الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
الأندلس على شفا المنحدر
انحلال مملكة غرناطة. ابن الخطيب وشعوره بمصير الأندلس. تشاؤم ابن خلدون. مملكة غرناطة وعون بنى مرين. تربص اسبانيا النصرانية. ولاية السلطان أبى الحسن. أسرة بنيغش. استرداده لبعض الحصون. خروج أخيه أبى عبد الله الزغل عليه. عقد الصلح بينهما. اتحاد اسبانيا النصرانية. العلائق بين غرناطة وقشتالة. فرناندو يطالب بالجزية. أبو الحسن يغزو أرض النصارى. استيلاؤه على قلعة الصخرة. طغيانه وانحرافه. زوجه عائشة الحرة والخلاف حول اسمها. اقترانه بثريا النصرانية. الزواج المختلط وأثره فى انحلال المجتمع الأندلسى. التنافس بين الملكة الشرعية وثريا. اعتقال الأميرة عائشة وولديها. انقسام الزعماء والقادة. استئثار ثريا بالسلطة. سعيها لسحق أبى عبد الله ولد عائشة. فرار الأميرة عائشة وولديها. ظهور دعوتهم فى وادى آش. الحرب بين المسلمين والنصارى. مهاجمة النصارى لمدينة الحامة واستيلاؤهم عليها. فشل أبى الحسن فى إنقاذها. مهاجمة فرناندو لمدينة لوشة. إنجادها وهزيمة النصارى. الثورة فى غرناطة. فر ار أبى الحسن إلى مالقة. جلوس ولده أبى عبد الله على العرش. مسير النصارى إلى مالقة. هزيمتهم الفادحة. خروج أبى عبد الله إلى الغزو. هزيمة المسلمين عند حصن اللسانة. أسر النصارى لأبى عبد الله واقتياده إلى قرطبة. الاضطراب فى غرناطة. نزول أبى الحسن عن العرش لأخيه أبى عبد الله الزغل. السعى إلى افتداء أبى عبد الله. خطة ملكى قشتالة فى استغلاله. معاهدة سرية بين الملكين وأبى عبد الله. تسريح أبى عبد الله والخلاف حوله. ضعف أبى عبد الله. زحف النصارى على رندة واستيلاؤهم عليها. هزيمتهم أمام حصن موكلين. الحرب الأهلية فى غرناطة. ظهور أبى عبد الله فى المنطقة الشرقية. دعوته إلى الصلح مع النصارى. مهاجمة النصارى للوشه واستيلاؤهم عليها. ما يقال عن اشتراك أبى عبد الله فى الدفاع عنها. سقوط الحصون الإسلامية فى يد النصارى. الأنفاط التى استعملت فى حرب عبد الله وعمه الزغل. إمداد فرناندو لأبى عبد الله. مسير فرناندو إلى بلش مالقة. إسراع الزغل إلى إنجادها. سقوطها فى يد النصارى. تأييد غرناطة لأبى عبد الله. ارتداد الزغل إلى وادى آش. انقسام مملكة غرناطة.
- 1 -
وهكذا كانت شمس الأندلس تؤذن بالغروب، وكانت تغرب فى الواقع بخطى وئيدة، ولكن مؤكدة.
ولم يك ثمة شك فى أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، التى يسودها الخلاف والتفرق، وتعصف بوحدتها ومنعتها الحروب الداخلية، كانت تنتحر ببطىء، وأن هذه الأمة الأندلسية، التى أخذت تنكمش فى مدنها وثغورها القليلة، كانت
تنظر إلى المستقبل بعين التوجس والجزع، وأن هذه الحياة الباهرة الساطعة التى كانت تحياها بين آن وآخر، كلما تربع على العرش أمير قوى رفيع الخلال، لم تكن إلا سويعات النعماء الأخيرة، فى حياة أمة عظيمة تالدة. وقد كان هذا الشعور يخالج رجالات الأندلس منذ بعيد، حتى قبل أن تتفاقم الأمور، وتغدو مملكة غرناطة ألعوبة فى يد بلاط قشتالة، وكانوا يستشفون من وراء ذلك خطر الفناء المحقق، وكان ابن الخطيب وزير الأندلس ومفكرها الكبير، أشدهم شعوراً بذلك الخطر الداهم، وقد استشعر به قبل وقوعه بأكثر من قرن، فعكف يهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويستنفرهم إلى الجهاد. ومما يخاطبهم به قوله: "أيها الناس رحمكم الله، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدو قصمه الله ساحتهم، ورام الكفر خذله الله استباحتهم، وزحفت أحزاب الطواغيت عليهم، ومد الصليب ذراعه إليهم، وأيديكم بعزة الله أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تخفروه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. الجهاد االجهاد، فقد تعين، الجار الجار، قد قرر الشرع حقه وبيّن، الله الله فى الإسلام، الله الله فى أمة محمد عليه السلام، الله الله فى المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله فى وطن الجهاد فى سبيل الله، فقد استغاث الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله عند الشدائد. جددوا عوائد الخير يصل الله لكم جميع العوائد
…
أدركوا رمق الدين قبل أن يفوت، بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت
…
" (1).
ويشير ابن الخطيب فى إحدى رسائله إلى السلطان أبى سالم المرينى ملك المغرب إلى ما تعانيه الأندلس من المحن والأخطار، وينوه باتحاد الملوك النصارى على محاربتها والقضاء عليها فى قوله:"فاعلموا أننا فى هذه الأيام ندافع من العدو تياراً، ونكابر بحراً زخاراً، ونتوقع إلا أن وقى الله تعالى خطوباً كبارا، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصاراً، ونلجأ إليه اضطراراً، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر، استعداداً به واستطهاراً"(2).
(1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 411؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 64؛ وابن الخطيب يتوجه هنا بندائه إلى أهل العدوة وملوكهم من بنى مرين.
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 571.
ثم يقول فى رسالة أخرى، مشيراً إلى ما يهدد الأندلس من جراء ذلك من خطر الفناء المحقق:"وقد قرَّت يا مولاى عين العبد بما رأت فى هذا الوطن المراكشى، من وفور حشودكم، وكثرة جنودكم، وترادف أموالكم، وعددكم، زادكم الله من فضله. ولاشك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلِكم، وأعرضتم عن ذلك الوطن، استولت عليه يد عدوه"(1).
وإلى جانب رسائله المنثورة، كان ابن الخطيب، يوجه إلى المسلمين بالمغرب قصائد مؤثره فى الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس، وإليك نموذج من هذه القصائد:
إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا
…
فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفا
وإذ بلغ الماء الزبا فتداركوا
…
فقد بسط الدين الحنيف لكم كفَّا
تحكم فى سكان أندلس العدا
…
فلهفاً على الإسلام ما بينهم لهفا
وقد مزجت أفواهها بدمائها
…
فإن ظمئت لا رىَّ إلا الردى صرفا
أنوماً وإغفاءً على سنة الكرى
…
وما نام طرف فى حماها ولا أغفا
أحاط بنا الأعداء من كل جانب
…
فلا وزرا عنهم وحسدا ولا لهفا
ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا
…
أقام عليها الكفر يرشفها رشفا
ومنها:
وسيلتنا الإسلام وهو أخوة
…
من الملأ الأعلى تقربنا زلفا
أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى
…
وذلاًّ وقد عذنا بعز من استعفا
فهل ناصر مستبصر فى يقينه
…
يحير من استعدا ويكفى من استكفا
ومنتجز فينا من الله وعده
…
فلا نكث فى وعد الإله ولا خلفا
وهل بائع فينا من الله نفسه
…
فلا مشتر أولى من الله أو أوفى
أفى الله شك بعد ما وضح الهدى
…
وكيف لضوء الصبح فى الأفق أن يخفا
وكيف يعيث الكفر فينا ودوننا
…
قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا
غيوث نوال كلما سئلوا الندى
…
ليوث نزال كلما حضروا الزحفا
فقوموا برسم الحق فقد عفا
…
وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفا (2).
ويبدى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، تشاؤمه وتوجسه، من مصير
(1) نفح الطيب ج 3 ص 331، وأزهار الرياض ج 1 ص 66.
(2)
نقلنا هذه القصيدة من ديوان ابن الخطيب المخطوط المحفوظ بمكتبة جامع القرويين بفاس المسمى " الصيب والجهام، والماضى والكهام".
الأندلس فى أكثر من موطن، وهو الخبير بتقلبات الدول ومصايرها، وكان قد زار غرناطة وأقام بها مدى حين، ودرس أحوالها وشئونها (1).
وقد رأينا فيما تقدم كيف كانت مملكة غرناطة، جرياً منها على السياسة الأندلسية المأثورة منذ أيام المرابطين والموحدين، تتجه كلما لاح لها شبح الخطر الداهم من عدوها القوى، ببصرها إلى جارتها المسلمة القوية فيما وراء البحر، أعنى دولة بنى مرين. وكانت صولة الإسلام فى الضفة الأخرى من البحر، تروع اسبانيا النصرانية، وترد عدوانها عن الأندلس بين آونة وأخرى. ولكن صريخ بنى الأحمر إلى ملوك العدوة، لم يكن دائماً بعيداً عن التوجس والريب، ولم يستجب بنو مرين دائماً إلى صريخ الأندلس المحتضرة، وكانت لهم أحياناً مطامع ومشاريع فى الأندلس وقواعدها الجنوبية، تزهد فى غوثهم ونصرتهم. وكانت اسبانيا النصرانية كلما آنست تصرّم العلائق بين الدولتين الشقيقتين، انقضت على الأندلس فاقتطعت منها أرضاً جديدة. ولما أشرفت دولة بنى مرين على الانهيار، وشغلت عُدْوة المغرب بالفتن الداخلية، خبا أمل الأمة الأندلسية، فى تلقى الغوث والإمداد من تلك الناحية، واضطرت مملكة غرناطة أن تعتمد فى الذود عن حياتها، على قواها ومواردها المحدودة، وعلى ما يمكن أن تفيده من تطور الحوادث فى اسبانيا النصرانية. ولم تأت فاتحة النصف الأخير من القرن التاسع الهجرى (الخامس عشر الميلادى)، حتى غدت غرناطة وقد انتزعت معظم أطرافها من الغرب والجنوب، وأحاطت بها قوى النصرانية من كل صوب، تدبر عدتها الأخيرة للقضاء عليها.
- 2 -
لما توفى السلطان سعد بن محمد بن يوسف النصرى فى أواخر سنة 868 هـ (1463 م) كان ولده الأكبر علىّ أبو الحسن الملقب بالغالب بالله (2) متربعاً على عرش غرناطة قبل ذلك بأكثر من عام، وكان أبو الحسن يومئذ فتى فى نحو الثلاثين من عمره، لأنه ولد قبل سنة 840 هـ، حسبما يحدثنا الرحالة المصرى الذى سبقت الإشارة إليها (3). بيد أنه لم يستخلص الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه، وعلى رأسهم أخواه يوسف أبو الحجاج والسيد أبو عبد الله محمد
(1) راجع ابن خلدون ج 4 ص 178، وج 7 ص 379.
(2)
راجع نفح الطيب ج 2 ص 607.
(3)
راجع ما نقله الأستاذ دللافيدا فى مجلة ( Al-Andalus V. I. 1933 Fasc. -II) .
المعروف "بالزغل"، وقد توفى يوسف قبل بعيد، وبقى "الزغل" ليخوض حياة حافلة بالأحداث والمحن. وكان أبو الحسن أميراً وافر الشجاعة والعزم، ويعشق الحرب والجهاد، وكانت له أيام أبيه غزوات موفقة فى أرض النصارى. وما كاد يستقر فى عرشه، حتى أبدى همة فائقة فى تحصين المملكة، وتنظيم شئونها، وبث فيها روحاً جديدة من القوة والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التى استولى عليها النصارى. وتولى وزارته، وزير أبيه من قبل، القائد أبو القاسم بن رضوان بنّيغش (1). وكان هذا الوزير، مثل سلفه الحاجب رضوان النصرى، سليل أسرة نصرانية، وأسر جده فى بعض المعارك، ورُبى فى كنف الدار السلطانية، وتبوأت أسرته بين الأسر الغرناطية مكانة رفيعة، واشتركت فى كثير من حوادث غرناطة السياسية، وتولت الوزارة.
وفى أوائل حكمه خرج عليه أخوه أبو عبد الله "الزغل"(2) وكان يومئذ والياً لمالقة، وكان يضارعه فى الشجاعة والجرأة وحب النضال. ولجأ الزغل إلى عون ملك قشتالة هنرى الرابع يستنصره على أخيه، ولقيه فى محلته فى ظاهر أرشدونة، سنة 874 هـ (1469 م) فوعده بالعون والتأييد. وبادر السلطان أبو الحسن من جانبه بالإغارة على أراضى قشتالة (1470 م). ثم عاد فى العام التالى فغزاها مرة أخرى، وانتزع من النصارى بعض المواقع التى استولوا عليها. وشغل أبو الحسن فى الأعوام الثلاثة التالية بمحاربة أخيه أبى عبد الله الزغل، الثائر عليه. وكان النضال سجالا بينهما. وشغل أبو الحسن بذلك عن غزو أرض النصارى. وشغل القشتاليون أنفسهم بما نشب بينهم من الخلاف الداخلى، وذلك حتى وفاة ملكهم هنرى الرابع فى سنة 1474 م.
وفى تلك الأثناء خرجت مالقة عن طاعة أبى الحسن، حيث ثار بها القائد محمد الفرطوسى، وانضم إليه كثير من القواد والأجناد، فسار أبو الحسن إلى مالقة وحاصرها غير مرة، ولكنه لم يفلح فى إخماد الثورة، واستدعى القواد الثائرون أخاه أبا عبد الله محمد بن سعد (الزغل)، وكان يومئذ بقشتالة، وأعلنوه ملكاً عليهم، وانقسمت المملكة بذلك إلى شطرين متخاصمين (3).
(1) تشغل أسرة بنيغش - وهو تحريف لاسمها الإسبانى Los Venegas - فى التواريخ القشتالية حيزاً ملحوظاً. وقد عاد بعض أفرادها إلى النصرانية عقب سقوط غرناطة، وأحرزت أسرتهم فيما بعد مكانة كبيرة بين الأرستقراطية الإسبانية، ونبغ فيها عدد من القادة ورجال الدين.
(2)
الزغل وزغل أعنى الشجاع أو الباسل والمصدر "زغلة". وسنرى فيما بعد كيف ينطبق هذا المعنى على سيرة الزغل وصفاته أتم الانطباق. راجع دوزى Supp. aux Dict. arabes. V. II. p. 594
(3)
كتاب مرآة المحاسن لمؤلفه العربى الفاسى (طبع فاس 1324 هـ) ص 142.
صورة مرسوم صادر من سلطان غرناطة علىّ الغالب بالله (أبى الحسن) إلى رسول الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيسابيلا يقرر فيه قبول التحكيم فيما وقع من أعمال العدوان المتبادلة بين غرناطة وقشتالة، مؤرخ فى 12 شوال سنة 882 هـ (19 يناير 1478 م)، ومختوم بخاتمه الملكى، ومحفوظ بدار المحفوظات العامة ( Archivo general de Simancas، No. P. R. II.4)
ولما تفاقم النزاع بين أبى الحسن وأخيه أبى عبد الله، ولم يحسم بينهما السيف ووضحت لهما العواقب الخطيرة التى يمكن أن تترتب على هذه الحرب الأهلية، جنح الفريقان إلى الروية وآثرا الصلح والتهادن، فعقدت الهدنة بين الأخوين، على أن تحترم الحالة القائمة، فيبقى أبو عبد الله الزغل على استقلاله بمالقة وأحوازها، ويستقر أبو الحسن فى عرش غرناطة وما إليها، وعقدت فى نفس الوقت هدنة مؤقتة بين المسلمين والنصارى.
وفى هذه الآونة التى أخذت فيها عوامل التفرق تمزق أوصال المملكة الإسلامية الصغيرة، كانت اسبانيا النصرانية تخطو خطوتها الأخيرة نحو الاتحاد النهائى، وذلك باقتران فرناندو ولد خوان الثانى ملك أراجون بإيسابيلا أخت هنرى الرابع ملك قشتالة، ثم إعلانهما ملكين لقشتالة فى سنة 1479، وتبوىء فرناندو بعد ذلك عرش أراجون حسبما فصلنا. وهكذا اتحدت المملكتان الإسبانيتان القديمتان بعد أحقاب طويلة من الخلاف والحروب الأهلية، وأصبحت اسبانيا النصرانية قوة عظيمة موحدة، وكان تفرقها من قبل يتيح للأندلس فترات من السلام والأمن، ولكن الأندلس وقد صارت إلى ما صارت إليه من الانحلال والضعف، أضحت تواجه أعظم قوة واجهتها فى تاريخها.
وحاول السلطان أبو الحسن أن يجدد الهدنة مع القشتاليين، ليتفرغ لأعمال التحصين والإنشاء، وكان يلوح فى البداية أن العلائق بين الفريقين تسير نحو التفاهم والسلم. وهناك ما يدل فى الواقع على أنه كان يقوم يومئذ بين مملكة غرناطة، وبين قشتالة، صلح ثابت حسبما يؤيد ذلك اتفاق عقداه يومئذ على إجراء التحكيم فيما وقع من كل منهما على أراضى الآخر من ضروب العدوان التى ترتب عليها القتل والأسر والحرق، سواء فى البر أو البحر. وقد انتهت إلينا وثيقة تحتوى النصين العربى والقشتالى لهذا الاتفاق الذى عقد بين السلطان أبى الحسن وبين فرناندو وإيسابيلا ملكى قشتالة وأراجون، وهى مؤرخة فى شوال سنة 882 هـ (يناير سنة 1478 م)(1). وعلى هذا فقد أرسل السلطان أبو الحسن فى أوائل سنة 883 هـ (1478 م) إلى ملك قشتالة يطلب تجديد الهدنة القائمة بينهما. وكان فرناندو وإيسابيلا يقيمان يومئذ فى إشبيلية، فوافقا على ما طلبه أبو الحسن، ولكن
(1) Archivo general de Simancas ; P. R. 11-4، وفيها يوصف فرناندو وإيسابيلا بما يأتى:"السلطان المعظم الكبير الشهير الأصيل دون هرندة، والسلطانة الكبيرة الشهيرة دونيى قشبيل".
بشرط أن تعترف مملكة غرناطة بطاعتهما، وأن تؤدى إلى قشتالة نفس الجزية من المال والأسرى التى كان يؤديها السلاطين السالفون. وأرسلا بالفعل سفيراً إلى السلطان أبى الحسن، يطالبه بعهد الطاعة وتأدية الجزية، فرفض أبو الحسن طلب الملكين النصرانيين بإباء، وأنذر السفير القشتالى بأنه ليس لديه سوى الحرب والكفاح. ولم يمض سوى قليل حتى أغار القشتاليون على حصن بللنقة (فيلا لونجا) واستولوا عليه، وعاثوا فى أحواز رندة، ورد أبو الحسن على ذلك بإعلان الحرب على قشتالة، وزحف تواً على بلدة "الصخرة" Zahara وهى قاعدة حصينة تقع على حدود الأندلس الغربية فى شمال غربى مدينة رندة، وكان قد انتزعها القشتاليون منذ عهد قريب، فباغتها أبو الحسن، واستولى عليها عنوة، وقتل حاميتها، وسبى سكانها (ديسمبر سنة 1481 م). وبالرغم مما أحرزه أبو الحسن من الظفر فى تلك المعركة الأولى، وبالرغم مما بثه هذا الظفر فى طوائف الشعب من الغبطة والحماسة، فقد اعتبر بعض العقلاء تصرفه اعتداء لا مبرر له، وتوجسوا شراً من عواقبه، وتقول الرواية القشتالية إن فقيهاً زاهداً شيخاً عُرف بنبوءاته، كان بين الوفود التى ذهبت غداة هذا الانتصار إلى قصر الحمراء، وأنه صاح فى وجه السلطان قائلا:"ويل لنا. لقد دنت ساعتك يا غرناطة، ولسوف تسقط أنقاض الصخرة فوق رؤوسنا: وقد حلت نهاية دولة الإسلام بالأندلس"(1)، على أن هذا الظفر المؤقت كان له أعظم الأثر فى إحياء قوى الشعب المعنوية، ولاح لإسبانيا النصرانية يومئذ أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة من القوة. ولكن هذا البعث الخلب لم يطل أمده. ذلك لأن أبا الحسن لم يلبث أن ركن إلى الدعة، وأطلق العنان لأهوائه وملاذه، وبذر حوله بذور السخط والغضب، بما ارتكبه فى حق الأكابر والقادة من صنوف العسف والشدة، وما أساء إلى شئون الدولة والرعية، وما أثقل به كاهلهم من صنوف المغارم، وما أغرق فيه من ضروب اللهو والعبث، وكان وزيره أبو القاسم بنِّيغش يجاريه فى أهوائه وعسفه، ويتظاهر أمام الشعب بغير ذلك. وهكذا عادت عوامل الفساد والانحلال والتفرق الخالدة، تعمل عملها الهادم، وتحدث آثارها الخطرة (2).
…
(1) Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 202-206 وكذلك Condé;ibid ; V. III. p. 210&211
(2)
راجع كتاب " أخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر"(ص 3)، وهو الرواية الإسلامية =
وكان السلطان أبو الحسن قد اقترن بابنة عمه السلطان الأيسر (1). ولا تفصح الرواية الإسلامية لنا عن اسم تلك الأميرة، التى تمثل فى تاريخ المأساة الأندلسية مثولا قوياً، والتى تحيط الرواية شخصيتها بكثير من الأخبار والسير المشجية.
فلم يذكره صاحب أخبار العصر، ولم يذكره المقرى الذى نقل روايته، ولم تذكره الروايات القشتالية المعاصرة. ولكن مؤرخاً قشتالياً، كتب روايته بعد ذلك بنحو قرن، يذكر لنا أن اسمها عائشة. بل وأكثر من ذلك فهو ينقل إلينا صورة رسمية للمعاهدة السرية، التى أصدرها الملكان الكاثوليكيان عند تسليم غرناطة، لأبى عبد الله ولد السلطان أبى الحسن، والتى نتحدث عنها بعد، وفيها يذكر صراحة اسم "الملكة عائشة والدته" أى والدة أبى عبد الله (2). وقد جرت سائر التواريخ اللاحقة بعد ذلك، على تسميتها بهذا الاسم، ولكن بعض البحوث الحديثة تحاول على ضوء بعض الوثائق الغرناطية أن تقرر لنا أن تسمية هذه السلطانة باسم عائشة،
= الوحيدة التى انتهت إلينا عن حوادث سقوط غرناطة وما تلاها من تنصير المسلمين. وسيكون منذ الآن مرجعنا فى كثير من حوادث هذه الفترة. ويقع هذا الكتاب فى ست وخمسين صفحة فقط، وقد وضعه مؤلف مجهول لم يذكر اسمه، ولكنه يذكر فى نهايته أنه كتبه فى جمادى الآخرة سنة 947 هـ أعنى بعد سقوط غرناطة بخمسين عاماً، فروايته معاصرة تقريباً. ويدل وصفه للحوادث على أنه شهدها فتى بل وفى روايته ما يدل على أنه اشترك فى بعض الوقائع الحربية التى وقعت قبل سقوط غرناطة بين المسلمين والنصارى وأنه كان من أنجاد الفرسان (ص 17 طبعة ميللر). ولابد أيضاً أنه تلقى كثيراً من تفاصيل الحوادث، من أفواه الشيخة الذين شاهدوها. ويبدو أيضاً أن المؤلف من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها وأرغموا على التنصر، ولكنهم بقوا مسلمين فى سرائرهم، وأنه خشى أن يبوح باسمه لأنه يندب حظ الإسلام، ويندد بغدر النصارى وفظائعهم. وقد نشر المستشرق الألمانى م. ى. ميلر هذا الكتاب عن النسخة الخطية الوحيدة التى كانت محفوظة بالإسكوريال وضاعت فيما بعد (جوتنجن سنة 1863) مقرونة بترجمة ألمانية تحت عنوان "أيام غرناطة الأخيرة" Die leteten Zeiten von Granada.
ثم نشر معهد فرانكو بتطوان (بعناية الأستاذ ألفريد البستانى) طبعة جديدة من هذا الكتاب عن مخطوطة أخرى بها بعض زيادات عن نزوح الأندلسيين من الأندلس بعد التنصير بعنوان: "نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر " وقرنت هذه الطبعة بترجمة اسبانية بقلم المستشرق الأب كارلوس كيروس (العرايش سنة 1940).
(1)
أخبار العصر: ميللر ص 6 - وطبعة تطوان ص 5.
(2)
هو المؤرخ Luis del Marmol Carvajal فى كتابه عن ثورة الموريسكيين المسمى: Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada، (Lib. I; Capit.XII & XIX)
هى تسمية خاطئة، وأن اسمها الحقيقى هو فاطمة، وأنها لم تكن ابنة السلطان الأيسر وإنما كانت ابنة للسلطان الأحنف (1).
بيد أننا وقد درسنا نصوص هذه الوثائق الجديدة، لا نراها قاطعة فى تقرير اسم السلطانة المذكورة، ولا نرى من جهة أخرى، سبباً يحملنا على الشك فى رواية صاحب أخبار العصر، وهى أنها كانت ابنه للسلطان الأيسر. وصاحب هذه الرواية مسلم معاصر، كانت لديه سائر وسائل التحقيق والتثبت. وكذلك فإن المؤرخ القشتالى الذى يسميها بعائشة، قد عاش قريباً من ذلك العصر، واتصل بشيوخ الموريسكيين أو الأندلسيين المتنصرين بغرناطة، ومن المرجح المعقول أن يكون هؤلاء على علم بحقيقة إسم هذه السلطانة، التى عاصرها آباؤهم وكانت والدة لآخر ملوكهم. وهذا كله إلى الوثيقة التى يورد لنا هذا المؤرخ نصها، وفيها القول القطع بأن والدة أبى عبد الله كانت تسمى عائشة.
ومن ثم فإننا على ضوء ما تقدم، نميل إلى الاعتقاد بأن اسم عائشة هو الاسم الحقيقى، لزوجة السلطان أبى الحسن ووالدة أبى عبد الله.
وتحتل شخصية عائشة الحرة فى حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة. وليس ثمة فى تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن، قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التى تذكرنا خلالها البديعة، ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة، بما نقرأه فى أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف.
(1) نشر صديقى المستشرق الغرناطى الأستاذ Seco de Lucena فى مجلة الأندلس بحثاً عنوانه "السلطانة والدة أبى عبد الله" La Sultana Madre de Boabdil (Al-Andalus Vol XII، Fasc. II - 1947) أورد فيه نص وثيقتين عربيتين، الأولى عقد بيع ملكى مؤرخ فى سنة 852 هـ (1448 م). والثانية أيضاً عقد بيع مؤرخ فى سنة 897 هـ (1492 م)، ومنهما تتضح الوقائع الآتية: أن السلطان محمد الأحنف كان له فضلا عن ابنته الكبرى أم الفتح، ابنتان أخريان من زوجة أخرى هما عائشة وفاطمة، وأن إحداهن وهى فاطمة تزوجت من سلطان، وأن قرية الصخيرة التى ورثتها أم الفتح، انتقلت بعد ذلك إلى أختها السلطانة فاطمة، وأن هذه الأخيرة عاصرت تسليم غرناطة، وأنه فى 30 أكتوبر سنة 1492 م أعنى بعد سقوط غرناطة باعت السيدة فاطمة المذكورة، وتوصف فى الوثيقة المشار إليها "بالسيدة الحرة" قرية الصخيرة المذكورة إلى فارس نصرانى، بمبلغ ألفى وخمسمائة ريال من الفضة، وحرر العقد بالنيابة عنها وكيل شئونها المسمى القائد محمد بن مقاتل.
ويرى الأستاذ دى لوسينا أن هذا النص قاطع، فى أن السلطانة والدة أبى عبد الله، كانت تسمى "فاطمة" وليس عائشة، وأنها وفقاً لنسبها المُدوّن بالنص كانت ابنة للسلطان الأحنف.
والواقع أن حياة السلطانة "الحرة"، تبدو لنا خلال الحوادث والخطوب، كأنها صفحة من القصص المشجى، أكثر مما تبدو كصفحة من التاريخ الحق، وهذا اللون القصصى لا يرجع فقط إلى كونها أميرة أو امرأة، تشترك فى تدبير الملك، وتدبير الشئون والحوادث، ولكن يرجع بالأخص إلى شخصيتها القوية، وإلى سمو روحها ورفيع مثلها، وإلى جنانها الجرىء يواجه كل خطر، ويسمو فوق كل خطب ومصاب. والرواية القشتالية ذاتها -وهى تسميها عائشة حسبما قدمنا- لا تضن عليها بالتنويه والتقدير، وهى التى تسبغ على شخصيتها وحياتها كثيراً من هذا اللون القصصى المشجى.
كانت عائشة "الحرة" ملكة غرناطة فى ظل ملك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض. وقد رزقت من زوجها السلطان أبى الحسن بولدين هما: أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف. وكانت روح العزم والتفاؤل، التى سرت فى بداية هذا العهد إلى غرناطة، تذكى بقية من الأمل فى إنقاذ هذا الملك التالد. وكانت عائشة ترى من الطبيعى أن يؤول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع. ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن فى أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل فى أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحسن، تعرّفها الرواية الإسلامية باسم "ثريا" الرومية، وتقول الرواية الإسبانية إن ثريا هذه واسمها النصرانى إيسابيلا، وتعرفها الرواية أيضاً باسم "زريدة"، كانت ابنة عظيم من عظماء اسبانيا وهو القائد "سانشو خمنيس دى سوليس" وأنها أخذت أسيرة فى بعض المعارك، وهى صبية فتية، وألحقت وصيفة بقصر الحمراء فاعتنقت الإسلام، وتسمت باسم ثريا أو كوكب الصباح، فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التى عرفت عندئذ "بالحرة" تمييزاً لها من الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها (1). ويقول لنا المؤرخ المعاصر هرناندو دى بايثا، إن السلطان أبى الحسن
(1) راجع Irving: Conquest of Granada حيث يورد أقوال الرواية الإسبانية عن شخصية ثريا (الفصل التاسع). ويقول كوندى إن ثريا كانت ابنة حاكم مرتش النصرانى ( Condé; ibid، V. III. p. 242) . ولكن الرواية العربية تكتفى بالقول بأن ثريا كانت جارية رومية (المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 608، وأخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر طبعة ميللر ص 6) ويتفق برسكوت مع الرواية العربية فيقول إن ثريا كانت جارية يونانية، أى رومية. راجع History of Ferdinand and Isabella، p. 219
كان يقيم يومئذ مع زوجه الفتية الحسناء فى جناح الحمراء الكبير أو قصر قمارش، وذلك بينما كانت تقيم الحرة وأولادها فى جناح بهو السباع (1).
ولم يكن اقتران الأمير بفتاة نصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم فى قصور الأندلس. وقد ولد بعض خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات من النصارى، مثل عبد الرحمن الناصر وحفيده هشام المؤيد، وكذلك ولد بعض الأمراء من بنى نصر ملوك غرناطة من أمهات من النصارى مثل السلطان محمد بن اسماعيل النصرى (2). ولم يكن الزواج المختلط نادراً فى المجتمع الأندلسى الرفيع، ولاسيما منذ أيام الطوائف، وكان كثير من الأكابر والأشراف يتزوجون بفتيات من النصارى سواء كن من السبايا أم من الأحرار. ولم يكن العكس نادراً أيضاً. فمنذ توالى سقوط القواعد والثغور الأندلسية فى أيدى النصارى، كثر الزواج بين المدجنين وبين النصارى، وفقد المدجّنون بمضى الزمن دينهم ولغتهم، واندمجوا فى المجتمع النصرانى. ونرى بين زعماء شرقى الأندلس بعض أمراء يرجعون إلى أصل نصرانى، مثل محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ملك بلنسية ومرسية، وقد كان يتكلم القشتالية، ويلبس الثياب القشتالية، ويتقلد السلاح القشتالى، وكان معظم ضباطه وجنده من النصارى، وكان الإسبان يعرفونه بالملك "دون لوبى"(3).
ولم يكن ثمة ريب فى خطورة الآثار الاجتماعية، التى يحدثها مثل هذا ْالامتزاج الوثيق، وقد كانت فيما بعد من أهم العوامل التى أدت إلى انحلال المجتمع الإسلامى، وانحلال عصبية الدولة الإسلامية. كذلك لم يكن ثمة ريب فى أن هذه الآثار الهدامة، كانت أعمق وقعاً وأشد خطراً وقت الإنحلال العام.
وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذ وأثقلته السنون، وغدا أداة سهلة فى يد زوجه الفتية الحسناء. وكانت ثريا فضلا عن حسنها الرائع، فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية فى قصر غرناطة، واسئثارها بالسلطان والنفوذ فى هذه الظروف العصيبة، التى تجوزها المملكة الإسلامية،
(1) كتب هرناندو دى باينا Hernando de Baeza هذه الرواية المعاصرة بعنوان Las Cosas de Granada " شئون غرناطة"، ونشرها المستشرق ميللر مع كتاب أخبار العصر (ص 65).
(2)
الإحاطة ج 1 ص 546.
(3)
راجع الإحاطة ج 2 ص 82؛ وكتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الأول ص 366 وكذلك A. P. Ibars: Valencia Arabe و Dozy: Recherches (1881) V. I. p. 365 (Valencia 1901) p. 516.
عاملا جديداً فى إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا فى الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ. ذلك أنها أنجبت من الأمير أبى الحسن كخصيمتها عائشة ولدين، هما سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما. وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق فى الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولى العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك، على عقب الجارية النصرانية. ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبى الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش، أمنع أبراج الحمراء، وشدد فى الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة.
فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف فى المجتمع الغرناطى. وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين، فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته. واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبى الحسن وحظيته التى أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا فى طغيانها إلى أبعد حد، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبى عبد الله عثرة آمالها.
وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم إلى قدرها الجائر، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفى مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبنى سراج هذا الموقف قط. ويقال إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم فى إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبى الحسن قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة.
وفى ليلة من ليالى جمادى الثانية سنة 887 هـ (1482 م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين. والرواية
الإسلامية تشير إلى فرار الأميرين فقط دون أمهما (1). ولكن الرواية القشتالية تحدثنا عن فرارها مع ولديها. وتقدم إلينا عن هذا الفرار صوراً شائقة، فنقول إن بعض الخدم المخلصين، كان ينتظر مع الجياد على مقربة من الحمراء على ضفة النهر (نهر حدرُّه) مما يلى برج قمارش، وإن الأميرة استعانت بأغطية الفراش على الهبوط من نوافذ البرج الشاهق فى جوف الليل (2)، وأنها هبطت بعد أن أدلت ولديها، ثم اختفى الجميع تحت جنح الظلام.
وهكذا استطاعت هذه الأميرة الباسلة أن تفر من معتقلها فى إقدام وجرأة يخلقان بأبطال الرجال، واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وانضم إليهم كثير من أهل غرناطة، وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجرىء، تثير أيما عطف وإعجاب. وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمدق فى وادى آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيداً عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة.
- 3 -
وكان ملك قشتالة يرقب الحوادث فى مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام. فلما اضطرمت نار الحرب الأهلية بين المسلمين، ولاحت الفرصة للغزو سانحة، قرر بدء الحرب ضد غرناطة. وكان يضطرم سخطاً لاستيلاء المسلمين على قلعة الصخرة بالرغم من قيام الهدنة، وعجزه عن استرداد هذه القاعدة الهامة، فسيّر حملة قوية إلى الأندلس سارت منحرفة من جهة الغرب. ورأى القواد القشتاليون أن يبدأوا بمهاجمة ألحامَّة (الحمة) التى فى قلب الأندلس جنوب غربى غرناطة، وذلك لما بلغهم من ضعف وسائل الدفاع عنها، ولأن الاستيلاء عليها يمكنهم من تهديد غرناطة ومالقة معاً. وكانت ألحامة مدينة غنية، ولها شهرة قديمة بحماماتها الشهيرة التى كانت مجتمع ملوك غرناطة وأمرائها. ونجحت الخطة واستطاع النصارى مفاجأة ألحامة والاستيلاء على قلعتها تحت جنح الظلام، ثم استولوا على المدينة بالرغم من مقاومة أهلها الباسلة، وأمعنوا فى المسلمين قتلا وأسراً وسبياً (المحرم سنة 887 -
(1) أخبار العصر ص 12؛ ونفح الطيب ج 2 ص 609.
(2)
L. del Marmol: ibid; I. Cap. XII. وقد كتب روايته بعد هذه الحوادث بنحو
قرن حسبما قدمنا.
فبراير سنة 1482). وهرع السلطان أبو الحسن فى قواته لإنقاذ الحامة واستردادها وحاصرها بشدة، ولكنه لم يستطع اقتحامها، ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرتها حينما علم أن ملك قشتالة يتقدم لإنجادها فى جيش قوى ضخم (1). ولم تمض أشهر قلائل حتى زحف ملك قشتالة إلى ومدينة لَوْشة (2) الواقعة على نهر شنيل فى شمال غربى ألحامة وعلى مقربة منها وحاصرها، ودافعت عنها حاميتها أروع دفاع بقيادة قائدها الأمير الشيخ، على العطار، وكان رغم شيخوخته من أشجع وأبرع فرسان غرناطة فى ذلك العصر (3). وسار أبو الحسن فى قواته مسرعاً لإنجاد لوشة وانتهى الأمر بأن رُد النصارى بخسارة فادحة فى الرجال والعدد (جمادى الأولى 887 - يوليه 1482). وكان مما استولى عليه المسلمون من النصارى، بعض "الأنفاط" التى تستعمل لحصار المدن، والتى سنتحدث عنها فيما بعد (4).
وما كاد أبو الحسن يعود إلى عاصمة ملكه حتى تجهم الجو من حوله. وكانت سياسته الداخلية قد أثارت حوله كثيراً من السخط، بالرغم مما أحرز من نجاح، وسرعان ما نشبت الثورة فى غرناطة، وغلبت دعوة الأمير الفتى أبى عبد الله، ولم يستطع أبو الحسن وصحبه مواجهة العاصفة؛ ففر الملك الشيخ إلى مالقة، وكان بها أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد، المعروف "بالزغل" أى الشجاع الباسل، يدفع عنها جيشاً جراراً سيّره ملك قشتالة لافتتاحها. وجلس أبو عبد الله محمد (5) مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ). وأطاعته غرناطة ووادى آش، وأعمالها. وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه، وكان أبو عبد الله يومئذ فتى فى نحو الخامسة والعشرين (6).
…
(1) أخبار العصر ص 6 و 9؛ وكذلك: Prescott: ibid ; p. 206-210
(2)
هى بالإسبانية Loja وهى بلد الوزير ابن الخطيب.
(3)
تنوه الرواية القشتالية ببطولة هذا القائد المسلم وتعرِّفه باسم " Ailatar". راجع رواية Hernando de Baeza، السالفة الذكر، المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن كتاب أخبار العصر (ص 78).
(4)
أخبار العصر ص 11.
(5)
يعرف السلطان أبو عبد الله فى الرواية القشتالية والإفرنجية بوجه عام باسم Boabdil محرفاً عن "أبى عبد الله". وتورد الوثائق القشتالية الرسمية المتعلقة بسقوط غرناطة اسمه على النحو الآتى: Muley Baaudili-Baudili- Beaudili ويورد مارمول اسمه مصححاً: Abi Abdili، Abi Adbala، Abdilehi
(6)
يشير المؤرخ المصرى عبد الباسط بن خليل فى روايته التى سبقت الإشارة إليها إلى هذا =
وكان فرناندو الخامس عقب هزيمته أمام لَوْشه، قد سير جنده إلى مالقة لافتتاحها. وكانت مالقة أعظم الثغور الباقية بيد المسلمين. وكان النصارى يتوقون للاستيلاء عليها لإتمام تطويق الأندلس من الجنوب، ولكن المسلمين كانوا على أتم أهبة للدفاع عن هذا الثغر المنيع. واشتبك المسلمون والنصارى فى عدة مواقع دموية فى الهضاب الواقعة فيما بين مالقة وبلِّش ( Velez) ، فهزم النصارى فى كل مكان وردوا بخسائر فادحة، وخرج الأمير محمد بن سعد "الزغل" فى قواته من مالقة ولقى النصارى على مقربة منها، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة هزم فيها النصارى هزيمة ساحقة، وقتل وأسر منهم عدة آلاف بينهم كثير من الزعماء والأكابر (صفر 888 - مارس 1483)(1). وتعرف هذه الموقعة "بالشرقية" لوقوعها فى المنطقة المسماة بذلك فى شرقى مالقة. وكان منظم هذا الدفاع الباهر كله الأمير أبو عبد الله "الزغل". وكان لانتصار المسلمين أعظم وقع فى جنبات الأندلس؛ فانتعشت الآمال وسرت الحماسة فى كل مكان، وهبت على غرناطة ريح جديدة من الاستبشار والنصر.
واعتزم ملك غرناطة الفتى أبو عبد الله محمد، أن يحذو حذو عمه الباسل فى الجهاد والغزو، وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب الهزيمة، فخرج فى قواته فى شهر ربيع الأول سنة 888 (ابريل سنة 1483) متجهاً نحو قرطبة، شمال غربى غرناطة، واجتاح فى طريقه عدداً من الحصون والضياع، وهزم النصارى فى عدة معارك محلية. ثم ارتد مثقلا بالغنائم فى طريق العودة، فأدركه النصارى فى ظاهر قلعة اللّسانة ( Lucena)(2) وكان يزمع حصارها. ونشبت بين الجيشين معركة هائلة ارتد فيها المسلمون إلى ضفاف نهر شنيل، وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان بين الأسرى السلطان أبو عبد الله محمد نفسه (3)، عرفه الجند النصارى بين الأسرى أو عرّفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه، فأخذوه إلى قائدهم الكونت دى كابرا (قبره) فاستقبله بحفاوة وأدب، وأنزله بإحدى
= الانقلاب؛ ويندد بسلوك سلاطين غرناطة فى الوثوب بعضهم على بعض بقوله: "وهو غالب عادتهم بتلك البلاد مع الآباء والأولاد بل والأجداد ": ( Al-Andalus ; Vol. I. 1933 ; Fasc. 2)
(1)
أخبار العصر ص 13.
(2)
هى بلدة صغيرة حصينة تقع اليوم فى نطاق ولاية قرطبة، جنوب شرقى مدينة قرطبة.
(3)
أخبار العصر ص 14. ويشير عبد الباسط بن خليل المصرى فى حولياته إلى هذه الموقعة ويصفها، "بالكائنة العظمى، والداهية الطما".
الحصون الغربية تحت حراسة قوية. وأخطر فى الحال ملكى قشتالة بالنبأ السعيد، فأمر فرناندو أن يؤتى بالأسير الملكى إلى قرطبة، وأن يستقبل استقبال الأمراء؛ فأخذ أبو عبد الله وأصحابه إلى قرطبة فى حرس قوى، واحتشد أهل قرطبة لرؤية موكب الملك المسلم، وكان أبو عبد الله يرتدى ثوباً من القطيفة السوداء، ويمتطى حصاناً أسود عليه سرج ثمين، وكان وجهه يشع كآبة، وأخذ الملك الأسير أولا إلى دار الأسقف المواجه للمسجد الجامع، ثم أخذ بعد ذلك إلى أحد القلاع الحصينة، وعومل هناك بإكرام وحفاوة، وأقام فى أسره مكتئباً ينتظر يوم الخلاص.
وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، وقد مزقتهم الهزيمة وفتت فى عزائمهم، فارتاعت العاصمة لهذه النكبة واضطرب الشعب، وساد الوجوم قصر الحمراء، وسرى الحزن والأسى إلى حرم الأمير وقرابته، ولم يحتفظ فيها بهدوئه وسكينته سوى أمه الأميرة عائشة. واجتمع الكبراء والقادة وقرروا استدعاء أبى الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش مكان ولده الأسير. ولكن أبا الحسن كان قد هدمه الإعياء والمرض وفقد بصره، ولم يستطع أن يضطلع بأعباء الحكم طويلا، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبى عبد الله "الزغل" حاكم مالقة، وارتد إلى المنكَّب فأقام بها حيناً حتى توفى (890 هـ - 1485 م).
وجلس "الزغل" على العرش يدبر شئون المملكة، وينظم الدفاع عن أطرافها. أما السلطان أبو عبد الله محمد فلبث يرسف فى أسره عند النصارى. وأدرك ملكا قشتالة فى الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذا يدبران أفضل الوسائل للاستعانة به فى تحقيق مآربهما فى مملكة غرناطة، وبعد إمعان البحث والتدبير رؤى أن يُفرج عن الملك الأسير لقاء أفضل الشروط التى يمكن الحصول عليها، لأن هذا الإفراج من شأنه أن يزيد فى اضطرام الحرب الأهلية بين المسلمين، وأن يعاون بذلك فى إضعاف قواهم والتمهيد لسحقهم. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكى يحصل فى يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين. وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذى يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة، سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة، ليفاوض فى الإفراج عن الأسير
مقابل الشروط التى يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلى:
أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه الملكة إيسابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يفرج فى الحال عن أربعمائة، من أسرى النصارى الموجودين فى غرناطة، يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك فى كل عام، سبعين أسيراً لمدة خمسة أعوام، وأن يقدم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضماناً بحسن وفائه. وتعهد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما، بالإفراج عن أبى عبد الله فوراً، وألا يكلف فى حكمه بأى أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه فى افتتاح المدن الثائرة عليه فى مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين، من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير (1).
وتختلف الرواية فى تاريخ الإفراج عن أبى عبد الله، فتقول بعض الروايات المعاصرة، إنه أفرج عنه لأشهر قلائل من أسره، فى أوائل سبتمبر سنة 1483، ولكن هناك رواية أخرى، تقول بأن أبا عبد الله استمر فى الأسر أكثر من عامين، وأنه لم يفرج عنه إلا فى أواخر سنة 1485 أو أوائل سنة 1486 (2)، وهذه رواية يؤيدها صاحب أخبار العصر، إذ يقول لنا إن العدو أطلق سراح أبى عبد الله فى أوا خر سنة 890 هـ (1485 م)، عقب انتصار المسلمين على النصارى فى موقعة موكلين (3)، هذا فضلا عن أنه يذكر لنا أن أبا عبد الله، قد أسر مرة أخرى فى موقعة لوشة حسبما يجىء، وأنه لم يفرج عنه إلا فى أواخر سنة 891 هـ (1486 م)(4).
وعلى أى حال فقد أفرج عن أبى عبد الله، بعد أن أخذ عليه ملكا قشتالة سائر العهود والمواثيق، التى تكفل تحقيق سياستهما فى القضاء على مملكة غرناطة، وبعد أن أتى بالرهائن المشترط تسليمهم. وسار أبو عبد الله وصحبه الذين قدموا
(1) أورد العلامة المستشرق M. Gaspar y Remiro فى كتابه Documentos Arabes de Corte Nazari de Granada خلاصة وافية لنصوص هذه المعاهدة السرية بالاستناد إلى المؤرخين القشتاليين المعاصرين (ص 21 و 22).
(2)
Gaspar y Remiro ; ibid ; p. 27.
(3)
أخبار العصر ص 18.
(4)
أخبار العصر ص 21 و 22.
لمرافقته، ومعه سَريَّة من الجند القشتاليين، إلى بعض الحصون الشرقية النائية، التى قامت بدعوته (1).
ولم يك ثمة شك فى أن عقد هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة فى سبيل القضاء على مملكة غرناطة. وقد وضع فرناندو برنامجه المحكم لكى يستغل أسر ملك غرناطة، ويستعين به على تنفيذ برنامجه المدمر. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإرادة قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتع بشىء من تلك الخلال الباهرة التى امتاز بها أسلافه وأجداده العظام من بنى الأحمر. وكان الملك والحكم غايته يبتغيها بأى الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوى فى ذلك الأمير الضعيف الطموح، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه فى غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى. وسير ملك قشتالة فى نفس الوقت قواته فى أنحاء مملكة غرناطة، لكى تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه. من القواعد والحصون الإسلامية. وزحف القشتاليون على منطقة الغربية (غربى ولاية مالقة) فى أوائل سنة 890 هـ، واستولوا على حصن قرطبة، وحصن ذكوين وعدة حصون أخرى تقع شمال غربى مالقة، فى منتصف الطريق بينها وبين رندة، وبذلك عزلت مدينة رندة، وأصبح الطريق ممهداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليون على رندة وهى معقل الأندلس فى قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتى هدمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغرى زعيم قبيلة غمارة، ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلا لعدم استعدادها للدفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقى الأمداد السريعة، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم؛ واستولى القشتاليون على رندة فى جمادى الأولى سنة 890 هـ (ابريل سنة 1485 م). ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة فى تلك المنطقة. وكان سقوط هذه المدينة الأندلسية التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل وسيلة للدفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليون بذلك يهددون ثغر مالقة من الغرب (2). وحاول القشتاليون بعد ذلك مهاجمة حصن مُكْلين الواقع شمال غربى غرناطة، وكان به الأمير أبو عبد الله الزغل فى قوة من الغرناطيين ليصلح أسواره ويتم تحصينه
(1) أخبار العصر ص 18.
(2)
أخبار العصر ص 15.
صورة: أبو عبد الله محمد سلطان غرناطة (وآخر ملوك الأندلس) عن الصورة المحفوظة بمتحف Casa de los Tiros. ( دار الرماية) بغرناطة. والمظنون أنها الصورة التى رسمت له أثناء إقامته أسيراً فى قرطبة يدل على ذلك السلسلة الرمزية التى طوق بها عنقه.
ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان القشتاليون بقيادة الكونت دى قبره ْالظافر فى موقعة اللسَّانة، وكادت الدائرة تدور فى البداية على المسلمين، ولكنهم بذلوا جهد المستميت بقيادة أميرهم الباسل، وانتهت المعركة بأن رد النصارى بخسائر فادحة فى الرجال والعُدد (شعبان سنة 890 هـ - يوليه 1485 م)، وعاد الأمير وجنده إلى غرناطة فرحين مستبشرين (1).
ولكن كان من سوء الطالع، أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى نشبت فى غرناطة حرب أهلية جديدة. وكان الملكان الكاثوليكيان قد أطلقا سراح أبى عبد الله فى تلك الآونة بالذات، بعد أن وقع على معاهدة الخضوع والطاعة حسبما تقدم. والواقع أن الحرب الأهلية، كانت تضطرم فى الأندلس خلال أسر أبى عبد الله، وكان الزغل، بعد أن تربع على عرش غرناطة، يحاول استخلاص الأندلس كلها لنفسه. وكان الأمير يوسف أبو الحجاج شقيق أبى عبد الله، قد استقر فى ألمرية يحاول منازعة عمه الزغل. فسار الزغل إلى ألمرية، وثار بها أنصاره، وغلبوا على خصومهم، وفتحوا له أبواب المدينة، وقتل يوسف أثناء ذلك. ويقال إن قتله كان يوحى من أبيه أبى الحسن أو عمه الزغل. وما كاد الزغل يعود إلى غرناطة، حتى اضطرمت الفتنة من جديد. وكان أبو عبد الله حينما أطلق سراحه، قد سار إلى بعض الحصون الشرقية، فقامت بدعوته، ثم سار إلى منطقة بَلِّش (2) فى شرقى بسطة، وأعلن نفسه ملكاً، وأخذ يبث دعوته، ويشيد بمزايا الصلح المعقود مع ملكى قشتالة، وأنه يضمن للمسلمين الاستقرار والسلم، وأنه يطبق فى سائر الأنحاء التى تدخل فى طاعته.
وكان من الواضح أن اضطرام الفتنة فى غرناطة، فى هذا الوقت بالذات، لم يكن بعيداً عن وحى أبى عبد الله وحزبه، وقام أهل ربض البيّازين، وهو حىّ غرناطة الشعبى، الواقع فى شمالها الشرقى تجاه مدينة الحمراء، بدعوة أبى عبد الله. وكان أهل البيّازين دائماً، عنصراً من عناصر الإضطراب والشغب، وكان لهم دائماً ضلع بارز فى كل ثورة وفتنة (3)، وشغل ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل، بإخماد
(1) أخبار العصر ص 17.
(2)
المقصود هنا بمنطقة بلش بلدتا بلج أو بالاسبانية " بلش الحسناء " Vélez Rubio و " بلش
البيضاء " Vélez Blanco، وكلتاهما تقع على مقربة من الأخرى فى شمال شرقى مدينة بسطة.
(3)
أخبار العصر ص 18؛ ونفح الطيب ج 2 ص 611، وكذلك: Gaspar y Remiro ibid ; p. 23، 24 & 30. ويسمى ربض البيازين بالإسبانية Albaicin، وهو ما يزال قائماً فى موقعه القديم، ومحتفظاً بكثير من معالمه القديمة
هذه الفتنة الجديدة، عن مقاتلة النصارى. وبذلك تحقق الغرض الذى يرمى إليه ملكا قشتالة. وكان ذلك فى أوائل سنة 891 هـ (أوائل 1486 م). واشتدت الفتنة، ونصب الزغل على البيازين المجانيق والأنفاط، ودافع أهل البيازين عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وكان أبو عبد الله خلال ذلك يبعث رسله إليهم، ويعدهم بمقدمه.
وطالت هذه الفتنة أكثر من شهرين، ثم بدأت المفاوضة بين أبى عبد الله وبين عمه الزغل (ملك غرناطة) فى عقد الصلح، وارتضى أبو عبد الله أن ينزل عن دعواه فى العرش، وأن يدخل فى طاعة عمه (1). وفى رواية أخرى أنهما اتفقا على تقسيم المملكة إلى قسمين، فيختص الزغل بحكم غرناطة ومالقة وألمرية وبلش مالقة والمنكب، ويختص أبو عبد الله بحكم الأنحاء الشرقية (2).
وعلى أى حال فقد انتهز ملك قشتالة، فرصة هذه الفتنة، للزحف على مدينة لوشة. وهنا تتفق الروايات الإسلامية والقشتالية، على أن أبا عبد الله، حينما علم بتهديد النصارى للوشة، سار إليها وتحصن بها، مع نخبة من أنجاد الفرسان. وهاجم النصارى مدينة لوشة للمرة الثانية، وشددوا الحصار عليها، وسلطوا على أسوارها الأنفاط والعدد، وأبدى المسلمون بسالة فائقة، فى الدفاع عن مدينتهم.
وتقول الرواية القشتالية إن أبا عبد الله بذل فى هذا الدفاع مجهوداً عظيما، وإنه جرح أثناء ذلك (3). ولكنا لم نعثر على ما يؤيد ذلك فى الرواية الإسلامية. ويكتفى صاحب "أخبار العصر" بالقول بأن أبا عبد الله كان فى لوشة وقت حصارها (4) ويزيد المقرى على ذلك بأن أهل غرناطة أذاعوا بأن أبا عبد الله ما جاء إلى لوشة إلا ليسلمها لملك قشتالة، ويجعلها فداء له (5).
وعلى أى حال فإن بسالة المسلمين، فى الدفاع عن لوشة، لم تغن شيئاً أمام القوة القاهرة، وفتك الأنفاط والعدد الثقيلة، فاضطروا إلى التسليم، وذلك بالشروط الآتية:
(1) أخبار العصر ص 19.
(2)
Gaspar y Remiro ; ibid، p. 24
(3)
Gaspar y Remiro: ibid، p. 32: Irving: Conquest of Granada Ch. XXXIV ; Lafuente Alcantra: ibid، V. II. p. 280
(4)
أخبار العصر ص 19.
(5)
نفح الطيب ج 2 ص 611
أن يؤمن أهل لوشة الذين يرغبون مغادرتها فى أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، وأن يسمح لمن شاء منهم، أن يعيش فى قشتالة أو أراجون أو بلنسية بذلك (1)، وأن تسلم المدينة إلى ملك قشتالة مع سائر الأسرى النصارى. ودخل القشتاليون لوشة، فى 26 جمادى الأولى سنة 891 هـ (مايو سنة 1486)، وسار معظم أهلها إلى غرناطة، بأمتعتهم وخيلهم وسلاحهم.
وأما فيما يتعلق بأبى عبد الله، فتقول لنا الرواية القشتالية، إن موقفه فى الدفاع عن لوشة، اعتبر منافياً لتعهداته للملكين الكاثوليكيين، ونكراناً لحسن الصنيعة، ومع ذلك فقد ارتضيا الصفح عنه، وأن يسمح له بالاحتفاظ بلقب ملك غرناطة، وأن يمنح لقب "صاحب وادى آش" إذا استطاع أن يستولى عليها؛ وإذا أراد أن يلتجىء إلى قشتالة، فإنه يسمح له أن يعيش هنالك آمناً على نفسه، وإن شاء العبور إلى المغرب، أمده ملك قشتالة بوسائل الانتقال (2).
على أننا نرى على ضوء الرواية الإسلامية، أن موقف أبى عبد الله من حوادث لوشة، كان موقفاً مريبا. والواقع أنه كان يبذل جل جهده للدعوة إلى قضيته، وإلى مقاومة عمه ونزعه عن العرش. وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه. ولم يكن خافياً أنه يستظل بمظاهرة النصارى وتأييدهم، وأنه غدا آلة فى يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه.
ولما غادر ملك قشتالة مدينة لوشة أخذ معه أبى عبد الله إما أسيراً، حسبما يقول صاحب أخبار العصر، أو أنه سار معه ليستمد عونه فى تنفيذ خطته للاستيلاء على عرش غرناطة، وهى خطة يؤيدها ملك قشتالة ويشجعها، لأنها تخدم أغراضه ومطامعه فى القضاء على تلك المملكة الصغيرة التى مزقتها الحرب الأهلية.
ولم يغفل فرناندو تلك الفرصة الذهبية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أراضى مملكة غرناطة. فبينما الحرب الأهلية تضطرم فى العاصمة وحولها، إذ سار النصارى إلى حصن أليورة الواقع شمال غربى غرناطة وحاصروه وضربوه "بالأنفاط" حتى اضطروا أهله إلى التسليم والخروج عنه؛ ثم ساروا إلى حصن مكلين الواقع شمال شرقى إليورة وهاجموه ونشبت بينهم وبين المدافعين عنه معركة عنيفة انتهت
(1) ان اختيار أراجون وبلنسية بالذات لإيواء المسلمين المهاجرين من القواعد المفتوحة، يرجع إلى أنه كان يوجد عندئذ فى أراجون وفى بلنسية بالأخص مجتمع كبير من المدجنين، أو المسلمين القدماء الذين بقوا تحت حكم الاسبان.
(2)
Gaspar y Remiro: ibid، p. 32
بتحطيم أسواره بفعل "الأنفاط" واستيلائهم عليه، وخروج أهله عنه إلى غرناطة (1) ثم استولى النصارى بعد ذلك على حصن قلنبيرة الواقع شرقى مكلين بالأمان (2)، إذ رأى أهله ما نزل بغيرهم ففضلوا التسليم دون قتال، واستولوا بعده على سلسلة أخرى من القلاع والحصون التى تحمى مشارف غرناطة، وأصلحوها وشحنوها بالرجال والمؤن، لتؤدى دورها فيما بعد من التضييق على العاصمة وتهديدها (3).
وهنا نقف قليلا لنتساءل عن حقيقة هذه "الأنفاط" التى توالى ذكرها فى سير هذه المعارك، التى اضطرمت بالأخص فى لوشة وفى رندة وفى الحصون المجاورة، والتى كانت فيما يبدو عمدة النصارى فى التفوق على المسلمين، فى تحطيم هذه الحصون القوية. ولقد أشارت الرواية الإسلامية عن سقوط غرناطة، وهى رواية صاحب "أخبار العصر" وهى التى كتبها بعد وقوع هذه الأحداث بنحو نصف قرن فقط وكان شاهداً لها ومشتركاً فيها، إلى تلك "الأنفاط" فى عدة مواضع ثم وصفها لنا فيما يأتى:
"وكان له (أى لملك قشتالة) أنفاط يرمى بها صخور من نار، فتصعد فى الهواء، وتنزل على الموضع، وهى تشتعل ناراً، فتهلك كل من نزلت عليه وتحرقه، فكان تلك من جملة ما كان يخذل فى أهل المواضع التى كان ينزل بها"(4).
ونحن نعرف أن مسلمى المشرق كانوا منذ أيام الحروب الصليبية، يحذقون استعمال الرمى بالنار والأنفاط، وأن هذه النار كانت ترمى من آلات قاذفة تعرف بالحراقات، على حصون العدو ومعسكراته وسفنه فى البحر فتفتك بها. وقد لعبت هذه النار دوراً هاماً فى الحروب الصليبية، وألفت فيها مصر سلاحاً منيعاً لرد عدوان الصليبيين وتمزيق حملاتهم. والظاهر أن هذا السلاح الذى استأثر به المسلمون مدى حين فى المشرق، قد عرفه مسلمو إفريقية والأندلس منذ منتصف القرن السابع الهجرى، واستعملوه فى محاربة أعدائهم نصارى اسبانيا. ففى حصار لبلة (655 هـ - 1257 م) استعمل الموحدون من فوق الأسوار لدفع جيوش ألفونسو العاشر ملك
(1) ما تزال أنقاض هذا الحصن قائمة فى مكانها. وقد زرناه وشاهدنا أثر الأنفاط فى هدم بعض أبراجه وأسواره.
(2)
حصن إليوره أو بلدة إليوره هى بالإسبانية Illora؛ وموكلين أو مكلين هى بالإسبانية
Moclin؛ وقلنبيرة هى Colomera، وهى اليوم من بلاد منطقة غرناطة الشمالية الغربية.
(3)
أخبار العصر ص 22.
(4)
أخبار العصر ص 22
قشتالة، آلات تقذف حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوى كالرعد (1). وقد كان استعمال هذه النار أو الأنفاط الفتاكة يتطور بلا ريب مع العصور. ومنذ منتصف القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) نرى مسلمى الأندلس يستعملون لمقاتلة النصارى آلات تقذف اللهب والحجارة، ويصحبها دوىّ مخيف (2).
وظهرت براعة الأندلسيين فى استعمال هذه الآلات فى عدة مواقع. ففى حصار بياسة فى سنة 724 هـ (1324 م) فى عهد السلطان أبى الوليد اسماعيل، أطلق المسلمون على المدينة الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع، واستعملت مثل هذه الآلات فى موقعة وادى لكه (ريو سليتو) سنة 1340 م (740 هـ)، وفى الدفاع عن الجزيرة سنة 1342 م (742 هـ) وذلك فى عصر السلطان أبى الحجاج يوسف. والظاهر من وصف هذه الآلات أنها كانت نوعاً من المدافع الساذجة التى تُحشى بالحديد والحجارة وبعض المواد الملتهبة، التى كانت فيما مضى عماد الحراقات أو الأنفاط الشرقية. وليس بعيداً أن يكون مسلمو الأندلس قد وقفوا فى هذا العصر أيضاً إلى العثور على سرّ البارود، قبل أن يقف على سره القس الألمانى برتولد شفارتز فى منتصف القرن الرابع عشر (3). ومن المرجح أن النصارى الإسبان قد نقلوا سر الأنفاط عن مسلمى الأندلس، وحذقوا فى استعمالها مع الزمن. ولما غلب الضعف على مملكة غرناطة تضاءلت أهباتها الدفاعية، ونقصت مواردها من السلاح والذخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت معظم قواعدها الصناعية.
بيد أنه من المحقق أن المسلمين كانوا يستعملون الأنفاط أيضاً فى محاربة أعدائهم وإن يك ذلك، نسبة صغيرة تتفق مع ضآلة مواردهم. أما القشتاليون فقد كانت لديهم "الأنفاط" بكثرة، وكانت السلاح المفضل فى مهاجمة القواعد والحصون الإسلامية. وهنالك أيضا ما يدل على أن هذه الأنفاط التى كان يستعملها القشتاليون لم تكن سوى المدفع فى صورته البدائية، فالرواية الغربية تحدثنا عن اهتمام ملك قشتالة بصنع "المدافع" لمحاربة المسلمين، وتقول لنا إن هذه المدافع كانت
(1) راجع كتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الثانى ص 497.
(2)
راجع كتابى "مواقف حاسمة فى تاريخ الإسلام" الطبعة الرابعة ص 128 و 129.
(3)
ولدينا رواية موريسكية هى رواية ابن غانم الموريسكى الأندلسى مؤلف كتاب "العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع"، الذى سوف يأتى ذكره فى موضعه: وهو يقول لنا إن اختراع البارود وقع فى سنة 768 هـ (1366 م)، ومن الواضح أن هذا التاريخ المتأخر لا يتفق مع ما قدمناه من شواهد وحوادث تاريخية تدل على أن البارود قد اخترع قبل ذلك بنحو نصف قرن
تصنع فى مدينة وشقه، وإن كميات عظيمة من القنابل الخاصة بها كانت تصنع فى "جبال قسنطينة"(1). وتحدثنا الرواية الإسلامية المعاصرة عن "البارود" وتقول لنا إن النصارى حينما نشبت الثورة فى ربض البيازين، أمدوا فريقاً من الثوار "بالرجال والأنفاط والبارود"(2) إذكاء منهم للفتنة بين المسلمين. وهكذا نرى أن الأنفاط التى تنوه الرواية الإسلامية بفتكها بحصون المسلمين وصفوفهم فى معارك غرناطة، إنما هى المدافع بذاتها، وأن تفوّق القشتاليين فى استعمال هذا السلاح، كان له أعظم الأثر فى التعجيل بإخضاع مملكة غرناطة والقضاء عليها.
…
ولنعد إلى قصة الحرب الأهلية فى غرناطة. فقد أثار أهل البيازين كما قدمنا بتحريض من دعاة أبى عبد الله وأمه الأميرة عائشة. والتف معظم الشعب الغرناطى حول أميره أبى عبد الله الزغل، واستمرت المعارك سجالا بين الفريقين مدى أشهر. وفى أثناء ذلك استولى النصارى على لوشة وعلى كثير من الحصون الشمالية الغربية. وسار أبو عبد الله بعد سقوط لوشة مع ملك قشتالة، ولم يمض سوى قليل حتى عاد إلى الأنحاء الشرقية، إلى منطقة بلش، وأخذ يدبر خططه. وفى أوائل شوال سنة 891 هـ (سبتمبر 1486) غادر أبو عبد الله محمد الأنحاء الشرقية، وظهر فجأة فى ربض البيازين، واجتمع حوله أنصاره من الثوار، وأذاع أنه عقد الصلح مع النصارى، وأمده فرناندو حليفه بالرجال والعدد والذخائر والمؤن ومنها الأنفاط (3)، فزادت الفتنة اضطراماً. وشدد أبو عبد الله الزغل الضغط على أهل البيازين، وبينما هو على وشك تمزيقهم وإبادتهم، إذ بلغه أن ملك قشتالة قد سير قواته إلى مدينة بلش مالقة Vélez Malaga، وذلك فى ربيع الثانى سنة 892 هـ (مارس 1487)(4).
وكان طبيعياً أن ينتهز فرناندو الخامس فرصة اشتغال المسلمين بفتنتهم القاضية. وكانت بَلِّش حصن مالقة، وسقوطها يعرض مالقة لأشد الأخطار. وأدرك مولاى الزغل فى الحال أهمية بلش فهرع إليها فى بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبى عبد الله وأهل البيازين. ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل
(1) Sierra Constantina راجع: Prescott ; ibid; p. 223
(2)
راجع أخبار العصر ص 24.
(3)
Gaspar y Remiro: ibid ; p. 42
(4)
أخبار العصر ص 22 - 24؛ ونفح الطيب ج 2 ص 612
بلش فى الدفاع عن مدينتهم لم تغن شيئاً، وسقطت بلش مالقة فى يد النصارى فى جمادى الأولى سنة 892 هـ (ابريل سنة 1487) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة. ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبى عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (5 جمادى الأولى - 28 أبريل). وكان أهل غرناطة يحبون الزغل، ويقدرون بطولته ووطنيته، واستبساله فى مقاومة النصارى، ولكنهم تحولوا عنه إلى تأييد أبى عبد الله لمحالفته للنصارى، وأملهم بذلك في اتقاء عدوانهم على أرباضهم وقراهم، وصون أنفسهم ومصالحهم. وهكذا أيقن الزغل عبث المحاولة، وارتد بصحبه إلى وادى آش، وامتنع فيها بقواته، وبذلك انقسمت مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين يتربص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها ويحكمها أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبى الحسن، ووادى آش وأعمالها ويحكمها عمه الأمير محمد بن سعد (أبو عبد الله الزغل). وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة، من تمزيق البقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيداً للقضاء عليها