الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
طبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية
المعركة الخالدة بين الأندلس واسبانيا النصرانية. تضاؤل قوة الأندلس. قيام مملكة غرناطة. مرحلة جديدة فى الصراع. طبيعة هذا الصراع. العوامل القومية والدينية. نزعة الجهاد عند المسلمين. النزعة الصليبية عند النصارى. قيام الجماعات الدينية المحاربة فى اسبانيا. ضعف العامل الدينى فى بداية النضال. السيد الكمبيادور. المرتزقة النصارى فى الجيوش الإسلامية. التجاء الأمراء النصارى إلى حماية الملوك المسلمين. زواج الأمراء المسلمين بنساء من النصارى. ابن مردنيش. التحالف بين المسلمين والنصارى. التعاون بينهما أيام السلم. الفروسة وعلائق المودة. طبيعة حرب الإسترداد. صبغتها الدينية فى مراحلها الأخيرة.
يبدأ بقيام مملكة غرناطة فوق أنقاض الدولة الإسلامية الكبرى فى اسبانيا، طور جديد من أطوار الصراع الخالد بين الأندلس واسبانيا النصرانية، أو بعبارة أخرى طور جديد فيما يمكن أن نسميه فى تلك المرحلة المتأخرة من تاريخ الأندلس حرب الإسترداد القومية.
وقد بدأت اسبانيا النصرانية حرب الاسترداد القومية La Reconquista منذ منتصف القرن الخامس الهجرى، أعنى حينما انهارت الدولة الإسلامية القوية، وانتثرت إلى عدة دويلات صغيرة متنافسة هى دول الطوائف. وبلغت الأندلس أيام الطوائف من التفرق والضعف مبلغاً عظيماً، حتى لاح لاسبانيا النصرانية أن عهد الدولة الإسلامية أوشك على الزوال، وأن الفرصة قد سنحت لتضرب ضربتها الحاسمة. وكانت مملكة قشتالة تتزعم اسبانيا النصرانية، وتقودها فى ميدان الصراع مع المسلمين، وكان ملكها أيام الطوائف ألفونسو السادس، يعمل بذكاء لاستغلال منافسة الدول الإسلامية وتفرق كلمتها، ويغلب أميراً على أمير، حتى انتهى بالاستيلاء على مدينة طليطلة من يد صاحبها يحيى بن ذى النون، وذلك فى صفر سنة 478 هـ (مايو سنة 1085 م). وكانت طليطلة أول قاعدة إسلامية عظيمة تسقط فى يد اسبانيا النصرانية. ويعتبر بعض الباحثين سقوطها ختام مرحلة التفوق السياسى الذى احتفظت به الدولة الإسلامية فى شبه الجزيرة منذ الفتح، وبدأ مرحلة التفوق السياسى لإسبانيا النصرانية (1) وعلى أى حال فقد كان سقوط
(1) Isidro de las Cagigas: Los Mudéjares، p. 45.mmmmmm
طليطلة نذيراً خطيراً للأمة الأندلسية، يذكرها بقوة العدو المتربص بها، ويحذرها عاقبة التنابذ والتفرق، فاجتمعت كلمة أمراء الطوائف يومئذ على الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر، فى عدوة المغرب. وكان المرابطون يومئذ قد بسطوا سلطانهم على سائر بلاد المغرب، وبدت دولتهم قوية شامخة، فاستجاب زعيمهم يوسف بن تاشفين إلى صريخ الأندلس. وعبر البحر بقواته إلى الأندلس. وكانت هزيمة اسبانيا النصرانية على يد جيوش المغرب والأندلس فى موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م) فاتحة حياة جديدة للأمة الأندلسية. وبالرغم من أن المرابطين استولوا على الأندلس بعد ذلك بأعوام قلائل وبسطوا حكمهم عليها، فقد استمد الإسلام فى اسبانيا من قوتهم قوة جديدة، وعاد الصراع الخالد بين الدولة الإسلامية وبين اسبانيا النصرانية، يضطرم فى نوع من تكافىء القوى. ولما اضمحل سلطان المرابطين فى الأندلس بعد ذلك بنحو ستين عاماً، وخلفهم الموحدون فى ملك المغرب والأندلس، لبثت الدولة الإسلامية حقبة أخرى فى شبه الجزيرة عزيزة قوية الجانب نوعاً، وإن كانت قد فقدت فى تلك الفترة بعض قواعدها التالدة، مثل سَرقُسطة التى سقطت فى يد النصارى سنة 512 هـ (1118 م) وبقية قواعد الثغر الأعلى التى سقطت بعد ذلك بفترة قصيرة. وأحرز الإسلام للمرة الثانية على النصرانية نصراً حاسما فى موقعة الأرك الشهيرة، التى انتصرت فيها جيوش يعقوب المنصور خليفة الموحدين على جيوش ألفونسو الثامن ملك قشتالة (593 هـ - 1195 م)، وانكمشت اسبانيا النصرانية مدى حين، ولكنها عادت فاجتمعت كلمتها تحت لواء ألفونسو الثامن، وسارت الجيوش النصرانية المتحدة إلى لقاء المسلمين بقيادة خليفة الموحدين محمد الناصر ولد يعقوب المنصور، وأصيب المسلمون فى موقعة العقاب بهزيمة فادحة (609 هـ - 1212 م) وأخذ سلطان الموحدين فى الأندلس يتداعى من ذلك الحين، وبدأ مصير الأندلس يهتز فى يد القدر، وبدت اسبانيا النصرانية يومئذ فى أوج سلطانها وقوتها. ولم تمض فترة وجيزة أخرى حتى بدأت قواعد الأندلس العظيمة، تسقط تباعاً فى يد النصارى: قرطبة (633 هـ) فبلنسبة (636 هـ) فمرسية (641 هـ) فشاطبة ودانية (644 هـ) فإشبيلية (646 هـ). وهكذا سقطت عدة من قواعد الأندلس التالدة ومنها عاصمة الخلافة القديمة فى يد اسبانيا النصرانية فى مدى عشرة أعوام فقط، ولقيت الأندلس أعظم محنها فى تلك الفترة العصيبة، ولاح لاسبانيا mmmmmm
النصرانية أن حرب الإسترداد القومية لن تلبث حتى تتوج فى أعوام قلائل أخرى، بالقضاء على ما بقى من تراث الإسلام فى الأندلس.
ولكن شاء القدر أن تتمخض هذه المحنة، التى غمرت الأندلس فى أوائل القرن السابع الهجرى، عن قيام مملكة إسلامية جديدة هى مملكة غرناطة، تتمتع بالرغم من صغرها بكثير من عناصر الفتوة والحيوية. وفى الوقت الذى خيل فيه لاسبانيا النصرانية أنها أضحت على وشك الإجهاز على المملكة الإسلامية، كانت بذور صراع مرير طويل الأمد تنمو وتتوطد، وإذا بالنهاية المرجوة تستحيل إلى بداية جديدة. ولقد استطالت هذه المرحلة الأخيرة من حرب الاسترداد زهاء مائتين وخمسين عاماً، صمدت فيها المملكة الإسلامية لهجمات اسبانيا النصرانية المستمرة، وعملت على استغلال كل فرصة للمطاولة والمقاومة، وأبدت فى النضال على صغر رقعتها وضآلة مواردها، بسالة عجيبة. وكانت كلما شعرت بالخطر الداهم يكاد ينقض عليها ويودى بحياتها، استغاثت بجارتها المسلمة من وراء البحر، أو عصفت بإسبانيا النصرانية ريح الخلاف والتفرق فشغلتها عن إرهاق المملكة الإسلامية حيناً، حتى شاء القدر بعد طول النضال أن تنتهى هذه المعركة القاسية الطويلة إلى نهايتها المحتومة، وأن تنهار المملكة الإسلامية الصغيرة أمام ضغط القوة القاهرة، وأن تختتم حياتها المجيدة أبية كريمة.
وهنا يجدر بنا أن نحاول أن نلقى شيئاً من الضياء، على طبيعة هذا النضال، الذى استمر قروناً بين الأمة الأندلسية وبين اسبانيا النصرانية ، وإلى أى حد كانت تحدوه العوامل القومية أو الدينية.
كانت العوامل القومية والدينية، تمتزج بأدوار هذا النضال فى معظم أطواره، وكانت تشتد حيناً وتخبو حيناً تبعاً لتطور الحوادث. ولما فتح العرب اسبانيا، وسيطرت الدولة الإسلامية على معظم أنحائها، قامت المملكة الإسبانية النصرانية الناشئة فى قاصية الشمال، ترقب الفرص للتوطد والتوسع. بيد أنها لم تجرؤ على تحدى المملكة الإسلامية والنزول إلى ميدان النضال قبل أواخر القرن التاسع، ففى ذلك الحين اضطرمت الأندلس بالفتن والثورات الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثوار والنواحى. وكانت غزوات النصارى للأراضى الإسلامية يومئذ غزوات عيث يغلب عليها حب الانتقام والغنم. ولم يكن يطبعها شىء من تلك الروح الدينية العميقة، التى جمعت أوربا النصرانية تحت لواء كارل مارتل mmmmmm
لمحاربة العرب على ضفاف اللوار، والتى حفزت شارلمان فيما بعد إلى عبور جبال البرنيه وغزو الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل. غير أنه لما اشتد ساعد الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر (أوائل القرن العاشر الميلادى) وظهرت المملكة الإسلامية فى أوج قوتها وظفرها، ونفذت الجيوش الإسلامية غير مرة إلى أعماق المملكة النصرانية، وشعر النصارى بالخطر الداهم على كيانهم، أخذت العوامل الدينية والقومية تستيقظ من سباتها، واتحدت المملكتان النصرانيتان ليون ونافار (نبرّة) على مقاومة الخطر الإسلامى. وكانت المعارك التى نشبت فى تلك الفترة فى عهد أردونيو الثانى وولده راميرو بين المسلمين والنصارى، تحدوها من الجانبين، فوق نزعتها القومية، نزعة دينية واضحة؛ فكانت غزوات المسلمين تحمل طابع الجهاد، ويهرع أهل الثغور إلى مرافقة الجيش لمقاتلة النصارى، وكان يرافق الجند النصارى إلى القتال جموع غفيرة من الأحبار ورجال الدين، يسقطون إلى جانب الفرسان فى ساحة الوغى. وكانت هذه الصبغة القومية الدينية تبدو كلما اشتد الخطر من الجنوب على اسبانيا النصرانية. ففى أواخر القرن العاشر فى عهد الحاجب المنصور، حينما اشتدت وطأة الأندلس على اسبانيا النصرانية، وغزا المسلمون أقصى وأمنع معاقلها الشمالية، اتحدت الممالك النصراية الثلاثة ليون وقشتالة ونافار ضد المسلمين فى جبهة دفاعية موحدة؛ وبدت كذلك موحدة الرأى والقوى، حينما عبرت جموع البربر إلى الأندلس تحت لواء المرابطين، لتنقذ الأندلس من خطر الفناء الذى كان يهددها، من جراء تفوق ملوك الطوائف. وكانت موقعة الزلاّقة تحمل فى نظر المسلمين طابع الجهاد فى سبيل الله، وتطبعها فى نظر النصارى صبغة صليبية واضحة، ولم يكن نصر الزلاّقة نصراً للأندلس على خصيمتها اسبانيا فقط، ولكنه كان نصر الإسلام على النصرانية أيضاً. وكذا كان نصر الموحدين فى موقعة الأرك، ثم هزيمتهم بعد ذلك فى موقعة العقاب، يحمل كلاهما من الجانبين هذا الطابع الدينى العميق. ويجب أن نذكر أن الحروب الصليبية، قد بدأت فى المشرق بعد موقعة الزلاّقة بقليل، واستمرت تضطرم بين المسلمين والنصارى فى مصر والشام زهاء قرنين، وبلغت ذروتها أيام الملك الناصر صلاح الدين معاصر الخليفة يعقوب المنصور الظافر فى معركة الأرك. ولم يك ثمة شك فى أن النزعة الصليبية التى دفعت بجحافل الغرب إلى الشرق الإسلامى، كانت تحدث صداها قوياً فى اسبانيا النصرانية وفى الغرب الإسلامى.
وفى الوقت الذى كانت جيوش الصليبيين تحاول فيه أن تغزو مصر حصن الإسلام فى المشرق، فى أوائل القرن السابع الهجرى، كانت قواعد الأندلس الكبيرة تسقط فى أيدى النصارى، وكانت اسبانيا النصرانية تبدو يومئذ إزاء الأندلس، موحدة الرأى والقوى، كما كانت الجيوش الأوربية الصليبية تسير إلى المشرق متحدة لتحقيق الغرض المشترك.
وقد ظهر صدى النزعة الصليبية فى اسبانيا فى شكل آخر، هو قيام الجماعات الدينية المحاربة. ونحن نعرف أن جماعات الفرسان الدينية قامت فى المشرق فى ظل الصليبيين، واشتهر منهم بالأخص جماعة فرسان المعبد أو "الداوية" كما تسميهم الرواية العربية، وفرسان القديس يوحنا أوالأسبتارية. وكانت هذه الجماعات الدينية المحاربة، تشد أزر الأمراء النصارى وتؤدى للصليبيين أثناء الحرب والسلم خدمات جليلة. وكما أن قيامها فى المشرق كان أثراً من آثار المعارك الصليبية، فكذلك كان قيامها فى اسبانيا أثراً من آثار النضال بين اسبانيا النصرانية وبين اسبانيا المسلمة. ذلك أن بعض الفرسان والرهبان الورعين المتحمسين، كان يحزنهم تفرق الملوك النصارى وتخاذلهم أحياناً فى مقاتلة المسلمين، وكانوا يرون أنه لابد من قيام جماعات غيورة مخلصة من الفرسان، تنذر نفسها للدفاع عن الدين وعن الأراضى النصرانية. وكانت قدوتهم فى ذلك جماعات المسلمين من أهل الثغور والمرابطة، فقد كانت هذه الجماعات المجاهدة التى ترابط عند حدود الأراضى الإسلامية، تبدى فى محاربة النصارى بسالة منقطعة النظير، وتؤدى للجيوش الإسلامية أجلّ الخدمات. فلما أنشئت جماعة فرسان المعبد (الداوية) فى بيت المقدس سنة 1119 م عقب قيام المملكة اللاتينية بقليل، كان لقيامها صدى عظيم فى اسبانيا، ولم تمض أعوام قلائل حتى قامت أول جمعية محاربة دينية فى أراجون فى عهد ألفونسو المحارب، فى صورة فرع لجماعة فرسان المعبد، وأبدى ألفونسو فى تأييدها حماسة، وانتظم فى سلكها الكونت ريمون برنجار أمير برشلونة، وأقطعت عدة حصون وأراض شاسعة على حدود أراجون، كما احتلت عدداً من الحصون فى قشتالة، ونمت بسرعة وأخذت تضطلع من ذلك الحين بدور هام فى سائر المواقع التى تنشب بين النصارى والمسلمين.
وقامت فى قشتالة بعد ذلك بقليل أعظم الجمعيات الدينية المحاربة، ففى أواخر mmmmmm
عصر القيصر ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع (1) ملك قشتالة، قامت حول سنة 1150 م جمعية فرسان دينية قوية فى بعض أديار منطقة شلمنقة، وسميت بجمعية القديس يوليان، ثم سميت بعد ذلك بجمعية فرسان القنطرة. وفى سنة 1158 م قامت جمعية دينية محاربة أخرى، ربما كانت أشهر وأقوى جماعات الفرسان التى ظهرت فى اسبانيا فى هذا العصر، وهى جمعية "فرسان قلعة رباح"،
ونشأت لأول أمرها على يد بعض الرهبان الورعين المتحمسين الذين عملوا على حشد الجند النصارى للتطوع للدفاع عن تلك القلعة الحصينة ضد المسلمين، واتخذت قلعة رباح مركزاً لها (2). وقامت أيضاً فى البرتغال عدة فروع لفرسان المعبد (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الأسبتارية). وظهرت هذه الجمعيات الدينية المحاربة ولاسيما فرسان القنطرة وفرسان قلعة رباح فى كثير من المعارك، التى نشبت فى تلك العصور بين المسلمين والنصارى، وكان تدخلهم فى كثير من الأحيان من عوامل النصر والإنقاذ للجيوش النصرانية، بيد أنهم بالرغم من صفتهم الدينية والصليبية كانت تحدوهم بواعث وأطماع دنيوية، وكان ظمأ الكسب واجتناء المغانم روحهم المسيرة، وكانوا يسيطرون على قلاع كثيرة وأراض واسعة، ويعيشون فى بذخ وترف، بما يحصلون عليه من الإقطاعات والهبات والنذور الوفيرة، وكان تدخلهم فى شئون السياسة والعرش يشتد أحياناً، ويفضى إلى أحداث وتطورات خطيرة.
كانت اسبانيا النصرانية حينما بدأت حرب الإسترداد الحقيقية La Reconquista فى أواسط القرن الثالث عشر، عقب سقوط القواعد الأندلسية الكبيرة، تجيش إلى جانب نزعتها القومية بهذه النزعة الصليبية الواضحة. على أنه يمكن القول أن ظهور هذه النزعة القومية والدينية العميقة فى حروب اسبانيا النصرانية مع المسلمين، لم يكن ملحوظاً بصورة واضحة، حينما كان التفوق فى القوة لإسبانيا المسلمة أيام الدولة الأموية، وحينما كان ثمة نوع من توازن القوى السياسية والعسكرية بين الأندلس واسبانيا النصرانية أيام المرابطين والموحدين وتدل حوادث التاريخ الأندلسى حتى أواخر القرن الثانى عشر على أن التعصب
(1) Alfonso Raimundez وتعرفه الرواية الإسلامية باسم أدفنش بن رمند أو السليطين.
(2)
تناولنا قيام الجماعات الدينية النصرانية، ونشأة جمعية فرسان قلعة رباح تفصيلا فى " عصر المرابطين والموحدين " القسم الأول ص 518 - 520. mmmmmmmmmmmm
القومى أو الدينى لم يكن دائماً ظاهرة بارزة، فى حروب المسلمين والنصارى.
فقد كان الفريقان المتحاربان على وجه العموم يحترم بعضهم بعضاً، وكان التعصب الدينى قاصراً على جماعات الفقهاء من ناحية، وعلى القساوسة والأحبار من جهة أخرى؛ ويوصف المسلمون فى الأناشيد الإسبانية القديمة بأنهم خصوم شرفاء، ولا يجيش النصارى نحوهم ببغض أكثر مما كان يجيش به المسلمون أنفسهم، بعضهم نحو بعض فى الحروب الأهلية التى كانت تنشب فيما بينهم (1). يقول العلامة دوزى:"إن الفارس الإسبانى فى العصور الوسطى لم يكن يحارب من أجل دينه أو وطنه، بل كان مثل "السيِّد" يحارب لكسب عيشه، سواء فى ظل أمير مسلم أو أمير نصرانى. ولقد كان "السيِّد" نفسه أقرب إلى روح المسلم منه إلى الكاثوليكى"(2). وفى حياة السيد الكمبيادور (الكنبيطور)(3) نفسه أوضح مثل لاتجاهات الفروسة الإسبانية فى تلك العصور، فقد نشأ السيد وظهر فى كنف أمير مسلم، وتقلب فى خدمة الأمراء المسلمين والنصارى على السواء، بل لقد خدم الأمراء المسلمين أكثر مما خدم الأمراء النصارى، ولو لم يمت وهو فى خدمة الجانب النصرانى لما حفلت به الأساطير الإسبانية، ورفعته إلى مرتبة البطل القومى (4). وفى أحيان كثيرة نرى المرتزقة من الفرسان والجند النصارى يعملون فى الجيوش الإسلامية. وفى مواطن عديدة من تاريخ اسبانيا النصرانية، نرى الملوك والأمراء النصارى خلال الحروب الأهلية يلوذون بحماية الأمراء المسلمين.
فقد لجأ سانشو ملك ليون إلى حماية عبد الرحمن الناصر حينما استأثر أخوه أردونيو بالملك دونه، ولجأ ألفونسو السادس ملك قشتالة إلى حماية المأمون بن ذى النون
(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain ; V. I. p. 51.
(2)
Dozy: Recherches sur l'Histoire et Littérature de l'Espagne pendant
le moyen age ; V. II. p. 203 & 233.
(3)
وبالإسبانية El Cid Campeador؛ ومعناها "السيد الباسل جدا".
(4)
يختلف تقدير التفكير الغربى للسيد الكمبيادور ومنزلته من البطولة، فيرى دوزى فى كتابه ( Le Cid) أنه ليس سوى جندى مغامر يجمع فى شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله ويجاريه فى هذا الرأى معاصره العلامة الفرنسى رينان، ويقول " إنه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الاسطورة إلى حيز التاريخ كما فقد السيد". ولكن العلامة الإسبانى المعاصر الأستاذ منندث بيدال يخالف هذا الرأى، ويبالغ فى تقديره للسيد، ويقول " إن الشعر والتاريخ يتفقان فى شأنه، وأنه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً فى ظل التاريخ " R.M.Pidal: La Espana del Cid ; Vol. II. p. 594.mmmmmm
أمير طليطلة، حينما تغلب عليه أخوه سانشو الثانى وعاش فى بلاطه حتى توفى أخوه؛ فلما ارتقى عرش قشتالة كان أعظم مشاريعه أن ينتزع طليطلة من يد القادر بن ذى النون ولد المحسن إليه. وفى سنة 990 م قدّم برمودو (برمند) الثانى أخته زوجة لحاكم طليطلة المسلم. ولم يكن زواج الأمراء المسلمين من الأميرات والعقائل النصارى أمراً نادراً. وربما كان تاريخ بلنسية فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر أسطع مثل لهذا الامتزاج والتفاهم بين الفريقين المتحاربين، ففيه يكثر التحالف بين المسلمين والنصارى ولاسيما أيام "السيد" وبعدها. وقد كان أمير بلنسية فى أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ينتمى حسبما قدّمنا إلى أسرة من المولدين أعنى من أصل نصرانى، وكان يرتدى الثياب القشتالية، ويعتمد فى جيشه على الضباط والجند النصارى. ولم يحجم أمراء المرابطين فى الأندلس حينما انهارت دولتهم فى المغرب، وبدأ الموحدون فى انتزاع الأندلس من أيديهم، عن الإستعانة بألفونسو ريمونديس ملك قشتالة وحليفه غرسية ملك نافار على محاربة الموحدين. وهذا ما فعله بالأخص الأمير يحيى بن غانية آخر زعماء المرابطين بالأندلس حينما استعان بالقيصر ألفونسو السابع على الاحتفاظ برياسته لقرطبة. وهذا ما فعله أيضاً الخليفة الموحدى أبو العلاء المأمون حينما اتفق مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، على معاونته بفرقة من الفرسان النصارى يستعين بها على استرداد العرش من خصومه. ولم ينقطع هذا التعاون بين المسلمين والنصارى حتى بعد أن بدأت مرحلة الإسترداد الأخيرة؛ فقد كان مؤسس مملكة غرناطة محمد بن الأحمر فى بداية أمره، ينضوى حسبما رأينا تحت حماية ملك قشتالة، ويتعهد بمعاونته فى حروبه ضد خصومه من المسلمين والنصارى. ونجد من الجانب الآخر أمراء النصارى، يلوذون من وقت إلى آخر بحماية المسلمين حتى فى ذلك العصر الذى تضاءلت فيه المملكة الإسلامية، فنرى الإنفانت فيلب حينما ثار على أخيه الملك ألفونسو العاشر، يلتجىء مع جماعة من النبلاء إلى حماية السلطان أبى يوسف المنصور المرينى ملك المغرب، ويستقرون ضيوفاً فى بلاط غرناطة، حتى انتهى ملك قشتالة إلى مصالحتهم واسترضائهم (1270 م). وفى سنة 1282 م اضطر ألفونسو العاشر نفسه حينما ثار عليه ولده سانشو وانتزع منه العرش، إلى الاستعانة بالسلطان أبى يوسف، وأرسل إليه تاجه مقابل ما ينفقه على معاونته، فاستجاب إليه وأمده بالمال والجند. وفى سنة 1332 م ثار حاكم
" الفرنتيرة " النصرانى ضد مليكه ألفونسو الحادى عشر، وتحالف مع سلطان غرناطة وعاون بذلك فى رد النصارى عن جبل طارق، وكانوا على وشك الاستيلاء عليه. ولما نشبت الثورة ضد ولده بيدرو القاسى (دون بطره) ونزع عن عرشه، ونشبت بينه وبين خصومه موقعة مونتيل الفاصلة لسنة 1367 م، كان إلى جانبه فرقة من الفرسان المسلمين، أمده بها حليفه الغنى بالله ملك غرناطة (1). وهكذا كان التعاون السياسى والحربى يجرى بين الفريقين من آونة إلى أخرى، حتى فى تلك العصور التى مال فيها نجم الأندلس إلى الأفول، ولم تكن تحول دون عقده عوامل القومية أو الدين؛ وكانت العلائق التجارية أيام السلم تجرى بانتظام، وتنظم بمعاهدات ودية بين الفريقين، ومن ذلك معاهدة الصداقة والتحالف التى عقدها محمد بن يوسف ملك غرناطة مع مرتين ملك أراجون لتنظيم العلائق والمبادلات الحرة، وتنظيم التحالف السياسى بين المملكتين (سنة 1405 م)(2).
هذا ويجب ألا ننسى، ما كان هنالك من علائق المودة والتفاهم بين جماعات الفرسان من الفريقين، وقد كانت الفروسية الإسبانية فى العصور الوسطى تقتبس كثيراً من تقاليد الفروسية الإسلامية وخلالها الرفيعة، وتنظر إليها بعين التقدير والاحترام. وكانت مباريات الفروسية تجمع بين أنبل الفرسان من الجانبين، وكثيراً ما كانت تعقد فى العاصمة الإسلامية فى جو من العطف والحماسة، ويهرع إلى شهودها ألوف من المسلمين والنصارى، وكانت هذه الاجتماعات المثالية البهجة التى تجمع بين العنصرين الخصيمين، أبعد ما يكون عن الاعتبارات القومية والدينية، وقد كانت غرناطة التى اشتهرت بفروستها النبيلة البارعة، مسرحاً لكثير من هذه المباريات الشهيرة.
تلك هى الصورة المتباينة، التى تقدمها إلينا معركة السلطان والقوة، ومعركة الحياة والموت، والحرية والاستعباد، بين الأندلس واسبانيا النصرانية. ذلك أن بواعث الدين والقومية، لم تكن دائماً كل شىء، فى هذا الصراع المضطرم الطويل الأمد. ومع ذلك فقد كانت النزعة الدينية أو الصليبية، تبدو كلما لاح شبح الخطر الداهم على كيان أحد الفريقين، أو كلما اتخذ النضال بين الفريقين صبغة حاسمة. ولما شعرت اسبانيا النصرانية أنها أضحت بعد الاستيلاء على القواعد
(1) سوف نعود إلى تفصيل هذه الحوادث فى مواضعها بعد.
(2)
Dr. Lea: History of the Inquisition ; V. I. p. 52-55.
الأندلسية الكثيرة، وتضاؤل المملكة الإسلامية، فى مركز التفوق والغلبة، لم يكن ثمة ما يدعو لأن تتخذ حرب الإسترداد التى تلت بعد ذلك، بين اسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة، ألوانا دينية أو قومية عميقة. ذلك أن معركة السلطان قد بُتّ فيها نهائيا بظفر اسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس مسألة وقت فقط. وكانت اسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية، أو ردها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر. على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قوياً واضحاً، وما كادت حرب الإسترداد تدخل فى طورها الأخير، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية، فى جهود اسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة. ولما اتحدت اسبانيا النصرانية نهائيا، وتم اندماجها فى مملكة موحدة بزواج فرناندو ملك أراجون وإيسابيلا ملكة قشتالة، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لوناً صليبياً عميقاً، يذكيها ويزيد فى ضرامها حماسة هذه الملكة الورعة المتعصبة، ومن حولها الأحبار المتعصبون، وأسبغ على فرناندو لقب "الكاثوليكى" وعلى إيسابيلا لقب "الكاثوليكية"، وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة فى الثانى من يناير سنة 1492، أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب، وأقام الرهبان القدّاس داخل قصر الحمراء، ودفنت الملكة إيسابيلا وزوجها الملك فرناندو فى كتدرائية غرناطة التى أقيمت فوق أنقاض المسجد الجامع، تنويهاً بظفرهما على الإسلام. وكانت سياسة اسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة، منذ إكراهها على التنصير فى عصر فرناندو حتى مأساة النفى النهائى فى عصر فيليب الثالث، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة، يصوغها ويمليها أحبار الكنيسة، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسى المروع ووسائله الدموية؛ وعلى الجملة فقد كانت جهود اسبانيا النصرانية فى القضاء على الأمة الأندلسية، تمثل منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة من أروع وأشنع مآسى التعصب الدينى والقومى التى عرفها التاريخ.
وتلك المأساة التى استطالت منذ قيام مملكة غرناطة زهاء مائتين وخمسين عاماً هى التى نستعرض حوادثها وظروفها فيما يلى من فصول هذا الكتاب.