المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الأولنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

‌الفصل الأوّل

نظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

مكانة الحضارة الأندلسية. ذويها عقب انهيار الخلافة. انتعاشها أيام الطوائف. ركودها أيام المرابطين وانتعاشها أيام الموحدين. بنو زهر. ابن ميمون وابن رشد. الإضطهاد الفكرى أيام الموحدين. الآداب والفنون فى هذا العهد. مملكة غرناطة وخواصها الطبيعية. دولة بنى الأحمر أو الدولة النصرية. شعارها الحكم المطلق. الوزراء الطغاة. أخطار هذا النظام. حمية الشعب الغرناطى. مناصب الحكم الرئيسية. الوزارة. خواصها ومهامها. قيادة الجيوش. الجيش والأسطول. قاضى الجماعة أو قاضى القضاة. الحسبة. صاحب الشرطة. إقليم غرناطة ومواردها. تقدم الرى والزراعة. غرس الحدائق. بسائط غرناطة. الصناعات الأندلسية. التجارة الخارجية. الموارد السلطانية. الضرائب. تكوين الأمة الأندلسية. أحوال المجتمع الأندلسى. الفروسة الأندلسية.

تعرض لنا الحضارة الأندلسية، صفحة من أجمل وأروع صحف الحضارة الإسلامية، والحضارة الإنسانية، بصفة عامة. وقد نشأت حضارة الإسلام فى الأندلس فى بيئة وظروف خاصة، واكتسبت بفعل المؤثرات التاريخية والإقليمية والاجتماعية، لونها الخاص ومميزاتها الخاصة.

وتحتل قصة الحضارة الأندلسية، فى تاريخ الحضارات الأوربية مكانة رفيعة، وتملأ فراغا كبيراً. ولكنها لم تنل مع الأسف مكانها من الرعاية والدرس فى المصادر الإسلامية، ولم تكتب حتى اليوم كتابة شافية. وأغلب ما كتب عنها فى مصادرنا، شذور ونبذ متفرقة غير متناسقة، وتراجم لأعلام التفكير والأدب لم يعن فيها بدراسة الجوانب الهامة. وإنه لمن الإسراف أن نقول، إننا نستطيع أن نستعرض هذه القصة الباهرة المتعددة النواحى، فى فصل أو فصول، من سفر يخصص لكتابة تاريخ المراحل الأخيرة، من حياة الأمة الأندلسية. على أننا سوف نحاول مع ذلك أن نستعرض صور الحضارة الأندلسية فى ظل مملكة غرناطة، استكمالا لموضوعنا، وأن نلقى بذلك شيئاً من الضياء على النظم والأحوال، التى عاشت فى ظلها الأمة الأندلسية فى مراحلها الأخيرة، وما انتهت إليه فى ميدان التفكير والآداب والفنون

ص: 434

وكما أن مصادرنا الإسلامية فى هذا القسم من تاريخ الأندلس قليلة ضنينة، فهى كذلك بالنسبة لصور الحضارة الأندلسية، وقد هلكت معظم الآثار والوثائق الأندلسية المتعلقة بهذا العصر، كما رأينا على يد الإسبان، ولم يسعفنا فى ذلك سوى بعض الآثار القليلة الباقية، التى نجت من المحنة، ولاسيما آثار ابن الخطيب، وما نقله إلينا المقرى عن آثار ووثائق ضاعت، وكان له فضل إيصالها إلينا.

وإذا كان تاريخ الأندلس السياسى، يقدم إلينا صوره المتباينة، من الإضطرام والركود، والقوة والضعف، فكذا شأن الحضارة الأندلسية. فقد وصلت فى ظل الخلافة الأموية فى عهد عبد الرحمن الناصر وولده الحكم المستنصر، حينما وصلت الدولة الإسلامية إلى أوج سلطانها السياسى، إلى ذروة القوة والبهاء، وإن لم تصل يومئذ إلى ذروة نضجها الفكرى. ولما انهارت الخلافة الأموية، واضمحلت النظم السياسية والاجتماعية، وسادت الثورة والفوضى أرجاء الأندلس، وهلكت معظم الآثار العمرانية والفكرية فى غمر الفتنة، ذوت الحضارة الأندلسية مدى حين، حتى قامت دول الطوائف فوق أنقاض الدولة الأموية، واستطاعت بالرغم من صغرها، وتنافسها وتطاحنها فى ميدان الحرب، أن تعيد لمحة من بهاء الدولة الإسلامية، وسطعت آيات الحضارة الأندلسية فى قصورها ومنشآتها، وفى مجتمعاتها، وأينعت فى ظلها دولة التفكير والأدب، وعرفت الأندلس فى هذه الحقبة المضطربة من تاريخها، طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها، مثل الفيلسوف ابن حزم المتوفى سنة 456 هـ (1064 م) وابن حيان أعظم مؤرخى الأندلس، وقد توفى سنة 469 هـ (1076 م)، وتلميذه الحميدى المتوفى سنة 488 هـ (1095 م). ومن الأدباء والشعراء، ابن زيدون المتوفى سنة 462 هـ (1069 م)، وابن عبدون المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) وعشرات آخرين من الكتاب والشعراء، يقدمهم إلينا الفتح بن خاقان فى مؤلفه "قلائد العقيان". بل لقد كان ملوك الطوائف أنفسهم فى طليعة العلماء والأدباء والشعراء، مثل الأمير العالم عمر بن الأفطس صاحب بطليوس، والشاعرين الكبيرين، المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية (1). ولكن

(1) توفى ابن الأفطس قتيلا بيد المرابطين سنة 488 هـ، وتوفى ابن عباد فى الأسر بالمغرب فى شوال سنة 488 هـ؛ وتوفى المعتصم بن صمادح فى سنة 484 هـ

ص: 435

سرعان ما انكمشت هذه النهضة الفكرية والأدبية الزاهرة، عقب مصرع دول الطوائف، واستيلاء المرابطين على الأندلس فى سنة 484 هـ (1901 م). وكان أولئك البربر الصحراويون قوماً غلاظاً، يؤثرون مهاد الجندية والخشونة، وتغلب عليهم الأفكار الرجعية العتيقة، لم تأخذهم مظاهر الحضارة الأندلسية المصقولة، ولم تكن -إذا اسثنينا العلوم الدينية- تهزهم أصداء الشعر والآداب الرفيعة، اللهم إلا ما كان من حشدهم لبعض أكابر الكتاب الأندلسيين فى البلاط المرابطى، ليكونوا ترجمانا للدولة. وحتى العلوم الدينية كانت تدرس فى ظلهم فى إطار خاص يغلب فيه علم الفروع على الأصول، ومن ثم فقد طوردت فى ظلهم -فضلا عن الكتب الفلسفية والعلمية- كتب الأصول المشرقية، وفى مقدمتها كتب الغزالى. وترتب على ذلك أن ركدت فى ظلهم دولة التفكير والأدب وذَوَى بهاء الحضارة الأندلسية. أجل، سطعت فى ظل دولتهم القصيرة الأمد، فى ميدان التفكير الأندلسى، جمهرة من الشخصيات اللامعة من حفاظ وكتاب وشعراء، وعلماء، مثل الحافظ ابن الجد الفهرى المتوفى سنة 515 هـ (1121 م)، وأبو عبد الله بن أبى الخصال المتوفى سنة 540 هـ (1145 م)، وأبو بكر الصيرفى المتوفى سنة 570 هـ (1174 م). وأبو بكر الطرطوشى الفيلسوف السياسى المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، صاحب كتاب "سراج الملوك"، والفتح ابن خاقان المتوفى سنة 535 هـ (1140 م)، وابن بسام الشنترينى صاحب "الذخيرة" المتوفى سنة 542 هـ (1147 م)، وابن قزمان أمير الزجل الأندلسى المتوفى سنة 555 هـ (1160 م)، ومن العلماء أبو القاسم خلف بن عباس القرطبى الطبيب الأشهر المتوفى سنة 519 هـ (1122 م)، وابن باجة الطبيب الفيلسوف المتوفى سنة 533 هـ (1138 م) - وهو المعروف باللاتينية باسم Avempace.

ولكن ظهور هؤلاء وأضرابهم فى هذه الفترة، لم يكن إلا أثراً من آثار النهضة الفكرية والأدبية فى ظل دول الطوائف (1).

وفى ظل دولة الموحدين، التى خلفت دولة المرابطين فى حكم الأندلس، انتعشت الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسى. وقد نشأ الموحدون كالمرابطين فى مهاد الخشونة والتقشف، ولكنهم كانوا أوسع أفقاً، وأكثر قبولا لثمار التمدن.

(1) تناولنا سير الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى بتفصيل واف فى كتابنا "عصر المرابطين والموحدين فى المغرب والأندلس"(القسم الأول) ص 438 - 474

ص: 436

وكان لدولتهم بالأخص صبغة علمية دينية، إذ كان مؤسسها المهدى ابن تومرت، من أئمة التفكير الدينى. وأبدى خلفاؤه عبد المؤمن وبنوه اهتماماً بالعلوم والفنون، وأطلقت حرية التفكير والبحث، وكانت قد صفدت فى عهد المرابطين، وأفرج عن كتب الغزالى وغيره من مفكرى المشرق، وكانت قد طوردت ومنعت فى أيامهم بالمغرب والأندلس. وفى تلك الفترة بالذات أعنى فى أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجرى، بلغ التفكير الأندلسى ذروة النضج، وتفجرت ينابيع النبوغ، وظهرت طائفة من أعظم أقطاب العلم والأدب. وكان فى طليعة أقطاب العلم فى هذا العصر، بنو زهر الإشبيليون، وعميدهم الوزير والطبيب الأشهر أبو العلاء زهر ابن عبد الملك بن زهر، ثم ولده أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة 557 هـ (1161 م)، وهو المعروف باللاتينية باسم Avenzoar. ويعتبر ابن زهر أعظم طبيب ومشخص فى العصور الوسطى بعد أبى بكر الرازى، ويعتبره ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس، ويعتبر كتابه "التيسير" من أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى، وكان لمؤلفاته التى ترجمت كغيرها إلى اللاتينية فى عصر مبكر، أثر عظيم فى سير البحوث الطبية فى أوربا، وخلفه فى مهنته ولده الطبيب الأشهر أبو بكر بن زهر، وحظى لدى حكومة الموحدين، وتوفى سنة 595 هـ (1198 م). وظهر إلى جانب هؤلاء عدة من أقطاب الفلاسفة، مثل أبى بكر ابن طفيل الوادى آشى، المتوفى سنة 581 هـ (1185 م)، وهو صاحب رسالة حى بن يقظان الشهيرة، والإمام الفيلسوف أبى الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبى، المتوفى سنة 594 هـ (1198 م). والرئيس موسى بن ميمون اليهودى القرطبى، المتوفى سنة 602 هـ (1205 م).

وفى حياة ابن ميمون وابن رشد بالأخص، ما يمثل لنا طرفاً من سياسة الموحدين تجاه التفكير، وترددها بين التسامح والإضطهاد. فقد كان ابن ميمون من أعظم الأطباء والفلاسفة فى عصره، ولكنه اضطهد ليهوديته خلال الإضطهاد العام، الذى لقيه اليهود فى ظل عبد المؤمن خليفة الموحدين، فغادر الأندلس إلى المشرق، ونزل بمصر وخدم بلاطها، وعين طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وندب للتدريس بالقاهرة. وقد كان ابن رشد بلا ريب أعظم فلاسفة الإسلام ومفكريه فى ذلك العصر، ولد بقرطبة سنة 520 هـ (1126 م) واتصل منذ فتوته بأبى يوسف يعقوب ابن عبد المؤمن، المشرف على شئون الأندلس، وكان الأمير مثل أبيه يجمع حوله

ص: 437

أعلام المفكرين والعلماء؛ وبرع ابن رشد فى الفقه والطب والفلسفة، وتولى قضاء إشبيلية فى سنة 565 هـ، ثم ولى قضاء قرطبة، واستمر زهاء خمسة وعشرين عاماً، يتقلب فى مناصب القضاء والإدارة، فى ظل حكومة الموحدين بالأندلس والمغرب، وتولى أثناء ذلك منصب الطبيب الخاص للخليفة أبى يعقوب يوسف، ثم لولده الخليفة يعقوب المنصور بعد وفاته. واتهمه بعض خصومه بالزندقة والخروج على شريعة الإسلام، فأمر الخليفة المنصور بنفيه إلى بلدة اليسّانة على مقربة من غرناطة، وفرضت عليه رقابة شديدة، ثم عفا عنه واسترد مكانته فى أواخر حياته، واستدعى ثانية إلى مراكش، وهنالك توفى بعد قليل فى سنة 595 هـ (1198 م). وأعظم آثار ابن رشد هو شروحه لفلسفة أرسطو، فى المنطق وما وراء الطبيعة، وقد ترجمت إلى اللاتينية منذ القرن الثالث عشر، وكانت مفتاح الدراسات الأرسطوطالية فى العصور الوسطى. وقد كان يغمرها الغموض والحلك، قبل أن يتصدى ابن رشد لشرحها. وغدت شروح ابن رشد فى الوقت نفسه أساساً لكثير من المباحث الفلسفية، التى ازدهرت أيام حركة الإحياء الأوربى. بل يرى مؤرخو الفلسفة، أن الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية، أكثر مما استمدت من قسطنطينية التى كانت مستودعاً لتراث الفلسفة اليونانية. وكتب ابن رشد فى الطب مؤلفه "الكليات" وهو من أهم الآثار الطبية فى العصور الوسطى، وقد ترجم إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية منذ القرن الثالث عشر ولابن رشد طائفة كثيرة أخرى من الرسائل والبحوث الفلسفية والكلامية.

وكانت الفلسفة على الأغلب علماً خطراً فى ظل حكومة الموحدين، وقد رأيت ما كان من اضطهاد ابن رشد ونفيه وسبب آرائه الفلسفية، وقد كان من ضحايا هذا الإضطهاد، فى هذا العصر، مفكر أندلسى آخر هو ابن حبيب الإشبيلى، الذى اتهم بالزندقة بسبب آرائه الفلسفية، أيام المأمون بن المنصور، وقتل لهذا السبب (1).

وهكذا كانت الفلسفة أيام الموحدين قرينة الإلحاد والزندقة، وكانت خطراً يجتنبه كثير من مفكرى العصر.

وظهرت فى تلك الفترة، إلى جانب هؤلاء العلماء، جمهرة من أقطاب الرواية والأدب، مثل أبى القاسم خلف بن بشكوال القرطبى المتوفى سنة 578 هـ، (1183 م)، وهو مؤلف كتاب الصلة الذى ذيل به على كتاب علماء الأندلس

(1) نفح الطيب ج 2 ص 138

ص: 438

لابن الفرضى (1) وابن بدرون الإشبيلى المتوفى فى فاتحة القرن السابع، وهو شارح قصيدة ابن عبدون الشهيرة فى رثاء بنى الأفطس، وابن الصابونى الصدفى الإشبيلى الشاعر، المتوفى فى سنة 604 هـ (1207 م)، وقد قال ابن الأبار فى حقه "ذهبت الآداب بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها".

وازدهرت المعاهد العلمية أيام الموحدين بالمغرب والأندلس، وكانت المعاهد الأندلسية فى إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية، يومئذ مجمع العلوم والمعارف الرفيعة فى تلك العصور، وكانت مقصد الطلاب من كل فج، وكانت مزودة بالمكتبات التى تضم أنفس الكتب والمصنفات، فى مختلف العلوم والفنون (2).

وعنى الموحدون أيضاً برعاية الفنون، وأقيمت فى عهدهم فى معظم قواعد الأندلس، طائفة من المساجد والصروح العظيمة، التى تمتاز بجمالها الفنى. وكان يعقوب المنصور حفيد عبد المؤمن، من أشدهم شغفاً بالمنشآت الفخمة، ومن آثاره الشهيرة بالأندلس مسجد إشبيلية الجامع ومنارته العظيمة التى بقيت إلى اليوم وحوّلها الإسبان إلى برج الأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى التى بنيت مكان الجامع، وهى من أروع الآثار الأندلسية الباقية، ويطلق عليها الإسبان اسم "لاخيرالدا" La Giralda

وكذلك تقدمت الزراعة والصناعة والتجارة فى عهد الموحدين، وازدهرت الزراعة بنوع خاص، وارتقت أساليبها الفنية، وتنوعت المحاصيل وانتشرت زراعة الفاكهة، فى أحواز بلنسية وإشبيلية، وتقدمت الصناعات الحربية والمدنية، ولاسيما صناعة الأقمشة الممتازة، والصناعات الجلدية، وصناعة الورق وغيرها.

وازدهرت التجارة وعم الرخاء. وكانت ثغور الأندلس مثل بلنسية ودانية وإشبيلية وألمرية ومالقة، من أعظم مراكز التجارة الخارجية فى هذا العصر.

ولما اضمحل شأن الموحدين، وضعف أمرهم بالمغرب والأندلس، فى أوائل القرن السابع الهجرى، واجتاحت الثورة معظم القواعد والثغور الأندلسية، ونهض المتغلبون يتنافسون فى اجتناب أسلاب الدولة الذاهبة، شعرت اسبانيا النصرانية بدنو الفرصة السانحة، لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أطراف الأندلس الممزقة.

(1) وقد نشر ضمن المكتبة الأندلسية فى مجلدين طبع مدريد فى سنة 1883.

(2)

تناولنا سير الحركة الفكرية الأندلسية فى عصر الموحدين بتفصيل واف فى كتابنا "عصر إلمرابطين والموحدين"(القسم الثانى) ص 644 - 726

ص: 439

وبدأت قواعد الأندلس التالدة، تسقط تباعاً فى يد النصارى. وشغلت الأندلس يمحنتها الغامرة، وانصرفت إلى متابعة الجهاد، ومدافعة المغيرين عليها بكل ما وسعت، فانكمشت فنون السلم، وتضاءلت دولة التفكير والأدب، وإن كانت المحنة قد أذكت لوعة الشعر، وبعثت إلينا بطائفة جمة من أروع المراثى، التى ما زالت تحتفظ إلى يومنا بكثير من قوتها وروعتها.

- 2 -

وانجلت الفتن الداخلية، وانجلى الصراع بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية بعد نحو ثلث قرن، عن سقوط معظم القواعد الأندلسية التالدة، مثل قرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وجيان وغيرها، فى أيدى النصارى، وانكمشت رقعة الأندلس تباعاً، وانحصرت فى الركن الجنوبى الغربى للمملكة الإسلامية القديمة، فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى برزت من غمر الفوضى، واستقرت فى رقعتها المتواضعة، بين نهر الوادى الكبير والبحر، وهرعت إليها معظم الأسر الأندلسية القديمة، التى أبت التدجن والبقاء فى ظل حكم النصارى، ولم يمض سوى قليل، حتى غدت مستودع تراث الأئدلس القومى والسياسى، ومستودع الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسى.

وكانت مملكة غرناطة، بالرغم من صغرها وانكماش رقعتها، تضم ثروات عظيمة من الموارد الطبيعية، فإلى جانب وديانها الخصبة النضرة التى تغص بالبسائط الخضراء والجنات الفيحاء، والتى تجود بها الحبوب والكروم والزيتون والفواكه وغيرها، توجد الجبال الوعرة تخترقها من كل صوب، وبها الكثير من الثروات المعدنية، ومن بينها الذهب والفضة والرصاص والحديد (1). وتفيض الأنهار والنهيرات العديدة على بسائطها الماء الغزير. وكانت ثغورها وهى ثغور الأندلس الجنوبية، ولاسيما مالقة وألمرية، من أغنى الثغور الإسبانية وأزخرها بالحركة التجارية، وكانت ولاية غرناطة وحدها تضم من البلاد والقرى العامرة نيفاً ومائة بلدة وقرية ذكرها لنا ابن الخطيب، وقد دثر الكثير منها اليوم (2). أما غرناطة عاصمة المملكة، فقد غدت عقب سقوط القواعد الأندلسية الأخرى فى يد النصارى، أعظم القواعد الأندلسية الباقية، وأغناها وأكثرها ازدحاماً بالسكان. وكانت بحمرائها المطلة عليها من ربوتها المنيعة، وشوارعها الزاخرة، وميادينها الفسيحة، وقصورها

(1) الإحاطة فى أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 104.

(2)

الإحاطة، ج 1 ص 133 - 138

ص: 440

البديعة، وحدائقها ومتنزهاتها اليانعة، من أجمل مدن العصور الوسطى. وكانت غاية فى الحصانة، سواء بموقعها الطبيعى، أو بأسوارها الكثيفة، التى يتخللها ألف وثلاثمائة برج منيع، وكانت تضم فى أيامها الزاهرة من السكان مع أرباضها وضواحيها زهاء نصف مليون من الأنفس، وذلك بما تقاطر عليها من سيل المهاجرين من المدن الأندلسية الأخرى. وكان بوسع العاصمة وقت الحرب، أن تعبىء وحدها زهاء خمسين ألف مقاتل، وكانت أبهاء قصر الحمراء تتسع وحدها لأربعين ألف رجل (1).

وقد رأينا كيف نشأت مملكة غرناطة، على يد رجل ذى عبقرية هادئة، ولكن واسعة الأفق، هو محمد بن الأحمر، زعيم بنى نصر، وكيف استمر أعقابه يتوارثون عرش غرناطة أكثر من قرنين، حتى سقطت فى أيدى النصارى. وتسمى دولتهم بالدولة النصرية أو دولة بنى الأحمر، وقد تسمى زعيمهم ومؤسس دولتهم بأمير المسلمين، وهو اللقب الذى كان يتسم به ملوك العدوة (المغرب) فى تلك العصور، وغلب هذا اللقب على سلاطين غرناطة حتى نهاية دولتهم، وكان يقرن فى أحيان كثيرة بلقب "الغالب بالله".

وكان ملوك بنى نصر، كسائر ملوك العصور الوسطى، يدينون بمبدأ الحكم المطلق، ولا يرون له بديلا. على أنه فى وقت الخطر العام والأحداث الخطيرة، كان السلطان يستعين برأى الزعماء والقادة ذوى العصبية والتوجيه. وكان السلطان يستأثر بكل سلطة حقيقية، ويباشر مهام الأمور بنفسه، إلا فى فترات قليلة يستأثر بالسلطة فيها وزير قوى، كما حدث فى عهد السلطان أبى عبد الله محمد الملقب بالمخلوع (701 - 708 هـ)، حيث استأثر بالحكم وزيره أبو عبد الله ابن الحكيم اللخمى. وعهد السلطان أبى عبد الله محمد بن اسماعيل (725 - 733 هـ)، حيث استبد بالحكم دونه وزيره ابن المحروق، وعهد أخيه السلطان أبى الحجاج يوسف (733 - 755 هـ) حيث استبد بالحكم الحاجب أبو النعيم رضوان، ثم فى عهد السلطان الغنى بالله (755 - 793 هـ) حيث استبد بالحكم حيناً وزيره ابن الخطيب.

وكان نظام الطغيان الذى يفرضه الوزير المتغلب، ينتهى فى كل مرة بانقلاب عنيف، ويستعيد السلطان سلطته الحقيقية، فى غمرة من الحوادث الدموية.

وكان هذا النظام المطلق الذى يسود حكومة غرناطة، يؤدى إلى نشوب الثورة

(1) Prescott: (Cit، Zurita) : Ferdinand and Isabella ; p. 189

ص: 441

فى أحيان كثيرة، ويذكى من عواملها فى الوقت نفسه، تطاحن الأحزاب فى البلاط والجيش. وكان هذا النظام يتطور أحياناً فى ظل الملوك الضعاف إلى نوع من الإقطاع، ويستأثر بعض الزعماء الأقوياء والأسر ذات العصبية، بحكم المدن والثغور وكان الشعب الغرناطى سريع التقلب والغضب، يأخذ فى الثورات والإنقلابات السياسية بأعظم قسط.

وكانت مناصب الحكم الرئيسية فى حكومة غرناطة، تنحصر فى الوزارة وقيادة الجيوش والقضاء. فأما الوزارة فكانت تسند غالباً إلى أحد الأعلام من رجال القلم، وبين وزراء الدولة النصرية ثبت حافل من هؤلاء، مئل ابن الحكيم اللخمى، وابن الجياب، وابن الخطيب، وتلميذه ابن زمرك، وكلهم من أقطاب الكتابة والشعر. وكانت مهام الوزارة تتلخص فى أن يتلقى الوزير أوامر السلطان، ويعمل على تنفيذها، ويقوم بتوزيع مختلف الأعمال على أرباب المناصب، ويعنى بتحرير المكاتبات السلطانية، وصياغة المراسيم، وكان أكابر الكتاب من الوزراء يجدون فى هذه المهمة بالذات مجالا لعرض براعتهم النثرية والتحريرية. ولدينا فى مختلف الرسائل التى تركها لنا ابن الخطيب أروع نماذج للرسائل السلطانية التى تمتاز بأسلوبها العالى، وبيانها القوى (1)، وكان الوزير فى بعض الأحيان يقوم بقيادة الجيش، ويسير على رأسه للغزو، كما حدث أيام الحاجب رضوان، وأحياناً يتولى الوزير مهام السلطنة فى غياب السلطان، كما حدث أيام ابن الخطب، حيث كان ينوب عن السلطان حين تغيبه فى الغزو. وقد أسبغ على ابن الخطيب أيام وزارته لقب "ذى الوزارتين"، وهو لقب لم يحمله فى ظل الدولة النصرية سواه وابن الحكيم الرندى وزير السلطان محمد المخلوع، ويترتب عليه أن يتمتع الوزير بمقام الرياسة العليا ويغدو فى مرتبة "الحاجب"، ويتناول ضعف مخصصاته. ولم يحمل من وزراء الدولة النصرية لقب الحاجب سوى الحاجب رضوان، وزير السلطان يوسف أبى الحجاج. وكان الوزير يستعين بطائفة من "الكتاب" لتنفيذ مختلف المهام. والسلطان كاتب سر أو أمين خاص. وكثيراً ما يرتقى "الكاتب" إلى منصب الوزير.

والخلاصة أن الوزير كان رأس السلطة التنفيذية الحقيقية، وهو الذى يشرف سواء

(1) وقد أورد ابن الخطيب عدداً كبيراً منها فى كتابه، "ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب" وهو ما يزال مخطوطاً

ص: 442

بطريقة مباشرة أو بتوجيه سلطانه القوى، على تصريف شئون المملكة، وتوجيه سياستها الداخلية والخارجية.

وأما قيادة الجيوش، فكانت أهم المناصب فى دولة تواجه إغارة العدو على أراضيها باستمرار. وكان يختص بهذا المنصب الخطير، منذ أواخر القرن السابع الهجرى أسرة بنى العلاء، أحد بطون بنى مرين ملوك العدوة، وكان توليهم لقيادة الجيوش الأندلسية، نتيجة للتحالف التى توثقت أواصره بين بنى الأحمر وبنى مرين عصراً (1). وقد اشتهر أولئك القواد المغاربة بالبراعة والشجاعة، وكانت لهم فى ميادين الحرب والجهاد مواقف مشهورة. وكان المتولى لمنصب القيادة العامة يلقب بشيخ الغزاة، وكانت الجنود المغربية عنصراً بارزاً فى الجيش الأندلسى، وقد تخلفت بالأندلس منذ أيام المرابطين والموحدين جموع كثيرة من البربر (2). وكانوا لبداوتهم وخشونتهم يؤثرون الحياة العسكرية على الحياة المدنية، وقد زاد عددهم بالأخص أيام عبور الجيوش المرينية إلى الأندلس. وبالرغم مما أداه القواد والجند المغاربة لمملكة غرناطة، من الخدمات الجليلة فى ميدان الحرب، فقد كانوا أحياناً خطراً على النظام والعرش، وكان لبنى العلاء شيوخ الغزاة أطماع سياسية، ظهرت خطورتها فى بعض الثورات والإنقلابات العنيفة.

وقد كانت قوة غرناطة العسكرية، فى الواقع عماد حياتها، التى استطالت أكثر من قرنين، وذلك بالرغم من القوى الجرارة المعادية، التى لبثت باستمرار ترهقها، وتستنفد مواردها.:كان الجيش الأندلسى، فضلا عما كان يزخر به من العناصر المجاهدة الباسلة، من البربر وجند البشرّات وغيرها، من المناطق الجبلية، يتمتع بكثير من المزايا البارزة، فكان يضم فرقاً من أبرع الرماة، وكان بالأخص يتفوق بفرق الفرسان، التى اشتهرت فى تلك العصور ببراعتها التى لا تبارى.

وإلى جانب ذلك كانت الطبيعة تحبو غرناطة برعايتها، وتساعدها التلال المرتفعة والمفاوز الوعرة، التى تتخللها فى كل ناحية، على شدة المقاومة، وإتقان حرب العصابات التى ترهق الجيوش المنظمة. وكانت القواعد الأندلسية، من جراء الحروب المتواصلة، قد حولت جميعها إلى قلاع منيعة، وشيدت الحصون القوية فى كل مكان يصلح للمقاومة. وكان للحاجب رضوان النصرى وزير السلطان يوسف أبى الحجاج ثم ولده الغنى بالله، فى ذلك مجهود بارز، حيث أنشأ سور غرناطة الكبير المحيط

(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 538.

(2)

راجع ص 73 من هذا الكتاب

ص: 443

بربض البيازين، وشيد سلسلة من الأبراج المنيعة أربت على أربعين، تمتد من شرق المملكة إلى غربها (1). وأهم من ذلك كله أن مسلمى الأندلس، كانوا قد وقفوا فيما يبدو على سر البارود (2)، واستعملوه منذ منتصف القرن الرابع عشر، حسبما فصلنا فى موضع سابق (3). وكان لذلك كله أثر واضح فى تمكين مملكة غرناطة الصغيرة، من الوقوف فى وجه عدوها القوي بنجاح، طيلة هذه العصور.

وكان للقوى البحرية أيضاً شأنها، فى كفاح الأندلس من أجل حياتها، وكانت مملكة غرناطة تسيطر من ثغورها الشهيرة: جبل طارق والجزيرة وطريف ومالقة، على مدخل البحر الأبيض المتوسط، وكانت أهم مهام الأسطول، بعد حماية الشواطىء والثغور، تأمين الصلة المباشرة بين مملكة غرناطة، وبين إخوانها المسلمين فيما وراء البحر فى المغرب الأقصى، وقد استطاعت الأساطيل الأندلسية والمغربية، أن تحتفظ بسيادتها فى هذه المياه عصوراً، وكان انهيار قوة غرناطة البحرية، وسقوط ثغورها فى يد النصارى، نذير السقوط النهائى.

وكان أرفع المناصب القضائية، منصب قاضى الجماعة، وهو ما يقابل فى الأندلس، منصب قاضى القضاة فى مصر الإسلامية. وقاضى الجماعة هو أيضاً قاضى الحضرة أو قاضى غرناطة، والغالب أن يجمع فى نفس الوقت بين منصبه ومنصب خطيب الحمراء، أو خطيب الجامع الأعظم (4)، وهو أيضاً من المناصب الدينية الرفيعة. وكان القضاء يجرى فى مملكة غرناطة، على مذهب الإمام مالك، وهو مذهب الأندلس المفضل منذ أواخر القرن الثانى الهجرى. وكان يجرى تعيين قاضى الجماعة "بظهير" أى مرسوم ملكى. وكانت كلمة "الظهير" هى الغالبة فى مملكة غرناطة للتعبير عن المراسيم والقوانين السلطانية، وهى ما زالت تستعمل حتى اليوم فى المغرب الأقصى، حيث يوصف الرسوم بأنه "ظهير ملكى". وكان لكل مدينة قاضيها وخطيبها، ولا يشغل مناصب القضاء سوى أكابر العلماء والفقهاء.

ويتبع القضاء وظيفة الحسبة وهى أيضاً وظيفة دينية، تقوم على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويختص صاحبها بمطاردة المنكرات، والتعزير والتأديب على

(1) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 517.

(2)

Prescott: Ferdinand and Isabella p. 193-194

(3)

راجع ص 212 من هذا الكتاب.

(4)

راجع نفح الطيب ج 3 ص 70 و 74 و 197

ص: 444

قدرها، والعمل على احترام الأحكام الشرعية، وقمع الغش والاختلاس فى المعاملات، وأمور المعيشة والمكاييل والموازين، وله أيضاً أن يحمل الناس على أداء المصالح العامة، مثل تمهيد الطرقات والإضاءة بالليل وغير ذلك.

وكان يعهد بحفظ النظام والأمن إلى متولى الشرطة، وكان يسمى أيام الدولة الأموية صاحب الشرطة، ويعتبر منصبه من أعظم المناصب القضائية والإدارية، وكان ينتخب عادة من كبار القواد أو الخاصة، ويتمتع بسلطات قضائية وإدارية واسعة. ثم سمى بعد ذلك بصاحب المدينة وصاحب الليل. وكان يعتبر فى منصبه تابعاً للوزارة، مسئولا أمامها، وكان جل اختصاصه أن يتولى حفظ النظام والأمن، ومطاردة المجرمين وأهل الفساد، وتنفيذ العقوبات الجنائية، من الحد والتعزير وغيرهما فيمن وجب عليه ذلك، وهو الذى يتولى الإتهام والتحقيق وتوقيع العقوبة، دون تدخل القاضى، ويعاونه فى مهمته جماعات من الحراس، تجوب أنحاء المدينة ليلا، وتشرف على حراسة الطرق والأمكنة وتعقب الجناة (1).

- 3 -

وقد أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت تتمتع به مملكة غرناطة، بالرغم من انكماش رقعتها من الموارد والثروات الطبيعية الوفيرة. وكانت الزراعة منذ أيام الدولة الأندلسية الكبرى، من أعظم موارد الأندلس، وكانت وديان اسبانيا الخصبة، التى تتخللها عدة من الأنهار العظيمة، وتربتها البديعة، وأقليمها المتقلب بين الحرارة والبرودة، تفسح أعظم مجال لشعب عامل ذكى. وكان مسلمو الأندلس من أنبغ الشعوب، فى فلاحة الأرض وتربية الماشية وغرس الحدائق، وتنظيم طرق الرى، ومعرفة أحوال الجو، وكل ما يتعلق بفنون الزراعة وخواص النبات، وكانت مزارعهم وحدائقهم مضرب الأمثال فى الجودة والنماء؛ وقد نقل العرب من المشرق وشمال إفريقية إلى اسبانيا كثيراً من الأشجار والمحاصيل، كالقطن والأرز وقصب السكر والزعفران والنخيل، وكانت بسائط شبه الجزيرة الإسبانية فى أيامهم رياضاً نضرة، وكانت غياض القمح وغابات الزيتون، وحدائق البرتقال والتوت والكروم، من أبدع ما ترى العين فى وديان الأندلس ومروجها النضرة. وأما نبوغ مسلمى الأندلس فى تنظيم وسائل الرى والصرف، واستجلاب الماء وتوزيعه بالطرق الفنية، فما زالت تشهد به آثارهم الباقية إلى الآن، فى وديان الأندلس، من القناطر والجداول الدارسة.

(1) ابن خلدون: المقدمة ج 1 ص 209 و 210؛ ونفح الطيب ج 1 ص 101

ص: 445

وقد أقيمت أيام الدولة الأموية عدة من القناطر الشهيرة، وحفرت ترع ومصارف لا حصر لها، فى مختلف أنحاء اسبانيا، وكلها مما يشهد لصانعها بالمهارة والتفوق. وقد شاهدت أثناء تجوالى فى اسبانيا بعض المناطق التى ما زالت تقوم فى زراعتها على مشاريع الرى الأندلسية القديمة مثل منطقة لاردة وأحوازها ومنطقة بلنسية وأحوازها ومرسية وأحوازها. وكان لأهل الأندلس شهرة خاصة فى غرس الحدائق وتنسيقها، وقد كانت حدائق الرصافة والزهراء والزاهرة، بدائع تشهد لهم بوفرة البراعة وحسن الذوق، وكانت روعتها مستقى خصباً لخيال الشعراء والكتاب، وما زالت هذه البراعة حتى اليوم علماً على جمال الحدائق الأندلسية. وقد اتخذت فنون الزراعة على يد الأندلسيين طابعاً علمياً، وألفت فيها الكتب القيمة. وقد انتهى إلينا من آثارهم فى ذلك كتاب "الفلاحة" لابن بصال الطليطلى (القرن الحادى عشر الميلادى)، وكتاب "الفلاحة" أيضاً لتلميذه أبى زكريا ابن العوام الإشبيلى (أواخر القرن الثانى عشر)، ومؤلف ثالث فى "الفلاحة" أيضاً للطغنرى الغرناطى (1). وفى هذه الكتب كلها ما يدل على مبلغ ما وصل إليه مسلمو الأندلس من معرفة بخواص التربة، واستخراج كنوز الأرض، وطرق الرى والصرف، وأحوال الطقس وغيرها.

وكانت مملكة غرناطة بالرغم مما يتخللها من الجبال والهضاب الوعرة، تضم كثيراً من الوديان والبسائط الخصبة، وكانت ضفاف شَنيل سلسلة من البسائط الخضراء، تتخللها مئات الترع والقنوات؛ وكان المرج الشهير، الواقع غربى غرناطة La Vega، وهو الذى لبث أكثر من قرنين مسرحاً للمعارك المستمرة بين المسلمين والنصارى، بحقوله وحدائقه النضرة، كأنه قطعة من الجنان، أودعها المسلمون كل براعتهم. وكانت المحاصيل المختلفة تتعاقب طول العام، وتنتج البلاد كل ما يكفيها من الأطعمة والمؤن. وكانت مزارع الكروم الأندلسية الشهيرة، تغطى مساحات واسعة فى غرناطة ومالقة وشريش.

وكذلك ضرب مسلمو الأندلس فى الصناعة بأوفر سهم. وكانت اسبانيا المسلمة أيام قوتها، أعظم الأمم الصناعية فى أوربا؛ وكانت ثرواتها المعدنية، من الحديد والرصاص والزئبق والذهب والفضة وغيرها، تمدها بأسباب التفوق فى هذا الميدان.

(1) نشركتاب "الفلاحة" لابن بصال بعناية معهد مولاى الحسن بتطوان سنة 1955، وتوجد نسخة مخطوطة من كتاب "الفلاحة" لابن العوام بمكتبة دير الإسكوريال. وكذلك توجد نسخة من كتاب الطغنرى

ص: 446

وقد اشتهرت بالأندلس بنوع خاص، بصناعة الأسلحة الجيدة، تنتجها بوفرة وتصدرها إلى أمم أوربا وإفريقية. وكذا اشتهرت بصناعة الصوف والحرير، والأقمشة الملونة الممتازة، وصناعة الجلود الدقيقة التى برع فيها أهل قرطبة بنوع خاص. وطبق مسلمو الأندلس تفوقهم فى الكمياء فى ميدان الصناعة، فبرعوا فى صنع الأدوية والعقاقير، واستخراج العطور من الأزهار، وتركيب الأصباغ المختلفة، ولاسيما اللون الذهبى، وغيره من الألوان الزاهية. وقد استطاعت مملكة غرناطة، أن تستبقى كثيراً من الصناعات الأندلسية القديمة، فاستمرت غرناطة مركزاً عظيما لصناعة الأسلحة والذخائر، وكان تفوقها فى هذه الصناعة من أسباب قوتها، وتمكنها طويلا من مدافعة أعدائها. وكذلك استمرت صناعة الحرير على تقدمها وازدهارها، ولاسيما فى مالقة وألمرية، وكانت يومئذ من أعظم موارد الأندلس. وقد نقلت المدن الإيطالية، التى اشتهرت بصناعة الحرير فى العصور الوسطى، عن الأندلسيين معظم فنونهم وطرائقهم فى هذه الصناعة المربحة، وكانت مدينة فيرنتزا (فلورنس) تستورد كميات كبيرة من الخام من غرناطة، حتى أواخر القرن الخامس عشر (1). ولبثت صناعة الأوانى الخزفية الجميلة، مزدهرة حتى العصر الأخير، وما زالت بقايا هذه الصناعة الأندلسية القديمة قائمة حتى اليوم فى بعض المدن الإسبانية ولاسيما فى إشبيلية ومالقة، وما زالت المتاحف الإسبانية تغص بكثير من الأوانى الخزفية الأندلسية والموريسكية البديعة الصنع والزخرف. وكذلك لبثت صناعة الجلود الفاخرة الملونة، حتى نفى الموريسكيين، وقد نقلت بعد نفيهم على يدهم إلى أوربا. واشتهرت الأندلس أيضاً بصناعة الورق، وأنشئت لها المصانع العظيمة ولاسيما فى طليطلة وشاطبة، ونقلها ْالإسبان عن المسلمين، ثم انتقلت إلى أوربا عن طريق فرنسا، وذاعت فيها منذ القرن الثالث عشر. وقد اكتشف الغزيرى، عدة مخطوطات بمكتبة الإسكوريال، ترجع إلى القرن الحادى عشر، كتبت على ورق مصنوع من القطن، وأخرى ترجع إلى القرن الثانى عشر، كتبت على ورق مصنوع من الكتان، وكان لهذه الصناعة مكانتها فى مملكة غرناطة.

أما التجارة فقد بلغت شأواً بعيداً فى الأندلس، وذلك لحسن موقعها وكثرة ثغورها، وتوسطها بين أوربا وإفريقية، وانتظام صلاتها البحرية، مع سائر ثغور

(1) Prescott: Ferdinand and Isabella: p. 191

ص: 447

البحر المتوسط. وكانت علائقها التجارية تمتد حتى قسطنطينية. وثغور الشام والإسكندرية، وترسو سفنها التجارية فى الثغور الإيطالية، ولاسيما جنوة ورومة والبندقية. وكانت ثغورها تزخر بمختلف الواردات، من بلاد أوربا وإفريقية والمشرق. وازدهرت الحركة التجارية فى غرناطة ولاسيما التجارة الخارجية، وكان للجنويين وغيرهم، من الأمم ذات الصلات الإقتصادية الوثيقة بالأندلس، منشآت تجارية فى غير غرناطة. وعقدت غرناطة مع جمهورية جنوة ومع مملكة أراجون معاهدات تجارية عديدة أشرنا إلى بعضها فيما تقدم. وكانت خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر من أعظم المراكز التجارية فى جنوب أوربا، حتى لقد وصفها بعض المؤرخين المعاصرين بأنها "مدينة جميع الأمم". ويقول مؤرخ إسبانى "إن شهرة سكانها فى الأمانة والثقة، بلغت إلى حد أن كلمتهم المجردة، كان يعتمد عليها، أكثر مما يعتمد على عقد مكتوب بيننا"(1).

وكان الرخاء يسود مملكة غرناطة طوال أيامها، وقلما كانت تصدع منه الثورات الطارئة أو الحروب المتواصلة. وكانت موارد الخزينة أو الموارد السلطانية كثيرة منوعة، تتكون من ضريبة الأراضى المنزرعة، وتبلغ فى المتوسط نحو سبع قيمة المحصول، والأموال المرسومة على السفن الواردة والصادرة، ودخل دار السكة، ودخل بيت المال، من زكاة وصدقات وميراث من لا وارث له، وأخماس الغنائم التى كانت تحصل من العدو، ومختلف الضرائب التجارية والمهنية. وكانت للعرش فوق ذلك أملاك ومزارع عظيمة فى فحص غرناطة (المرج) تعرف بالمستخلص.

وكانت الضرائب فى مملكة غرناطة على وجه العموم. أكثر مما كانت عليه فى الدول الإسلامية السابقة. وقد يرجع ذلك من بعض الوجوه إلى استمرار الصراع بلا انقطاع بينها وبين النصارى. وقدر دخل مملكة غرناطة فى تلك العصور، بنحو مليون ومائتى ألف دوقة (2)، وهى قيمة لا يستهان بها فى ذلك العصر، وكان يتولى الإشراف على شئون الدخل والخرج وأعمال الجباية موظف كبير يسمى "صاحب الأشغال"، وكانت ثمة طوائف كبيرة من الشعب الغرناطى تتمتع بالثراء، ويقتنى الكثيرون الحلى والجواهر النفيسة ولاسيما أبناء الطبقات العليا. وكانت غرناطة

(1) Prescott: ibid ; p. 190

(2)

الدوقة هى عملة ذهبية كانت ذائعة فى أوربا فى العصور الوسطى وتبلغ قيمتها نحو نصف جنيه من عملتنا الحديثة

ص: 448

تتمتع فوق ذلك بنقد سليم ثابت (1)، تخرجه دار السكة الملكية التى اشتهرت بأمانتها ودقتها، ولا يتطرق إليه شىء من ذلك الزغل الذى كان فى أحيان كثيرة يؤدى إلى الانهيار المالى.

- 4 -

وقد أشرنا فى بداية هذا الكتاب، إلى تكوين الأمة الأندلسية فى مراحلها الأخيرة فى ظل مملكة غرناطة، وإلى خصائصها العنصرية. والحقيقة أن المجتمع الأندلسى بمختلف عناصره الأصيلة والدخيلة، كان قد استحال بمضى الزمن، وتعاقب الحوادث والدول، والمؤثرات الإجتماعية والإقليمية، إلى أمة عربية إسلامية ذات طابع مستقل ومميزات خاصة، تدعمها طائفة من الخلال البديعة، وتصقلها حضارة رفيعة زاهرة. ثم قامت مملكة غرناطة التى اجتمعت فيها بقية الأمة الأندلسية لتعرض لنا خلال حياتها الطويلة، المراحل الأخيرة لعظمة الأمة الأندلسية، وحضارتها.

وقد وصف لنا ابن الخطيب فى "الإحاطة"، أحوال المجتمع الأندلسى، وخواصه الجنسية والعقلية والاجتماعية، فى هذا العصر، الذى مالت فيه شمس الأندلس إلى الأفول. فذكر لنا أن الشعب الأندلسى، كان يتمتع بصفات أخلاقية طيبة، وأن صورهم حسنة، وأنوفهم معتدلة، وألوانهم بيضاء، وشعورهم سوداء، وقدودهم متوسطة، وألسنتهم عربية فصيحة، تغلب عليها الإمالة، وأنسابهم عربية، وفيهم كثير من البربر والمهاجرين (2).

وكان نساؤهم يتميزن بالجمال والسحر، واعتدال السمن، ونعومة الجسم، ورشاقة الحركة، ونبل الكلام، وحسن المحاورة، ولكن يندر الطول فيهن. وقد بلغن فى التفنن فى الزينة شأواً بعيداً، يسرفن فى الأصباغ والعطور، والتزين بنفيس الحلى.

وكان اللباس الغالب بين الأندلسيين شتاء، الملف (3) المصبوغ على اختلاف أصنافه وألوانه؛ ويرتدون فى الصيف، الكتان والحرير والقطن والأردية الإفريقية، والمقاطع التونسية، والمآزر المشقوقة "فتبصرهم فى المساجد أيام الجمع، كأنهم الأزهار المفتحة، فى البطاح الكريمة، تحت الأهوية المعتدلة"(4).

(1) ابن الخطيب فى الإحاطة ج 1 ص 143، واللمحة البدرية ص 29.

(2)

الإحاطة ج 1 ص 140.

(3)

نسيج من الصوف.

(4)

الإحاطة ج 1 ص 141

ص: 449

ومما يجدر ذكره، أن العمامة كانت يومئذ قد اختفت تقريباً كلباس رأس بين الشعب الأندلسى، ولم يكن يلبسها سوى العلماء والقضاة (1). وقد حلت القلانس منذ عهد بعيد مكان العمائم. وكان أهل شرق الأندلس أسبق من غيرهم فى نبذ العمامة، وذاعت القلانس بينهم منذ أوائل القرن السابع، حتى كان أمراؤهم وشيوخهم وقضاتهم يلبسون القلانس، وكان كثير من أمراء المسلمين مثل ابن مردنيش وغيره يرتدون الثياب القشتالية (2). ولم يلبس ملوك بنى الأحمر العمامة، بل فضلوا القلنسوة (كاب) واتخذوها لباساً حتى آخر دولتهم. وكان بمتحف جنة العريف بغرناطة قبل إلغائه، صورة يقال إنها لأبى عبد الله آخر ملوك الأندلس، وهى تصوره بقلنسوة عالية (3). وأما القضاة فقد احتفظوا بالعمامة كلباس رسمى. وتوجد فى سقف قاعة الملوك أو قاعة العدل بقصر الحمراء، صورة تمثل مجلس القضاة وهم بالعمائم والبرانس، وهى الصورة التى يعتقد البعض أنها تمثل ملوك غرناطة.

وكان الأمراء والأكابر، وفريق كبير من أبناء الطبقات الميسورة، يؤثرون ارتداء الثياب الإفرنجية، اقتداء بجيرانهم النصارى، ولاسيما فى عصور الأندلس الأخيرة. وأما ثياب الجندى الأندلسى فقد كانت فى العصور المتأخرة مشابهة لثياب الجند النصارى، وكذلك عدتهم وسلاحهم ونظامهم فى الصفوف، ثم عدلوا فى عصر ابن الخطيب عن هذا الزى، إلى الجواشن المختصرة والبيضات المذهبة، والسروج العربية. وكانت الجنود البربرية من جانبها، تحافظ على زيها المغربى (4).

وكان أهل الأندلس مضرب الأمثال فى النظافة، يبالغون فى العناية بنظافة أبدانهم وثيابهم، ويكثرون من الاستحمام. وقد كانت هذه العادات فيما بعد، حينما أكره المسلمون على التنصير، من الشبه التى تثيرها ضدهم محاكم التحقيق، للتدليل على تشبثهم بالإسلام، وارتدادهم عن النصرانية.

وكان المجتمع الغرناطى يعيش فى رخاء وسعة، تكثر لديه الأقوات فى الشتاء والصيف، ولاسيما الفاكهة من العنب والتين والزبيب والتفاح والقسطل والجوز واللوز وغيرها، ويدخرها الناس يابسة على كر الفصول، ومتى حل الصيف، هرع الناس إلى الفحوص (المروج) أعنى الضواحى، للتمتع بجمال البسائط النضرة، ونسيمها العليل (5).

(1) الإحاطة ج 1 ص 142.

(2)

راجع ص 81 و 99 من هذا الكتاب.

(3)

نشرنا هذه الصورة فى ص 275.

(4)

الإحاطة ج 1 ص 142.

(5)

راجع ابن الخطيب فى الإحاطة ج 1 ص 143 و 144، واللمحة البدرية ص 27 - 29

ص: 450

وكان احتفالهم بالأعياد أنيقاً، ولكن فى حدود الإعتدال والاقتصاد. وكان الشعب الغرناطى يعشق مياهج الحياة والحفلات العامة، وكانت الحياة لديه كأنها سلسلة من الأعياد المتواصلة. وكان الغناء ذائعاً، ويكثر فى المنتديات والمقاهى العامة، حيث يجتمع الشباب بكثرة، ولم تنس غرناطة مرحها حتى فى أيام محنتها، ولم تغلبها الكآبة إلا حينما أصبح العدو على الأبواب يهدد حياتها (1).

وقد استمرت الفروسة الأندلسية فى مملكة غرناطة على ازدهارها، ولبثت عصوراً تجذب الأنظار باكتمالها وروعتها ورِقَّة شمائلها. وفضلا عن كونها كانت عماد الدفاع القومى، حسبما أشرنا من قبل، فقد كانت مظاهرها وحفلاتها من أمتع المباهج العامة، فى ميدان كان التسامح المؤثر يسود فيه علائق المسلمين والنصارى، بالرغم مما كان يدور بين الفريقين من صراع مستمر. وقد اشتهر ملوك غرناطة، فضلا عن الجود، بميلهم نحو الحرية والتسامح، فكان الأمراء المسلمون والنصارى يتبادلون الزيارات، وكانوا يتلاقون أيام السلم وفى المفاوضات أنداداً كراماً. ومن أشهر مظاهر هذا التواصل ما حدث فى ربيع سنة 1463، حيث سار هنرى الرابع ملك قشتالة إلى أراضى غرناطة، وزار ملكها ابن اسماعيل، والتقى الملكان فى مكان بقرب الفحص La Vega، ضربت فيه خيمة ملكية أمام أبواب العاصمة، ولما انتهت الزيارة وتبادل الفريقان الهدايا، رافقت ملك النصارى كوكبة من الفرسان المسلمين، وشيعته حتى الحدود. وكذلك كان الفرسان المسلمون والنصارى يتبادلون الزيارات، وكثيراً ما كان الفرسان النصارى يقصدون إلى غرناطة، لقضاء مصالحهم وتسوية منازعاتهم، وكذا كان كثير من الأسر القشتالية النبيلة، يلجأ إلى حماية ملك المسلمين كلما شعرت بالإضطهاد والحيف، وكان فى مقدمة هؤلاء آل فيلا وآل كاسترو؛ وكانت مباريات الفروسة وحفلاتها تتوالى فى غرناطة، وفيها يبدى الفرسان المسلمون ضروباً رائعة من البراعة والرشاقة. وكان من أهم مميزات هذه الحفلات الشهيرة اختلاط الجنسين، فكان نساء غرناطة، البارعات فى الحسن والإناقة، يشهدن هذه الحفلات وغيرها من الحفلات العامة سافرات، ويسبغن بوجودهن عليها روعة وسحراً، وكن يتمتعن بقسط وافر من الحرية الاجتماعية (2)،

(1) الإحاطةج 1 ص 143، واللمحة البدرية ص 28، وكذلك فى: Prescott: Ferd. & Isabella، p. 192

(2)

Prescott: Ferdinand & Isabella، p. 192

ص: 451