الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
ختام المأساة
وقع محنة الأندلس فى العالم الإسلامى. سفارة فرناندو إلى بلاط مصر. موضوع هذه السفارة حسبما دونها بيترو مارتيرى. صدى المأساة فى المغرب. مسير أبى عبد الله إلى أندرش وحياته فيها. خطة الملكين الكاثوليكيين لإبعاده عن الأندلس. الاتفاق على بيع حقوقه وجوازه إلى المغرب. نص قبول أبى عبد الله. جوازه إلى فاس والتجاؤه إلى ملكها. دفاع أبى عبد الله المسمى بالروض العاطر الأنفاس. الوزير العقيلى كاتب هذا الدفاع. بعض ما ورد فى الدفاع من المنظوم. بعض ما ورد فيه من المنثور. اعتذار أبى عبد الله ودفعه لتهمة التفريط والخيانة. استعراض لموقفه وتصرفاته. معترك الفتنة الذى أودى بمملكة غرناطة. تبعة أبى عبد الله. حياته بمدينة فاس. وفاته وعقبه. حمراء غرناطة. تاريخها وأوصافها. ما بقى من أبنيتها وأبهائها. تشويه الإسبان لجمالها الأثرى. روعتها وتراثها القصصى. تغدو مسرحاً لحوادث غرناطة. ما يدور حولها من الأساطير. الأساطير الغرامية. أصل هذه الأساطير ومغزاها. قصيدة شوقى فى رثاء الحمراء.
لم يكن سقوط غرناطة فى يد النصارى حادثاً فجائياً، بل كان بالعكس نتيجة طبيعية، لما تقدمه من الحوادث الأندلسية، وكان خاتمة محتومة لاستشهاد طويل الأمد. ومع ذلك فقد كان لسقوط غرناطة أو بعبارة أخرى لانتهاء دولة الإسلام فى الأندلس، وقع عميق فى الضفة الأخرى من البحر، فى أمم المغرب التى لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفى سائر أنحاء العالم الإسلامى. وكان للحادث أيضاً وقعه العميق فى سائر الأمم النصرانية؛ فقد ابتهجت له أيما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عوضاً لسقوط قسطنطينية فى قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. وخلدت ذكرى الحادث فى رومة بإقامة قداس أعظم، واستمر ابتهاج الشعب أياماً. ورجت سائر قصور أوربا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية، منوهة بفضل فرناندو وإيسابيلا فى تحقيق هذه الأمنية العظيمة (1).
وقد كانت الأندلس تثير منذ البداية جزع الأمم الإسلامية وعطفها. ولكن الأمم الإسلامية لم تستطع أن تبذل أى مجهود عملى لإنقاذ الأندلس من قدرها المحتوم،
(1) Prescott: Ferd. & Isabella p. 299 والهامش
ولم يتحقق من جهة أخرى ما كانت ترجوه مصر بتدخلها السياسى لدى ملوك النصرانية من أثر ملطف فى سير الحوادث الأندلسية. وقد كانت مصر بالرغم من بعدها تتبع أحوال الأندلس باهتمام خاص، لم ينتقص منه سوى اضطراب شئونها الداخلية فى ذلك الحين. ولما استولى النصارى على غرناطة، وحققت بذلك أمنية اسبانيا التاريخية كاملة شاملة، لم ينس ملك قشتالة ما جاء فى سفارة سلطان مصر من وعيد بأنه ينكل برعاياه النصارى، ولم يقنع بالخطاب الذى وجهه إليه على يد سفيريه الراهبين. فلما استقرت الأمور وخضعت سائر الأراضى الإسلامية، رأى فرناندو أن يسعى إلى إقناع سلطان مصر، بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية والرفق فى ظل الحكم الجديد، فأوفد إلى بلاط القاهرة سفارة جديدة. وكان سفيره إلى السلطان هو بيترو مارتيرى دى أنجلريا، وهو حبر نابه، وكاتب ومؤرخ كبير، وكان من مستشارى الملك. ندبه فرناندو لهذه السفارة فى أغسطس سنة 1501، وزوده بالكتب والوثائق اللازمة. ووصل مارتيرى إلى الإسكندرية بعد رحلة بحرية شاقة عن طريق إيطاليا واليونان فى أواخر شهر ديسمبر، ثم وصل إلى القاهرة فى آخر يناير، وكان سلطان مصر فى ذلك الحين الملك الأشرف جان بلاط، فاستقبل سفير الملكين الكاثوليكيين عقب وصوله برفق ورعاية، ولكن نقلت إليه على أثر ذلك أقاويل كثيرة من بعض الأشراف والمغاربة والأندلسيين المنفيين، الذين استنكروا مسلكه وتكريمه لسفير ملك استولى على أراضى المسلمين فى الأندلس، وهو الآن يسومهم الخسف والعذاب. فبعث إلى السفير يرجوه الانصراف من حيث أتى خوفاً من سوء العواقب، ولكن مارتيرى بعث إلى السلطان يشرح له خطورة الأمر، ويصف عظمة مليكيه، وروعة سلطانهما الباذخ الذى يمتد حتى أواسط البحر الأبيض المتوسط، وكونهما يستطيعان الانتقام والإضرار بمن يسىء إليهما. فعاد السلطان واستقبله فى مقابلة سرية خاصة استمرت من الصباح إلى الظهر. وكان ذاك فى السادس من فبراير سنة 1502 (شعبان سنة 907 هـ)، وألقى مارتيرى بين يديه خطاباً ضافياً فند فيه ما ينسب لمليكه من الاستيلاء ظلماً على غرناطة، واضطهاده للمسلمين، وقهرهم على التنصير؛ وبين مارتيرى حق سيده فى الفتح، وكونه يحكم مئات الألوف من الرعايا المسلمين الذين يعيشون فى بلنسية وأراجون، وهم جميعاً يتمتعون بشعائرهم أحراراً، واستطاع بكياسته وبراعته، أن يقنع السلطان بصدق رسالته، وحسن نيات مليكيه، وقدم إلى
السلطان شهادات من حكام الثغور المغربية، تفيد بأن المسلمين المهاجرين إلى المغرب يصلون إلى الشواطىء مع نسائهم وأولادهم فى أمن وسلام، ويلقون من مندوبى الملكين كل رفق ورعاية (1)، واستطاع فوق ذلك بذلاقته أن يقنع السلطان بأن يجيب مطالبه فى إعفاء نصارى بيت المقدس من طائفة من المغارم والفروض.
ويصف لنا مارتيرى قصر السلطان بأنه يقوم على ربوة، على نمط قصر الفاتيكان فى رومة، وقصر الحمراء فى غرناطة؛ ويصف السلطان بأنه رجل فى نحو الخمسين من عمره، ذو لحية كعادة أهل البلاد، ولكن صغيرة نحيلة، وهو مهيب الطلعة ذو وجه عبل أسمر، وهيئة حوشية نوعاً، وعينين صغيرتين غائرتين؛ وحركاته ثقيلة، وقوامه فوق المتوسط حسبما يبدو من جلسته، وهو يرتدى ثوباً لا يختلف كثيراً عما يسميه أهل غرناطة "بالجبة".
ويورد مارتيرى أثناء وصف حوادث سفارته نبذة طويلة عن تاريخ مصر الإسلامية، ووصفاً ضافياً للقاهرة والنيل والأهرام، ووصفه قوىّ شائق (2).
وهكذا كان الصدى الأليم الذى أثارته حوادث الأندلس فى الأمم الإسلامية يخبو شيئاً فشيئاً. ولم تمض أعوام قلائل حتى أسدل عليها فى المشرق حجاب من النسيان ولكن ذكرى الأندلس وحوادثها، لبثت حية قوية فى عدوة المغرب عصوراً أخرى. ذلك أن المأساة الأندلسية لم تنته بسقوط غرناطة، بل كان عليها أن تجوز ثمة فصولا مفجعة أخرى، قبل أن تصل إلى نهايتها. وكانت هذه الفواجع أول ما تلقى صداها العميق فى الضفة الأخرى من البحر، حيث كانت العدوة دائما ملاذ الضحايا الأخير.
- 2 -
ولنبدأ الحديث عن مصير الملك المنكود أبى عبد الله محمد بن علىّ آخر ملوك الأندلس، فقد غادر غرناطة، ساعة استيلاء النصارى عليها، وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرّات، واستقر هنالك فى بلدة أنْدَرَش، وهى إحدى
(1) Marmol: ibid ; Lib. I. Cap. XXVI
(2)
بيتر ومارتيرى دى أنجلريا Pietro Martiri de Angleria إيطالى النشأة، ولد سنة 1455 وتوفى سنة 1525. وكان حبراً وكاتباً كبيراً. شهد حرب غرناطة الأخيرة إلى جانب فرناندو. وكتب عن سفارته إلى مصر باللاتينية كتاباً خاصاً عنوانه Legatio Babylonico، وقد ترجم إلى الإسبانية بعنوان Una Embajada de los Reyes Catolicos a Egipto ( سفارة من الملكين الكاثوليكيين إلى مصر) وقد نقلنا منه ملخص هذه السفارة حسبما تقدم. ولمارتيرى مؤلفات أخرى فى تاريخ اسبانيا فى ذلك العصر
البلاد التى أقطعت له فى تلك المنطقة، ليقيم فيها فى ظل ملك قشتالة وتحت حمايته، وصحبه إلى وطنه الجديد، كثير من الفرسان والسادة والفقهاء، وفى مقدمتهم وزيراه يوسف بن كماشه، وأبو القاسم عبد الملك (المليخ)، وكانا ألصق الناس به، وأقربهم إلى ثقته. وكانت أسرة السلطان المنفى تتألف من والدته السلطانة عائشة، وأخته عائشة، وزوجه مريم (أو مريمة) وولده الصغير (1). أما أخوه الأصغر يوسف فكان قد قتل فى ألمرية أيام الفتنة بتحريض أبيه السلطان أبى الحسن حسبما قدمنا.
وكان أبو عبد الله عندئذ، فتى فى نحو الثلاثين من عمره. وبالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ مولده، فإن صديقه المؤرخ القشتالى هرناندو دى بايثا، يقول لنا إنه كان فى نحو العشرين، يوم استطاع الفرار من سجن أبيه السلطان أبى الحسن فى سنة 1482 (887 هـ)، وبذلك يكون سنه وقت تسليم غرناطة نحو الثلاثين (2).
وقد تركت لنا الرواية القشتالية المعاصرة أيضاً، وصفاً لشخص أبى عبد الله، خلاصته أنه كان ممشوق القد، حسن الطلعة، شاحب اللون، له عينان سوداوان نجلاوان، ولحية قوية (3).
وعاش أبو عبد الله وآله وصحبه، فى تلك المملكة الصغيرة الذليلة حيناً،
(1) تشير بعض الوثائق المعقودة بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله إلى "أخواته" مما يدل على أنه كانت له أكثر من أخت. والمرجح أن عائشة كانت كبراهن.
(2)
راجع رواية Hernando de Baeza القشتالية المنشورة ضمن كتاب أخبار العصر ص 63.
(3)
Lafuente Alcantara: ibid، V. III. p. 74. وقد انتهت إلينا عن أبى عبد الله صورتان اسبانيتان، كانت تحفظ إحداهما من قبل، بمتحف قصر جنة العريف قبل إلغائه، وفيها يبدو أبو عبد الله بوجه وسيم ولون جميل وشعر كثيف أصفر ولحية مفروقة. ويرتدى ثوباً أصفر، يظلله حرير أسود، وعلى رأسه قلنسوة عالية. وقد نقلت هذه الصورة فيما بعد إلى إيطاليا، وأضحت ملكاً لبعض الأسر الخاصة. والصورة الثانية تحفظ اليوم بمتحف غرناطة المسمى Casa de los Tiros والمعروف أنها رسمت لأبى عبد الله حينما كان فى أسر الملكين الكاثوليكيين، عقب موقعة اللسانة، وهى عبارة عن لوحة صغيرة الحجم، وفيها يبدو أبو عبد الله فتى فى عنفوانه، بوجه عريض وأنف منسق، وعينين خضراوين، ونظرات حادة، تغشاها الكآبة، وشعر كستنى غزير، ولحية صغيرة مفروقة. وقد رسمت حول عنقه حلقة رمزية لوقوعه فى الأسر. وقد شهدنا هذه الصورة، أثناء وجودنا بغرناطة، ونقلنا عنها صورة فتوغرافية هى التى نشرناها من قبل (فى ص 207)
صورة: أبو عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس عن الصورة التى كانت محفوظة من قبل بمتحف جنة العريف بغرناطة
وأنشأ له فى أندرش بلاطاً صغيراً. وتقول لنا الرواية القشتالية، إنه كان يعيش هنالك فى ترف ورغد، وإنه كان يعشق الصيد ويقضى فيه كثيراً من أوقاته، ويجوب أطراف مملكته الصغيرة فوق جواده (1).
وكان فرناندو وإيسابيلا، بالرغم من انتصارهما الشامل، وقضائهما الأخير على المملكة الأندلسية، قد لبثا يتوجسان فى أعماق نفسيهما، من بقاء السلطان المخلوع فى الأراضى الإسبانية، ويخشيان أن يكون مثار القلاقل والفتن، ويتوقان إلى إبعاده وحاشيته عنها، مبالغة فى الحيطة، واتقاء لكل خطر، وكان يفرضان على أبى عبد الله رقابة صارمة، ويتلقيان أدق التقارير والأنباء، عن حركاته وسكناته، وكانت عينهما الساهرة على رقابته، الوزيران الماكران يوسف بن كماشه وأبو القاسم عبد الملك (2). ولم يمض على إقامة أبى عبد الله فى أندرش زهاء عام، حتى بدأ الملكان الكاثوليكيان يسعيان سرًّا، فى تحقيق غايتهما الأخيرة، وكان سبيلهما إلى ذلك أيضاً ابن كماشه وأبا القاسم. ففى مارس سنة 1493 وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين، وبين فرناندو دى ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، فى شأن مغادرة أبى عبد الله الأراضى الإسبانية، والعبور إلى المغرب. ويقال إن أبا عبد الله لم يأذن لوزيريه فى إجراء هذه المفاوضات، ولم يعلم بأمرها حتى تمخضت عن مشروع جديد، يقرر فيه أبو عبد الله بتنازله عن جميع حقوقه وأملاكه، نظير ثمن معين، ويتعهد بالعبور إلى المغرب. ويقال إن الملك المنكود، حينما عرض عليه ابن كماشة هذا الاتفاق، ثار لعقده، وكاد يبطش بوزيره، ولكنه عاد فاستمع إلى شرح الوزير ونصحه، بأن البقاء فى أرض العدو، وفى ظل العبودية والهوان، لم يبق له محل، وأنه ليس مكفول السلامة والطمأنينة، وأن العبور إلى أرض الإسلام خير وأبقى. هذا ولعل أبو عبد الله نفسه قد أدرك، كما أدرك عمه مولاى الزغل من قبل، أن تلك الحياة الذليلة التى فرضت عليه، لا تخلق به ولا تجمل، وأنه يستحيل عليه البقاء فى هذا الوضع المؤلم، كتابع لملك قشتالة. وعلى أى حال فقد اقتنع أبو عبد الله، بوجهة نظر وزيره. ولكنه أرسل أمينه ومدير شئونه أبا القاسم عبد الملك (المليخ)، ليسعى إلى تعديل الاتفاق لمصلحته. وبعد مفاوضات جديدة، وضع الاتفاق النهائى، الذى قبله السلطان
(1) Lafuente Alcantara: ibid; V. III. p. 80
(2)
Lafuente Alcantara: ibid; V. III. p. 81
المخلوع. وخلاصته أنه يتعهد بالعبور إلى المغرب، فى موعد أقصاه نهاية شهر أكتوبر سنة 1493، وأنه يتنازل عن سائر ضياعه، فى أندرش ولوشار وبرشينا وغيرها، وكذلك عن أملاكه الأخرى بغرناطة، بالبيع للملكين الكاثوليكيين، وذلك نظير ثمن إجمالى قدره واحد وعشرون ألف جنيه قشتالى (كاستليانو) من الذهب الحر، أو الدوقات المضروبة، من الذهب الخالص. كما يتنازل أبو عبد الله عن اختصاصه المدنى والجنائى. ويحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان عربتين لحمل متاعه، وسفناً ينتقل عليها مع صحبه، إلى المغرب، ويتضمن الاتفاق نصوصاً أخرى ببيع الأميرات لأملاكهن، إلى الملكين الكاثوليكيين، وكذلك ببيع الوزير ابن كماشه والوزير أبى القاسم كل لأملاكه، نظير مقادير من المال، وبنفس الشروط.
تلك خلاصة الإتفاق الأخير، الذى عقد بين الملكين الكاثوليكيين، وبين آخر ملوك الأندلس، للتنازل عن سائر حقوقه وحقوق آله وصحبه، ومغادرته لأرض الوطن القديم، بصورة نهائية. ويحمل هذا الاتفاق، تاريخ 15 ابريل سنة 1493، وتملأ نسخته القشتالية عشر صفحات كبيرة. وهو يمتاز دون سائر الوثائق القشتالية الأخرى، التى تتعلق بهذه الفترة، بأنة يحمل فى ذيله موافقة أبى عبد الله والعربية ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وإلى القارىء نص هذه الموافقة، التى تدل ألفاظها ومعانيها بكثير من العبر المؤلمة:(1)
"الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضيافى، أنا الأمير محمد بن على بن نصر خديمكم، وصلتنى من مقامكم العلى، العقيد وفيها جميع الفصول، الذى عقدها عنى وبكم التقديم، من خديمى القائد أبو القاسم المليخ، ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها، وبطابعكم العزيز، كيف هيت مذكورة بهذا الذى هى تصلكم.
وإنى نوفى ونحلف أنى رضيت بها، بكلام الوفا مثل خديم جيد. وترى هذا خط يدى وطابعى أرقيته عليها، لتظهر صحة قولى. ووصلت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم عام ثمانية وتسعون وثمانمائة. أنا كاتبه محمد بن على بن نصر
(1) حصلنا على صورة فتوغرافية لهذه الوثيقة، وهى تحفظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas برقم P. R. 11 - 3، وتعرض الصفحة الأخيرة، التى تضمنت خط أبى عبد الله، فى قاعة المعرض بدار المحفوظات، كما تعرض صورة مكبرة من موافقة أبى عبد الله، بمتحف مدريد الحربى مقرونة بترجمة قشتالية
رضيت وقبلت جميع ما فى هذا المكتوب الثابت، وتقبل بيدى، إلى أضيافى السلطان والسلطانة مدَّ لى هنا كما".
وهكذا اعتزم أبو عبد الله أمره، وعول فى النهاية على مغادرة الوطن المغلوب وتوفيت زوجته أثناء ذلك، فلم يحل الرزء دون مضيه، فى اتخاذ أهبة الرحيل. وفى أوائل شهر أكتوبر سنة 1493، غادر أبو عبد الله الوطن القديم، فى غمر من الحسرات والأسى، وجاز البحر إلى المغرب، بأسرته وأمواله وحشمه، من ثغر أدرة الصغيرة الواقع جنوبى برجة، فى سفينة كبيرة أعدت لجوازه، وعبر فى نفس الوقت من ثغر المنكب؛ عدد كبير من الوزراء والقادة والأكابر، من صحبه ممن آثروا الرحيل، وبلغ جميع الذين عبروا مع الملك المخلوع ألفاً ومائة وثلاثين شخصاً (1).
ونزل أبو عبد الله أولا فى مليلة ثم قصد إلى فاس واستقر بها (2). وتقدم إلى ملكها السلطان أبى عبد الله محمد الشيخ، زعيم بنى وَطّاس (3) الذين خلفوا بنى مرين فى الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام فى الأندلس على يده، متبرئا مما نسب إليه من إثم وتفريط فى حق الوطن والدين.
وهذا الدفاع الشهير الذى يقدمه إلينا أبو عبد الله عن موقفه وتصرفه، هو قطعة رائعة من الفصاحة السياسية والبيان الساحر، وهو يدل فى روحه وقوته وروعته، على فداحة التبعة التى شعر آخر ملوك الأندلس أنه يحملها أمام الله والتاريخ، وأمام الأمم الإسلامية والأجيال القادمة كلها، وعلى أن هذا الأمير المنكود لم يرد أن ينحدر إلى غمر النسيان والعدم، محكوماً عليه دون أن يبسط للتاريخ قضيته، فيصدر حكمه فيها على ضوء أقواله ودفاعه.
وقد كتب هذا الدفاع الشهير، الفريد فى التاريخ الإسلامى، على لسان أبى عبد الله
(1) Lafuente Alcantara: ibid، V. III. p. 81. ويقول صاحب أخبار العصر إن الذين رحلوا مع أبى عبد الله بلغوا نحو سبعمائة فقط (طبعة تطوان ص 47).
(2)
أزهار الرياض ج 1 ص 67 و 71.
(3)
هم بطن من بطون بنى مرين. وقد ظهروا فى بداية أمرهم بتولى الوزارة، ونشأت بينهم وبين بنى مرين فيما بعد خصومة ومنافسة. وقام كبيرهم ومؤسس دولتهم أبو عبد الله محمد الشيخ بن زكريا أولا فى ثغر آصيلا، واستفحل أمره ثم زحف على فاس واستولى عليها فى سنة 876 هـ (1472 م) ثم غلب على سائر الجهات والقبائل المحيطة بها، وقامت فوق أنقاض ملك بنى مرين دولة مغربية جديدة
صورة: ذيل المعاهدة النهائية التى عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله بتاريخ 15 ابريل سنة 1493 م وفيها يتعهد ببيع أملاكه ومغادرة اسبانيا نهائياً. وقد ذيل عليها أبو عبد الله بخطه بالقبول، وبصمها بخاتمه وذلك بتاريخ 23 رمضان سنة 898 هـ (7 أغسطس سنة 1493). والأصل محفوظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا برقم P. R. 11-3
وزيره وكاتبه، محمد بن عبد الله العربى العقيلى، فى رسالة مستفيضة قوية مؤثرة، موجهة إلى ملك فاس، وجعل لها عنواناً شعرياً مشجياً هو:"الروض العاطر الأنفاس فى التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس". وقد كان العقيلى من أعلام البلاغة فى هذا العصر.
ولما عول أبو عبد الله على الرحيل إلى المغرب جاز العقيلى البحر مع أميره، وجازت قبل سقوط غرناطة وبعده إلى المغرب جمهرة كبيرة من أقطاب العلم والأدب، هم البقية الباقية من مجتمع الأندلس الفكرى (1). وللعقيلى آثار فى النظم والنثر، تبدو لروعتها كأنها نفثات أخيرة، لآداب الأندلس المحتضرة، وكان دفاع أبى عبد الله من أبدعها وأروعها.
ونقل إلينا المقرى مؤرخ الأندلس هذا الدفاع الشهير بنصه فى مؤلفه الجامع "نفح الطيب"، وكذلك فى كتابه "أزهار الرياض" (2). وقد قدم له كاتبه بعد الديباجة بقصيدة رائعة جاء فى مطلعها:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم
…
رعيا لما مثله يرعى الذمم
بك استجرنا وأنت نعم الجار لمن
…
جار الزمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلباً
…
وأفظع الخطب ما يأتى على الرغم
حكم من الله حتم لا مرد له
…
وهل مرد لحكم منه منحتم
وهى الليالى وقاك الله صولتها
…
تصول حتى على الآساد فى الأجم
كنا ملوكاً لنا فى أرضنا دول
…
نمنا بها تحت أفنان من النعم
فأيقظتنا سهام للردى صُيبٌ
…
يُرمى بأفجع حف من بهن رُمى
فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا
…
وأى ملك بظل الملك لم ينم
يبكى عليه الذى كان يعرفه
…
بأدمع مزجت أموالها بدم
ومنها فى التوسل والاعتذار وهو لب موضوعها:
وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت
…
فالملك بين ملوك الأرض كالرحم
وابسط لنا الخلق المرجو باسطه
…
واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم
لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم
…
نذنب ولو كثرت أقوال ذى الوخم
فما أطقنا دفاعاً للقضاء وما
…
أرادت أنفسنا ما حل من نقم
(1) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 71.
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 617 - 628، وأزهار الرياض ج 1 ص 72 - 102
ولا ركوباً بإزعاج لسابحة
…
فى زاخر بأكنف الموج ملتطم
والمرء ما لم يعنه الله أضيع من
…
طفل تشكى بفقد الأم فى اليتم
وكل ما كان غير الله يحرسه
…
فإن محروسه لحم على وضم
…
ولا تعاتب على أشياء قد قدرت
…
وخط مسطورها فى اللوح بالقلم
وعدِّ عما مضى إذ لا ارتجاع له
…
وعُد أحرارنا فى جُملة الخدم
إيه حنانيك يابن الأكرمين على
…
ضيف ألم بفاس غير محتشم
فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت
…
بنا إليها خطا الوخادة الرسم
رحماك يا راحماً ينمى إلى رُحما
…
فى النفس والأهل والأتباع والحشم
فكم مواقف صدق فى الجهاد لنا
…
والخيل عالكة الأشداق للجم
والسيف يخضب بالمحمرّ من علق
…
ما ابيضّ من سبل واسود من لمم
ولا ترى صدر عضب غير منقصف
…
ولا ترى متن لدن غير منحطم
حتى دهينا بدهيا لا اقتدار بها
…
سوى على الصون للأطفال والحرم
…
تالله ما أضمرت غشا ضمائرنا
…
ولا طوت صحة منها على سقم
لكن طلبنا من الأمر الذى طلبت
…
ولاتنا قبلنا فى الأعصر الدهم
فخاننا عنده الجدُّ الخئون ومن
…
تقعد به نكبات الدهر لم يقم
فاسود ما اخضر من عيش دهته عِداً
…
بالأسمر اللدن أو الأبيض الخذِم
وشتت البين شملا كان منتظماً
…
والبين أقطع للموصول من جلَم
قرب مبنى شديد قد أناخ به
…
ركب البلا فقرته أدمع الدِّيم
قمنا لديه أصَيلانا نسائله
…
أعيا جوابا وما بالربع من أرم
وما ظننا بأن نبقى إلى زمن
…
نرى به غرر الأحباب كالحُمم
لكن رضاً بالقضا الجارى وإن طويت
…
منا الضلوع على برج من الألم
لبيك يا من دعانا نحو حضرته
…
دعاء ابراهِمَ الحجاج للحرم
وأعط الأمن الذى رصت قواعده
…
على أساس وفاء غير منهدم
خليفة الله وافاك العبيد فكن
…
فى كل فضل وطَوْل عند ظنهم
وبين أسلافنا ما قد علمت به
…
من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم
وأنت منهم كأصل مطلع غصنا
…
أو كالشراك الذى قد قدّ من أدم
وقد خطوت خطاهم فى مآثرهم
…
فلم يُذمُّوا إذن فيها ولم تُذم
وهى طويلة فى أكثر من مائة بيت، وفيها يعطف الشاعر بعد ذلك على مديح ملوك فاس، وجهادهم فى الأندلس، والإشادة بعلائقهم القديمة مع بنى الأحمر ملوك غرناطة، ومما يقول فى ذلك:
أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم
…
من عصمة الله ما يربى على العِصم
بأس تطير شرار منه محرقة
…
لكل مدَّرع بالحزم محتزم
هم بطائفة التثليث قد فتكوا
…
كمثل ما يفتك السرحان بالغنم
وإن يلثِّمهم يوم الوغى رهج
…
أنسوْك ما ذكروه من ذوى اللُّسم
تضىء آراؤهم فى كل معضلة
…
إضاءة السُّرج فى داج من الظلم
هذا ولو من حياء ذاب محتشم
…
لذاب منهم حياء كل محتشم
طابت مدائحهم إذ طابت انفسهم
…
فاشتقت النسمات اسما من النَّسم
وفى مديح السلطان القائم أبى عبد الله الوطاسى قوله:
أنسى الخلائف فى حلم وفى شرف
…
وفى سخاء وفى علم وفى فهم
فجاز معتمداً منهم ومعتضداً
…
وامتاز عن قائم منهم ومعتصم
وناصر الدين فى الإقبال فاق وفى
…
محبة العلم أزرى بابنه الحكم
أفعال أعدائه معتلة أبداً
…
متى يرم جزمها بالحذف تنجزم
ويلى هذه القصيدة الطويلة دفاع أبى عبد الله المنثور، فى أسلوب يفيض قوة وبياناً، وفيه يشير أبو عبد الله إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن محنته، ويعترف بخطئه فى عبارات مؤثرة، ويقول بعد الديباجة موجهاً خطابه إلى سلطان فاس:
"هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم، المترجى لعواطف قلوبكم، وعوارف إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم. وماذا الذى يقول من وجهه خَجِل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل. بيد أنى أقول لكم ما أقوله لربى، واجترائى عليه أكثر، واجترامى إليه أكبر: اللهم لا برىء فأعتذر، ولا قوى فأنتصر، لكنى مستقيل مستنيل، مستعتب مستغفر، وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء".
"على أنى لا أنكر عيوبى، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبى فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عُجرى وبُجرى وسقطاتى وغلطاتى
…
"
بيد أنه يدفع عن نفسه تهم التفريط والزيغ والخيانة ويقول:
"فمثلى كان يفعل أمثالها، ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحيط أعمالها، عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وايم الله لو علمت شعرة فى فودى تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتى من هامتى وقطعتها. غير أن الرعاع فى كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان
…
وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلا عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو، ما لكم منه حفظ الجبار
…
أكثر المكثرون، وجهد فى تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا فى سلك الملاحدة. أكفراً أيضاً كفراً، غفراً اللهم غفراً. وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا فى سبيله عُداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين".
ثم يقول أبو عبد الله، لئن كان قد نزل به القضاء فثلَّ عرشه، ونُكس لواؤه، ومُلِك مثواه، فهو مِثْل من سواه فى ذلك. ولئن كان مروعاً مصير غرناطة ومصير ملكها وأنجادها، فإنها لم تنفرد بين قواعد الإسلام بذلك المصير المحزن، ألم يقتحم التتار بغداد، عروس الإسلام ومثوى الخلافة، ومهد العلوم، ويستبيحوا ذمارها وحُرَمها، ويسحقوا الخلافة وكل معالمها ورسومها؟ وماذا كانت تستطيع غرناطة إزاء قدر محتوم، وقضاء لا مرد له؟ " والقضاء لا يرد ولا يصد، ولا يغالب ولا يطالب، والدائرات تدور، ولابد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته، فى خليقته علم الغيب، للأذهان عن مداه انقطاع".
ثم يعطف إلى التجائه إلى ساحة السلطان بقوله: "وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المتفتح حين سدت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعمائكم، حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب. وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان، ووجه الله تعالى يبقى، وكل من عليها فان".
ويشير أبو عبد الله إلى رفضه لما عرضه عليه ملك اسبانيا، من الإقامة فى كنفه
وتحت حمايته فيقول: "ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه، المؤكد فيه خطه وإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصُّفر، ولا سوغ لنا الإيمان، الإقامة بين، ظهرانى الكفر ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنّا من المطالب للشاغب، حمة شر لنا لاسعة".
ثم يشير إلى أنه تلقى كذلك دعوات كريمة من المشرق للذهاب والإقامة، ولكنه آثر الجواز إلى المغرب، دار آبائه من قبل، وملاذهم دائماً عند النوائب، ولم يرتض سوى الانضواء إلا لذلك الجناب، أعنى سلاطين المغرب، الذين أوصى آباؤه وأجداده بالانضواء إليهم، وقت الخطر الداهم.
ويختم أبو عبد الله دفاعه برثاء مؤثر لملكه ومصيره فيقول: "ثم عزاء حسناً وصبراً جميلا، عن أرض أورثها من شاء من عباده، معقباً لهم ومديلا، سادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا، "سنة الله التى قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا"، فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك فى الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً".
ويعود أبو عبد الله بعد هذا الدفاع المستفيض المؤثر، إلى الإشادة بخلال سلاطين فاس ومآثرهم، ويقرر أنه يضع نفسه تحت حماية السلطان ورعايته منتظماً فى سلك أوليائه، مستشرفاً بخدمة عليائه"، ليقضى بقية عمره فى كنفه مصوناً من المخاطر والضيم.
…
تلك خلاصة الدفاع الشهير الذى تركته آخر ملوك الأندلس للخلف من بعده. وهو دفاع حار مؤثر يذكرنا بتلك الإعتذارات الشهيرة (أبولوجيا)، التى لجأ إليها الأقدمون فى ظروف مختلفة، لتبرير بعض المواقف والآراء. وفيه يقف أبو عبد الله موقف المذنب البرىء معاً، فهو لا يتنصل من جميع الأخطاء، ولكنه يتنصل من تبعة ما حدث، ويصور نفسه قبل كل شىء ضحية القدر، ويدفع عن نفسه بالأخص تهمة التفريط والخيانة والزيغ. فإلى أى حد تتفق هذه الصورة مع الحقيقة، ومع منطق الحوادث والظروف التى وقعت فيها المأساة؟ لقد تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة لأول مرة وهو فتى فى الحادية والعشرين، ثم عاد إلى تبوئه بعد ذلك بعدة أعوام، وكان جلوسه فى كل مرة نتيجة حرب أهلية مخربة
طاحنة. وقد نشأ هذا الأمير الضعيف فى بلاط منحل، يضطرم بصنوف الدس والخصومة، ولم تهيئه تربيته وصفاته للاضطلاع بمهام الملك الخطيرة، ولاسيما فى مثل تلك الظروف الدقيقة، التى كانت تجوزها مملكة محتضرة. أجل كانت الأندلس تسير إلى قدرها المحتوم، قبل المأساة ببعيد، ولم يك شك فى مصير غرناطة، بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى فى يد العدو القوى الظافر؛ ولكن ليس من شك أيضاً فى أن الأواخر من ملوك غرناطة، يحملون كثيراً من التبعة، فى التعجيل بوقوع المأساة. فنحن نراهم يجنحون إلى الدعة والخمول، ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية يمزق فيها بعضهم بعضاً، والعدو من ورائهم متربص ومتوثب يرقب الفرص. وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بنى الأحمر، ولاسيما منذ أوائل القرن التاسع الهجرى أو أوائل القرن الرابع عشر الميلادى. ومنذ عهد الأمير على أبى الحسن، تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة، ويغدو مصير المملكة الإسلامية رهين رحمة القدر، وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن، وأخوه الأمير محمد بن سعد المعروف بالزغل، وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة، فانحدروا إلى معترك الحرب الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف، وأن يستشعروا الخطر الداهم، وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك، وانحدر أبو عبد الله إلى أخطر ما فى هذه المعركة المميتة من وسائل الإغراء والتفوق، فجنح إلى مخالفة العدو الخالد، ولم يحجم عن أن يستعدى ملك النصارى على أبيه وعمه، كى ينتزع الملك لنفسه، فلما ظفر بعرش غرناطة بمؤازرة ملك قشتالة، لم يكن سوى صنيعته وأسير وحيه. وكان عمه الزغل قد بسط سلطانه على الأنحاء الشرقية والجنوبية، فلم يحجم عن مهاجمته فى نفس الوقت الذى هاجمه فيه ملك النصارى لينتزع منه ما تحت يده، وكان الزغل فى الواقع بطل المعركة الأخيرة، وقد أبدى فى مقاومة العدو بسالة رائعة خلدتها سير العصر؛ ولم يشعر أبو عبد الله بفداحة خطئه، إلا حينما تحول إليه حليفه الغادر ملك قشتالة بجيشه الضخم، ليحاصر غرناطة ويضربها الضربة الأخيرة، وكانت قوى غرناطة ومواردها قد بددت فى حروب أهلية عقيمة، فلم يغن دفاعها شيئاً أمام القوة القاهرة والقدر المحتوم، فكانت النكبة، وكانت الخاتمة المؤسية
ولم يكن موقف أبى عبد الله خلال تلك اللحظات الحاسمة فى مصيره ومصير أمته، سوى موقف الأمير الضعيف المتخاذل، الذى يسعى إلى سلامة نفسه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث العريض الذى أصبح وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرفاً، ولا متفقاً مع مقتضيات البسالة والتضحية والشهامة.
أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها. بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هى تبعة "التفريط"، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصر فى العواقب.
على أن أبا عبد الله، مع ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق فى نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التى نزلت به، وظروف الإغراء التى كانت تحيط به، والتى حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصر، حسبما نوضح بعد، وسعى الملكين الكاثوليكيين المتعصبين إلى تنصير من يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين بكل الوسائل: هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبى عبد الله على الاستجابة إلى دواعى التحريض والإغراء فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذى انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه الغمار معتصما بدينه المتين، وهو ما يشير إليه بحرارة فى دفاعه المتقدم.
…
استقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس فى ظل بنى وَطَّاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس، رآها وتجول فيها المقرى مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن وربع (1027 هـ - 1618 م)(1). ويروى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس بها شدة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع بعض الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدة والفاقة (2). وعاش الملك المخلوع فى منفاه طويلا يجرع كأسه المرة حتى الثمالة، ويتقلب فى غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال هذه الفترة المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية فى سحق
(1) نفح الطيب ج 2 ص 617.
(2)
أزهار الرياض ج 1 ص 68
الإسلام بالأندلس، وسحق مدنيته وكل رسومه وآثاره، ويشهد يد الفناء والمحو، تعمل لاستئصال هذا الشعب الأندلسى النبيل التالد، من الأرض التى لبث يرعاها ثمانية قرون، وينثر فى أرجائها فيض عبقريته.
وتختلف الرواية فى تاريخ وفاة أبى عبد الله اختلافاً بيناً. فيقول لنا المقرى فى "نفح الطيب"، إنه توفى بفاس سنة أربعين وتسعمائة (1534 م) وإنه "دفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة"(1). ثم يعود فى "أزهار الرياض " فيقول إنه توفى بفاس فى سنة أربعة وعشرين وتسعمائة (1518 م)(2). وتذكر لنا الرواية القشتالية القريبة من ذلك العصر أن أبا عبد الله توفى قتيلا فى موقعة أبى عقبة الشهيرة التى نشبت بين السلطان أحمد أبى العباس الوطاسى حفيد أبى عبد الله محمد الوطاسى، وبين خصومه السعديين الأشراف الخوارج عليه، واشترك فيها أبو عبد الله محارباً إلى جانب أصدقائه وحماته الوطاسيين. وقد حدثت هذه الموقعة فى سنة 943 هـ (1536 م) وهزم فيها بنو وطاس هزيمة شديدة (3)، فإذا صحت هذه الرواية (4)، فإن أبا عبد الله يكون قد توفى فى نحو الخامسة والسبعين من عمره. بيد أننا نرجح رواية المقرى الأولى، وهى أن أبا عبد الله توفى بقصره فى فاس سنة 940 هـ.
أما روايته الثانية، وهى أنه توفى فى سنة 924 هـ، فالمرجح أنها تحريف رقمى للأولى. وترك أبو عبد الله ولدين هما أحمد ويوسف، واستمر عقبه متصلا معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة. ويذكر لنا المقرى أنه رآهم وتتبع أخبارهم حتى سنة 1037 هـ (1628 م)، وأنهم كانوا معدمين يعيشون من أموال الصدقات (5).
(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 617؛ ويتابع السلاوى المقرى فى روايته (الإستقصاء ج 2 ص 168).
(2)
أزهار الرياض ج 2 ص 168.
(3)
الإستقصاء ج 2 ص 177.
(4)
هذه هى رواية Luis del Marmol فى كتابه: Rebelion y Castigo de los Moriscos Lib. I. Cap. XXI، ويعلق هذا المؤرخ على هذه الرواية قائلا:"ومن سخرية القدر أن يموت هذا الملك دفاعا عن مملكة أخرى، بينما هو لم يجرؤ أن يموت دفاعا عن مملكته". وينقل هذه الرواية عنه كثير من المؤرخين الإسبان والبرتغاليين. راجع Lafuente Alcantara; ibid; V. III. p. 84. وينقل صاحب الإستقصاء هذه الرواية عن مؤرخ برتغالى (ج 2 ص 168). وينقلها واشنطن ايرفنج فى الملحق الخاص بأبى عبد الله فى آخر كتابه: Conquest of Granada
(5)
نفح الطيب ج 2 ص 617
ولم نعثر على تاريخ وفاة الأميرة الباسلة عائشة الحرة والدة أبى عبد الله، ولابد أنها توفيت قبله بمدة طويلة.
ويعرف أبو عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس بأبى عبد الله، الغالب بالله وهى شعار سائر ملوك غرناطة، ويعرف فى الرواية الإسبانية، بمحمد الحادى عشر، وبالملك الصغير El Rey Chico، تمييزاً له من عمه أبى عبد الله الزغل، ويلقب أيضاً بالزغيبى ومعناها المنكود أو عاثر الجد، تنويهاً بأحداث حياته المؤسية. ربما أصاب الإسلام على يديه من الخطوب والمحن (1).
- 3 -
ولابد لنا قبل أن نختتم الكلام على تلك الصفحة المؤسية من تاريخ الأندلس، أن نتحدث عن ذلك الصرح الخالد الذى مازال رمزاً حياً لتلك المأساة المفجعة، التى اختتمت بين جدرانه الصامتة، واقترنت باسمه إلى الأبد، ونعنى بذلك حمراء غرناطة، ذلك الصرح الذى يمثل فى تاريخ الأندلس عصراً بأسره، وحضارة بأسرها، والذى ما يزال يثير بجلاله وروعته، كثيراً من المواقف والذكريات الخالدة.
لبثت حمراء غرناطة زهاء قرنين عنواناً لمجد الإسلام ودولته، وملاذاً ساطعاً للحضارة الأندلسية، التى كانت أنوارها الباهرة تشع فى أرجاء أوربا، خلال حلك العصور الوسطى، فلما أشرفت الدولة الإسلامية على الفناء، غدت حمراء غرناطة قبرها الأخير، وطوت بين جدرانها صفحتها المجيدة. وما زالت الحمراء وساحاتها الشاسعة، وأبهاؤها الفخمة، وأبراجها الشامخة، منذ أكثر من أربعة قرون عنواناً للمجد الذاهب، وشاهداً صامتاً لجليل الحوادث والذكريات.
وتاريخ الحمراء هو تاريخ الصروح والهياكل العظيمة، التى تتبوأ مقامها الراسخ فى تاريخ الدول التى شادتها، والعصور التى شهدتها، فهو جزء لا ينفصل من تاريخ الأندلس، كما أن قصر الفاتيكان جزء لا ينفصل من تاريخ البابوية. وما تاريخ الحمراء وسير بناتها وسادتها، إلا تاريخ مملكة غرناطة، وما الحمراء ذاتها، وما تعرضه من روعة فى الصنع والإنشاء، وما تحوى من بدائع الفن والزخرف، إلا صفحة جامعة من تاريخ الحضارة الأندلسية، فالسائح المتأمل فى جنبات هذا
(1) الزغيبى مصغر "زغبى"، ومعناها فى لغة أهل غرناطة: المنكود أو التعيس. ومعناها وفقاً لمارمول "التعس الصغير""الرجل المسكين" Le petit Malheureux: Le pauvre Homme ( راجع دوزى. Supp. aux Dict. arabes p. 594)
الصرح الخالد، لا يسعه إلا أن يرتد بذهنه إلى الماضى البعيد، فيذكر قصة أمة مجيدة، كانت سيدة هذه الأرض والمهاد، وحضارة زاهرة كانت تفيض على هذه الأرض والمهاد، عظمة ونعماء ونوراً.
وللحمراء تاريخ قديم يرجع إلى القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) أيام الدولة الإسلامية الكبرى. وقد كانت يومئذ قلعة متواضعة. وتتحدث الرواية الأندلسية المعاصرة عن قلعة بنيت على ضفة نهر حدرُّه El Darro اليسرى، تسمى قلعة الحمراء، وتذكرها بالأخص أيام الحروب الأهلية التى اضطرمت فى منطقة غرناطة، بين المولدين والبطون العربية، ومما قاله شاعر من شعراء ذلك العصر هو عبد الله العبلى، فى الإشارة إلى فتن غرناطة وإلى قلعة الحمراء:
منازلهم منهم قفار بلاقع
…
تجارى إلسَّفا فيها الرياحُ الزعازع
وفى القلعة الحمراء تبديد جمعهم
…
وفيها عليهم تستدير الوقائع
كما جدَّلت آباءهم فى خلائها
…
أسنتها والمرهفاتُ القواطع
ولما تولى باديس بن حبُّوس زعيم البربر حكم غرناطة، واتخذها قاعدة لملكه فى أوائل القرن الخامس الهجرى، أنشأ سوراً ضخماً حول التل الذى تقع عليه القلعة المذكورة، وأنشأ فى داخله قصبة (قلعة) اتخذها مقاماً له، ومركزاً لحكومته، وسميت بالقلعة الحمراء، تجديداً لاسمها القديم. ثم زيد فى القلعة، واتسع نطاقها بمضى الزمن، وغدت حصن غرناطة وقصبتها أو بعبارة أخرى معقلها الرئيسى.
ولما غلب محمد بن الأحمر على غرناطة فى سنة 635 هـ (1238 م)، أنشأ فوق هذا الموقع القديم، وداخل الأسوار، حصنه أو قصره الذى أطلق عليه اسم الحمراء، وجلب له الماء من نهر حدرُّه، واتخذه قاعدة للملك، وأنشأ فيه عدة أبراج منيعة منها البرج الكبير المسمى برج الحراسة Torre de la Vela، والبرج المقابل له، وأنشأ له سوراً ضخماً يمتد حتى مستوى الهضبة. والظاهر أنه بنى مسكنه فى الجنوب الغربى من الحصن، أعنى فى نفس المكان الذى يقوم عليه قصر الإمبراطور شرلكان. ومن المرجح أن اسم الحمراء يرجع إلى قيام قصر ابن الأحمر فوق أطلال قلعة الحمراء القديمة، وليس إلى تسميته باسمه. وقد ذكر البعض أن إطلاق اسم الحمراء على صرح غرناطة الملكى يرجع إلى احمرار أبراجه الشاهقة، أو إلى لون الآجر الأحمر الذى بنيت به الأسوار الخارجية. وقيل أيضاً إن التسمية ترجع إلى لون المشاعل الحمراء التى كان يجرى البناء ليلا على ضوئها. ولكنا نؤثر الأخذ
بالتعليل الأول فهو أقوى وأرجح. وما زالت ثمة بجوار قصر الحمراء أطلال القلعة القديمة تحمل إلى اليوم اسم "قلعة الأبراج الحمراء" Castillo de Torres bermejas وهو ما يؤيد صحة هذا التعليل لاسم "الحمراء"(1).
واستمر فى البناء من بعد محمد بن الأحمر، ولده محمد الفقيه الملقب بالغالب بالله، فأنشأ الحصن والقصر الملكى فى أواخر القرن السابع الهجرى، وأنشأ حفيده محمد إلى جانب القصر فى الجنوب الشرقى منه، مسجداً بديعاً افتن فى ترقيشه وزخرفته (2) فى المكان الذى تحتله اليوم كنيسة سانتا ماريا، التى بنيت فى القرن السابع عشر؛ ولم يبق اليوم من آثار مسجد الحمراء سوى مصباح برونزى فخم محفوظ بمتحف مدريد الوطنى.
وقد بنيت معظم أجنحة الحمراء الملكية فى القرن الرابع عشر فى عهد السلطان أبى الوليد إسماعيل، وولده يوسف أبى الحجاج، وابنه محمد الغنى بالله. ولسنا نعرف شيئاً محققاً عن المهندسين أو الفنانين الذين قاموا على إنشائها. وتدين الحمراء بفخامتها الرائعة إلى السلطان يوسف أبى الحجاج، الملك الشاعر والفنان الموهوب، فقد زاد فى القصر زيادة كبيرة، وأكمل بهو قمارش الضخم، والبرج الشاهق الذى يعلوه، وأسبغ عليه روائع الفن والزخرف، وأنشأ العقد الشاهق الذى يكون مدخل القصر الرئيسى، وهو المسمى "باب الشريعة" وهو يحمل فوق عقده، اسمه وتاريخ إنشائه (749 هـ - 1348 م). وكان اسم الحمراء يطلق على هذه المجموعة الملكية الفخمة كلها.
وتقع أبنية الحمراء فوق هضبة مرتفعة يبلغ طولها 736 متراً وعرضها نحو مائتى متر، وتشغل نحو خمسة وثلاثين فداناً. ويحيط بالحمراء سور ضخم يتخلله ثلاثة عشر برجاً، بقى منها إلى اليوم عدة، منها برج قمارش وهو أعظمها، وبرج السلاح، وبرج المتزين، وبرج العقائل، وبرج الأسيرة وغيرها (3). ويجرى
(1) راجع المغرب فى حلى المغرب لابن سعيد ج 2 ص 125، ومقدمة المستشرق جاينجوس لأطلس "الحمراء" Alhambra الذى تقدمت الإشارة إليه، ص 5 الهامش وص 7 و 8. وراجع أيضاً المستشرق سيبولد فى Ency. de l'Islam تحت كلمة Alhambra.
(2)
اللمحة البدرية ص 50. وراجع الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 554 و 555.
(3)
وهى بالإسبانية على التوالى: ' T. de las Armas' 'Torre de Comares T. de la Cautiva' 'T. de las Damas' 'T. del Peinador وفيما عدا برج قمارش، فإن هذه الأسماء كلها من تسمية الإسبان
خريطة مدينة الحمراء وقصر جنة العريف
نهر حدرُّه فى الوادى الواقع فى غربها، وقد جف اليوم مجراه وغطى معظمه. وموقع الحمراء ذو جمال طبيعى نادر، فهى تشرف من الشمال والغرب إشرافاً شاملا على المدينة وعلى فحص غرناطة La Vega، وتشرف من الشرق والجنوب على آكام جبال سيرّا نفادا (جبل شُلير). ولم يبق اليوم من قلعة الحمراء التى كانت تشغل منحدر الهضبة فى الشمال الغربى، سوى أسوارها الخارجية وأبراجها. وأما القصر الملكى فقد بقيت معظم أجزائه. ويعتبر قصر الحمراء من أبدع الآثار الإسلامية التى أبقت عليها حوادث الزمن، وليس له مثيل فى الحسن والروعة من حيث عمده الرخامية الرائعة، وعقوده، وسقوفه ذات الزخرف البديع، ويغمره الضوء والهواء بوفرة، ويبدو فى مجموعه فى منتهى الظرف والإناقة. ويقع إلى جنوب الهضبة وشرقها بستان عظيم من صنع الإسبان، تتخلله طرق حديثة صاعدة، وقد كان مكانه أيام المسلمين الساحة المعروفة بالسبيكة، وهو يغص أيام الربيع والصيف بالبلابل، ويتخلله خرير الماء المتدفق عن عدد كبير من الجداول والنوافير، وكان يجاور الحمراء أيام المسلمين حدائق منزرعة وأشجار البرتقال والورود والريحان. ويُدخل إلى هضبة الحمراء من بابها الرئيسى المسمى "باب الرمان" Puerta de Granadas وهو من صنع الإسبان، وقد بنى أيام الإمبراطور شرلكان، وهو عبارة عن عقد حجرى ضخم، نصبت فى أعلاه ثلاث رمانات صخرية على هيئة مثلث. ثم تسير فى طريق صاعدة حتى "باب الشريعة" وهو مدخل الحمراء، وهو عقد ضخم يبلغ ارتفاعه خمسة عشر متراً.
ويفضى باب الشريعة إلى مجاز معقود، ثم إلى درب صغير صاعد، ينتهى إلى ميدان أطلق عليه الإسبان اسم "ميدان الأجباب" Plaza de los Aljibis ومنه ترى لأول مرة مجموعة الصروح والأماكن الأثرية التى تضمها قصبة الحمراء.
فإلى يمينك ترى القصر الذى أنشأه الإمبراطور شرلكان جنوبى قصر الحمراء، وعلى موقع بعض أجزائه، وإلى يسارك ترى الساحة التى يطلق عليها اسم القصبة أو الحصن، وفى نهايتها البرج الضخم المسمى "برج الحراسة" Torre de la Vela وهو يشرف عالياً على مرج غرناطة كله، وهذا البرج هو الذى اختاره الإسبان عند دخولهم غرناطة لرفع الصليب، وما يزال هذا الصليب الذى وضع يوم دخول الإسبان قائماً فى مكانه، وهو صليب خشبى كبير وضع عى الزاوية الشمالية الغربية
صورة: غرناطة: منظر عام لمدينة الحمراء وقد ظهرت من ورائها جبال سيرا نفادا محللة بالثلوج