المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثالصراع الأخير - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

‌الفصل الثالث

الصراع الأخير

تجديد الصلح بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله. مطالبة الملكين بتسليم غرناطة. ثورة أبى عبد الله. الحماسة فى غرناطة. غزو فرناندو لبسائط غرناطة. رد المسلمين للنصارى. خروج أبى عبد الله للغزو. المعارك بين المسلمين والنصارى. محاولة أبى عبد الله استرداد المنكب. حوادث وادى آش. فرناندو يعلن الأمان. هجرة المسلمين من القواعد الذاهبة. تأهب فرناندو لافتتاح غرناطة. زحفه عليها. عيث النصارى فى المروج. محاصرة النصارى لغرناطة. فرناندو ينشىء أمامها مدينة شنتفى. موقف غرناطة وأحوالها. بسالتها فى الدفاع. موسى بن أبى الغسان فارس غرناطة. يثير حماسة الشعب. يقود الفرسان ويزعج النصارى. تنظيم الدفاع داخل المدينة. اشتداد الحصار وانقطاع الأمداد. تقرير حاكم المدينة. تصميم موسى على الدفاع. فرناندو يزحف على المدينة. خروج المسلمين للقائه. هزيمة المسلمين وارتدادهم. أهوال الحصار. اجتماع السلطان والقادة. تقرير التسليم. اعتراض موسى. ندب الوزير أبى القاسم عبد الملك للمفاوضة. رواية عن التسليم. وثيقة تؤيد هذه الرواية. موقف أبى عبد الله والقادة. مفاوضات التسليم. شروط التسليم وضماناته. معاهدة سرية بضمان حقوق أبى عبد الله وتقرير مصيره. حلف الملكين باحترام الشروط. توقيع وثيقة التسليم. ارتياب موسى ونذيره. إذعان أبى عبد الله والجماعة. أقوال موسى ونبوءته. مغادرته لغرناطة. مصيره الغامض. الحزن واليأس فى غرناطة. التعجيل بإجراءات التسليم. إرسال الرهائن إلى فرناندو. دخول القشتاليين غرناطة. يرفعون الصليب فوق الحمراء. رواية عربية معاصرة عن دخول فرناندو غرناطة. أهبة أبى عبد الله لمغادرة عاصمة ملكه. المناظر المؤسية والركب الباكى. قصيدة شوقى فى وصفها. اللقاء بين أبى عبد الله وفرناندو. "زفرة العربى الأخيرة". رثاء الأندلس.

لم يبق على ملكى قشتالة وأراجون، فرناندو وإيسابيلا، بعد أن دانت لهما سائر الثغور والقواعد الأندلسية الجنوبية والشرقية، لإتمام خطتهما فى القضاء على دولة الإسلام بالأندلس، سوى الاستيلاء على غرناطة آخر القواعد الباقية بيد المسلمين؛ ولم تكن غرناطة يومئذ مملكة أو دولة، بل كانت رمزا فقط للمملكة الإسلامية الذاهبة، وكانت واسطة عقد تصرمت سائر حياته، وكانت كالمصباح المرتجف يخبو ضوؤه سراعاً، فلم يكن يقتضى إطفاؤه سوى الضربة الأخيرة.

وقد رأى فرناندو وإيسابيلا أن الوقت قد حان لتسديد هذه الضربة، عقب استسلام مولاى الزغل وسقوط وادى آش وبسطة وألمرية. ونحن نعرف أنه على أثر سقوط مدينة لَوْشة فى يد النصارى فى شهر مايو سنة 1486، وحصول

ص: 229

أبى عبد الله فى أيدى الملكين الكاثوليكيين للمرة الثانية، عقد أبو عبد الله معهما معاهدة صلح جديدة لمدة عامين، تطبق فى غرناطة والبلاد التى تدخل فى طاعة أبى عبد الله. وفى ظل هذا الصلح المسموم دخل أبو عبد الله غرناطة، واسترد العرش ومن ورائه تأييد فرناندو وعونه. ومن الواضح أن فرناندو قد اقتضى فى نصوص هذا الصلح، ثمن هذا التأييد والعون. والظاهر أن هذا الصلح قد تجدد لمدة عامين آخرين، حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبى عبد الله نفسه فى المحرم سنة 895 هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهى عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه ينوه أبو عبد الله بهذا "الصلح السعيد" المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه، وينعى على معارضيه مواقفهم، التى انتهت بسقوط بسطة "التى أفجعت المسلمين وفلت غرب الدين"(1).

وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله، قد تعهد فى هذا الصلح، بأن يسلم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تم تسليم بسطة وألمرية ووادى آش (2). وعلى أى حال ففى فاتحة سنة 1490 م (أوائل صفر 895 هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبى عبد الله، سفارة على يد فارسين، هما كونثالو فرنانديث قائد حصن إليورة، ومرتين ألاركون قائد حصن موكلين، ليخاطباه فى موضوع التسليم (3). وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة، إن ملك قشتالة لم يطلب تسليم غرناطة ذاتها، ولكنه اكتفى بأن طلب إلى أبى عبد الله تسليم مدينة الحمراء أو قصور الحمراء مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيما فى غرناطة، فى طاعته وتحت حمايته، أسوة بما فعلته سائر نواحى الأندلس (4)، أو أن يقطعه أية مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمده بمال جزيل (5).

(1) نشر هذه الوثيقة الأستاذ جسبار ريميرو فى كتابه الذى سبقت الإشارة إليه Documentos Arabes de la Corte Nazari de Granada وقد استخرجها مع وثائق أخرى صادرة عن أبى عبد الله من مجموعة فرناندو دى ثافرا سكرتير الملكين الكاثوليكيين.

(2)

Prescott: Ferdinand and Isabella، p. 284

(3)

راجع رواية Hernando de Baeza القشتالية المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن

أخبار العصر (ص 92).

(4)

أخبار العصر ص 33.

(5)

نفح الطيب ج 2 ص 614

ص: 230

فماذا كان جواب أبى عبد الله؟ لقد كان فى سابق مواقفه، وممالأته لملك قشتالة، ومحالفته إياه ودخوله فى طاعته، وما يدين له به من تغلبه على عمه ومنافسه الزغل، وجلوسه على العرش، ما يحمل الملكين الكاثوليكيين، على توقع استسلامه وخضوعه. ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان. ولدينا وثيقة توضح لنا موقف أبى عبد الله فى هذه المناسبة، هى عبارة عن خطاب صادر منه إلى الملكين الكاثوليكيين، يشير فيه إلى قدوم "القائد غنضال والقائد مرتين" بكتبهما إليه، وأنه يرسل إليهما خديمه، القائد أبا القاسم المليح، ليحدثهما فى هذا الموضوع.

وبالرغم من اللهجة المهذبة، المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة، التى اختتمت بها الرسالة، فقد كان جواب أبى عبد الله للملكين الكاثوليكيين، رفضا لما طلباه. وتاريخ هذه الرسالة هو 29 صفر سنة 895 هـ (22 يناير سنة 1490)(1). والظاهر أن رسول أبى عبد الله لم ينجح فى مهمته، وعاد إلى مليكه يخبره بإصرار الملكين الكاثوليكيين على طلبهما. وهنا تقول الرواية القشتالية، إن أبا عبد الله اشتدت دهشته، لإصرار الملكين الكاثوليكيين، واعتزم أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. وعلى ذلك فقد أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كُماشه، ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى، يدعى ابراهيم القيسى، إلى الملكين الكاثوليكيين فى إشبيلية، لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين. وعلى ذلك فقد استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى (2).

وهنا نقف قليلا لنتأمل هذا الموقف الجديد، من جانب أبى عبد الله. أجل كانت الخطوب والمحن التى جازتها الأندلس فى هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبى عبد الله رجلا آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوى، ولكنه فقد فى الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه فى الدفاع والمقاومة؛ وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة، وعين لها حكام من النصارى، وتدجن من بقى من أهلها أو غدوا مدجَّنين Mudéjares يدينون بطاعة ملك النصارى.

(1) نشرت هذه الرسالة ضمن المجموعة التى نشرها الأستاذ جسبار ريميرو فى كتابه السالف الذكر.

(2)

راجع رواية Hernando de Baeza المنشورة فى أخبار العصر (ص 93)

ص: 231

وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصاً على أوطانهم ومصالحهم أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيراً منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم، جازوا البحر إلى المغرب، وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقى، حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضم بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس. وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التى أوذيت الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجنى ذنباً أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغى أو مهادنته، تلقى استنكاراً عاماً. ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكى قشتالة فى طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجنى، وأدرك وربما لأول مرة، فداحة الخطأ الذى ارتكبه فى محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بنى وطنه ودينه؛ ولما أصر فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم (1)، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يعد له القول والفصل فى هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطى يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويصمم على المقاومة والدفاع (2).

هكذا كان جواب أبى عبد الله لملكى قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف بعزم شعبه، من الاستكانة والمهادنة إلى التحدى والمقاومة. وهنا يبدو لنا أبو عبد الله شخصية أخرى تنزع عنها صفات الخور والاستسلام والخضوع الذى يدنو إلى الخيانة، لتتشح بثوب من العزة والكرامة، والحمية الدينية والوطنية. أجل دوّت غرناطة بصيحة الحرب والجهاد، وخرجت سريات من الجند المسلمين، لتعيث فى الأراضى النصرانية القريبة. وفى ربيع سنة 1490 م (895 هـ) خرج ملك قشتالة فى قواته وهو يضطرم سخطاً، وزحف على بسائط غرناطة فعاث فيها، وانتسف الزروع واستاق الماشية، وخرب الضياع والقرى، ووصل فى عيثه وتخريبه حتى أسوار الحاضرة ذاتها، وبرز المسلمون لقتاله وعلى رأسهم أميرهم أبو عبد الله، ووقعت بين الفريقين فى ظاهر غرناطة، عدة ملاحم دموية ارتحل النصارى على أثرها، ولم يستطيعوا الدنو من المدينة (رجب 895 هـ - يوليه 1490 م).

(1) أخبار العصر ص 34؛ ونفح الطيب ج 2 ص 614.

(2)

Prescott: ibid ; p. 290

ص: 232

صورة خطاب مرسل من السلطان أبى عبد الله محمد إلى قائد وأشياخ بلدة أجيجر يدعوهم فيه إلى طاعته والدخول فى الصلح الذى عقده مع الملك فرناندو الكاثوليكى، مؤرخ فى المحرم سنة 895 هـ (ديسمبر 1489 م)، ومحفوظة بمحفوظات بلدية غرناطة

ص: 233

وعمد فرناندو حين العودة إلى تحصين بعض الحصون القريبة من غرناطة، مثل برج الملاحة وبرج رومة وغيرهما، وشحنها بالرجال والعدد استعداداً للمعارك القادمة.

وعلى أثر ارتحال القشتاليين، خرج أبو عبد الله فى قواته يحاول استرداد بعض الحصون والمراكز القريبة، فاستولى على قرية البذول عنوة، ثم استولى على غيرها من القرى، ودبت فى المسلمين فى تلك الأنحاء روح جديدة، وثار أهل البشرّات (البشرّة) وما حولها على حكامهم النصارى، وثار أهل وادى آش فى الوقت نفسه واضطرموا لما رأوه من وثبة أبى عبد الله وعزمه بنزعة جديدة إلى المقاومة، وبعثوا إليه يطلبون عونه. وسار أبو عبد الله فى قواته يريد حصن أندَرَش (1) لما علمه من ثورة المسلمين هنالك، وكان عمه الأمير محمد بن سعد (الزغل) لا يزال به، فلما سمع بمقدمه خرج مع صحبه إلى ألمرية، وبقى بها إلى أن جاز البحر إلى المغرب كما قدمنا، واستولى أبو عبد الله على أندرش وغيرها من المحلات والحصون القريبة منها (2)، ورتب بها حاميات من المسلمين للدفاع عنها (شعبان 895 هـ).

واستمرت هذه المعارك المحلية مدى حين سجالا بين المسلمين والنصارى، فاسترد النصارى حصن أندرش لأسابيع قليلة من فقده، وغادره الفرسان المسلمون إذ كانوا قلة لم تستطع للعدو دفعاً. وفى شهر رمضان سنة 895 هـ (أغسطس 1490) خرج أبو عبد الله فى قواته إلى قرية همدان القريبة (3)، فافتتحها واخترق المسلمون أبراجها الكثيفة، وكانوا يخشون أن تمتنع عليهم لحصانتها، واغتنموا منها مقادير وفيرة من الذخائر والأطعمة، وأسروا من حاميتها نحو مائتين، وعاد المسلمون إلى غرناطة فرحين ظافرين، وغمرت الحاضرة المسلمة موجة من البشر والتفاؤل وفى أواخر رمضان خرج أبو عبد الله فى قواته يريد افتتاح ثغر المنكّب، وإعادة الصلة بين الأندلس وشواطىء المغرب، وهى صلة يعلق عليها المسلمون أهمية خاصة، ويعتبرونها من أبواب الغوث والإنقاذ، واستولى أبو عبد الله فى طريقه على حصن شلوبانية (4) الواقع شرقى المنكب بعد قتال عنيف؛ وعلم النصارى بمحاولة

(1) تقع أندرش Andarax جنوب شرقى غرناطة على مقربة من البحر الأبيض المتوسط.

(2)

أخبار العصر ص 36 و 37.

(3)

تقع قرية همدان Alhendin، جنوب غربى غرناطة على قيد بضعة كيلومترات منها.

وتراجع مواقع هذه الأماكن جميعا فى خريطة مملكة غرناطة المفصلة التى أثبتت فى أول الكتاب.

(4)

وبالإسبانية Salobrena، وقد سبق التعريف بها

ص: 234

أبى عبد الله، فهرعت حاميات بلِّش ومالقة إلى المنكب لإنجادها. ورأى أبو عبد الله أنه لا يستطيع مهاجمتها، وترامت إليه الأنباء بأن ملك قشتالة قد عاد بجنده إلى مرج غرناطة يعيث فيه فساداً وتخريباً، فارتد أدراجه. وكان فرناندو قد هاله ما حدث من الاضطراب والتصدع فى المناطق الفتوحة، فاعتزم السير من قرطبة بجيشه إلى تلك الأنحاء. والواقع أن بوادر الانتقاض والثورة كانت قد اشتدت فى وادى آش وما حولها من الضياع والقرى، وأخذ ظفر المسلمين فى تلك المعارك المحلية يذكى عزم الثوار ويشجعهم؛ وخشى النصارى عواقب هذه الحركة، فضاعفوا قوى الحاميات فى تلك الأنحاء، واحتالوا على أهل وادى آش فأخرجوا معظمهم من المدينة إلى السهول المجاورة (1). واستجاب أبو عبد الله إلى نداء أهل وادى آش وعاونهم بالرجال والدواب على نقل أمتعتهم وأموالهم، وعلى الرحيل بالأهل والولد إلى غرناطة، ونقل من تلك القرى والضياع مقادير وافرة من الحبوب والأطعمة وغيرها. وما كادت جموع المسلمين ترتد راجعة إلى غرناطة، حتى ظهر فرناندو بجيشه أمام وادى آش، ورأى أن يأخذ الأمر باللين والرفق، فأذاع الأمان لمن عاد إلى وطنه، وأذن لمن شاء بالرحيل، وغادر المسلمون وادى آش وأعمالها. وحدث مثل ذلك فى ألمرية وبسطة، فترك المسلمون بيوتهم وأوطانهم حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وسارت منهم جموع غفيرة إلى غرناطة، وجازت جموع أخرى البحر إلى المغرب، وأقفرت تلك الأنحاء من معظم سكانها المسلمين، وبعث إليها ملك قشتالة بجموع من النصارى لتعميرها، وانتهز أبو عبد الله فرصة هذا الاضطراب، فاستولى على حصن أندَرَش للمرة الثانية، واستولى على عدد آخر من الحصون الهامة (2).

وهنا أيقن ملك قشتالة أنه لابد لاستتاب الأمور فى المناطق الإسلامية المفتوحة، من الاستيلاء على غرناطة، التى مازالت تثير بمثلها وصلابتها روح الثورة فى تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فقضى الشتاء كله (سنة 1490) فى الاستعداد والأهبة. وفى أوائل سنة 1491 خرج فرناندو فى قواته معتزماً أن يقاتل الحاضرة الإسلامية حتى ترغم على التسليم. ويقدر بعض المؤرخين هذا

(1) Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 53

(2)

أخبار العصر ص 38 - 48؛ ونفح الطيب ج 2 ص 614. وراجع أيضاً: Prescott ibid; p. 290 & 291، ويوجد فرق يسير فى التفاصيل بين الروايتين الإسلامية والنصرانية

ص: 235

الجيش الذى أُعد لافتتاح غرناطة بخمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ويقدره البعض الآخر بثمانين ألفاً (1)، وزود فرناندو جيشه بالمدافع والعدد الضخمة، والذخائر والأقوات الوفيرة. وأشرف ملك قشتالة بجيشه على فحص غرناطة La Vega الواقع جنوب غربى الحاضرة الإسلامية، فى اليوم الثالث والعشرين من ابريل سنة 1491 م (12 جمادى الثانية سنة 896 هـ) وعسكر على ضفاف نهر شَنيل، على قيد فرسخين من غرناطة، فى ظاهر قرية تسمى "عتقة". وأرسل فى الحال بعض جنده إلى حقول البشرّات القريبة التى تمد غرناطة بالمؤن فأتلفوا زروعها، وهدموا قراها، وأمعنوا فى أهلها قتلا وأسراً، وحولوا المرج الأخضر إلى بسيط من القفر الموحش، وقطعوا بذلك عن غرناطة مورداً من أهم مواردها (2).

وضرب فرناندو حول الحاضرة الإسلامية الحصار الصارم، وصمم على متابعته حتى تفتح أو تستسلم، وقرر تأكيداً لهذا العزم أن ينشىء لجيشه فى المكان الذى عسكر فيه، مدينة مسوّرة تقيه برد الشتاء إذا ما حل، وتم بناء هذه المدينة الجديدة فى ثلاثة أشهر، وأسمتها الملكة إيسابيلا (سانتا فيه) Santa Fé وبالعربية (شنتفى) أو الإيمان المقدس، وذلك تنويهاً بالمغزى الدينى لهذه الحرب الصليبية، وما زالت هذه المدينة التاريخية تقوم حتى اليوم، فى المكان الذى أنشئت فيه على قيد مسافة قريبة من جنوب غربى غرناطة. ويصفها المؤرخ الإسبانى بأنها (المدينة الإسبانية الوحيدة التى لم تطأها قط قدم مسلم (3).

- 2 -

وهكذا بدأ الفصل الأخير فى الصراع بين النصرانية والإسلام فى اسبانيا؛ ولم يك ثمة شك فى نتيجة هذا الصراع، الذى أعدت له اسبانيا النصرانية عدتها الحاسمة، ومهدت له جميع الوسائل والسبل. بلد إسلامى وحيد هو البقية الباقية من دولة عظيمة تالدة، يحيط به العدو كالموج الزاخر من كل ناحية، مزوداً بالعُدد والمؤن الموفورة، وقد قطعت كل موارده وصلاته مع الخارج. وكان هذا موقف غرناطة آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس فى صيف سنة 1491 م. على

(1) Prescott: ibid ; p. 291

(2)

أخبار العصر ص 44 و Prescott: ibid ; p. 294

(3)

Prescott: ibid ; p. 295

ص: 236

أن غرناطة لم تكن مع ذلك غنما سهلا، فقد كانت منيعة بموقعها وظروفها، تحميها من الشرق آكام جبل شُلير (سيرّا نفادا) الشامخة، وتحميها من الجنوب أعنى من الجانب المواجه للمعسكر النصرانى، أسوار وأبراج فى منتهى الكثافة والمناعة. وكانت غرناطة تموج يومئذ بالوافدين إليها من مختلف القواعد الإسلامية الذاهبة، وتضم بين أسوارها من السكان أكثر من أربعمائة ألف نفس، ومع أن هذا العدد الضخم من الأنفس كان عبئاً ثقيلا على مواردها المحدودة، فقد كان من بينهم على الأقل زهاء عشرين ألفاً من الصفوة المختارة من الفروسة الأندلسية، التى ألفت ملاذها الأخير فى العاصمة المحصورة. ومن جهة أخرى فقد كانت الحاضرة الإسلامية منذ بعيد تلمح شبح الخطر الداهم يتربص بها دائماً، وكانت تعيش فى أهبة دائمة لمواجهته، وتجمع ما استطاعت من الأقوات والمؤن. فلما دهمها الحصار كانت على أهبة تامة لدفاع طويل الأمد.

كانت غرناطة تستشعر قدرها المحتوم، ولكنها لم ترد أن تستسلم إلى هذا القدر القاهر، قبل أن تستنفد فى اجتنابه كل وسيلة بشرية، ومن ثم كان دفاعها من أمجد ما عُرف فى تاريخ المدن المحصورة والقواعد الذاهبة، ولم يكن هذا الدفاع قاصراً على تحمل ويلات الحصار مدى أشهر، بل كان يتعداه إلى ضروب رائعة من الإقدام والبسالة، فقد خرج المسلمون خلال الحصار، لقتال العدو المحاصر مراراً عديدة، يهاجمونه ويثخنون فى محلاته، ويفسدون عليه خططه وتدابيره. وتشير الرواية الإسلامية كما تشير الرواية النصرانية إلى هذه المعارك الأخيرة التى وقعت فى بسائط غرناطة بين المسلمين والنصارى (1). وتنوه الرواية النصرانية بما كان يبديه الفرسان المسلمون من الشجاعة والإقدام والبراعة، أولئك الأنجاد البواسل هم البقية الباقية من الفروسة الأندلسية، التى لبثت قروناً زهرة الفروسية فى العصور الوسطى.

وكان روح الفروسة المسلمة فى تلك الآونة العصيبة فارس رفيع المنبت والخلال، وافر العزم والبراعة، هو موسى بن أبى الغسان (2) وهو سليل إحدى

(1) أخبار العصر ص 45؛ وكذلك: Irving: ibid ; p. 293 & foll

(2)

لم نعثر فى المصادر العربية التى بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا فى ذلك هو المؤرخ الإسبانى كوندى ( Condé: ibid ; V. III. p. 254) ، ويقول كوندى إنه نقل روايته عن مصادر عربية؛ ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر. وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى فى رحلته إلى من يدعى " موسى أخى السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة" (رحلة الوزير =

ص: 237

الأسر العريقة التى تتصل ببيت الملك، وأحد هذه الأصول العربية القديمة التى عرفت برائع فروستها، وعميق بغضها للنصارى، والتى كانت ترى الموت خيراً ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهاداً للكفر. ولم يكن بين أنجاد غرناطة يومئذ من هو أبرع من موسى فى الطعان والفروسية، وكان مذ تبوأ أبو عبد الله محمد عرش غرناطة، ينقم منه استكانته وخضوعه لملك النصارى، ويعمل بكل ما وسع لإذكاء روح الحماسة والجهاد، وتنظيم الفروسة الغرناطية وتدريبها، وقيادة السرايا إلى أراضى العدو، ومفاجأة حصونه وحامياته فى الأنحاء المجاورة. ولما بعث فرناندو الخامس إلى أبى عبد الله يطلب تسليم الحمراء، كان موسى من أشد المعارضين فى إجابة هذا المطلب المهين، وكان لعزمه وحماسته أكبر أثر فى تطور الموقف، وحمل الأمير والشعب على اعتزام الجهاد، والدفاع إلى آخر رمق، وكان قوله المأثور يومئذ:"ليعلم ملك النصارى أن العربى قد ولد للجواد والرمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها، وليكسبها غالية. أما أنا فخير لى قبر تحت أنقاض غرناطة، فى المكان الذى أموت مدافعاً عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين".

وهكذا دوّت غرناطة بصيحة الحرب. ولما أشرف ملك قشتالة بجموعه على مرج غرناطة، كان موسى معبود الجند والشعب، وكان زعيم الفروسة المسلمة يقودها كلما سنحت الفرصة إلى الحصون والقلاع النصرانية المجاورة فيثخن فيها، وكانت عوداته الظافرة تثير فى الشعب أيما حماسة، وكان فرناندو يرسل جنده لإتلاف المزارع والحقول المجاورة، فكان موسى ينظم السرايا لإزعاج قواته، وقطع مواصلاته وانتزاع مؤنه، ولكن جيوش النصارى ما لبثت أن ملأت فحص شنيل ( La Vega) وطوّقت غرناطة، وشددت فى حصارها، واضطر المسلمون إلى الامتناع بمدينتهم صابرين جلدين. وقسم الدفاع عن المدينة بين

= المنشورة بعناية معهد فرانكو ص 13). ولكن الرواية الإسلامية المعاصرة لا تذكر لنا أن السلطان أبا الحسن كان له أخ يسمى بهذا الاسم. وعلى أى حال فإن قصة موسى تشغل حيزاً كبيراً فى الروايات الإسبانية التى كتبت عن فتح غرناطة. ومن أشهرها رواية القس أنطونيو أجابيدا Antonio Agapida، المخطوطة المحفوظة بمكتبة الإسكوريال، وهى التى اتخذها واشنطون إيرفنج أساسا لكتابه Conquest of Granada. وقد وردت خلال هذه الرواية كثير من الأقوال والروايات المشجية المتعلقة بحوادث سقوط غرناطة. ونحن ننقل هنا أقوال الرواية القشتالية عن موسى وفروسيته لا على أنها محققة من الناحية التاريخية، ولكن لأنها تقدم لنا صوراً رائعة لدفاع المسلمين عن دينهم ووطنهم وأخر قواعدهم

ص: 238

زعماء الجيش والأسر، فتولى موسى قيادة الفرسان يعاونه نعيم بن رضوان ومحمد ابن زائدة. وتولى آل الثغرى حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون. ولم تكن المعارك الجريئة التى كان يخوضها المسلمون خارج الأسوار من آن لآخر، سوى عنوان أخير لفروستهم وبسالتهم ولكنها لم تكن لتغنى شيئاً، أمام ضغط العدو وتفوقه وتصميمه.

ذلك أن ملك قشتالة لم يترك وسيلة لإحكام الحصار وإرهاق المدينة المحصورة، وإرغامها على التسليم؛ فقطع جميع علائقها مع الخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الإسبانية فى مضيق جبل طارق، وعلى مقربة من الثغور الجنوبية، لتحول دون وصول أية أمداد من إفريقية. والواقع أنه لم يكن ثمة أمام الغرناطيين أى أمل فى الغوث والإنقاذ من هذه الناحية. ذلك أن معظم ثغور المغرب الشمالية والغربية، ومنها سبتة وطنجة، كانت قد سقطت فى أيدى البرتغاليين، وكانت دولة بنى وطَّاس التى قامت يومئذ فى المغرب الأقصى ما تزال ضعيفة فى بدايتها، وكانت أبعد عن التفكير فى القيام بأى عمل حربى خطير ضد النصارى. هذا إلى أن إمارات المغرب الواقعة فى الضفة الأخرى، كانت كلها فى حالة ضعف وتفكك وكانت تخشى بأس قوة اسبانيا البحرية وتسعى إلى كسب صداقتها وحمايتها. وعلى ذلك فقد كان حصار غرناطة محكماً من البر والبحر، ولم يبق أمامها سوى طريق البشرّات الجنوبية من ناحية جبل شُلير (سيرّا نفادا) تجلب منها بعض الأقوات والمؤن بصعوبة (1). ولبثت المدينة المحصورة تعانى مصائب الحصار صابرة جلدة، حتى دخل الشتاء، وغصت هذه الوهاد والشعب بالثلوج، واشتد الجوع والبلاء بالمحصورين. عندئذ تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك ذات يوم إلى مجلس الحكم، وقرر أن المؤن الباقية لا تكفى إلا لأمد قصير، وأن اليأس قد دب إلى قلوب الجند والعامة، وأن الاستمرار فى الدفاع عبث لا يجدى (2). ولكن موسى ابن أبى الغسان اعترض كعادته بشدة، وقرر أن الدفاع ممكن وواجب، وبث بادرة جديدة من الحماسة فى الرؤساء والقادة. فاستسلم السلطان أبو عبد الله محمد إلى تلك الروح، وسلم إلى القادة أمر الدفاع، وتولى موسى كعادته قيادة الفرسان؛ وكان فى مقدمة مساعديه فارسان من أنجاد العصر هما نعيم بن رضوان ومحمد بن زائدة.

(1) أخبار العصر ص 46.

(2)

Lafuente Alcantara: ibid ; V. III. p. 67

ص: 239

ثم أمر بفتح الأبواب، وأعد فرسانه أمامها ليل نهار، فإذا اقتربت سَرِية من النصارى دهمها الفرسان المسلمون، وأثخنوا فيها، ومزقت على هذا النحو صفوف من النصارى. وكان موسى يقول لفرسانه "لم يبق لنا سوى الأرض التى نقف عليها فإذا فقدناها فقدنا الإسم والوطن".

وأخير اً رأى ملك قشتالة أن يزحف بقواته على أسوار المدينة، فخرج المسلمون إلى لقائه وعلى رأسهم أبو عبد الله وموسى، ونشبت بين الفريقين فى فحص غرناطة عدة معارك دموية، وكان الفرسان المسلمون وعلى رأسهم موسى روح المعركة وقوامها، وكان أبو عبد الله يقود الحرس الملكى، وكان القتال رائعاً خضب فيه كل شبر من الأرض بدماء الفريقين، ولكن المشاة المسلمين كانوا ضعافا لا يعتمد عليهم فمزقوا بسرعة، وتبعهم فرسان الحرس الملكى إلى أبواب المدينة وعلى رأسهم أبو عبد الله، وعبثاً حاول موسى أن يجمع شمل الجند، وأن يدعوهم للذود عن أوطانهم ونسائهم وكل ما هو مقدس لديهم، وألفى نفسه وحيداً فى الميدان مع فرسانه المخلصين، وقد تضاءل عددهم وأثخن الباقون منهم جراحاً. فاضطر عندئذ أن يرتد إلى المدينة وهو يرتجف غضباً وبأساً.

وهنا أوصد المسلمون أبواب المدينة وامتنعوا بأسوارها جزعين مكتئبين، يرون شبح النهاية المحتومة ماثلا، فلم تبق سوى أيام أو أسابيع قلائل، حتى يصبح سقوط الوطن العزيز فى يد العدو أمراً واقعاً، وحتى تصبح أنفسهم وأموالهم وحرياتهم ودينهم رهناً فى يد القدر. وكان قد مضى على حصار غرناطة مذ بدأ الربيع حتى دخول الشتاء زهاء سبعة أشهر، والمسلمون يغالبون أهوال الحصار، وتتفاقم محنتهم شيئاً فشيئاً. فلما جاءت خاتمة المعارك مبددة لكل أمل فى الإنقاذ، واشتد فتك الجوع والحرمان والمرض، ودب اليأس إلى قلوب الناس جميعاً، لم يبق مناص من إعادة النظر فى الموقف. فدعا أبو عبد الله مجلساً من كبار الجند والفقهاء والأعيان، فاجتمعوا فى بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، والبأس باد فى وجوههم، وشرح لهم أبو القاسم عبد الملك كيف وصل الخطب إلى ذروته، فهلكت أنجاد الفرسان، وخبت قوى الدفاع، ونضبت الأقوات والمؤن، واشتد البلاء بالناس، وغاض كل أمل فى تلقى الأمداد من عدوة المغرب. وصرح "الجماعة" بأن الشعب لا يقوى بعد على تحمل ويلات الدفاع، وأنه لم يبق سوى التسليم أو الموت

ص: 240

واتفق الجميع على وجوب التسليم (1). ولم يرتفع بالاعتراض سوى صوت واحد هو صوت موسى بن أبى غسان، فقد حاول كعادته أن يبث بكلماته الملتهبة قبساً أخيراً من الحماسة؛ وكان مما قال:"لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لنا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدى المعجزات: ذلك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح فى يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لى أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها".

على أن كلماته لم تؤثر فى هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالا نضب الأمل فى قلوبهم، وغاضت كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب، بل يعلو نصح الشيوخ ويغلب. وهكذا حدث فإن السلطان أبو عبد الله فوض الأمر للجماعة، واتفق الجماعة من خاصة وعامة على مفاوضة ملك قشتالة فى التسليم، واختير الوزير القائد أبو القاسم عبد الملك للقيام بتلك المهمة؛ وكان ذلك فى أكتوبر سنة 1491 م (أواخر سنة 896 هـ).

وهنا يسدل الستار على تلك المناظر الرائعة المؤثرة، التى تقدمها الرواية لنا عن بسالة المسلمين فى الدفاع عن مدينتهم، وعلى ذلك الموقف الباهر الذى اتخذه أبو عبد الله مدى حين، واتشح فيه بثوب البطل المدافع عن ملكه وأمته ودينه، وتبرز لنا طائفة من الحقائق المؤلمة التى تضم أولئك الزعماء والقادة، الذين جنحوا فى النهاية إلى المساومة بحقوق أمتهم، واستغلالها لمآربهم الخاصة.

يقول لنا صاحب أخبار العصر، إن كثيراً من الناس زعموا أن أمير غرناطة ووزيره وقواده كان قد تقدم الكلام بينهم وبين ملك قشتالة سراً فى تسليم غرناطة ولم يجرأوا على المجاهرة بعزمهم خشية انتقاض الشعب، وأنهم لبثوا حينا يلاطفون الشعب ويملقونه، حتى ألفوا السبيل ممهداً للعمل برضاء الشعب وموافقته، ويستشهد أصحاب هذه الرواية بما حدث من انقطاع المعارك بين المسلمين والنصارى حيناً قبل بدء المفاوضة فى التسليم. وتزيد الرواية على ذلك بأن القواد المسلمين الذين اضطلعوا بهذه المفاوضة تلقوا تحفاً وأموالا جزيلة من ملك قشتالة (2).

وقد كنا نميل فى البداية إلى الارتياب فى صحة هذه الرواية وتأبى أن نعتقد

(1) أخبار العصر ص 48 و 49؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615.

(2)

أخبار العصر ص 48 و 49؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615

ص: 241

فى صحة هذه الوقائع المشينة المنسوبة إلى زعماء غرناطة، وهم الذين تشيد الرواية النصرانية ذاتها بحماستهم وشجاعتهم وبسالتهم، فى الذود عن وطنهم ومدينتهم.

بيد أننا وقفنا بعد ذلك على ما يؤيد صحة الرواية الإسلامية ودقتها فيما تشير إليه من حقائق مؤلمة. ذلك أنه فى نفس الوقت الذى اتجه فيه رأى الجماعة إلى المفاوضة فى التسليم، كانت تبذل فى الخفاء مساع أخرى لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الضمانات والمغانم الخاصة لأبى عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه، وكان الملكان الكاثوليكيان يرميان إلى استخلاص غرناطة بأى ثمن غير الحرب، ولا يدخران وسعاً فى بذل أية تضحية أو منحة لإغراء الزعماء والقادة لتذليل هذه المهمة. وهكذا كللت هذه المساعى الخفية بالنجاح، وفى نفس الوقت الذى عقدت فيه معاهدة التسليم، عقدت معاهدة سرية أخرى يمنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزراؤه منحاً خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها. وقد أبقيت هذه المعاهدة فى طى الكتمان، ولم يقف عليها سوى نفر من الخاصة. وهذا هو ما يشير إليه صاحب أخبار العصر.

وهنالك فوق ذلك ما يدل على أن أبا عبد الله وكثيراً من الوزراء والقادة، قد حاولوا مذ تجهمت الحوادث، وبدأ حصار غرناطة، التصرف فى أملاكهم، وباع أبو عبد الله عن يد وكيله القائد أبى القاسم بن سودة حديقته المعروفة بجنة عصام، خارج غرناطة، وذلك فى جمادى الأولى سنة 896 هـ (أوائل أبريل 1491 م). وباع بعض وزراء وفرسان آخرين أملاكهم فى نفس هذه المنطقة، وفى نفس هذا التاريخ، وباع الوزير عبد الله بن أبى الفرج قرية يملكها فى ضاحية المدينة، فى أواخر المحرم سنة 897 هـ (أواخر نوفمبر 1491 م)(1).

على أنه يبدو من التعسف والمبالغة مع تقرير هذه الحقائق المؤلة، أن نلجأ إلى اتهام أبى عبد الله ووزرائه بالخيانة المقصودة؛ ففى غمار المحنة الطاحنة التى كان يعانيها الشعب والقادة، وإزاء الظروف القاهرة التى لم يكن من حكمها محيص، وفى اللحظة التى انقطع فيها كل أمل فى الغوث والإنقاذ، لم يك ثمة سبيل سوى الموت أو مفاوضة العدو الظافر. وقد اختار زعماء غرناطة هذا السبيل الأخير، ولو أنهم

(1) راجع كتاب "وثائق عربية غرناطية" الذى سبقت الإشارة إليه، الوثيقة رقم 65 (ص 111)، والوثيقة رقم 73 (ص 121). والوثائق رقم 74 و 75 و 76، و 77 (ص 122 - 125)

ص: 242

اختاروا الموت تحت أنقاض مدينتهم دفاعاً عنها، لأحرزوا لذكراهم الخلود وإعجاب التاريخ، ولكن يبدو أنه لم يكن ثمة من موقف الشعب الغرناطى ويأسه وتبرمه بما أصابه من ويلات الحصار، ما يشجع على المضى فى دفاع لا يجدى.

وتلقى الرواية القشتالية ذاتها ضوءاً على الظروف التى حملت أبا عبد الله ووزراءه على السعى إلى مفاوضة ملك قشتالة، فيقول لنا مارمول الذى كتب روايته بعد ذلك بنحو سبعين عاماً ما يأتى:

"ولما رأى الزغيبى (أبو عبد الله) أن مدينة غرناطة لا تستطيع دفاعاً، ولا تأمل الغوث والإمداد، ونزولا على رغبة السواد الأعظم من الشعب، الذى لم يعد يصبر على هذا الأمر الفادح، أرسل يطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين لكى يستطيع خلالها أن يتفاهم على شروط الصلح التى يمكن التسليم بمقتضاها"(1)،

ويقول لافونتى ألقنطرة: "اشتدت وطأة الجوع على المحصورين، وأصبحت الجماهير الصاخبة تجوب أنحاء المدينة تنذر الأغنياء بالويل، وتبعث الرجفة إلى أبى عبد الله وأعوانه. وإزاء هذا التهديد دعا الأمير مجلسا من الزعماء والقادة، وطلب إليهم البحث فيما يمكن عمله لتجنب الأخطار التى تهدد المدينة فى الداخل والخارج. وقال الشيوخ والفقهاء إنه لم يبق سبيل سوى التسليم أو الموت، وأشار أهل الرأى بأن يقوم أبو القاسم بإذن من أبى عبد الله بمفاوضة النصارى"(2).

والخلاصة أنه لا مجال هنا للتحدث عن الخيانة فى وصف ذلك الموقف المريب الذى وقفه أبو عبد الله ووزراؤه، وحاولوا أن يحققوا لأنفسهم فيه مغانم خاصة؛ ولكنا نستطيع أن نتحدث عن الأثرة والخور والضعف الإنسانى، والتعلق بأسباب السلامة، وانتهاز الفرص.

- 3 -

سار القائد أبو القاسم عبد الملك، مندوب أبى عبد الله إلى معسكر الملكين الكاثوليكيين ليؤدى مهمته الأليمة. وقد اضطلع هذا القائد، فضلا عن المفاوضة فى تسليم غرناطة، بالمفاوضة فى سائر الاتفاقات اللاحقة التى عقدت بين أبى عبد الله، وبين ملكى قشتالة، ونرى اسمه مذكوراً فى معظم الوثائق القشتالية الغرناطية التى أبرمت فى هذه الفترة، باعتباره دائماً مندوب أبى عبد الله المفوض.

(1) Luis del Marmol: ibid ; Lib. I.، Cap. XIX

(2)

Lafuente Alcantara: ibid ; V. III. p. 97

ص: 243

ولم نعثر على تفاصيل تختص بشخصية هذا الوزير أو نشأته، ولكن الذى يبدو لنا من مواقفه وتصرفاته أنه كان سياسياً عملياً يؤمن إيماناً قوياً بسياسة التسليم والخضوع للنصارى، وانتهازيا يرى انتهاز الفرص بأى الأثمان (1). واستقبل فرناندو مندوب ملك غرناطة بحفاوة. وندب لمفاوضته أمينه فرناندو دى ثافرا، وقائده جونزالفو دى كُردبا، وكان خبيراً بالشئون الإسلامية، عارفاً باللغة العربية، وجرت المفاوضات بين الفريقين بمنتهى التكتم، أحياناً فى غرناطة وأحياناً فى قرية جرليانة (2) القريبة الواقعة جنوب شرقى سانتافيه. ويبدو من الخطابات التى تبودلت بين أبى عبد الله وبين الملكين الكاثوليكيين فى تلك الفترة الدقيقة من حياة الأمة الأندلسية، أن حديث المفاوضة قد بدأ بين الفريقين فى أوائل سبتمبر سنة 1491، وأن القائد أبا القاسم بن عبد الملك كان يعاونه فى المفاوضة الوزير يوسف بن كُماشه، وقد كان مثله من خاصة أبى عبد الله ومن أنصار سياسة التسليم، وأن أبا عبد الله طلب فى خطاب أرسله إلى الملكين الكاثوليكيين أن تكون المفاوضات سرية حتى تتحقق غايتها المرجوة، وذلك خشية من انتقاض الشعب الغرناطى ونزعاته؛ هذا إلى أن الوزيرين الغرناطيين كتباً إلى الملكين الكاثوليكيين خطاباً يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما، واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما كاملة، وفى ذلك كله ما يلقى ضوءاً واضحاً على الموقف المريب الذى وقفه أبو عبد الله ووزراؤه من مسألة التسليم (3).

واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت فى اليوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم سنة 897 هـ).

وقد تضمنت هذه الوثيقة الشهيرة، التى قررت مصير آخر القواعد الأندلسية ومصير الأمة الأندلسية، شروطاً عديدة بلغت ستة وخمسين مادة. وقد لخصت

(1) يذكر اسم أبى القاسم عبد الملك فى الوثائق القشتالية محرفاً: أبو القاسم عبد المليح أو أبو القاسم المليخ، وهو الأكثر شيوعاً: Bulcacia Bulcasem el Muléh. ومن الغريب أن هذا التحريف غلب فيما بعد على كتابة اسمه بالعربية، فتراه يكتب فى بعض الوثائق أبو القاسم المليخ.

(2)

هى اليوم قرية Churiana، وهى من ضواحى غرناطة.

(3)

تحفظ الصور القشتالية لهذه الخطابات ضمن مجموعة فرناندو دى ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرها العلامة Garrido Atienza فى مجموعة الوثائق الخاصة بتسليم غرناطة المسماة: Las Capitulaciones para la Entrega de Granada (Granada 1910) p. 200-217

ص: 244

لنا الرواية الإسلامية معظم محتوياتها مع شىء من التحريف (1) ولكنا ننقل الآن ولأول مرة، إلى العربية، محتويات هذه المعاهدة عن نصوصها القشتالية الرسمية فى توسع وإفاضة. وإليك مضمون هذه المحتويات:

أن يتعهد ملك غرناطة، والقادة، والفقهاء والوزراء والعلماء، وكافة الناس، سواء فى غرناطة والبيّازين وأرباضهما، بأن يسلموا طواعية واختياراً، وذلك فى ظرف ستين يوماً تبدأ من تاريخ هذه المعاهدة، قلاع الحمراء والحصن، وأبوابها وأبراجها، وأبواب غرناطة والبيازين، إلى الملكين الكاثوليكيين، أو إلى من يندبانه من رجالهما، على ألا يسمح لنصرانى أن يصعد إلى الأسوار القائمة بين القصبة والبيازين، حتى لا يكشف أحوال المسلمين، وأن يعاقب من يفعل ذلك. وضماناً لسلامة هذا التسليم، يقدم الملك المذكور مولاى أبو عبد الله والقادة المذكورون، إلى جلالتيهما، قبل تسلّم الحمراء بيوم واحد، خمسمائة شخص صحبة الوزير ابن كماشه، من أبناء وإخوة زعماء غرناطة والبيازين، ليكونوا رهائن فى يديهما لمدة عشرة أيام، تُصلح خلالها الحمراء. وفى نهاية هذا الأجل يرد أولئك الرهائن أحراراً. وأن يقبل جلالتهما، ملك غرناطة وسائر القادة والزعماء، وسكان غرناطة والبشرّات وغيرهما من الأراضى، رعايا وأتباعا تحت حمايتهما ورعايتهما (1).

وأنه حينما يرسل جلالتهما رجالهما لتسلم الحمراء المذكورة، فعليهم أن يدخلوا من باب العشار ومن باب نجدة، ومن طريق الحقول الخارجية، وألا يسيروا إليها من داخل المدينة، حينما يأتون لتسلمها وقت التسليم (2).

وأنه متى تم تسليم الحمراء والحصن، يرد إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله ولده المأخوذ رهينة لديهما، وكذلك يرد سائر الرهائن المسلمين الذين معه، وسائر حشمه الذين لم يعتنقوا النصرانية (3).

ويتعهد جلالتهما، وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة، والوزراء، والعلماء، والفقهاء، والفرسان، وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألا يؤمروا بترك شىء من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هى، وأن يقضى بينهم وفق شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم (4).

(1) أخبار العصر ص 48 و 50، ونفح الطيب ج 2 ص 615 و 616

ص: 245

وألا يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم الآن أو فيما بعد، سوى المدافع الكبيرة والصغيرة فإنها تسلم (5).

وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبيازين وغيرهما، الذين يريدون العبور إلى المغرب، أن يبيعوا أموالهم المنقولة لمن شاءوا، وأنه يحق للملكين شراءها بمالهما الخاص (6).

وأنه يحق للسكان المذكورين أن يعبروا إلى المغرب، أو يذهبوا أحراراً إلى أية ناحية أخرى، حاملين أمتعتهم وسلعهم، وحليهم من الذهب والفضة وغيرها. ويلتزم الملكان بأن يجهزا فى بحر ستين يوماً من تاريخه، عشر سفن فى موانيهما يعبر فيها الذين يريدون الذهاب إلى المغرب. وأن يقدما خلال الأعوام الثلاثة التالية السفن، لمن شاء العبور، وتبقى السفن خلال هذه المدة تحت طلب الراغبين فيه، ولا يقتضى منهم خلال هذه المدة أى أجر أو مغرم، وأنه يحق العبور لمن يشاء بعد ذلك، نظير دفع مبلغ "دوبل" واحد عن كل شخص، وأنه يحق لمن لم يتمكن من بيع أملاكه، أن يوكل لإدارتها، وأن يقتضى ريعها حيثما كان (7). وألا يرغم أحد من المسلمين أو أعقابهم، الآن أو فيما بعد، على تقلد شارة خاصة بهم (8).

وأن ينزل الملكان، للملك أبى عبد الله المذكور، ولسكان غرناطة والبيازين وأرباضهما، لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخه، عن سائر الحقوق التى يجب عليهم أداؤها عن دورهم ومواشيهم (9).

وأنه يجب على الملك أبى عبد الله، وسكان غرناطة والبيازين وأرباضهما والبشرّات وأراضيها، أن يسلموا وقت تسليم المدينة طواعية ودون أية فدية، سائر الأسرى النصارى الذين تحت أيديهم (10).

وأنه لا يسمح لنصرانى، أن يدخل مكاناً لعبادة المسلمين دون ترخيص، ويعاقب من يفعل ذلك (12).

وألا يولى على المسلمين مباشر يهودى، أو يمنح أية سلطة أو ولاية عليهم (13).

وأن يعامل الملك أبو عبد الله المذكور، وسائر السكان المسلمين، برفق وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يؤدى للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقاً للقواعد المرعية (14).

وأنه إذا قام نزاع بين المسلمين، فصل فيه وفقاً لأحكام شريعتهم، وتولاه قضاتهم (15)

ص: 246

وألا يكلفوا بإيواء ضيف أو تؤخذ منهم ثياب أو دواجن أو أطعمة أو ماشية أو غيرها دون إرادتهم (16).

وأنه إذا دخل نصرانى منزل مسلم قهراً عنه، عوقب على فعله (17).

وأنه فيما يتعلق بشئون الميراث، يحتفظ المسلمون بنظمهم، ويحتكمون إلى فقهائهم وفقاً لسنن المسلمين (18).

وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبشرات وغيرهما الداخلين فى هذا العهد، الذين يعلنون الولاء لجلالتهما، فى ظرف ثلاثين يوماً من التسليم، أن يتمتعوا بالإعفاءات الممنوحة، مدى السنوات الثلاث (19).

وأن يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينية أو أية أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس، متروكاً لنظر الفقهاء، وألا يتدخل جلالتهما بأية صورة، فى شأن هذه الصدقات أو يأمران بأخذها فى أى وقت (20).

وأنه لا يؤخذ أى مسلم بذنب ارتكبه شخص آخر، فلا يؤخذ والد بذنب ولده أو ولد بذنب والده، أو أخ بذنب أخ، أو ولد عم بذنب ولد عم، ولا يعاقب إلا من ارتكب الجرم (21).

وأنه إذا كان مسلم أسيراً، وفر إلى مدينة غرناطة أو البيازين أو أرباضهما أو غيرهما، فإنه يعتبر حراً، ولا يسمح لأحد بمطاردته إلا إن كان من العبيد أو من الجزائر (24).

وألا يدفع المسلمون من الضرائب أكثر مما كانوا يدفعون لملوكهم المسلمين (25).

وأنه يحق لسكان غرناطة والبيازين والبشرات وغيرهما، ممن عبروا إلى المغرب، أن يعودوا خلال الأعوام الثلاثة التالية، وأن يتمتعوا بكل ما يحتويه هذا الاتفاق (26).

كما يحق لمن عبر منهم إلى المغرب، ولم ترضه الإقامة هنالك، أن يعود خلال الأعوام الثلاثة، وأن يتمتع بكل ما فى هذا الاتفاق (28).

وأنه يحق لتجار غرناطة وأرباضها والبشرات وسائر أراضيها، أن يتعاملوا فى سلعهم آمنين، عابرين إلى المغرب وعائدين، كما يحق لهم دخول سائر النواحى التابعة لجلالتيهما، وألا يدفعوا من الضرائب سوى التى يدفعها النصارى (29).

وأنه إذا كان أحد من النصارى -ذكراً أو أنثى- اعتنق الإسلام، فلا يحق لإنسان أن يهدده أو يؤذيه بأية صورة، ومن فعل ذلك يعاقب (30)

ص: 247

وأنه إذا كان مسلم قد تزوج بنصرانية واعتنقت الإسلام، فلا ترغم على العودة إلى النصرانية، بل تسأل فى ذلك أمام المسلمين والنصارى، وألا يرغم أولاد "الروميات" ذكوراً أو إناثاً، على اعتناق النصرانية (31).

وأنه لا يرغم مسلم أو مسلمة قط على اعتناق النصرانية (32).

وأنه إذا شاءت مسلمة متزوجة أو أرملة أو بكر اعتناق النصرانية بدافع الحب، فلا يقبل ذلك منها، حتى تسأل وتوعظ وفقاً للقانون؛ وإذا كانت قد استولت خلسة على حلىّ أو غيرها من دار أهلها أو أى شىء آخر، فإنها ترد لصاحبها، وتتخذ الإجراءات ضد المسئول (33).

وألا يطلب الملكان، أو يسمحا بأن يُطلب إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله، أو خدمه أو أحد من أهل غرناطة أو البيازين وأرباضهما والبشرات وغيرهما، من الداخلة فى هذا العهد، بأن يردوا ما أخذوه أيام الحرب من النصارى أو المدجّنين، من الخيل أو الماشية أو الثياب أو الفضة أو الذهب أو غيرها، أو من الأشياء الموروثة، ولا يحق لأحد يعلم بشىء من ذلك أن يطالب به (34).

وألا يُطلب إلى أى مسلم، يكون قد هدد أو جرح أو قتل أسيراً أو أسيرة نصرانية، ليس أو ليست فى حوزته، رده أو ردها الآن أو فيما بعد (35).

وألا يدفع عن الأملاك والأراضى السلطانية، بعد انتهاء السنوات الثلاث الحرة، من الضرائب إلا وفقاً لقيمتها، وعلى مثل الأراضى العادية (36).

وأن يطبق ذلك أيضاً على أملاك الفرسان والقادة المسلمين، فلا يدفع عنها أكثر مما يدفع عن الأملاك العادية (37).

وأن يتمتع اليهود من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما، والأراضى التابعة لها، بما فى هذا العهد من الامتيازات، وأن يسمح لهم بالعبور إلى المغرب خلال ثلاثة أشهر، تبدأ من يوم 18 ديسمبر (38).

وأن يكون الحكام والقواد والقضاة، الذين يعينون لغرناطة والبيازين والأراضى التابعة لهما، ممن يعاملون الناس بالكرامة والحسنى، ويحافظون على الإمتيازات الممنوحة، فإذا أخل أحدهم بالواجب، عوقب وأحل مكانه من يتصرف بالحق (39).

وأنه لا يحق للملكين أو لأعقابهما إلى الأبد، أن يسألوا الملك المذكور أبى عبد الله، أو أحداً من المسلمين المذكورين بأية صورة، عن أى شىء يكونوا

ص: 248

قد عملوه، حتى حلول يوم تسليم الحمراء المذكورة، وهى فترة الستين يوماً المنصوص عليها (40).

وأنه لا يُولى عليهم أحد من الفرسان أو القادة أو الخدم، الذين كانوا تابعين لملك وادى آش (1)(41).

وأنه إذا وقع نزاع بين نصرانى أو نصرانية ومسلم أو مسلمة، فإنه ينظر أمام قاضى نصرانى وآخر مسلم، حتى لا يتظلم أحد مما يقضى به (42).

وأن يقوم الملكان بالإفراج عن الأسرى المسلمين ذكوراً وإناثاً، من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما وأراضيهما، إفراجاً حراً دون أية نفقة من فدية أو غيرها، وأن يكون الإفراج عمن كان من هؤلاء الأسرى بالأندلس فى ظرف خمسة الأشهر التالية، وأما الأسرى الذين بقشتالة فيفرج عنهم خلال الثمانية أشهر التالية. وبعد يومين من تسليم الأسرى النصارى لجلالتيهما يفرج عن مائتين من الأسرى المسلمين، منهم مائة من الرهائن ومائة أخرى (44).

وأنه إذا دخلت أية محلة من نواحى البشرات فى طاعة جلالتيهما، فإنها يجب أن تسلم إليهما كل الأسرى النصارى ذكوراً وإناثاً، فى ظرف خمسة عشر يوماً من تاريخ الانضمام، وذلك دون أية نفقة (46).

وأن تعطى الضمانات للسفن المغربية الراسية الآن فى مملكة غرناطة، لكى تسافر فى أمان، على ألا تكون حاملة أى أسير نصرانى، وألا يحدث لها أحد ضرراً أو إتلافا، وألا يؤخذ منها شىء، ولا ضمان لمن تحمل منها أسرى من النصارى، ويحق لجلالتيهما إرسال من يقوم بتفتيشها لذلك الغرض (47).

وألا يُدعى أو يؤخذ أحد من المسلمين للحرب رغم إرادته، وإذا شاء جلالتاهما استدعاء الفرسان، الذين لهم خيول وسلاح، للعمل فى نواحى الأندلس فيجب أن يدفع لهم الأجر من يوم الرحيل حتى يوم العودة (48).

وأنه يجب على كل من عليه دين أو تعهد، أن يؤديه لصاحب الحق، ولا يحق لهم التحرر من هذه الحقوق (52).

وأن يكون المأمورون القضائيون الذين يعينون لمحاكم المسلمين، مسلمين، الآن وإلى الأبد (53).

(1) المقصود هنا هو مولاى الزغل

ص: 249

وأن يكون المتولون لوظائف الحسبة الخاصة بالمسلمين، أيضاً مسلمين، وألا يتولاها نصرانى الآن وفى أى وقت (54).

وأن يقوم الملكان فى اليوم الذى تسلم إليهما فيه الحمراء والحصن والأبواب كما تقدم، بإصدار مراسيم الإمتيازات، للملك أبى عبد الله وللمدينة المذكورة، ممهورة بتوقيعهما، ومختومة بخاتمهما الرصاص ذى الأهداب الحريرية، وأن يصدق عليها ولدهما الأمير، والكردينال المحترم دسبينا، ورؤساء الهيئات الدينية، والعظماء والدوقات والمركيزون والكونتات والرؤساء، حتى تكون ثابتة وصحيحة الآن، وفى كل وقت (56 ثافرا)(43 سيمانقا).

وقد ذيلت المعاهدة، بنبذة خلاصتها، أن ملكى قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكى، القيام بكل ما يحتويه هذا الههد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما، وعليها تاريخ تحريرها وهو يوم 25 نوفمبر سنة 1491 (1).

ثم ذيلت بعد ذلك، وبتاريخ لاحق هو يوم 30 ديسمبر سنة 1492، أعنى بعد تسليم غرناطة بعام، بتوكيد جديد يأمر فيه الملكان ولدهما الأمير، وسائر عظماء المملكة بالمحافظة على محتويات هذا العهد، وألا يعمل ضده شىء، أو ينقض منه شىء، الآن وإلى الأبد، وأنهما يؤكدان ويقسمان بدينهما وشرفهما الملكى بأن يحافظا، ويأمران بالمحافظة على كل ما يحتويه بندا بندا إلى الأبد، وقد ذيل هذا التوكيد بتوقيع الملكين، وتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء (2).

وفى نفس اليوم الذى وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، وهو يوم 25 نوفمبر

(1) رجحنا فى ترجمة وتلخيص نصوص معاهدة التسليم إلى الوثيقتين الرسميتين اللتين تضمنتا نصوص هذه المعاهدة، وهما أولا، الوثيقة المحفوظة بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas، وتحمل رقم P. R. 11-207 ضمن مجموعة ( Capitulaciones con Moros y Caballeros de Castilla) . وهى تملأ إحدى عشرة لوحة كبيرة ومحررة بالقشتالية القديمة ولدينا منها صورة فتوغرافية. وثانيا، الوثيقة المعروفة بوثيقة فرناندو دى ثافرا، أمين الملكين الكاثوليكيين وتحفظ بجموعة دى ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرت ضن مجموعة وثائق تسليم غرناطة:

Las Capitulaciones para la Entrega de Granada، por Miguel Garrido Atienza (Granada 1910) p. 269-295

(2)

راجع مجموعة وثائق تسليم غرناطة السالفة الذكر (ص 289 و 290)

ص: 250

سنة 1491 م، وفى نفس المكان الذى وقعت فيه، وهو المعسكر الملكى بمرج غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى أو ملحق سرى للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والإمتيازات والمنح، التى تعطى للسلطان أبى عبد الله، ولأفراد أسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته التى تضمنتها المعاهدة من تسليم غرناطة والحمراء، وحصونها.

وتتلخص هذه الحقوق والامتيازات والمنح فيما يأتى:

أن يمنح الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله ولأولاده وأحفاده وورثته إلى الأبد، حق الملكية الأبدية، فيما يملكانه من محلات وضياع فى بلاد برجة، ودلاية ومرشانة، ولوشار، وأندرش، وأجيجر، وأرجبة، وبضعة بلاد أخرى مجاورة، وكل ما يخصها من الضرائب وحقوق الريع، وما بها من الدور والأماكن والقلاع والأبراج، لتكون كلها له ولأولاده وأعقابه وورثته بحق الملكية الأبدية، يتمتع بكل ريعها وعشورها وحقوقها، وأن يتولى القضاء فى النواحى المذكورة باعتباره سيدها، وباعتباره فى الوقت نفسه تابعاً وخاضعاً لجلالتيهما، وله حق بيع الأعيان المذكورة ورهنها، وأن يفعل بها ما يشاء ومتى شاء، وأنه متى أراد بيعها، فإنه يعرض ذلك أولا على جلالتيهما فإذا لم يريدا شراءها، فله أن يبيعها لمن شاء.

وأن يحتفظ جلالتهما بقلعة أدرة، وسائر القلاع الواقعة على الشاطىء.

وأن يعطى جلالتهما إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله، هبة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالى من الذهب (كاستيليانو)، يبعثان بها إليه، عقب تسليم الحمراء، وقلاع غرناطة الأخرى التى يجب تسليمها، وذلك فى الموعد المحدد. وأن يهب جلالتهما للملك المذكور، كل الأراضى والرَّحى والحدائق، والمزارع التى كان يملكها أيام أبيه السلطان أبى الحسن، سواء فى غرناطة أو فى البشرات، لتكون ملكاً له ولأولاده ولعقبه وورثته، ملكية أبدية، وله أن يبيعها أو يرهنها وأن يتصرف فيها كيفما شاء.

وأن يهب جلالتهما أيضاً، إلى الملكات والدته وأخواته وزوجته، وإلى زوجة أبى الحسن، كل الحدائق والمزارع والأراضى والطواحين والحمامات، التى يملكنها فى غرناطة والبشرات، تكون ملكاً لهن ولأعقابهن إلى الأبد، ولهن بيعها ورهنها والتمتع بها وفقاً لما تقدم

ص: 251

وأن تكون سائر الأراضى الخاصة بالملك المذكور والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن، معفاة من الضرائب والحقوق الآن وإلى الأبد.

وألا يطلب جلالتهما أو أعقابهما إلى ملك غرناطة أو حشمه أو خدمه رد ما أخذوه فى أيامهم سواء من النصارى أو المسلمين من الأموال والأراضى.

وأنه إذا شاء الملك المذكور أبو عبد الله، والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن وأولادهم وأحفادهم وأعقابهم، وقوادهم وخدمهم وأهل دارهم، وفرسانهم وغيرهم، صغاراً وكباراً، العبور إلى المغرب، فإن جلالتهما يجهزان الآن أو فى أى وقت سفينتين لعبور الأشخاص المذكورين، متى شاءوا، تحملهم وكل أمتعتهم وماشيتهم وسلاحهم، وذلك دون أية أجر أو نفقة.

وأنه إذا لم يتمكن الملك المذكور وأولاده وأحفاده وأعقابه، والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن. والقواد والحشم والخدم، وقت عبورهم إلى المغرب، من بيع أملاكهم المشار إليها، فإن لهم أن يوكلوا من شاءوا لقبض ريعها، وإرساله حيث شاءوا دون أى قيد أو مغرم.

وأنه يحق للملك المذكور متى شاء، أن يرسل من يرى، من خدمه أو قادته إلى المغرب بسلع أو غيرها من إيراداته، وذلك دون قيد أو مغرم.

وأنه يحق للملك المذكور، متى خرج من غرناطة، أن يسكن أو يقيم متى شاء، فى الأراضى التى أقطعت له، وأن يخرج هو وخدمه وقواده وعلماؤه وقضاته وفرسانه، الذين يريدون الخروج معه، بخيلهم وماشيتهم متقلدين أسلحتهم، وكذلك نساؤهم وخدمهم، وألا يؤخذ منهم شىء سوى المدافع، وألا يفرض عليهم الآن أو فى أى وقت، وضع علامة خاصة فى ثيابهم أو بأية صورة، وأن يتمتعوا بسائر الإمتيازات المقررة فى عهد تسليم غرناطة.

وأنه فى اليوم الذى يتم فيه تسليم الحمراء وحصونها، يصدر جلالتهما المراسيم اللازمة بالمنح المذكورة، موقعة ومختومة، ومصدق عليها من ابنهما الأمير والكردينال وسائر العظماء (1).

تلك هى الشروط التى وضعت لتسليم آخر القواعد الأندلسية، وتلك هى

(1) تحفظ النسخة القشتالية لهذه المعاهدة السرية التى عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas وتحمل رقم P. R. Leg. II. Fol. 206 وقد حصلنا منها على صورة فتوغرافية

ص: 252

الصفحة الأخيرة من معاهدة التسليم التى أصدرها الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله وأهل غرناطة، مؤرخة فى 25 نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم 897 هـ)، وعليها توقيعا فرناندو وإيسابيلا، وتوقيع سكرتيرهما فرناندو دى ثافرا، وختم مملكة قشتالة. والأصل محفوظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا ويحمل رقم P. R. 11-207

ص: 253

الإمتيازات والمنح التى منحت لآخر ملوك الأندلس. فأما فيما يتعلق بغرناطة ومصاير الأمة المغلوبة، فقد كانت هذه الشروط المسهبة، والتى اشتملت على سائر الضمانات المتعلقة بتأمين النفس والمال، وسائر الحقوق المادية، وصون الدين والشعائر، والكرامة الشخصية، أفضل ما يمكن الحصول عليه فى مثل هذه المحنة، لو أخلص العدو الظافر فى عهوده. ولكن هذه العهود لم تكن فى الواقع، حسبما أيدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلابة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربى نفسه فى أن يصفها " بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسبانى فيما تلا من العصور"(1). وقد بذل فرناندو ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة، تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضى لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمّل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرناندو، إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكى يصل إلى تحقيق غايته المنشودة بطريق سلمية مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة، من ريب وشكوك تحيط بموقف أبى عبد الله ووزرائه وقادته.

وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأدخل سراً إلى قصر الحمراء، وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة فى بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دى ثافرا ممهورة بتوقيع أبى عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة.

وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة فى تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبى الغسان، رواية قشتالية مؤثرة، قد تصطبغ بلون الأسطورة، ومع ذلك فإنها تنم عن روح الانتقاض والسخط، التى كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التى كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين.

(1) Prescott: ibid ; p. 296

ص: 254

تقول الرواية المذكورة، إنه حينما اجتمع الزعماء فى بهو الحمراء الكبير، ليوقعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى لبث وحده صامتاً عابساً وقال:"أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإنى لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة. ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حرياتنا وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحراراً من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها"(1).

ثم صمت موسى، وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبو عبد الله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل فى تلك الوجوه التى أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض فى تلك القلوب الكسيرة الدامية. عندئذ صاح " الله أكبر لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله. تالله لقد كتب علىّ أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يدى". وصاحت الجماعة على أثره " الله أكبر ولا راد لقضاء الله"، وكرروا جميعاً أنها إرادة الله ولتكن، وأنه لا مفر من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه. فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يجدى وأن الجماعة قد أخذت فعلا فى توقيع صك التسليم، نهض مغضباً وصاح:"لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشى، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعانى من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التى تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا فوالله لن أراه". ثم غادر المجلس واخترق بهو الأسود (كورة السباع) عابساً حزيناً، وجاز إلى أبهاء الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحداً أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق

(1) Condé ; ibid: V. III. p. 256 & 257

ص: 255

شوارع غرناطة، حتى غادرها من باب إلبيرة، ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط.

هذا ما تقوله الرواية القشتالية عن نهاية موسى بن أبى الغسان (1). ولكن مؤرخاً اسبانياً قديماً هو القس أنطونيو أجابيدا يحاول أن يلقى ضياء على مصيره، فيقول إن سَرية من الفرسان النصارى تبلغ نحو الخمسة عشر، التقت فى ذلك المساء بعينه، على ضفة نهر " شنيل " بفارس مسلم قد دججه السلاح من رأسه إلى قدمه، وكان مغلقاً خوذته شاهراً رمحه، وكان جواده غارقاً مثله فى رداء من الصلب.

فلما رأوه مقبلا عليهم طلبوا إليه أن يقف وأن يعرف بنفسه، فلم يجب الفارس المسلم، ولكنه وثب إلى وسطهم وطعن أحدهم برمحه وانتزعه عن سرجه فألقاه إلى الأرض، ثم انقض على الباقين يثخن فيهم طعاناً، وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلا أن يقتل وأن يسيل الدم، وكأنه إنما يقاتل للانتقام فقط، وكأنما يتوق إلى أن يقتل دون أن يعيش لينعم بظفره. وهكذا لبث يبطش بالفرسان النصارى حتى أفنى معظمهم، غير أنه أصيب فى النهاية بجرح خطر، ثم سقط جواده من تحته بطعنة أخرى، فسقط إلى الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه. فلما رأى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيراً فى يد خصومه، ارتد إلى ما ورائه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعته لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق.

يقول الراوية المذكور، إن هذا الفارس الملثم هو موسى بن أبى الغسان، وإن بعض العرب المتنصرين فى المعسكر الإسبانى، عرفوا جواده المقتول، وهى رواية لا بأس بها، غير أن الحقيقة لم تعرف قط (2).

- 4 -

وما كادت أنباء الموافقة على عهد التسليم تذاع حتى عم الحزن ربوع غرناطة، وتسربت فى الوقت نفسه بعض أنباء غامضة عن المعاهدة السرية، وعما حققه أبو عبد الله ووزراؤه لأنفسهم من المغانم الخاصة، وسرى الهمس بين العامة، واضطرم سواد الشعب يأساً وسخطاً على قادته، ولا سيما أبى عبد الله الذى اعتبر

(1) هذه هى رواية كوندى فيما نقل عن مصادر عربية غير معروفة Condé; ibid. V. III. p. 257

(2)

راجع هذه الرواية فى: Irving: Conquest of Granada ; Ch. 97

ص: 256

مصدر كل مصائبه ومحنه، وتعالى النداء بوجوب الدفاع عن المدينة حتى آخر نسمة. وحدثت حركة انتقاض، خشى أبو عبد الله والقادة، أن تقضى على خططهم وتدابيرهم، ولكنها انهارت قبل أن تنتظم، وأضحى كل يفكر فى مصيره.

واستقبل المسلمون عهود ملك قشتالة فى تردد وتوجس، والشك يساورهم فى إخلاص أعدائهم، وإزاء ذلك أعلن الملكان الكاثوليكيان، فى يوم 29 نوفمبر مع قسم رسمى بالله، أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية فى العمل فى أراضيهم أو حيث شاءوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب. ولكن الإيمان والعهود لم تكن حسبما تقدم، عند ملكى قشتالة، سوى ذريعة الخيانة والغدر، ووسيلة لتحقيق المآرب بطريق الخديعة الشائنة. وقد كانت هذه أبرز صفات فرناندو الكاثوليكى، فهو لم يتردد قط فى أن يعمل لتحقيق غاياته بأى الوسائل، أو أن يقطع أى عهد أو يقدم أى تأكيد، دون أن ينوى قط الوفاء بما تعهد.

ولكن الشعب الغرناطى استمر فى وجومه وتوجسه ويأسه، ولم تهدأ الخواطر المضطرمة، وكان أبو عبد الله والقادة يخشون تفاقم الأحوال، وإفلات الأمر من أيديهم، فاعتزموا العمل على التعجيل بالتسليم، حرصاً على سلامة المدينة وسلامة الزعماء، وألا ينتظروا مرور الستين يوماً التى نصت عليها المعاهدة. وفى يوم 20 ديسمبر أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كماشه إلى فرناندو مع خمسمائة من الرهائن من الوجوه والأعيان، تنفيذاً لنص المعاهدة، وليعرب له عن حسن نية مليكه واستعداده، كما حمل إليه هدية تتألف من سيف ملوكى وجوادين عربيين مسرجين بعدد ثمينة. واتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة فى الثانى من يناير سنة 1492 م (الثانى من ربيع الأول 897 هـ) أى لتسع وثلاثين يوماً فقط من توقيع عهد التسليم (1).

(1) تخلط معظم الروايات الإسلامية بين تاريخ توقيع المسلمين عهد تسليم غرناطة، وبين تاريخ استيلاء النصارى الفعلى عليها. وهى تضع هذا التاريخ فى الثانى من ربيع الأول سنة 897 هـ (2 يناير سنة 1492)(أخبار العصر ص 50؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 65). والواقع أن عهد التسليم وقع كما رأينا فى 25 نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم سنة 897 هـ) وهو يعتبر تاريخ سقوط غرناطة الرسمى فى يد النصارى، وذلك بعد تخلى المسلمين عن الدفاع عنها؛ ولم نجد بين الروايات الإسلامية سوى رواية واحدة هى رواية الوادى آشى تتفق مع الرواية النصرانية فى هذا التفريق فهو يقول إن استيلاء النصارى على غرناطة وقع فى المحرم سنة 897 هـ، وهو تاريخ توقيع عهد التسليم (راجع أزهار الرياض ج 1 ص 61)

ص: 257

وقد وصلت إلينا روايات عديدة عن حوادث هذا اليوم المؤسى ومناظره -يوم احتلال القشتاليين لمدينة غرناطة، آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس-، والرواية الغالبة التى يتفق عليها معظم المؤرخين الإسبان تقدم إلينا التفاصيل الآتية عن حوادث هذا اليوم المشهود.

ففى صباح هذا اليوم، كان المعسكر النصرانى فى شنتفى يموج بالضجيج والابتهاج. وكانت الأوامر قد صدرت، والأهبة قد اتخذت لاحتلال المدينة. وكان قد اتفق بين أبى عبد الله والملك فرناندو أن تطلق من الحمراء ثلاثة مدافع تكون إيذاناً بالاستعداد للتسليم. ولم يشأ فرناندو أن يسير إلى الحاضرة الإسلامية بنفسه، قبل التحقق من خضوعها التام، واستتباب الأمن والسلامة فيها.

فأرسل إليها قوة من ثلاثة آلاف جندى وسرية من الفرسان، وعلى رأسها الكردينال بيدرو دى مندوسا مطران اسبانيا الأكبر. وكان من المتفق عليه أيضاً بين فرناندو وأبى عبد الله ألا يخترق الجيش النصرانى شوارع المدينة، بل يسير تواً إلى قصبة الحمراء، حتى لا يقع حادث أو شغب. ومن ثم فقد اخترق الجند القشتاليون الفحص إلى ضاحية أرميليا Armilla ( أرملة) الواقعة جنوبى غرناطة، ثم عبروا نهر شنيل، واتجهوا تواً إلى قصر الحمراء من ناحية التل المسمى "تل الرَّحى" Questa de los Molinos، الواقع غربى المدينة وجنوبى غربى الحمراء.

وسار الملك فرناندو فى الوقت نفسه فى قوة أخرى، ورابط على ضفة شنيل، ومن حوله أكابر الفرسان والخاصة فى ثيابهم الزاهية، حتى يمهد الكردينال الطريق لمقدم الركب الملكى. وانتظرت الملكة إيسابيلا فى سرية أخرى من الفرسان فى أرميليا، على قيد مسافة قريبة.

ووصل الجند القشتاليون إلى مدينة غرناطة من هذه الطريق المنحرفة نحو الظهر، وكانت أبواب الحمراء قد فتحت وأخليت أبهاؤها استعداداً للساعة الحاسمة.

وهنا تختلف الرواية، فيقال إن الذى استقبل الكردينال مندوسا وصحبه هو الوزير ابن كماشه، الذى ندب للقيام بتلك المهمة المؤلمة، وسلم الحرس المسلمون السلاح والأبراج. وكان يسود المدينة كلها، ويسود القصبة والقصر، وما إليه، سكون الموت.

وفى رواية أخرى أن أبا عبد الله قد شهد بنفسه تسليم الحمراء، وأنه حينما تقدم القشتاليون من تل الرَّحى صاعدين نحو الحمراء، تقدم أبو عبد الله من

ص: 258

مخطط: غرناطة الإسلامية

ص: 259

باب الطباق السبع راجلا، يتبعه خمسون من فرسانه وحشمه. فلما عرف الكردينال أبا عبد الله، ترجل عن جواده، وتقدم إلى لقائه، وحياه باحترام وحفاوة، ثم ابتعد الرجلان قليلا، وتحدثا برهة على انفراد. ثم قال أبو عبد الله بصوت مسموع:(1)

"هيا يا سيدى، فى هذه الساعة الطيبة، وتسلم هذه القصور -قصورى- باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها، لفضائلهما، وزلات المسلمين".

فوجه الكردينال إلى أبى عبد الله بعض عبارات المواساة، ودعاه لأن يقيم فى خيمته فى المعسكر اللكى طيلة الوقت الذى يمكثه فى شنتفى، فقبل أبو عبد الله شاكراً. ثم سار فى فرسانه وحشمه للقاء الملك الكاثوليكى.

وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشه، الذى ندبه أبو عبد الله للقيام بهذه المهمة. وما كاد الكردينال وصحبه يجوزون إلى داخل القصر الإسلامى المنيف، حتى رفعوا فوق برجه الأعلى، وهو المسمى برج الحراسة Torre de la Vela صليباً فضياً كبيراً، هو الذى كان يحمله الملك فرناندو خلال حرب غرناطة، كما رفعوا إلى جانبه علم قشتالة وعلم القديس ياقب، وأعلن المنادى من فوق البرج بصوت جهورى ثلاثا أن غرناطة أصبحت ملكاً للملكين الكاثوليكيين وأطلقت المدافع تدوى فى الفضاء. ثم انطلقت فرقة الرهبان الملكية ترتل صلاة "الحمد لله" Te Deum laudamus، على أنغام الموسيقى. وهكذا كان كل هنالك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التى شهرتها اسبانيا النصرانية على الأمة الأندلسية، وعلى الإسلام فى اسبانيا.

وفى أثناء ذلك كان أبو عبد الله، فى طريقه إلى لقاء الملك الكاثوليكى.

وكان فرناندو يرابط كما قدمنا على ضفة نهر شنيل، على مقربة من المسجد، الذى حُوّل فيما بعد إلى كنيسة "سان سبستيان". وهنالك لقى أبو عبد الله عدوه الظافر، وسلمه مفاتيح الحمراء. وسوف نصف منظر هذا اللقاء المؤثر فيما بعد.

وكذلك قدم أبو عبد الله خاتمه الذهبى، الذى كان يوقع به على الأوامر الرسمية، إلى الكونت دى تندليا الذى عين محافظاً للمدينة.

وسار فى صحبه بعد ذلك فى طريق شنتفى، يتبعه أهله، أمه وزوجته وأخواته، وكانه موكباً مؤسياً. وعرج فى طريقه على محلة الملكة إيسابيلا فى أرميليا. فاستقبلته

(1) المفروض أن أبا عبد الله كان يتحدث بالقشتالية، وهى لغة كان يجيد التكلم بها

ص: 260

وأسرته برقة ومجاملة، وحاولت تخفيف آلامه، وسلمته ولده الصغير الذى كان ضمن رهائن التسليم.

وهنا تعود الرواية فتختلف اختلافاً بيناً. فيقول البعض إن الملكين الكاثوليكيين دخلا قصر الحمراء فى نفس اليوم. وينفى البعض الآخر ذلك، ومنهم صاحب " أخبار العصر"، ويقول إنهما لم يدخلاه إلا بعد ذلك ببضعة أيام.

تقول الرواية الأولى، إن الملكة إيسابيلا، سارت على أثر استقبالها لأبى عبد الله، وانضمت بصحبها إلى الملك فرناندو، ثم سار الإثنان إلى الحمراء، بينما انتشر القشتاليون فى الساحة المجاورة. ودخل الملكان من "باب الشريعة"، حيث استقبلهما الكردينال مندوسا والوزير ابن كماشه، وأعطى مفاتيح الحمراء إلى الدون ديجو دى مندوسا الذى عين حاكما للمدينة. وبعد أن تجول الملكان قليلا فى القصر، وشهدا جماله وروعته، عادا إلى شنتفى. وبقى الكونت دى تندليا فى الحمراء مع حامية قوية من خمسمائة جندى.

ثم عاد الملكان فزارا الحمراء زيارتهما الرسمية فى يوم 6 يناير، وسارا فى موكب فخم من الأمراء والكبر اء وأشراف العقائل، ودخلا غرناطة من باب إلبيرة، ثم جازا إلى الحمراء من طريق مرتفع غمارة، ودخلا قصر الحمراء وجلسا فى بهو قمارش أو المشور (1) حيث كان يجلس الملوك المسلمون فى نفس المكان على عرشهم، على عرش أعده الكونت دى تندليا، وهنالك أقبل أشراف قشتالة للتهنئة، وكذلك بعض الفرسان المسلمين، الذين أتوا ليقدموا شعائر التحية والتجلة لسادتهم الجدد.

وفى خلال ذلك كان الملكان الكاثوليكيان، قد أفرجا عن رهائن المسلمين الخمسمائة، وفى مقدمتها ولد أبى عبد الله، وأفرج المسلمون من جانبهم عن الأسرى النصارى، وعددهم نحو سبعمائة أسير رجالا ونساء. وتعهد القشتاليون من جانبهم، أن يطلقوا سراح الأسرى المسلمين فى سائر مملكة قشتالة، فى ظرف خمسة أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين بالأندلس، وثمانية أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين فى بقية أراضى قشتالة.

تلك خلاصة الرواية القشتالية عن تسليم غرناطة ومدينة الحمراء للملكين الكاثوليكيين. بيد أن هنالك رواية أخرى لشاهد عيان، كتبها فارس فرنسى كان يقاتل فى صفوف الجيش القشتالى، وشهد بنفسه حفلات التسليم، ونشرت

(1) وهو المسمى أيضاً بهو السفراء، وسوف نعود إلى وصفه عند الكلام على قصر الحمراء

ص: 261

روايته فى القرن السادس عشر ضمن مؤلف عنوانه La Mar de las Historias " بحر التواريخ". وهذه خلاصتها:

أن الذى أوفده الملكان الكاثوليكيان لاستلام الحمراء فى يوم 2 يناير، هو الأستاذ الأعظم رئيس جمعية شنت ياقب، جوتيرى دى كارديناس، وليس الكاردينال مندوسا حسبما تروى التواريخ القشتالية. وأنه تسلم القصر والأبراج وأخرج منها الحرس المسلمين، ووضع بها الحرس النصارى، وأنه رفع الصليب الكبير فوق برج الحراسة ثلاث مرات، والمسلمون من أسفل يصعدون الزفرات ويذرفون الدموع، ثم لوح بعده ذلك بعلم شنت ياقب ثلاث مرات، ونُصب إلى جانب الصليب، وصاح المنادى بعد ذلك: القديس يعقوب ثلاثاً. قشتالة ثلاثاً. غرناطة لسيدنا الدون فرناندو ودونيا إيسابيل ثلاثاً.

وأن الملك فرناندو لما رأى الصليب، وهو فى جنده من أسفل، ترجل وجثا على ركبتيه، وجثا الجند جميعاً شكراً لله. ثم أطلقت المدافع ابتهاجاً.

وفى اليوم التالى الثالث من يناير، سار الكردينال مندوسا والكونت دى تندليا، الذى عين محافظاً للحمراء، إلى قصبة الحمراء فى نحو ألف فارس وألفى راجل، وسلم إليه الأستاذ الأعظم مفاتيح القصر والحصن.

وفى اليوم الثامن من يناير، سار الملكان الكاثوليكيان إلى غرناطة، فى موكب حافل من الأمراء والأكابر والأحبار والأشراف، وتسلم الملكان مدينة الحمراء بصفة رسمية. وأقيم القداس فى الجامع الأعظم، وحول الجامع منذ ذلك اليوم إلى كتدرائية غرناطة.

وفى ذلك اليوم أقيمت مأدبة عظيمة فى قصر الحمراء، ومدت الموائد الحافلة فى أبهاء القصر العظيمة، وجلس إليها الملكان والأمراء والعظماء، وكانت مأدبة رائعة.

ويستخلص من هذه الرواية، التى يؤيدها مؤرخون آخرون، أن أبا عبد الله لم يستقبل الملكين الكاثوليكيين ولا مندوبيهما وقت التسليم، ولم تقع بينه وبين الكردينال ولا بين الملكين، الأحاديث التى سبقت الإشارة إليها.

وإلى جانب ذلك يرى بعض النقدة المحدثين، أن أبا عبد الله حينما خرج للقاء الملكين الكاثوليكيين، قد فعل ذلك وهو فى صحبه وحشمه فقط دون أهله، وأنه خرج يومئذ من داره الملكية الخاصة بحىّ البيازين، ولم يخرج من قصر الحمراء، وأنه كان يعيش فى هذه الدار مع أهله وولده مذ عاد من الأسر،

ص: 262

حتى أعلن الخلاف والحرب على الملكين الكاثوليكيين (1)، وأنه كان يشعر وهو فى هذه الدار، أنه بين أنصاره ومؤيديه، وأخيراً أنه كان قد أمر بإخلاء قصر الحمراء، وندب من يقوم بمهمة التسليم فى اليوم الثانى من يناير. وفى هذا اليوم خرج فى نفر من صحبه، ليقدم إلى الملكين الكاثوليكيين شعائر التحية والخضوع، ثم عاد إلى داره فبقى بها أياماً، حتى سويت مسألة مصيره مع الملكين الكاثوليكيين.

على أنه يبدو لنا من تتبع حوادث حصار غرناطة، وما تلاه من مفاوضات على التسليم، أن الرواية الراجحة فى هذا الشأن، هو أن أبا عبد الله، حتى مع افتراض أنه لم يشهد رسوم التسليم، ولم يقم بها بنفسه " كان يقيم بقصر الحمراء، يحيط به وزراؤه وقواده طيلة هذه الأحداث الخطيرة، أو على الأقل مذ بدأت مفاوضات التسليم بينه وبين الملكين الكاثوليكيين، ومذ أبرمت بينهما معاهدة التسليم، حتى يوم الحسم النهائى الذى تم فيه ذلك التسليم، وأنه خرج فى ذلك اليوم المشهود من الحمراء للقاء عدوه الظافر. ومن المعقول أن تكون الحمراء قد أخليت قبل ذلك استعداداً لتسليمها لسادتها الجدد، وذلك حسبما يشير إليه صاحب "أخبار العصر" (2).

هذا وتلقى الرواية الإسلامية المعاصرة ضوءاً على دخول ملك قشتالة مدينة غرناطة، وتصفه على النحو الآتى:

"فلما كان اليوم الثانى لربيع الأول عام سبعة وتسعين وثمانمائة (2 يناير سنة 1492) أقبل ملك الروم بجيوشه حتى قرب من البلد، وبعث جناحاً من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء، وأقام هو ببقية الجيوش خارج البلد، لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع الإتفاق على ما ذكر، رهوناً من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم، وأقعدهم بمحلته. فلما اطمأن من أهل البلد، ولم ير منهم غدراً، سرح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير وبقى هو خارج البلد، وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعدة، وترك فيها قائداً من قواده، وانصرف راجعاً إلى محلته .. ثم إن ملك الروم

(1) راجع فى روايات تسليم غرناطة: Lafuente Alcantara (y citaciones) ; ibid، V. III

p. 72 & 73; Marmol: Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos del Reino de

Granada، Lib. I. Cap. XX ; Gaspar y Remiro: Entrada de los Reyes Catolicos en

Granada al Tiempo de su Rendicion (Revista del Centro de Estudios historicos de

Granada y su Reino - Ano I.، Num. I، p. 7 - 24)

(2)

أخبار العصر ص 50

ص: 263

سرح الناس الذين كانوا عنده مرتهنين، ومُؤمّنين فى أموالهم وأنفسهم مكرمين.

وأقبل فى جيوشه حين أطمأن، فدخل مدينة الحمراء فى بعض خواصه، وبقى الجند خارج البلد، وبقى يتنزه فى الحمراء فى القصور والمنارة المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنوده وصار إلى محلته. فمن غد أخذ فى بناء الحمراء وتشييدها، وتحصينها وإصلاح شأنها، وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردد إلى الحمراء بالنهار ويرجع بالليل لمحلته، فلم يزل كذلك إلى أن اطمأنت نفسه من غدر المسلمين، فحينئذ دخل البلد، ودار فيه فى نفر من قومه وحشمه

" (1).

وهكذا اختتمت المأساة الأندلسية، واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية فى اسبانيا، وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب، وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس، وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام، وقُضى على الحضارة الأندلسية الباهرة، وآدابها وعلومها وفنونها، وكل ذلك التراث الشامخ، بالفناء والمحو.

شهد المسلمون احتلال العدو الظافر لحاضرتهم ودار ملكهم، وموطن آبائهم وأجدادهم، وقلوبهم تتفطر حزناً وأسى. على أن هذه المناظر المحزنة، كانت تحجب مأساة أليمة أخرى؛ تلك هى مأساة الملك التعس أبى عبد الله آخر ملوك بنى الأحمر وآخر ملوك الإسلام بالأندلس.

فقد تقرر مصيره، وبينت حقوقه وامتيازاته وفقاً للمعاهدة السرية التى عقدت يينه وبين الملكين الكاثوليكيين. وقد نصت المعاهدة المذكورة على أن يقطع أبو عبد الله طائفة من الأراضى والضياع فى برجة ودلاية وأندرش وأجيجر وأرجبة ولوشار وبضعة بلاد أخرى من أعمال منطقة البشرّات، وهذه البلاد يقع بعضها فى جنوب غربى ولاية ألمرية، والبعض الآخر قبالتها فى جنوب شرقى ولاية غرناطة، وأن يحكم أبو عبد الله فى هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، ويتمتع بدخلها وسائر غلاتها وحقوقها. وقد حددت إقامته، أو اختار هو الإقامة فى إحداها وهى بلدة أندَرَش الواقعة على النهر الأخضر شمالى ثغر أدرة الصغير.

ولما اقترب اليوم المروع -يوم التسليم- قام أبو عبد الله باتخاذ أهبته للرحيل مع أهله وحشمه وخاصته. وفى صباح اليوم الثانى من يناير سنة 1492 م، فى الوقت

(1) أخبار العصر ص 50 و 51

ص: 264

الذى اقترب فيه النصارى من أسوار غرناطة، كان أبو عبد الله قد غادر قصره وموطن عزه ومجد آبائه إلى الأبد، فى مناظر تثير الأسى والشجن.

وهنالك روايتان، فهل خرج أبو عبد الله عندئذ لآخر مرة من الحمراء مع أهله وحشمه وأمتعته؟ أم هل خرج بمفرده فى صحبه من الحمراء للقاء الملكين الكاثوليكيين، ثم لحق به بعد ذلك ركب أهله وأمتعته؟ وهل سار تواً إلى طريق البشرّات حيث تعين محل إقامته، أم عرج على المعسكر القشتالى الملكى فى شنتفى فلبث فيه مع أهله أياماً، ثم سار بعد ذلك إلى البشرات؟

أما الرواية الأولى، وهى أكثر الروايات ذيوعاً لدى المؤرخين القشتاليين، فتجرى على النحو الآتى:

فى فجر اليوم الثانى من يناير، وهو اليوم الذى حدد لتسليم الحمراء، كان

رنين البكاء يتردد فى غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة فى حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وقد ساد الوجوم كل محيا، واحتبست الزفرات فى الصدور. وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر، ركب قاتم مؤثر هو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين. وكانت أمه الأميرة عائشة تمتطى صهوة جوادها، يشع الحزن من محياها الوقور، وكان باقى السيدات من آله وحشمه، يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخينة. واخترق الركب غرناطة فى صمت البكور وستره؛ وحين بلغ الباب الذى سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضج الحراس بالبكاء لرؤية ذلك المنظر المؤلم، ثم اتجه الركب صوب نهر شنيل فى طريق البشرات. وليس أبلغ فى وصف هذه المناظر المؤسية من قول شوقى طيب الله ثراه:(1).

مشت الحادثات فى غرف الحمـ

راء مشى النعش فى دار عرس

هتكت عزة الحجاب وفضت

سدة الباب من سمير وأنس

عرصات تخلت الخيل عنها

واستراحت من احتراس وعس

ومغارة على الليالى وضاء

لم تجد للعشى تكرار مس

آخر العهد بالجزيرة كانت

بعد عرك من الزمان وضرس

فنراها تقول راية جيش

باد بالأمس يين أمر وحس

(1) من قصيدته السينية الأندلسية الشهيرة، التى ينحو فيها نحو البحترى فى سينيته

ص: 265

ومفاتيحها مقاليد ملك

باعها الوارث المضيع ببخس

خرج القوم فى كتائب صم

عن حفاظ كموكب الدفن خرس

ركبوا بالبحار نعشا

وكانت تحت أبائهم هى العرش أمس

وأما أبو عبد الله، فقد اتجه إلى وجهة أخرى ليتجرع كأسه المرة إلى الثمالة، وكان قد تقرر اللقاء فى صباح ذلك اليوم بينه وبين ملك قشتالة، فخرج من باب مدينة الحمراء المسمى باب الطباق السبع Siete Suelos، فى طريقه إلى لقاء عدوه الظافر، وسيده الجديد، فى نفر من الفرسان والخاصة. فاستقبله فرناندو بترحاب وحفاوة فى محلته على ضفة نهر شنيل. وتصف لنا الرواية القشتالية هذا المنظر المؤثر فتقول إن أبا عبد الله حين لمح فرناندو هَمَّ بترك جواده، ولكن فرناندو بادر بمنعه وعانقه بعطف ومودة، فقبّل أبو عبد الله ذراعه اليمنى إيماءة الخضوع. ثم قدّم إليه مفتاحى البابين الرئيسيين للحمراء قائلا:"إنهما مفتاحى هذه الجنة، وهما الأثر الأخير لدولة المسلمين فى اسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا. هكذا قضى الله، فكن فى ظفرك رحيما عادلا". وتضيف الرواية القشتالية إلى ذلك أن فرناندو تناول المفتاحين قائلا: "لا تشك فى وعودنا، ولا تعوزنك الثقة خلال المحنة، وسوف تعوض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك"(1). بيد أن مؤرخاً قشتالياً عاش قريباً من ذلك العصر، يقدم إلينا رواية أخرى ربما كانت أقرب إلى الصحة والمعقول، وهى أن مفاتيح الحمراء قدمها القائد ابن كماشه مأمور التسليم إلى الملك فرناندو حينما وصل إلى الباب الرئيسى، وأن فرناندو ناولها بدوره إلى قائده لوبث دى مندوسا (كونت تندليا) الذى عينه حاكماً عسكرياً لغرناطة (2). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرناندو، إلى حيث كانت الملكة إيسابيلا فى ضاحية أرمليا، فقدم إليها تحياته وطاعته. ثم ارتد إلى طريق البشرّات ليلحق بأسرته وخاصته. وهنا تقول الرواية القشتاية إن أبا عبد الله

(1) تردد معظم التواريخ القشتالية اللاحقة وصف هذا المنظر الذى يصطبغ بلون الأسطورة.

وقد خلدته ريشة المصور الإسبانى فى أكثر من لوحة شهيرة تعرض فى المتاحف الإسبانية، وحفرته

يد الفنان فى داخل كنيسة طليطلة العظمى. راجع فى ذلك: L. Alcantara: ibid ; V. III. p. 73

(2)

Luis del Marmol: Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada،

Lib. I، Cap. XX

ص: 266

أشرف أثناء مسيره فى شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة، فوقف يسرح بصره لآخر مرة فى هاتيك الربوع العزيزة التى ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه، فانهمر فى الحال دمعه، وأجهش بالبكاء. فصاحت به أمه عائشة؛ "أجل فلتبك كالنساء، ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال". وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التى كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعرى مؤثر هو "زفرة العربى الأخيرة" El ultimo Suspiro del Moro، وما تزال قائمة معروفة حتى اليوم، يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول.

ثم تقول الرواية أيضاً إن باب الحمراء الذى خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة، وهو باب الطباق السبع قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة، وبنى مكانه، حتى لا يجوزه من بعده إنسان (1). وما زالت الرواية تعين لنا مكان هذا الباب بين الأطلال الدارسة. وهو يقع فى طرف الهضبة فى الجنوب الشرقى منها على مقربة من "برج الماء". وقد رأيناه، وقد سد فراغه حقيقة بالبناء.

وأما الرواية الأخرى، وهى الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء فى صبيحة يوم التسليم بمفرده وفى نفر من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحىّ البيازين ليلتقى به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك تواً إلى البشرّات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالى فى شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سويت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندرش التى اختارها أبو عبد الله مستقراً ومقاماً.

وقد كان لمحنة الأندلس المؤلمة ونهايتها المحزنة، وقع عميق فى جنبات العالم الإسلامى، ولاسيما فى أمم المغرب، فى الضفة الأخرى من البحر. غير أن هذه المحنة الغامرة لم تثر وحى الشعر، كما أثاره من قبل سقوط الثغور والقواعد الأندلسية، أيام أن كان للدولة الإسلامية بقيو من القوة والأمل. ذلك أن دولة الشعر الأندلسى كانت قد انهارت منذ بعيد، وتحطمت الأقلام، وعقدت المحنة الغامرة كل لسان.

ومع ذلك فقد صدرت فى رثاء الأندلس نفثات قوية مؤثرة تهز أوتار القلوب، معظمها من الضفة الأخرى من البحر من شعراء المغرب.

ومن أشهر المراثى التى نظمت فى رثاء الأندلس عقب المحنة بقليل، رثاء طويل

(1) Marmol:ibid ; Lib. I ; Cap. XX ; L. Alcantara; ibid; V. III. p. 80

ص: 267

مؤثر لشاعر أندلسى مجهول، يبدو أنه عاصر حوادث المحنة من بدايتها حتى نهايتها.

وإليك مقتطفات من تلك المرثية المشجية التى رتبت وفقاً للوقائع والتواريخ:

أحقاً خبا من جو رندة نورها

وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت

منازلها ذات العسلا وقصورها

فيا ساكنى تلك الديار كريمة

سقى عهدكم مزن يصوب نميرها

أحقاً أخلائى القضاء أبادكم

ودارت عليكم بالصروف دهورها

فقتل وأسر لا يفادى وفرقة

لدى عرصات الحشر يأتى سفيرها

فواحسرتا كم من مساجد حولت

وكانت إلى البيت الحرام شطورها

وواأسفا كم من صوامع أوحشت

وقد كان معتاد الأذان يزورها

فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى

وآياتها تشكو الفراق وسورها

وكم طفلة حسناء فيها مصونة

إذا أسفرت يسبى العقول سفورها

فأضحت بأيدى الكافرين رهينة

وقد هتكت بالرغم منها ستورها (1)

وكم فيهم من مهجة ذات ضجة

ترد لو انضمت عليها قبورها

لها روعة من وقعة البين دائم

أساها وعين لا يكف هديرها

وكم من صغير فى حجر أمه

فأكبادها حراء لفح هجيرها

وكم من صغير بدل الدهر دينه

وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها

لأندلس ارتجت لها وتضعضعت

وحق لديها محوها ودثورها

منازلها مصدورة وبطاحها

مدائنها موتورة وثغورها

تهانمها مفجوعة ونجودها

وأحجارها مصدوعة وصخورها

وقد لبست ثوب الحداد ومزقت

ملابس حسن كان بزهو حبورها

فأحياؤها تبدى الأسى وجمادها

يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها

فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة

قد استفرغت ذبحاً وقتلا حجورها

وجزت نواصيها وشلت يمينها

وبدل الويل المبين سرورها

(1) يكرر الشاعر فى هذه الأبيات نفس المعانى التى وردت فى مرثية أبى الطيب الرندى الشهيرة

ص: 268

وقد كانت الغربية الجنن التى

تقيها فأضحى جنة الحرب سورها

وبلِّش قطعت رجلها بيمينها

ومن سريان الداء بان قطورها

وضحت على تلك الثنيات حجرها

فأقفر مغناها وطاشت حجورها

وبالله إن جئت المنكَّب فاعتبر

فقد خف ناديها وجف نضيرها

ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم

قد ارتج باديها وضج حضورها

بدار العلا حيث الصفات كأنها

من الخلد والمأوى غدت تستطيرها

محل قرار الملك غرناطة التى

هى الحضرة العليا زهتها زهورها

ترى الأسى أعلامها وهى خُشَّع

ومنبرها مستعير وسريرها

ومأمومها ساهى الحجى وإمامها

وزائرها فى مأتم ومزورها

وبَسْطة ذات البسط ما شعرت بما

دهاها وأنى يستقيم شعورها

وما أنس لا أنس المريَّة إنها

قتيلة أوجال أزيل عذارها

منازل آبائى الكرام ومنشىء

وأولى أوطان غذانى خيرها (1).

ثم يشير الشاعر بعد هذا الترتيب التاريخى لسقوط قواعد الأندلس، إلى محاولة الإسبان تنصير المسلمين لأول مرة، وما ترتب على ذلك من قيام الثورة فى بعض الجهات:

وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا

جيوش كموج هبت دبورها

علامات أخذ ما لنا قبل بها

جنايات أخذ قد جناها مثيرها

فلا تنمحى إلا بمحو أصولها

ولا تتجلى حتى تخط أصورها

معاشر أهل الدين هبوا لصعقة

وصاعقة وارى الجسوم ظهورها

أصابت منار الدين فانهد ركنه

وزعزع من أكنافه مستطيرها

إلا واستعدوا للجهاد عزائماً

يلوح على ليل الوغى مستنيرها

بأنفس صدق موقنات بأنها

إلى الله من تحت السيوف مصيرها

تروم إلى دار السلام عرائساً

على الله فى ذاك النعيم مهورها (2).

(1) يبدو من هذا البيت أن الشاعر كان من أهل ألمرية ونشأ بها.

(2)

نشر هذه المرثية وهى فى أكثر من مائة بيت أحد أدباء الجزائر، مقرونة بترجمة فرنسية تحت عنوان: Une Elégie andalouse sur la guerre de Grenade وذكر الناشر وهو صويلح محمد، أنه نقلها عن مخطوط محفوظ بمكتبة الجزائر ومؤرخ فى شعبان سنة 897 هـ (يونيه سنة 1492 م) أعنى بعد سقوط غرناطة ببضعة أشهر. والظاهر أنه حينما وضعت هذه القصيدة كان الإسبان قد بدأوا محاولتهم الأولى لتنصير المسلمين

ص: 269

هذا وقد صدرت عن أدباء المغرب، فى الضفة الأخرى من البحر، طائفة كبيرة من المراثى البليغة، فى نعى الأندلس والإشادة بفضائلها، وفداحة الخطب فيها. وكان شعراء المغرب لقربهم من مسرح الحوادث، ووقوفهم على كثير من الأخبار والسير المفجعة عن إخوانهم بالأندلس، أشد من غيرهم تأثراً بالمحنة، وأكثرهم إفاضة فى ندب ويلاتها (1).

(1) نقل إلينا المقرى فى أزهار الرياض بعض هذه المراثى المغربية، ومن ذلك قصيدة أبى العباس أحمد بن محمد الصنهاجى المشهور بالدقون (ج 1 ص 104 وما بعدها)

ص: 270