فإنه لم تمض بضعة أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة نحو المسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها أعنى تنصير المسلمين بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحى الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود مؤكدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم. وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران، هما الكردينال خمينس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجو ديسا "المحقق العام" لديوان التحقيق (1).

وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت فى تحوير العهود والنصوص التى تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصاً فنصاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم (2). وأدرك المسلمون ما ترمى إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوت فى آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التى ألقاها إليهم فارس غرناطة يوم اعتزموا التسليم للعدو:

"أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشد ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمنا، والموت خير ما تلقون منهم، إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق؛

(1) كان المحقق العام General Inquisitor وهو قاضى قضاة الديوان، يمثل يومئذ أعظم السلطات الدينية والقضائية فى اسبانيا.

(2)

أخبار العصر ص 54

ص: 314

ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم، تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيما".

وكان فرناندو يخشى فى البداية عواقب التسرع فى تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطد بعد فى المناطق المفتوحة، ولأن المسلمين لم ينزع سلاحهم تماماًؤ، وقد يؤدى الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت. ولكنه انتهى إلى الخضوع لرأى الكنيسة، واستدعى الكردينال خمينس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمة تنصير المسلمين، فوفد عليها فى شهر يوليه سنة 1499 م (905 هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل والإرغام، فى تنصير بعض أعيان المسلمين.

وكان قد اعتنق النصرانية قبيل سقوط غرناطة وبعدها، جماعة من الأمراء والوزراء، وفى مقدمتهم الأميران سعد ونصر، ولدا السلطان أبى الحسن من زوجه النصرانية اليزابيث دى سوليس المعروفة باسم ثريا، فقد تنصرا ومنحا ضياعاً فى أرجبة، وتسمى أحدهما باسم "الدوق فرناندو دى جرانادا"(أى صاحب غرناطة)، وخدم قائداً فى الجيش القشتالى، واشتهر بغيرته فى خدمة العرش، وتسمى الثانى باسم "ديوان خوان دى جرانادا"(1). وتنصر سيدى يحيى النيار قائد ألمرية وابن عم مولاى الزغل، عقب تسليمه لألمرية، وتسمى باسم "الدون بيدرو دى جرانادا" وتنصرت زوجه السيدة مريم ابنة الوزير بنيغش، وتنصر ابنه علىّ، باسم "الدون ألونسو دى جرانادا فنيجاس"، وتزوج من دونيا خوانا دى مندوثا وصيفة الملكة. وتنصر الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش، ومعظم أفراد أسرته، وعادت أسرته تحمل لقبها القشتالى القديم Los Venegas، واشتهرت فى تاريخ اسبانيا الحديث، وأنجبت كثيراً من أكابر القادة والأحبار.

ونصر آل الثغرى الذين اشتهروا فى الدفاع عن مالقة وغرناطة قسرا، وسمى عميدهم باسم "جونثالفو فرنانديث ثجرى"، وتنصر الوزير يوسف بن كماشه وانتظم فى سلك الرهبان. وهكذا اجتاحت موجة التنصير كثيراً من الأكابر والعامة معاً.

وتمركزت حركة التنصير فى غرناطة بالأخص فى حىّ البيّازين، حيث حول

(1) Hernando de Baeza: ibid، p. 65

ص: 315

مسجده فى الحال إلى كنيسة سميت باسم "سان سلبادور"(1). واحتج بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى. وثار أهل البيازين وتحصنوا بحيهم، ونددوا بخرق العهود، فبذل الكردينال خمنيس وحاكم المدينة، جهوداً فادحة لإقناعهم بالهدوء والسكينة، وبذلا لهم من التأكيدات والضمانات الكلامية ما شاءوا (2).

ولم يقف الكردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية، التى انتهت بتوقيع التنصير المغصوب، على عشرات الألوف من المسلمين، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربرى شائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالى غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة فى ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، وأضرمت النيران فيها جميعاً، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حملت إلى الجامعة التى أنشأها فى مدينة ألكالا دى هنارس (3)، وذهبت ضحية هذا الإجراء الهمجى عشرات ألوف من الكتب العربية، هى خلاصة ما بقى من تراث التفكير الإسلامى فى الأندلس (4).

ولسنا نحن فقط الذين نصف عمل خمنيس بالبربرية والهمجية، بل قالها ويقولها مفكرو الغرب أنفسهم، فمثلا يشير العلامة الإيطالى الأب سكيابرللى Schiaparelli فى مقدمة إحدى كتبه إلى "التعصب الكاثوليكى، وثورات خمنيس

(1) ما تزال كنيسة "سان سلبادور"، تقوم حتى اليوم على موقع مسجد البيازين القديم، وما تزال توجد فى مؤخرتها بعض عقود المسجد القديمة.

(2)

Luis del Marmol: ibid، I. Cap. XXIII

(3)

Alcala de Henares، وتسمى فى الرواية العربية بقلعة عبد السلام أو قلعة النهر لوقوعها على نهر هنارس، أحد أفرع نهر التاجه، وهى تقع فى جنوب غربى وادى الحجارة فى منتصف المسافة بينها وبين مدريد.

(4)

يختلف المؤرخون الإسبان فى تقدير عدد الكتب العربية التى ذهبت ضحية هذا الإجراء، فيقدرها دى روبلس E. de Robles، الذى كتب بعد ذلك بقرن كتاباً عن حياة الكردينال خمنيس، Compenido de la Vida y Hazanas del Cardinal Ximenez، بمليون وخمسة آلاف كتاب. ويقدرها برمندث دى بدراثا B. de Pedraza الذى كتب بعده بقليل، بمائة وخمسة وعشرين ألفاً فى كتابه Historia Eclesiastica de Granada، ويقدرها البعض الآخر بخمسة آلاف فقط، ويقدرها كوندى بثمانين ألفاً، وربما كان تقديره أقرب إلى المعقول. راجع Prescott: Ferd. and Isabella، p. 451 - 53 & notes

ص: 316

صورة: الكردينال خمنيس دى سيسنيروس

ص: 317

البربرية، التى ترتب عليها حرق المصاحف والكتب الإسلامية الأخرى لمسلمى غرناطة، وذلك لكى يتوسل بذلك إلى تنصيرهم".

ويقول المؤرخ الأمريكى وليم برسكوت: "إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجى جاهل، وإنما حبر مثقف، وقد وقع لا فى ظلام العصور الوسطى، ولكن فى فجر القرن السادس عشر، وفى قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها"(1).

ثم يشير إلى ما ترتب على هذا العمل بقوله: "لقد غدت الآداب العربية نادرة فى مكتبات نفس البلد الذى نشأت فيه، وإن الدراسات العربية التى كانت من قبل زاهرة فى اسبانيا، حتى فى العصور الأقل لمعاناً، انهارت لأنها عدمت غذاء يؤدها؛ وهكذا كانت النتائج المحزنة للمطاردة الأدبية، التى يراها البعض أشد تقويضاً من تلك التى توجه إلى الحياة ذاتها".

على أن هذا العمل الذى يثير غضب النقد الغربى الحديث وزرايته، يجد مع ذلك بين العلماء الإسبان من يبرره بل ويمجده. وقد تولى المستشرق سيمونيت الدفاع عن الكردينال خمنيس، الذى يصفه بأنه أحد أمجاد الكنيسة الإسبانية، فى رسالة عنوانها:"الكردينال خمنيس دى سيسنيروس والمخطوطات العربية الغرناطية"(2) يقول فيها، إن ما قام به الكردينال من حرق الكتب أمر لا غبار عليه، إذ هو إعدام للشىء الضار، وهو بالعكس أمر محمود، كما تعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكين الكاثوليكيين قد أمرا عقب تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين، لكى تحرق فى سائر مملكة غرناطة، وألا يبقى لديهم سوى الكتب التى لا علاقة لها بالدين الذى نبذوه، وإن تأجيل تنفيذ هذا الأمر حتى عهد الملكة خوانا، كان تسامحاً وتساهلا، وقد استشارت الملكة مجلسها، وأصدرت بتاريخ 20 يونيه سنة 1511 أمراً ملكياً، تلزم فيه جميع السكان الذين تنصروا حديثاً، سواء فى غرناطة أو غيرها من نواحى مملكة غرناطة، أن يسلموا سائر الكتب العربية التى لديهم سواء فى الدين أو الشريعة أو كتب الطب والفلسفة والتاريخ أو غيرها إلى قاضى الجهة، وذلك فى ظرف خمسين يوماً من تاريخ هذا الأمر،

(1) W. Prescott: ibid ، p. 453 & 454

(2)

F. Javier Simonet: El Cardinal Ximenez de Cisneros y los Manuscritos

Arabigo - Granadinos

ص: 318

لكى يفحصها القضاة، وتؤخذ منها كتب الدين والسنة، ويرخص القضاة بعد ذلك بحيازة غيرها.

ويدافع سيمونيت عن تصرف الكردينال خمنيس بحماسة، ويقول إن إحراقه للكتب، يمكن أن يقارن بما وقع من أعمال مماثلة خلال الثورات الحديثة، منذ البروتستانتية الإنجليزية والألمانية إلى الثورة الفرنسية، وأنه خلال هذه الثورات، قد أحرق أو أتلف كثير من الآثار الأدبية والفنية فى كثير من البلاد الأوربية، وأنه لا يمكن مقارنة عمل خمنيس، بما وقع من إحراق مكتبة الإسكندرية (المزعوم)، بأمر الخليفة عمر، وأن معظم الكتب العربية قد أخرج من اسبانيا مع الهجرة، ومع من هاجروا من المسلمين من القواعد الأندلسية المختلفة، وأخيراً أن كثيراً منها قد جمع أيام الملك فيليب الثانى وأودع بقصر الإسكوريال (1).

ذلك هو ملخص رسالة المستشرق سيمونيت فى الدفاع عن تصرف الكردينال خمنيس، وهو دفاع يبدو ركيكاً مصطنعاً إزاء أحكام النقد الغربى المستنير، وتطبعه نزعة تحيز وتعصب واضحة، تبدو فى كل ما كتبه هذا العلامة الإسبانى عن الأمة الأندلسية، وهو لا يمكن مهما أسبغ عليه من المقارنات، أن يزيل أثر هذه الوصمة المشينة من حياة خمينس، أو من التاريخ الإسبانى.

ولنعد إلى حديث تنصير المسلمين، فنقول إن ما حدث فى غرناطة، حدث فى باقى البلاد والنواحى الأخرى، فنصر أهل البشرّات وألمرية وبسطة ووادى آش فى العام التالى، أعنى فى سنة 1500 م، وعم التنصير سائر أنحاء مملكة غرناطة. على أن هذه الحركة التى نظمت لتنصير بقية الأمة الأندلسية والتى لم تدخر فيها أساليب الوعود والوعيد والإغراء والإكراه، لم تقع دون قلاقل واضطرابات عديدة حسبما نفصل بعد.

وكان الإغراء بالتنصير يتخذ أحياناً، شكل هبات ومنح جماعية لبلدة أو منطقة بأسرها، كما حدث بالنسبة لأهل وادى ألكرين (الإقليم) ولانخرون والبشرّات، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان مرسوماً (فى 30 يوليه سنة 1500) بإبراء سائر أهالى النواحى المذكورة، الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الحقوق والتعهدات المفروضة على الموريسكيين لصالح العرش، ورفعها عن منازلهم وأراضيهم وسائر أملاكهم المنقولة والثابتة، وهبتهما لهم، وإلغاء ضريبة الرأس

(1) Simonet: ibid، p. 3، 8، 10، 17، 18، 20 - 27 & 31

ص: 319

المفروضة عليهم لمدة ست سنوات، وإقالتهم من الغرامة التى فرضت عليهم من جراء ثورتهم، وقدرها خمسون ألف دوقية، هذا إلى منح وإبراءات أخرى تضمنها المرسوم المشار إليه (1).

وصدر كذلك مرسوم مماثل من الملكين الكاثوليكيين فى 30 سبتمبر سنة 1500، إلى "المسلمين" القاطنين بحيهم Moreria بمدينة بسطة، بإقالة الذين تنصروا منهم أو يتنصرون، من جميع الفروض والمغارم التى فرضت على الموريسكيين، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم وأموالهم الثابتة والمنقولة من يوم التنصير، وألا يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب بغرامة فادحة، وأن يعفوا من سائر الذنوب التى ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن تحترم جميع العقود والمحررات التى كتبت بالعربية، وصادق عليها فقهاؤهم وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين فى بسطة، ولهم أن ينتقلوا وأن يعيشوا فى أى مكان آخر من أراضى مملكة قشتالة، دون قيد أو عائق، إلى غير ذلك من المنح والامتيازات (2).

وصدر أخيراً مرسوم بالعفو عن جميع سكان "حىّ المسلمين" Moreria بغرناطة والقرى الملحقة بها، بالنسبة لجميع الذنوب والأخطاء، التى ارتكبت حتى يوم تنصيرهم، وألا يتخذ فى شأنها أى إجراء، سواء ضد أشخاصهم أو أملاكهم (3).

ولم تقدم الرواية الإسلامية المعاصرة إلينا كثيراً من التفاصيل عن هذه الحوادث والتطورات، ولكنها تكتفى بأن تجمل مأساة تنصير المسلمين فى هذه الكلمات المؤثرة:

"ثم بعد ذلك دعاهم (أى ملك قشتالة) إلى التنصير، وأكرمهم عليه وذلك فى سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا فى دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" إلا من يقولها فى قلبه، وفى خفية من الناس، وجعلت النواقيس فى صوامعها بعد الأذان، وفى مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلا غزيراً، وينظرون إلى

(1) يحفظ هذا المرسوم بدار المحفوظات الإسبانية العامة Archivo general de Simancas برقم P. R. 11 - 98، وقد حصلنا منه على صورة فتوغرافية.

(2)

Archivo general de Simancas: P. R. 11 - 107

(3)

Arch. gen. Leg. 28 ; Fol. 22

ص: 320

أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التى هى أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ولا على زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب، فيالها من فجيعة ما أمرّها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها". ثم يختتم بقوله:"وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك فى الكتاب مسطورا، وكان أمر الله قدراً مقدورا"(1).

ونقل إلينا المقرى نبذة من رسالة أخرى، يشير كاتبها إلى تنصير مسلمى الأندلس فيما يلى:

"وتعرفنا من غير طريق، وعلى لسان غير فريق، أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يجد فى سالف الدهر. وذلك أنهم أكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضى فى الظاهر الكفر، ولم يقبل منهم الأسر. وكان الابتداء فى ذلك من أهل غرناطة، وخصوصاً أهل واسطتها لقلة الناس، وكونهم من الرعية الدهماء، مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس، وعلم النصارى بأن من بقى بها من المسلمين إنما هم أسارى فى أيديهم، وعيال عليهم، وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل، وعتوا فيهم بالخروج والجلاء، فلم يبق من المسلمين طائل، ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده، ونشر بمحض الغدر بنوده .... الخ"(2).

وجاء فى رواية أخرى هذا الوصف لمأساة التنصير؛ "إن طاغية قشتالة وأرغون صدم غرناطة صدمة، وأكره على الكفر من بقى بها من الأمة، بعد أن هيض جناحهم، وركدت رياحهم، وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال، والطاغية يزدهى فى الكفر ويختال، ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه، وتطمس معالمه ورسومه؛ فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام، وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب فى الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة فى باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى

(1) أخبار العصر ص 54 و 55 و 56.

(2)

أزهار الرياض ج 1 ص 69، 70، 71

ص: 321

إذ ذاك على رؤوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصر إن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال، يطلبون لطف الله على كل حال".

وقد تردد صدى هذه المحنة التى نزلت بمسلمى الأندلس بسرعة سائر فى جنبات العالم الإسلامى، فنرى ابن إياس مؤرخ مصر، وهو راوية معاصر، يدون فى حوادث صفر سنة 906 هـ (أغسطس سنة 1500 م) أعنى عقب محنة التنصير بأشهر قلاقل ما يأتى:"وفيه جاءت الأخبار من المغرب بأن الفرنج قد استولوا على غرناطة التى هى دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا من دخل ديننا تركناه، ومن لم يدخل قتلناه، فدخل فى دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفاً على أنفسهم من القتل، ثم ثار عليهم المسلمون ثانياً وانتصفوا عليهم بعض شىء، واستمر الحرب ثائراً بينهم، والأمر لله تعالى فى ذلك"(1).

أما المسلمون الذين بقوا فى مملكة البرتغال، فقد كان مصيرهم فيما يبدو أفضل من مصير إخوانهم مسلمى الأندلس، فقد قضى العرش البرتغالى بإخراجهم من أراضى المملكة فى سنة 1496 م، والسماح لهم بالعبور إلى المغرب أو إلى حيث شاءوا، ونظراً لما لقوه من صعاب فى اختراق الأراضى الإسبانية، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان، تحقيقاً لرغبة ملك البرتغال، مرسوماً (فى ابريل سنة 1497) يصرح فيه للمسلمين البرتغاليين ونسائهم وأولادهم وخدمهم، أن يخترقوا أراضى مملكة قشتالة، وأن يذهبوا بأموالهم وأمتعتهم إلى البلاد الأخرى، وأن يبقوا فى أراضى قشتالة الوقت الذى يرغبون ثم يغادرونها بأموالهم متى شاءوا، وفقط لا يسمح لهم بحمل الذهب والفضة إلى الخارج، ويُؤمَّنون فى أنفسهم وأموالهم ضد كل اعتداء ولا يؤخذ منهم شىء بلا حق (2).

تلك هى المأساة التى استحالت فيها بقية الأمة الأندلسية بالتنصير المفروض، إلى طائفة جديدة، عرفت من ذلك التاريخ بالموريسكيين Moriscos، أو المسلمين الأصاغر أو العرب المتنصرين (3). وقد فرض التنصير على المسلمين فرضاً، ولم تحجم

(1) ابن إياس (بولاق) ج 2 ص 392.

(2)

Arch. gen. de Simancas، P. R. Leg. 28 Fol. 3

(3)

Moriscos هى تصغير كلمة Moros، ومعناها المسلمون أو العرب الأصاغر، رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال

ص: 322

السلطات الكنسية والمدنية، عن اتخاذ أشد وسائل العنف. ولم يستكن المسلمون إلى هذا العنف دون تذمر ودون مقاومة، وسرت إليهم أعراض الثورة ولاسيما فى المناطق الجبلية، حيث كان ما يزال ثمة قبس من الحماسة الدينية. وكانت السياسة الإسبانية تلتمس الوسيلة للتخلص نهائياً من العهود المقطوعة، فألفت فى التذمر والمقاومة سندها، وقرر مجلس الدولة بأن المسلمين أصبحوا خطراً على الدين والدولة، ولاسيما بعد ما تبين من جنوحهم إلى الثورة، ومحاولتهم الاتصال بإخوانهم فى المغرب ومصر وقسطنطينية، وقضى بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، ونفى المخالفين منهم من الأراضى الإسبانية. وهكذا حاول مجلس الدولة أن يسبغ صفة الحق والعدالة على التنصير المغصوب، وعلى كل ما يتخذ لتحقيقه من إجراءات العسف والإرهاق.

وقع هذا القرار على المسلمين وقع الصاعقة، وسرعان ما سرت إليهم الحمية القديمة، فأعلنوا الثورة فى معظم نواحى غرناطة، وفى ربض البيّازين وفى البشرّات واشتد الهياج بالأخص فى بلفيق، وفى أندرش حيث نسف حاكم البلدة مسجدها بالبارود، وفى نيخار وجوبخار وغيرها، واعتزم المسلمون الموت فى سبيل دينهم وحريتهم، ولكنهم كانوا عزلا، وكانت جنود النصرانية صارمة شديدة الوطأة فمزقتهم بلا رأفة؛ وكثر بينهم القتل، وسبيت نساؤهم، وقضى بالموت على مناطق بأسرها، ما عدا الأطفال الذين دون الحادية عشرة، فقد حولوا إلى نصارى.

وحمل التعلق بالوطن وخوف الفاقة وهموم الأسرة، كثيراً منهم على الإذعان والتسليم، فقبلوا التنصير المغصوب ملاذاً للنجاة؛ ولجأت الحكومة بعد إخماد الهياج فى غرناطة والبيازين إلى أساليب الرفق، فبعثت بالعمال والقسس فى مختلف الأنحاء، ولم يدخر هؤلاء وسعاً فى اجتذاب المسلمين بالوعيد والوعود، وهكذا ذاع التنصر فى سائر مملكة غرناطة القديمة (1).

وفى الوقت نفسه اضطر المسلمون المدجّنون فى آبلة وسمورة، وبلاد أخرى فى جلّيقية، إلى اعتناق النصرانية، وكانوا حتى ذلك الوقت يحتفظون بدينهم القديم.

ونشط فرناندو إلى إخماد الهياج حيث يقع. وفى الوقت الذى غدا فيه التنصير أمراً محتوماً، وأضحى فرناندو يعتبر نفسه فى حل من عهوده المقطوعة للمسلمين، تقدم إليه ديسا المحقق العام بوجوب إنشاء ديوان للتحقيق فى غرناطة، لكى يعاون على

(1) Marmol: ibid ، I. Cap. XXVII، وكذلك Prescott: ibid ; p. 462

ص: 323

مطاردة الزيغ بوسائله الفعالة. فألفت لجنة ملكية للتحقيق فى حوادث غرناطة، وقبض على كثير من المسلمين بتهمة التحريض، وهرع آلاف أخر منهم إلى اعتناق النصرانية خيفة السجن والمطاردة. وعارض فرناندو وإيسابيلا فى إنشاء ديوان التحقيق فى غرناطة ذاتها، واقترحا أن تحال شئونها إلى اختصاص ديوان التحقيق فى قرطبة، وألا يقدم المسلمون أو الموريسكيون إلى الديوان إلا لتهم خطيرة، ولكن الكنيسة لم تقنع باتخاذ الإجراءات الجزئية، ومضت تعمل لغايتها الشاملة. وكان فرناندو من جهة أخرى لا يزال يتوجس من المسلمين شراً، ويرى فى منطق الكنيسة قوة، وهو أن احتفاظ المسلمين بدينهم يقوى الروابط بينهم وبين إخوانهم فى إفريقية، وأن اسبانيا ما تزال تضم بين جوانحها عدواً يُخشى بأسه، وأن فى تنصير المسلمين أو إخراجهم من اسبانيا، سلام اسبانيا ونقاء دينها.

وكانت الكلمة للكنيسة دائماً، ففى 20 يوليه سنة 1501 أصدر فرناندو وإيسابيلا أمراً ملكياً خلاصته "أنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة" فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم، خوفاً من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين نُصِّروا لئلا يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال.

وحاول المسلمون فى يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصر، ويطلبون إليه أن ينذر ملك اسبانيا بأنه سوف ينكل بالنصارى المقيمين فى مملكته، إذا لم يكف عنهم، فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة، وأرسل إلى فرناندو يخطره بما تقدم؛ وانتهز فرناندو هذه الفرصة فأوفد إلى بلاط القاهرة (سنة 1501) سفارته التى تحدثنا عنها فيما تقدم والتى كان سفيره فيها بيترو مارتيرى الحبر الكاتب والمؤرخ. فأدى مارتيرى سفارته ببراعة، واستطاع أن يقنع السلطان بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم (1).

وهكذا خبت آمال المسلمين تباعاً، ولم تصمد الثورة إلا فى المنطقة الجبلية الواقعة بين آكام فليا لونجا وسيرّا فرمليا (الجبال الحمراء) بجوار رندة، حيث احتشدت بعض البطون المغربية، وحيث استطاع الثوار أن يقتحموا شعب الجبال، وأن يفتكوا بعمال الحكومة وجندها. وسير فرناندو إلى تلك المنطقة حملة قوية تحت

(1) راجع: Prescott: ibid ; p. 287؛ وكذلك Dr. Lea: The Moriscos، p. 36

ص: 324

أمرة قائده الشهير ألونسو دى آجيلار دوق قرطبة، ونفذ الجند الإسبان غلى شعب فليا لونجا، ووقعت الواقعة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، فهزم النصارى هزيمة فادحة وقتل منهم عدد جم، وكان قائدهم آجيلار وعدة آخرون من السادة الأكابر، فى مقدمة القتلى (مارس سنة 1501).

فكان لهذه النكبة التى نزلت بالجنود الإسبان وقوادهم، أعمق وقع فى البلاط الإسبانى. وهرع فرناندو إلى غرناطة، ورأى بالرغم مما كان يحدوه من عوامل السخط والانتقام، أن يجنح إلى اللين والمسالمة، فأعلن العفو عن الثوار بشرط أن يعتنقوا النصرانية فى ظرف ثلاثة أشهر، أو يغادروا اسبانيا تاركين أملاكهم للدولة، فآثر معظمهم النفى والجواز إلى إفريقية، وهاجرت منهم جموع كبيرة إلى فاس ووهران وبجاية وتونس وطرابلس وغيرها، وقدمت الحكومة الإسبانية السفن اللازمة لنقلهم مغتطبة لرحيلهم (1)، إذ كانوا أشد العناصر مراساً وأكثرها نزوعاً إلى الثورة.

واستقر الباقون وهم الكثرة الغالبة من المسلمين فى البلاد خاضعين مستسلمين، وقد وصفهم دى بدراثا، وهو مؤرخ من أحبار الكنيسة عاش قريباً من ذلك العصر يقوله: إنهم شعب ذو مبادىء أخلاقية متينة، أشراف فى معاملاتهم وتعاقدهم، ليس بينهم عاطل، وكلهم عامل، يعطفون أشد العطف على فقرائهم (2).

ولم يفت الرواية الإسلامية أن تشير إلى هذه الصفحة الأخيرة من جهاد المسلمين الباسل فى سبيل دينهم، فقد نقل إلينا المقرى عنها ما يأتى:

"وبالجملة فإنهم (أى أهل غرناطة) تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع قوم عن التنصر، واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرها، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبياً، إلا ما كان من جبل بلنقة (أى فليا لونجا)، فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر. ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصير من المسلمين، يعبد الله خفية ويصلى، فشدد عليهم النصارى فى البحث، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من

(1) Prescott: ibid ; p. 467

(2)

P. Longas (Cit. B. de Pedraza: Hist. Eclesiastica) : Vida Religiosa de los

Moriscos (p. LII)

ص: 325

حمل السكين الصغيرة، فضلا عن غيرها من الحديد، وقاموا فى بعض الجبال على النصارى مراراً، ولم يقبض الله تعالى لهم ناصراً (1).

ومضت السياسة الإسبانية فى اضطهادها المسلمين والموريسكيين بمختلف الفروض والوسائل. وكان من الإجراءات الشاذة التى اتخذت فى هذا السبيل، تشريع أصدره فرناندو بإلزام المسلمين والموريسكيين فى المدن، بالسكنى فى أحياء خاصة بهم، على نحو ما كان متبعاً نحو اليهود فى العصور الوسطى. ونفذ هذا التشريع فى غرناطة عقب حركة التنصير الشامل، وأفرد بها المسلمين والمتنصرين حيان، أحدهما يضم نحو خمسمائة منزل وهو الحىّ الصغير وهو داخل المدينة، والثانى يضم نحو خمسة آلاف منزل، ويشمل ضاحية البيازين. وكانت الأحياء التى يشغلها المسلمون أو المتنصرون فى المدن الأندلسية تسمى "موريريا" Moreria أو أحياء الموريسكيين، على نحو ما كانت أحياء اليهود الخاصة تسمى "الجيتو" Ghetto. وكانت تفصل بينها وبين أحياء النصارى أسوار كبيرة، وكان عدد المسلمين الذين بقوا فى غرناطة يبلغ فى ذلك الحين نحو أربعين ألفاً (2).

وصدر فى نفس الوقت فى سبتمبر سنة 1501، قانون يحرم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة، ثم بالموت بعد ذلك، وهو قانون تكرر صدوره بعد ذلك غير مرة، فى ظروف وعصور مختلفة، وكان يطبق بصرامة بالأخص كلما حدث من الموريسكيين هياج أو مقاومة مسلحة تخشى عواقبها.

وكانت السياسة الإسبانية تخشى احتشاد الموريسكيين وتجمعاتهم فى مملكة غرناطة، ولهذا صدر فى فبراير سنة 1515 مرسوم ملكى أعلن فى طليطلة، وفيه يحرم بتاتاً على المسلمين المتنصرين حديثاً، والمدجنين من أى جهة من مملكة قشتالة،

(1) نفح الطيب ج 2 ص 616 و 617. وراجع أخبار العصر ص 55.

(2)

Dr. Lea: The Moriscos; p. 31، 151 & 152. ويبدو هذا الالتزام بسكنى المسلمين فى أحياء خاصة فى غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية القديمة فى كثير من المراسم الملكية التى صدرت منذ سنة 1500. مثال ذلك المرسوم الصادر بالإعفاء لأهل بسطة، والذى أشرنا إليه من قبل Arch. gen. P. R. 11 - 107، والمرسوم الصادر بالعفو عن سكان " حىّ المسلمين " Moreria فى غرناطة الذى سبقت الإشارة إليه أيضاً (ص 320)

ص: 326

أن يخترقوا أراضى مملكة غرناطة، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة. ونص هذا المرسوم أيضاً بأنه يحرم بتاتاً على المتنصرين حديثاً فى مملكة غرناطة أو فى أية جهة أخرى من المملكة، أن يبيعوا أملاكهم لأى شخص دون ترخيص سابق، ومن فعل عوقب بالموت والمصادرة، وذلك لأنه تبين كما ورد فى المرسوم، أن كثيراً من المسلمين المتنصرين يبيعون أملاكهم، ويحصلون على أثمانها، ثم يعبرون إلى المغرب، وهنالك يعودون إلى الإسلام (1).

(1) Archivo general de Simancas، P. R. Legajo 8، Fol. 120

ص: 327