الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثانى
ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية
أصل الفكرة فى محاكم التحقيق الأولى. إجراءاتها وعقوباتها. التوسع فى اختصاصاتها. قيام محاكم التحقيق فى أراجون. النزعة الصليبية فى اسبانيا. مطاردة اليهود المتنصرين. محاولة البابوية إقامة الديوان فى قشتالة. معارضة فرناندو وإيسابيلا. مساعى الأحبار والقس تركيمادا. موافقة فرناندو وإيسابيلا. صدور المرسوم البابوى بإنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة. قيام ديوان التحقيق الإسبانى. بداية نشاطه فى إشبيلية. اتساع نطاق أعماله. إنشاء المجلس الأعلى أو السوبريما. المحقق العام. جهود تركيمادا فى تنظيم الديوان. إجراءات ديوان التحقيق. التبليغ وطرقه وآثاره. الأحبار المقررون. القبض على المتهم. سجون الديوان. المحاكمة وإجراءاتها. الإحالة على التعذيب. أحكام التعذيب. تعليق الدون لورنتى. أنواع التعذيب وإجراءاته. الإستجواب. الدفاع والمرافعات. الأحكام. تنفيذ العقوبة. حكم الإعدام. الأوتو دافى. محاكمة الغائبين والمتوفين. أثر الأحكام. بطش الديوان وحصانة المحققين. موقف العرش. خمنيس وجهوده فى إصلاح الديوان. شارل الخامس وموقفه من الديوان. بدء مطاردة المدجنين والموريسكيين. مهمة محاكم التحقيق. فكرة القضاء على الأمة الأندلسية. ديوان التحقيق يضطلع بهذه المهمة. اضطهاد الموريسكيين وريب الكنيسة فى إخلاصهم. تحرجهم من دينهم الجديد. أقوال الرواية القشتالية. وثيقة عربية تؤيد تمسكهم سراً بدينهم القديم، وتحايلهم على نبذ شعائر النصرانية. السياسة الإسبانية نحو الموريسكيين. إجراءات القمع. ذرائع الإتهام. الشبهات الخطرة. الموريسكيون فى غرناطة وبلنسية. استغاثة الموريسكيين بالسلطان بايزيد الثانى. وثيقة عربية عن أحوالهم وآلامهم.
قام ديوان التحقيق ( La Inquisicion) فى مطاردة الموريسكيين بأعظم دور، وترك فى مأساتهم أعمق الأثر، ومن ثم فإنه يجدر بنا أن نتحدث عن تاريخ هذه المحاكم الشهيرة، ونظمها وأعمالها الرهيبة.
ويرجع قيام محاكم التحقيق إلى فكرة الرقابة القديمة على العقيدة، والتحقق من سلامتها ونقائها. وقد ظهرت فكرة التحقيق فى أمر العقائد فى الكنيسة الرومانية فى عصر مبكر جداً، وبدىء بتطبيقها منذ أوائل القرن الثالث عشر، فكان البابا يعهد إلى الأساقفة وإلى الآباء الدومنيكيين، فى تعقب المارقين والكفرة ومعاقبتهم. وطبق هذا النظام منذ البداية فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وكان مندوبو البابوية
يتجولون فى مختلف الأنحاء، لتقصى أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هى النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يوجد الكفرة والملاحدة، ثم تحل متى تمت مهمة مطاردتهم والقضاء عليهم.
ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها فى أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة فى هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أى مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رياسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجرى بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن. وكان يسمح للنساء والصبية والعبيد بالشهادة ضد المتهم وليس له، ويؤخذ الإعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التى يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة. وكانت العقوبات الرئيسية هى السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لنشاطه فى مطاردة الألبيين (1) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا منذ أوائل القرن الثالث عشر فى جنوب فرنسا. وفى عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق فى تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة فى العهد القديم.
ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضى الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر، والزيغ فى العقيدة، بل تعدته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرافة والعرافين، وشبه هؤلاء بالكفرة. وجاء بعد ذلك دور اليهود، فاتهموا بسب النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا، وتتبعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب. على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر فى مطاردة الكفر والزيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها.
(1) نسبة إلى "ألبى" وهى مدينة بجنوبى فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة
- 2 -
تلك هى الظروف التى قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، فى مختلف أنحاء أوربا، فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسبانى إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة.
وقد أنشئت محاكم التحقيق فى مملكة أراجون منذ أوائل القرن الثالث عشر، ووضعت لها فى سنة 1242 م إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر فى صوغ نظم ديوان التحقيق الإسبانى. وعرف هذا الديوان الأرجونى بالديوان القديم وعكف حيناً على مطاردة طوائف الألبيين، وإخماد دعوتهم فى أراجون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والروع.
على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة المدى لنشاط ديوان التحقيق الإسبانى. ذلك أن ظروف اسبانيا النصرانية فى ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين اسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها فى ميدان الحرب والسياسة، كانت كلها تذكى النزعة الصليبية، التى كانت تجيش بها اسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر، إلى طوائف كبيرة من المدجنين فى مهاد عزها القديم، فى قشتالة وأراجون، ولم تبق منها سوى بقية أخيرة تحتشد فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً فى الأفق. وكان تفوّق اسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكى عوامل التعصب الدينى الذى تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه اسبانيا الظافرة يومئذ شعارها المفضل فى ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم فى هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من اليهود ( Conversos) ؛ وكان أولئك المحدثون فى النصرانية، قد سما شأنهم ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية فى الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الريب، ويعتبرونهم شراً من اليهود الخلص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً. ولما تفاقم الإتهام من حولهم صدر فى سنة 1465 م فى عهد الملك هنرى الرابع ملك قشتالة، أمر ملكى إلى الأساقفة، بالاستقصاء والبحث فى دوائرهم، وتتبع هذا اللون من المروق والزيغ ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد اتخذت صورة المحاكمات الدينية،
وأحرق عدد من أولئك المتنصرين. ولكن قشتالة التى شغلت يومئذ بمشاكلها الداخلية، لم تعن بأمر المتنصرين ولم تزعجهم. وهنا تدخل البابا سكستوس الرابع، وحاول أن يدخل نظام التحقيق فى قشتالة، فأرسل إليها مبعوثاً بابوياً مزوداً بكل السلطات، للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم. ولكن فرناندو وإيسابيلا وقفا فى وجه هذه المحاولة حرصاً على سلطانهما، وحداّ من سلطة الكنيسة، وأغضت إيسابيلا مدى حين عن تحريض الأحبار، على مطاردة الكبراء المنتمين إلى أصل يهودى إذ كانت تثق بهم وبصادق نياتهم وغيرتهم فى خدمة الدولة والعرش.
على أن هذه المقاومة لم تلبث طويلا. ذلك أن كل الظروف كانت تمهد لظفر السياسة الكنسية، فلم تلبث أن غلبت مساعى الأحبار، وقبل الملكان إنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة، ليضطلع بمثل المهام الخطيرة التى يضطلع بها فى أراجون. وهنا يقال إن الفضل فى إقناع الملكة إيسابيلا بتحقيق هذه الفكرة يرجع إلى القس توماس دى تُركيمادا رئيس دير الآباء الدومنيكان فى سانتا كروث بشقوبية، وقد كان معترف الملكة وله عليها نفوذ قوى، فقيل إنه استطاع أن يحصل منها قبل اعتلائها العرش، على وعد بأنها متى ظفرت بالملك، فإنها تكرس حياتها لسحق الكفر وحماية الكثلكة، وأنه كان أكثر العاملين على إقناعها بالموافقة على إنشاء ديوان التحقيق. وفى سنة 1478 أرسل فرناندو وإيسابيلا سفيرهما إلى البابا، للحصول على المرسوم البابوى، وصدر المرسوم بالفعل فى نوفمبر من هذا العام بالتصريح بإنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة، وتعيين المحققين "لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين"، واتخذت الخطوة الحاسمة لتنفيذ المرسوم فى سبتمبر سنة 1480، حيث ندب المحققون الثلاثة الأول، وأنشئت محكمة التحقيق الأولى فى إشبيلية. وهكذا بدأ ديوان التحقيق الإسبانى نشاطه المروع فى قشتالة.
- 3 -
وبدأ الديوان أعماله فى إشبيلية بإصدار قرارات يحث فيها كل شخص أن يساعد الديوان، فى البحث عن الملحدين والكفرة، وكل من فى عقيدتهم زيغ، وفى جمع الأدلة على إدانتهم، وفى التبليغ عنهم بأية وسيلة، وانقضت العاصفة بالأخص على اليهود المتنصرين، وكانت منهم طائفة كبيرة فى إشبيلية، فلم يمض عام حتى بلغت ضحاياهم ألوفاً أحرق منهم عدد كبير، وعوقب الكثيرون بالسجن والغرامات الفادحة، والمصادرة والتجريد من الحقوق المدنية
وحاول كثير من المتنصرين النجاة بالفرار إلى ضياع الأشراف، فصدر أمر ملكى بتسليم الهاربين إلى محكمة التحقيق، وهدد الأشراف بفقد وظائفهم والنفى من الكنيسة، إذا تخلوا عن تنفيذ الأمر. وحاول بعض أكابر المتنصرين فى الوقت نفسه تدبير مؤامرة، لمقاومة محكمة التحقيق والفتك بأعضائها، ولكن المؤامرة اكتشفت وقبض على كثير منهم، وقضى بإعدام البعض حرقاً، وبذا سحقت كل مقاومة لنشاط الديوان الجديد.
واتسع نشاط الديوان بسرعة، واستصدر الملكان من البابا مرسوماً بتعيين سبعة من "المحققين" الجدد (فبراير سنة 1482)، وأنشئت على أثر ذلك محاكم التحقيق فى قرطبة وجيان وشقوبية وطليطلة وبلد الوليد، وشمل نشاط الديوان سائر أنحاء المملكة الإسبانية (قشتالة وأراجون).
وكان فرناندو وإيسابيلا يرميان إلى أن تسبغ الصفة القومية على ديوان التحقيق، وأن يكون سلطانه مستمداً من العرش، أكثر مما هو مستمد من البابوية. ولتحقيق هذه الغاية رؤى أن ينظم الديوان على أسس جديدة. وكان الديوان قد غدا فى الواقع أداة هامة مرهوبة الجانب، ولابد لهذه الأداة من سلطة عليا تقوم بالتوجيه والإرشاد.
ومن ثم فقد صدر المرسوم البابوى فى سنة 1483 بإنشاء مجلس أعلى لديوان التحقيق ( Suprema) له اختصاص مطلق فى كل ما يتعلق بشئون الدين، ويتألف من أربعة أعضاء منهم الرئيس، وأطلق على منصب الرئيس منصب "المحقق العام" Inquisitor General، وصدر المرسوم البابوى فى أكتوبر سنة 1483 بتعيين القس توماس دى تركيمادا معترف الملكين، فى هذا المنصب الخطير، وخول فى الوقت نفسه سلطة مطلقة فى وضع دستور جديد للديوان المقدس.
وكان تركيمادا حبراً شديد التعصب، وافر البأس والعزم، فبذل فى تنظيم الديوان وتوطيد سلطانه جهوداً عظيمة، وبث إليه روحاً من الصرامة. وكان جل غايته أن يجعل من ديوان التحقيق الإسبانى، أداة قومية تعمل وفقاً لحاجات اسبانيا، وقد وفق فى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حد. وبدىء بوضع دستور الديوان الجديد فى سنة 1485، على يد جمعية من المحققين العامين عقدت فى إشبيلية، ووضعت طائفة من القرارات واللوائح، ثم عقدت بعد ذلك جمعية أخرى فى بلد الوليد سنة 1488 ووضعت عدة لوائح جديدة، وعقدت جمعية ثالثة فى آبلة سنة 1498.
وتولى المجلس الأعلى (السوبريما) بعد ذلك صياغة اللوائح وتنقيحها. وكان هذا
التنظيم عظيم الأثر فى تطور ديوان التحقيق الإسبانى. ذلك أنه غدا من ذلك الحين محكمة قومية مستقلة، وغدا سلطة يخافها أعظم العظماء فى اسبانيا، ويرتجف لذكرها الفرد العادى، وأضحى نشاطها الرهيب، وقضاؤها المدمر، عنصراً بارزاً فى التاريخ الإسبانى، يقوم بدوره الفعال فى دفع اسبانيا إلى شفا المنحدر، الذى لبثت تتردى فى غمره زهاء ثلاثة قرون.
ولبث تُركيمادا فى منصب المحقق العام حتى توفى فى سنة 1498. وفى عهده اشتد نشاط محاكم التحقيق واتسعت أعمالها، وكان هذا القس المتعصب بالرغم من تقشفه، يعتبر بعد العرش أعظم سلطة فى اسبانيا، ويعيش فى قصور باذخة، وله حرس كبير من الفرسان والمشاة. وكان من جراء شدته وعسفه أن ندب البابا سنة 1494 إلى جانبه خمسة من المحققين العامين، يتمتع كل منهم بنفس سلطته. ولما توفى خلفه فى منصب المحقق العام ديجو ديسا أسقف جيان، واستمر فى منصبه حتى سنة 1507 م.
- 4 -
ونقدم الآن عرضاً موجزاً لإجراءات ديوان التحقيق. وسنرى أنها بأصولها وتفاصيلها، أبعد ما يكون عن مبادىء المنطق والعدالة، وأشد ما يكون عسفاً وقسوة وهمجية.
تبدأ قضايا الديوان أو محاكماته الفرعية، بالتبليغ أو ما يقوم مقامه، كورود عبارة فى قضية منظورة تلقى شبهة على أحد ما. ولا فرق بين أن يكون التبليغ مع شخص معين أو يكون غفلا. ففى الحالة الأولى يدعى المبلغ ويذكر أقواله وشهوده، وتعتبر أقوال المبلغ وشهوده "تحقيقاً تمهيدياً". كذلك يمكن التبليغ بواسطة "الإعتراف" الذى يتلقاه القسس، ولهم أن يبلغوا عما يقعون عليه من حالات الإشتباه فى العقائد، ولا توضح لهم الوقائع التى يُسئلون عنها بل يسئلون بصفة عامة، عما إذا كانوا قد رأوا أو سمعوا شيئاً يناقض الدين الكاثوليكى أو حقوق الديوان. ويقوم الديوان فى الوقت نفسه بإجراء التحريات السرية المحلية عن المبلغ ضده. ثم تعرض نتيجة التحقيق التمهيدى على " الأحبار المقررين " ليقرروا ما إذا كانت الوقائع والأقوال المنسوبة إلى المبلغ ضده تجعله مرتكباً لجريمة الكفر أو تلقى عليه فقط شبهة ارتكابها.
وقرارهم يحدد الطريقة التى تتبع فى سير القضية. ويقسم المقررون يمين الكتمان أيضاً، وكان معظم أولئك المقررين من القسس الجهلاء المتعصبين، ومن ثم فقد كانت
أخلاقهم وآراؤهم، بل ذمتهم وشرفهم مثاراً للريب، وكان رأيهم الإدانة دائماً إلا فى أحوال نادرة.
وعلى أثر صدور هذا التقرير، يصدر النائب أمره بالقبض على المبلغ ضده وزجه إلى سجن الديوان السرى. وكانت سجون الديوان المخصصة لاعتقال المتهمين بالكفر أو الزيغ، وهى المعروفة بالسجون السرية، غاية فى الشناعة والروعة، تتصل مباشرة بغرف التحقيق والعذاب، عميقة مظلمة رطبة تغص بالحشرات والجرذان. ويصفد المتهمون بالأغلال (1). ويقول لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق الإسبانى إن أفظع ما فى أمر هذه السجون هو أن من يزج إليها، يسقط فى الحال فى نظر الرأى العام، وتلحقه وصمة لا تلحقه من أى سجن آخر مدنى أو دينى، وفيها يسقط فى غمار حزن لا يوصف وعزلة عميقة دائمة، ولا يعرف إلى أى مدى وصلت قضيته، ولا ينعم بتعزية مدافع عنه. غير أن لورنتى ينفى تصفيد المتهمين بالأغلال الثقيلة فى أرجلهم وأيديهم وأعناقهم، ويقول إن هذا الإجراء لم يكن يتبع إلا فى أحوال نادرة (2). ويقول الدكتور لى:"كان القبض الذى يجريه ديوان التحقيق فى ذاته عقوبة خطيرة. ذلك أن أملاك السجين كلها تصادر وتصفى على الفور، وتقطع جميع علائقه بالعالم حتى تنتهى محاكمته. وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة، لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرقه المحاكمة"(3).
ولا يخطر المتهم بالتهم المنسوبة إليه، ولكنه يمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات فى ثلاثة أيام متوالية، تعرف بجلسات الرأى أو الإنذار، وفيها يطلب إليه أن يقرر الحقيقة، ويوعد بالرأفة إذا قرر وفق ما ينسب إليه، وينذر بالشدة والنكال إذا كذب أو أنكر، لأن "الديوان المقدس" لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة الكافية على إدانته، وهى طريقة غادرة محيرة. فإذا اعترف المتهم بما ينسب إليه ولو كان بريئًا، اختصرت الإجراءات وقضى عليه بعقوبة أخف، ولكنه إذا اعترف بأنه كافر مطبق، فإنه
(1)
Dr. Lea: History of the Inquisition of Spain، V. I. Chap. IV
(2)
Don S. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817)
وهو مؤلف نقدى ضخم ويمتاز بكون مؤلفه اسبانى، وهو حبر خدم ديوان التحقيق أعواماً طويلة. وكان فى أواخر حياته يشغل فيه منصب السكرتير العام.
(3)
Dr. Lea: The Moriscos of Spain
لا ينجو من عقوبة الموت، مهما كانت الوعود التى بذلت له بالرأفة والعفو.
فإذا أبى المتهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث، وضع النائب له قرار الإتهام طبقاً لما ورد فى التحقيق من الوقائع، وذلك مهما كانت الأدلة المقدمة من الركاكة والضعف. بيد أن أفظع ما يحتويه القرار هو إحالة المتهم على التعذيب، وغالباً ما يطلب النائب هذه الإحالة، وذلك بالرغم من اعتراف المتهم بما ينسب إليه، لأنه يفترض دائماً أنه أخفى أو كذب فى اعترافه. وتصدر المحكمة قرار التعذيب مجتمعة بهيئة غرفة مشورة. وكان قرار التعذيب فى العصور الأولى يصدر عقب الاشتباه والقبض فوراً. وقد استعمل التعذيب فى محاكم التحقيق للحصول على الإعتراف، منذ منتصف القرن الثالث عشر. وكان التعذيب فى قشتالة إجراء يسوغه القضاء العادى، وكان يعتبر وسيلة مشروعة لنيل الإعتراف، فلم يكن غريباً أن يدمجه ديوان التحقيق فى دستوره. وقد نوه كثير من المؤرخين بروعة الإجراءات والوسائل التى كانت تلجأ إليها محاكم التحقيق فى توقيع العذاب. ويعلق عليها دون لورنتى بقوله:"لست أقف لأصف ضروب التعذيب التى كان يوقعها ديوان التحقيق على المتهمين، فقد رواها بما تستحق من الدقة كثير من المؤرخين، ولكنى أصرح أن أحداً منهم لا يمكن أن يتهم بالمبالغة فيما روى. ولقد تلوت كثيراً من القضايا، فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً، ولم أر فى "المحققين " الذين التجأوا إلى تلك الوسيلة إلا رجالا بلغ جمودهم حد الوحشية"(1). بيد أن مؤرخاً حديثاً لديوان التحقيق هو الدكتور لى يرى فى هذه الأقوال مبالغة، ويقول لنا إن ديوان التحقيق لم يكن فى إجراءاته الخاصة بالتعذيب، أكثر قسوة أو إرهاقاً من القضاء العادى، وأن ديوان التحقيق الرومانى، كان فى إجراءاته أشد قسوة وفظاعة من الديوان الإسبانى (2).
وكان معظم أنواع التعذيب المعروفة فى العصور الوسطى، تستعمل فى محاكم التحقيق، ومنها تعذيب الماء، وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلم وربط ساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع فى فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات. وتعذيب "الجاروكا" وهو عبارة عن ربط يدى المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه،
(1) Liorente: ibid.
(2)
Dr. Lea: The History of the Inquisition ; V. III. Ch. VII
وتعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن العجز، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وغيرها من الوسائل البربرية المثيرة.
ولم يك ثمة حدود مرسومة لروعة التعذيب وآلامه. ولما كان التعذيب يعتبر خطراً لا يؤمن عواقبه، نظراً لاختلاف المتهمين فى قوة البنية والاحتمال المادى والعقلى، فإنه لم يك ثمة قواعد معينة تتبع فى إجراء التعذيب، بل كان الأمر يترك لتقدير القضاة وحكمهم وضمائرهم (1). ولا يحضر التعذيب سوى الجلاد والأحبار المحققون، والطبيب إذا اقتضى الأمر، ولا يخطر المتهم بأسباب إحالته على التعذيب، ولا يسئل ليقرر وقائع معينة، بل يعذب ليقرر ما شاء، ويمكن الطعن فى القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما) إلا فى أحوال استثنائية. ولكن الطعن لا يقبل ولا ينظر، حيثما كان القانون صريحاً فى وجوب إجراء التعذيب. وقد يأمر الطبيب بوقف التعذيب إذ رأى حياة المتهم فى خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جف دمه، فإذا اعترف المتهم واعتبر القضاة اعترافه صحيحاً، بمعنى أنه يتضمن عنصر التوبة، كف عن تعذيبه، وإذا استطاع المتهم احتمال العذاب وأصر على الإنكار، لم يفده ذلك شيئاً، لأن القضاة يتخذون غالباً من الوقائع المنسوبة للمتهم أدلة على الإدانة، ويحكم عليه طبقاً لهذا الاعتبار. ويجب أن يؤيد المعترف ما قاله وقت التعذيب، باعتراف حر يقرره فى اليوم التالى، وذلك حتى يؤكد صحة الإعتراف، فإذا أنكر أو غيّر شيئاً أعيد إلى التعذيب.
وبعد انتهاء التعذيب يحمل المتهم ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التى توجه إليه لأول مرة، ويسئل عند تلاوة كل تهمة عن جوابه عنها مباشرة، ثم يسئل عن دفاعه. وكان مبدأ الدفاع أمراً مقرراً من الوجهة النظرية، فإن كان له دفاع، اختارت المحكمة له محامياً من المقيدين فى سجل الديوان للدفاع عنه، وقد يسمح للمتهم باختيار محام من الخارج فى بعض الأحوال الاستثنائية، ويقسم المحامى اليمين بأن يؤدى مهمته بأمانة، وألا يعرقل الإجراءات بسوء نية، وأن يتخلى عن موكله إذا تبين له فى أية مرحلة من مراحل الدعوى، أن الحق ليس فى جانبه. على أن الدفاع لم يكن فى الغالب سوى ضرب من السخرية، ولم يكن عملا مأمون العاقبة، ولم يكن يسمح للمحامى أن يطلع على أوراق القضية الأصلية، أو يتصل المتهم
(1) Dr. Lea: ibid ; V. III ; p. 22
على انفراد، بل تقدم إليه خلاصة التحقيق مرفقة بقرار الإحالة وقرار الإتهام. وكان المحامى الذى يبدى فى تأدية مهمته غيرة خاصة، يخاطر بأن يقع تحت سخط الديوان.
وبعد المرافعة واستجواب المتهم، تحال القضية على الأحبار المقررين ليبدوا فيها رأيهم من جديد. وكانت هذه خطوة حاسمة فى الواقع، لأنها تمهيد إلى الحكم النهائى. ويصدر الأحبار المقررون قرارهم، وقلما كان يختلف عن القرار الأول. فإذا كان الحكم بالإدانة، كان للمتهم فرصة الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما). بيد أنها كانت على الأغلب فرصة عقيمة، إذ قلما كان المجلس الأعلى ينقض حكماً من الأحكام. وكان للمتهم أيضاً أن يلتمس العفو من الكرسى الرسولى. وكانت الخزانة البابوية تغنم من هذه الإلتماسات أموالا طائلة، فكانت فرصة لا يستفيد منها سوى ذوى الغنى الطائل.
وقلما كان يصدر حكم البراءة أو "الإقالة"، إذ أن أقل شك فى براءة المتهم براءة مطلقة، كان يوجب اعتباره مذنباً من النوع الخفيف de Levi، وعندئذ تصدر عليه عقوبات تتناسب مع ذنبه، ويقضى عليه أن يتطهر من كل شبهة للكفر وفقاً لإجراءات معينة. وإذا قضى بالبراءة وهو ما يندر وقوعه، أطلق سراح المتهم، وأعطيت له شهادة بطهارته من الذنوب، وهى كل ما يعوض به، عما أصابه فى شخصه وفى شرفه وماله، من ضروب الأذى والألم.
وأما إذا قضى بالإدانة، فإن الحكم لا يبلغ إلى المتهم إلا عند التنفيذ، وهو إجراء من أشنع الإجراءات الجنائية التى عرفت، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يدرى مصيره الحقيقى، ويجوز رسوم الإيمان "الأوتودافى" Auto-da-fé وهى الرسوم الدينية التى تسبق التنفيذ، وخلاصتها أن يلبس الثوب المقدس، ويوضع فى عنقه حبل وفى يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجوز رسوم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، وهنالك يتلى عليه الحكم لأول مرة. وقد يكون الحكم فى حالة المتهم الخطيرة بالسجن المؤبد والمصادرة، أو بالإعدام حرقاً فى حالة "الكفر الصريح"، وقد يكون فى حالة الذنوب الخفيفة، بالسجن لمدة محدودة أو بالغرامة، وهو ما يسمى حكم "التوفيق". وكانت أحكام الإعدام، هى الغالبة فى عصور الديوان الأولى فى قضايا الكفر. وكان التنفيذ يقع فى ساحات المدن الكبيرة، وفى احتفال رسمى يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكان يقع على الأغلب جملة،
فينفذ حكم الحرق فى عدد من المحكوم عليهم، قد يبلغ العشرات أحياناً، وينتظم الضحايا فى موكب (الأوتودافى) Auto-da-fé التى اشتهرت فى اسبانيا منذ القرن الخامس عشر، والتى كانت بالرغم من كل مناظرها الرهيبة من الحفلات العامة، التى تهرع لشهودها جموع الشعب. ومما يذكر فى ذلك، أن فرناندو الكاثوليكى كان من عشاق هذه المواكب الرهيبة، وكان يسره أن يشهد حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها (1).
وكان قضاء محاكم التحقيق بطيئاً، يبث اليأس فى النفوس، وكان الأمر يترك لهوى القضاة فى تحديد مواعيد دعوة المتهم، والسير بإجراءات الدعوى، وكانت الإجراءات والمرافعات تستغرق وقتاً طويلا، وقد تستغرق الأعوام أحياناً، وقد يموت المتهم فى سجنه قبل أن يصدر الحكم فى قضيته.
وكان دستور ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين. وتصدر الأحكام فى حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق فى موكب "الأوتودافى"، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولى الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذا يؤخذ الأبرياء بذنب المحكوم عليه (2).
- 5 -
هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التى سودت بقضائها المروع صحف التاريخ الإسبانى زهاء ثلاثة قرون.
وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه، حوله جواً من الرهبة والروع. ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة إلى أن تصدر فى سنة 1502، قراراً يحرم على ربان أية سفينة وأى تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثيرين من النصارى المحدثين، فى مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق.
(1) Dr. Lea: ibid ; V. I.
(2)
رجعت فى معظم ما ورد عن دستور ديوان التحقيق وإجراءاته، إلى كتابى "ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى" الفصل الأول ص 24 - 32
وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق تنحنى أمامه أية سلطة، وتحمى أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جراء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع فى هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامى، لا يتورعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة فى السجن جوعاً (1).
وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً أن يبسط حكم الإرهاب فى بعض المناطق، وهذا ما حدث فى قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو، الذى يعتبر من أشد المحققين قسوة وإجراماً. ففى عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع، الذى يجرى باسم الديوان المقدس، وفى ظله، والذى يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت فى الموضوع تحقيقات طويلة انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (2).
وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة، التى تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذى لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه فى الوقت نفسه، أصلح أداة لتنفيذ سياسته فى إبادة الموريسكيين. وفى الوصية التى تركها فرناندو الكاثوليكى عند وفاته فى يناير سنة 1516، لحفيده شارل الخامس (كارلوس كنتو أو شرلكان)، ما يلقى ضياء على هذه الحقائق، ففيها يحث على حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوى الضمائر الذين يخشون الله، لكى يعملوا فى عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكى، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (3).
ولما توفى فرناندو، كان المحقق العام هو الكردينال خمنيس مطران طليطلة، الذى أبدى من الحماسة فى مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه، وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين
(1) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 190-192
(2)
Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 210
(3)
Dr. Lea: ibid ; cit. Mariana ; V. I. p. 215
لا يُرغب فيهم، ولكنه لم يعش طويلا ليتم برنامجه فى الإصلاح، فعادت المساوىء القديمة أشد ما كانت، وسار الديوان فى قضائه المدمر وأساليبه المثيرة، لا يلوى على شىء. ولما جلس شارل الخامس على العرش كتب إليه مجلس قشتالة يقول: إن سلام المملكة وتوطيد سلطانه، يتوقفان على تأييده لديوان التحقيق. ولم ير شارل بعد فترة من التردد، إلا أن ينزل عند هذا النصح، وأن يفسح الطريق لسلطان الديوان القاهر، وذهبت كل الجهود للحد من عسف الديوان وعبثه سدى، وتوطد سلطان الديوان بقشتالة مدى قرون ثلاثة، كانت فى الواقع أخطر ما فى حياة الشعب الإسبانى (1).
- 6 -
وقد رأينا كيف أنشىء ديوان التحقيق الإسبانى فى الأصل، لمطاردة الكفر وحماية الكثلكة من شبه المروق والزيغ، وكان إنشاؤه فى قشتالة قبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان اليهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، فى ظل الحكم الإسلامى، أول ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التى رسمتها اسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة فى أيدى الملكين الكاثوليكيين وما كاد اليهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير فى 30 مارس سنة 1492، وهو يقضى بأن يغادر سائر اليهود -الذين لم يتنصروا- من أى سن وظرف، أراضى قشتالة فى ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألا يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألا يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية أو إيواء أى يهودى أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرفوا فيها وفق مشيئتهم (2). فأذعن كثير من اليهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم فى سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شردوا فى مختلف الأقطار بعد التجريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبه حسبما قدمنا. ولقيت طوائف المدجنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهى التى بقيت فى بعض مدن قشتالة وأراجون فى ظل الحكم النصرانى، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه فى قشتالة منذ
(1) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 250
(2)
Archivo general de Simancas: P. R. Legajo 28 ; Fol. 6
سنة 1480، قبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى فى إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية فى الأندلس، ووقع ملايين المسلمين فى قبضة اسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق فى هذا المجتمع النصرانى المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية فى تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائى بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هى القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها فى المجتمع النصرانى. ولم تشأ السياسة الإسبانية، أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخى، بل رأت نزولا على وحى الكنيسة وتوجيهها المباشر، أن تعجل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب فى ذلك إلى حدود من الإسراف والغلو، هى التى أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كر الأجيال والعصور.
وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسبانى بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية التى أريد بها تنفيذ حكم الإعدام فى أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لقضاء ديوان التحقيق منذ سنة 1499، أعنى مذ أكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق فى قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله فى غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء فى الوطن القديم، وأكرهوا على التنصير واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الإضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت اسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهرى، وإنما كانت
ترمى إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل ذكرياتهم.
والواقع أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تنصرهم، نزولا على حكم القوة والإرهاب، مخلصين فى سرائرهم لدينهم القديم، ولم تستطع الكنيسة بالرغم من جهودها الفادحة أن تحملهم على الولاء لدين قاسوا فى سبيل اعتناقه ضروباً مروعة من الآلام النفسية والاضطهاد المضنى، وإليك ما يقوله فى ذلك مؤرخ إسبانى كتب قريباً من ذلك العصر، وأدرك الموريسكيين وعاش بينهم حيناً فى غرناطة:" كانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القداس أيام الآحاد، فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف. وفى يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة فى منازلهم المغلقة، وفى أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمد أطفالهم، عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمون أولادهم بأسماء عربية، وفى حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقى البركة، تنزع ثيابها النصرانية وترتدى الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية"(1).
وقد انتهت إلينا وثيقة عربية هامة تلقى ضوءاً كبيراً على أحوال الموريسكيين فى ظل التنصير، وتعلقهم بدينهم القديم، وكيف كانوا يتحايلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التى يمكن أن تبرر مسلكهم، وتشفع لهم لدى ربهم، مما يرغمون على اتباعه من الشعائر النصرانية.
وهذه الوثيقة هى عبارة عن رسالة وجهت من أحد فقهاء المغرب إلى جماعة العرب المتنصرين ممن يسميهم "الغرباء" يقدم إليهم بعض النصائح التى يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام خفية، وبطريق التورية والتستر. وتاريخ هذه الرسالة هو غرة رجب سنة 910 هـ، (28 نوفمبر سنة 1504). وإليك نص هذه الوثيقة:
"الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. إخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم، فيما لقوا فى ذاته، وصبروا النفوس والأولاد فى مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه فى الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح،
(1) Marmol: ibid ; II. Cap. 1
فى تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراق، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعات حقه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد ابن بوجمعة المغراوى ثم الوهرانى، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم ( F. 2) من الأبرار، ومؤكدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام آمرين به من بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحىّ بين الموتى؛ فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأن المُلك الله ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. فاعبدوه، واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء؛ لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عومًا في البحور، وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء؛ وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدى للحيطان، فإن لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء ( F. 3-1) والصعيد إلا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدى والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجى في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: فأتوا منه ما استطعتم. وإن أكرهوكم فى وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية، وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام؛ وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم خنزيرًا فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرّم، وإن زوجوكم بناتهم، فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم ( F. 3-2) على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على رباً أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدقون بالباقى، إن تبتم لله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز
فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئنى القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا اشتموا محمدًا فإنهم يقولون له مُمَد، فاشتموا مُمَدًا، ناوين أنه الشيطان أو ممد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أى عبد اللاه مريم معبود بحق. وإن قالوا قولوا المسيح ابن الله فقولوها إكراهًا، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحل به؛ وإن قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بنى إسرائيل ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلى في تفسير المبهم من الرجال في القرآن. أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفى بالصلب، فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو، وما يعسر عليكم فابعثوا ( F. 4. I) فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به، وأنا أسأل الله أن يديل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدى الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولابد من جوابكم. والسلام عليكم جميعًا. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسع مائة، عرف الله خيره".
"يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى"(1).
ومن ثم فقد لبث الموريسكيون، شغلا شاغلا للكنيسة وللسياسة الإسبانية، فهم عنصر بغيض فى المجتمع الإسبانى، وهم خطر على الدولة وعلى الوطن، وهم بالرغم من ردتهم مازالوا خونة مارقين، ومازالوا أعداء للدين فى سريرتهم. وكان يذكى هذا البغض والتحامل ضد الموريسكيين كل تذمر من جانبهم. فلما دفعهم اليأس إلى الثورة فى مفاوز البشرّات، ولما آنست السياسة الإسبانية أن هذه البقية الممزقة من الأمة الأندلسية القديمة، مازالت تجيش برمق من الحياة والكرامة،
(1) عثرت على هذه الوثيقة خلال بحوثى فى مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة. وهى تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية ( Borgiani) . وقد وصف هذا المخطوط فى فهرس مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنه "المقدمة القرطبية". وفى صفحة عنوانه بأنه "كتاب نزهة المستمعين". وتشغل هذه الوثيقة فى المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139) ومن جهة أخرى فقد عثرت بنص هذه الوثيقة مثبتا فى إحدى مخطوطات الألخميادو المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة سافدرا). وتوجد ترجمتها القشتالية فى كتاب:
P. Longas: La Vida Religiosa de los Moriscos (p. 305-307)
رأت أن تضاعف إجراءات القمع والمطاردة، ضد هذا الشعب المهيض الأعزل، حتى لا ينبض بالحياة مرة أخرى.
وكانت ثورة البشرات نذير فورة جديدة، من هجرة الموريسكيين إلى ما وراء البحر، فجازت منهم إلى إفريقية جموع عظيمة كما قدمنا، ولكن الكثرة الغالبة منهم بقيت فى الوطن القديم، هدفاً للاضطهاد المنظم، والقمع الذريع المدنى والدينى، فإلى جانب الأوامر الملكية بمنع الهجرة، وحظر التصرف فى الأملاك أو حمل السلاح وغيرها من القوانين المقيدة للحقوق والحريات، كان ديوان التحقيق من جانبه، يشدد الوطأة على الموريسكيين، ويرقب كل حركاتهم وسكناتهم، ويغمرهم بشكوكه وريبه، ويتخذ من أقل الأمور والمصادفات ذرائع لاتهامهم بالكفر والزيغ، ومعاقبتهم بأشد العقوبات وأبلغها. وقد نقل إلينا الدون لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق الإسبانى، وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول التى رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين، فى تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد فى تلك الوثيقة الغربية:
"يعتبر الموريسكى أو العربى المتنصر قد عاد إلى الإسلام، إذا امتدح دين محمد، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلا رسولا، أو أن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أنه، ويجب على كل نصرانى أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا كان قد رأى أو سمع، بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم فى يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدى ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا بسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التى لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته فى اتباع هذه العادة، أو يقول إنه يجب ألا يعتقد إلا فى الله وفى رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة، بأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغانى العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب فى أيديهن أو شعورهن، أو يتبع
قواعد محمد الخمس، أو يملس بيديه على رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم فى أثواب جديدة، أو يدفنهم فى أرض بكر، أو يغطى قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة منعتاً إياه بالنبى ورسول الله، أو يقول إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول إنه لم ينصر إيماناً بالدين المقدس، أو إن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله لأنهم ماتوا مسلمين
…
الخ" (1).
كانت هذه الشبه وأمثالها، تتخذ ذريعة للتنكيل بالموريسكيين، بالرغم من تنصرهم وانتمائهم إلى دين سادتهم الجدد. ومن الطبيعى أن يكون موقف المسلمين الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم أدق وأخطر، وكانت قد بقيت منهم جماعات كبيرة فى غرناطة وبلنسية وغيرها، يعيشون فى غمرة من الجزع الدائم، وكانت محارق ديوان التحقيق تلتهم الكثير من هؤلاء وهؤلاء، لأقل الشبه والوشايات. ولقد كان الإسراف فى مطاردة المسلمين والموريسكيين، نذير السخط فالثورة، ولكن الثورة أخمدت، ولم تعدل السياسة الإسبانية عن مسلكها، وضاعفت محاكم التحقيق إجراءات القمع والتنكيل. وقد انتهت إلينا عن تلك الفترة الدقيقة من تاريخ الموريسكيين وثيقة عربية ذات أهمية خاصة، كتبها فيما يظهر أندلسى متنصر (موريسكى) إلى بايزيد الثانى سلطان الترك العثمانيين، يستغيث به ويستصرخه، لنصرة إخوانه العرب المتنصرين، ويصف له فى شعر ركيك ولكن قوى التعبير، ما تنزله اسبانيا النصرانية برعاياها الجدد، وما يصيب المتنصرين من عسف ديوان التحقيق، ورائع مطاردته وعقوباته. وإليك بعض ما ورد فى تلك القصيدة المؤثرة، فى وصف أنواع الاضطهاد والعسف، التى نزلت بالعرب المتنصرين، وذلك بعد ديباجة نثرية، وديباجة شعرية طويلة فى تحية السلطان بايزيد:
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم
…
بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة
وخان عهوداً كان قد غرّنا بها
…
ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة
وكل كتاب كان فى أمر ديننا
…
ففى النار ألقوه بهزء وحقرة
ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم
…
ولا مصحفاً يخلى به للقراءة
ومن صام أو صلى ويعلم حاله
…
ففى النار يلقوه على كل حالة
(1) Don Antonio Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana
وأيضاً Dr. Lea: The Moriscos ; p. 130-131
ومن لم يجىء منا لموضع كفرهم
…
يعاقبه اللباط شر العقوبة
ويلطم خديه ويأخذ ماله
…
ويجعله فى السجن فى سوء حالة
وفى رمضان يفسدون صيامنا
…
بأكل وشرب مرة بعد مرة
وقد أمرونا أن نسب نبينا
…
ولا نذكرنه فى رخاء وشدة
وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه
…
فأدركتهم منهم أليم المضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهم
…
بضرب وتغريم وسجن وذلة
وقد بدلت أسماؤنا وتحولت
…
بغير رضا منا وغير إرادة
فآها على تبديل دين محمد
…
بدين كلاب الروم شر البرية
وآهاً على تلك الصوامع علقت
…
نواقيسهم بها نظير الشهادة
وآها على تلك البلاد وحسنها
…
لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة
وصارت لعبادة الصليب معاقلا
…
وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة
وصرنا عبيداً لا أسارى نفتدى
…
ولا مسلمين نُطقهم بالشهادة
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا
…
إليه لجادت بالدموع الغزيرة
فياولنا يا بؤس ما قد أصابنا
…
من الضر والبلوى وثوب المذلة (1).
وهذه الأبيات تنم بالرغم من ركاكتها عن دقة مدهشة، فى تتبع أعمال السياسة الإسبانية، لمطاردة العرب المتنصرين، وفى وصف إجراءات محاكم التحقيق وعقوباتها.
والظاهر أن صاحبها كان من الكبراء المتصلين بالشئون العامة. والمرجح أن هذه الرسالة وجهت إلى السلطان بايزيد الثانى، عقب ثورة البشرات وما تلاها من إجراءات القمع المشددة ضد العرب المتنصرين، وذلك حوالى سنة 1505، وقد توفى السلطان بايزيد الثانى سنة 1512، فلابد أن تكون الرسالة قد وجهت إليه قبل ذلك. ونحن نعرف أنها لم تكن أول رسالة من نوعها، وجهها مسلمو الأندلس والعرب المتنصرون إلى قصور قسطنطينية ومصر والمغرب، فقد أشرنا فيما تقدم إلى سفارة السلطان أبى عبد الله الأيسر إلى سلطان مصر الملك الظاهر جقمق يستمد عونه، ثم إلى سفارة مولاى الزغل سلطان غرناطة إلى بلاط مصر وبلاط قسطنطينية، يستغيث بهما ويستصرخهما لإنجاده، وإلى ما قام به بلاط مصر من توجيه سفارته إلى فرناندو الخامس، يحذره من المضى فى إرهاق المسلمين، وينذره باضطهاد النصارى الذين
(1) أورد لنا المقرى فى أزهار الرياض تلك القصيدة بأكملها، وهى طويلة فى نحو مائة بيت (ج 1 ص 109 - 115)
يعيشون فى المملكة المصرية، وما كان من تكرار نذيره إلى ملك اسبانيا، حينما اشتدت وطأة التنصير على مسلمى الأندلس؛ ولكن تدخل مصر وقسطنطينية على هذا النحو لم يغن شيئا، وهذا ما يشير إليه صاحب القصيدة المذكورة فى قوله مخاطباً السلطان بايزيد:
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم
…
فلم يعملوا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلا اعتداء وجرأة
…
علينا وإقداماً بكل مساءة
وقد بلغت إرسال مصر إليهم
…
وما نالهم غدر وهتك حرمة
وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا
…
رضينا بدين الكفر من غير قهرة
لقد كذبوا فى قولهم وكلامهم
…
علينا بهذا القول أكبر فرية
ولكن خوف القتل والحرق ردنا
…
نقول كما قالوه من غير نية
وقد كانت السياسة الإسبانية تتخذ من هذه الرسائل، التى يوجهها العرب المتنصرون إلى إخوانهم المسلمين فيما وراء البحر، كلما تفاقمت آلامهم ومحنتهم، ذريعة للاشتداد فى مطاردتهم، واعتبارهم خطراً على سلامة الدولة، لأنهم يأتمرون بها مع ملوك الدول الإسلامية أعداء اسبانيا النصرانية