المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

‌الفصل السابع

مملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

ولاية السلطان أبى الوليد اسماعيل. زحف القشتاليين على غرناطة. هزيمتهم ومقتل أمرائهم. سوء الأحوال فى قشتالة. تجديد الصلح بين غرناطة وأراجون. غزوات المسلمين فى أراضى النصارى. مقتل السلطان إسماعيل وخلاله. ولاية ولده أبى عبد الله محمد. بطشه بوزيره ابن المحروق. الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة. الحاجب أبو النعيم رضوان. استنجاد ملك غرناطة بملك المغرب. أبو الحسن يرسل الأمداد مع ولده. غزو الأندلسيين للجزيرة الخضراء. حصارهم لجبل طارق واسترداده من النصارى. المؤامرة على السلطان ومصرعه. السلطان أبو الحجاج يوسف. نكبته لبنى العلاء. الحاجب رضوان وخلاله. استئثاره بالسلطة. نفيه وعوده إلى الوزارة. الوزير ابن الجياب. بداية ظهور ابن الخطيب. تحرش القشتاليين بالمسلمين. قدوم الأمداد من المغرب. هزيمة المغاربة ومقتل قائدهم. عبور السلطان أبى الحسن إلى الأندلس. موقعة سالادو وهزيمة المسلمين. سقوط طريف والجزيرة الخضراء فى يد النصارى. مسير السلطان أبى الحسن للمرة الثانية. هزيمته فى البر والبحر. تبادل المكاتبة والسفارة بين أبى الحسن وسلطان مصر. تجديد الصلح مع أراجون. الوباء الكبير. عود القشتاليين إلى الغزو. حصارهم لجبل طارق. تفشى الوباء بين النصارى ومصرع ملك قشتالة. نجاة جبل طارق. أقوال ابن الخطيب. وصف ابن بطوطة لحوادث الأندلس وأحوالها. مصرع السلطان أبى الحجاج يوسف. وصف ابن الخطيب للحادث. خلال يوسف. استعراض للعلائق بين بنى الأحمر وبنى مرين.

جلس السلطان أبو الوليد اسماعيل على عرش غرناطة فى شوال سنة 713 هـ (1314 م)، وامتاز عصره بتوطد الملك، واستقرار الأمور، وإحياء عهد الجهاد. وفى أوائل عهده غزا القشتاليون كعادتهم بسائط غرناطة واستولوا على عدة من القواعد والحصون، وهزموا المسلمين هزيمة شديدة فى وادى فرتونة (716 هـ).

ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم اعتزموا منازلة الجزيرة الخضراء والاستيلاء عليها ليحولوا دون وصول الأمداد إلى المسلمين من عدوة المغرب. ولكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر، فعدل القشتاليون عن مشروعهم، وعولوا على مهاجمة الحاضرة الإسلامية ذاتها. وبادر ابن الأحمر بطلب الغوث والإمداد من السلطان أبى سعيد سلطان المغرب، فنكل عن معاونته،

ص: 117

وطالب بتسليم عثمان بن أبى العلاء لما كان منه فى حق بنى مرين، فأبى ابن الأحمر خشية العواقب؛ وزحف القشتاليون على غرناطة بجيش ضخم، يقوده الدون بيدرو (دون بطره) والدون خوان الوصيان على ألفونسو الحادى عشر ملك قشتالة، ومعهما عدة من الأمراء القشتاليين، وفرقة من المتطوعة الإنجليز بقيادة أمير إنجليزى، فبادر المسلمون إلى لقائهم فى هضبة إلبيرة على مقربة من غرناطة. وكان الجيش الغرناطى لا يجاوز ستة أو سبعة آلاف جندى منهم نحو ألف وخمسمائة فارس، ولكنهم صفوة المقاتلة المسلمين، وكان قائده شيخ الغزاة أبو سعيد عثمان بن أبى العلاء، جنديا جريئاً وافر العزم والبسالة، فلم ترعه كثرة الجيش المهاجم، وعول فى الحال على لقائه فى معركة حاسمة. وفى 20 من ربيع الثانى سنة 718 هـ (مايو سنة 1318 م) التقى فرسان الأندلس بطلائع النصارى وردوهم بخسارة فادحة. ثم زحف أبو سعيد فى نخبة من جنده، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، كانت الدائرة فيها على القشتاليين، فمزقوا شر ممزق، وقتل منهم عدد جم، بينهم دون بيدرو ودون خوان، ورهط كبير من الأمراء والنبلاء والأحبار، وغرق منهم عند الفرار فى نهر شنيل عدة كبيرة، وأسر منهم بضعة آلاف، واستمر القتال والأسر فيهم ثلاثة أيام. وخرج أهل غرناطة فرحين مستبشرين، يجمعون الأسلاب والأسرى، وظفر المسلمون بغنائم عظيمة، منها مقادير كبيرة من الذهب والفضة. وكان على العموم نصراً مشهوداً أعاد ذكرى الجهاد المجيد. وكان معظم الفضل فى إحرازه يرجع إلى الجند المغاربة وإلى شيوخهم بنى العلاء الذين تزعموا الجيوش الأندلسية، وتولوا قيادتها فى تلك الفترة حسبما أسلفنا. ويعلل ابن خلدون ظهور القادة والجند المغاربة فى ميدان الجهاد بقرب عهدهم بالتقشف والبداوة. ووضع المسلمون جثة الدون بيدرو فى تابوت من ذهب على سور الحمراء تنويهاً بالنصر، وتخليداً لذكرى الموقعة (1).

والواقع أن مملكة قشتالة كانت فى أوائل القرن الرابع عشر فى حالة سيئة، وقد نفدت مواردها من الرجال والأمول، بسبب الحروب والثورات المتواصلة، والمرض والقحط، وكان إسراف البلاط وبذخ الخلائل، واختلاس الموظفين، ومطالب رجال الدين، وجشع الأشراف، تستنفد الأموال العامة، وكانت

(1) راجع فى تفاصيل هذه الموقعة الشهيرة، ابن خلدون ج 4 ص 172، وج 7 ص 250؛ والإحاطة ج 1 ص 397؛ والمقرى فى نفح الطيب ج 1 ص 210.

ص: 118

صورة معاهدة الصلح التى عقدت بين السلطان أبى الوليد اسماعيل بن فرج بن نصر ملك غرناطة، وخايمى الثانى ملك أراجون فى ربيع الثانى سنة 721 هـ (مايو 1321 م) وهى محفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 151.

ص: 119

الإدارة المالية فى يد اليهود ورجال الكنيسة وكلاهما يناوىء الآخر، ويعمل على إحباط مساعيه؛ وكانت الوصايات المتعاقبة، وما تعمد إليه من اغتصاب الأموال، وسوء استعمال السلطة، وفساد القضاء، وتطاول الخلائل الملكية، وسحق الحقوق العامة والخاصة، وتفشى الجريمة، تثير غضب الشعب وسخطه؛ وكان اللون الصليبى للحروب الإسبانية فى ذلك العصر يوطد نفوذ جماعات الفرسان الدينية العديدة، وهى التى كانت فى الواقع توجه مصاير الحرب والسياسة، بيد أنها كانت تخفى تحت ستار الدين رذائل كثيرة من الفجور والجشع والارتشاء وغيرها (1).

وفى سنة 721 هـ (1321 م) جدد السلطان إسماعيل معاهدة الصلح مع ملك أراجون خايمى الثانى وذلك تحقيقاً لرغبته؛ ونص فى المعاهدة الجديدة على أن يعقد بين الفريقين صلح ثابت لمدة خمسة أعوام، تؤمن خلالها أرض المسلمين بالأندلس وأرض أراجون تأميناً تاماً براً وبحراً، وأن تباح التجارة لرعايا كل من الفريقين فى أرض الآخر، وأن يتعهد كل من الملكين بمعاداة من يعادى الآخر، وأن لا يأوى له عدواً أو يحميه، وأن تكون سفن كل فريق وشواطئه ومراسيه آمنة، وأن يسرح كل فريق من يؤسر فى البحر من رعايا الفريق الآخر. وتضمنت المعاهدة أيضاً نصاً خاصاً بتعهد ملك أراجون بألا يمنع خروج المدجّنين من أراضيه إلى أرض المسلمين بأهلهم وأولادهم وأموالهم، وهو نص يلفت النظر، إذ كان المدجنون فى هذا العصر يؤلفون أقليات كبيرة فى بلنسية ومرسية وشاطبة وغيرها من القواعد الشرقية، وكان ملوك أراجون يحرصون على بقائهم وعدم هجرتهم لأسباب اقتصادية وعمرانية (2).

وعلى أثر موقعة إلبيرة تعاقبت غزوات المسلمين فى أراضى النصارى وعادت الدولة الإسلامية الفتية تجوز عهداً من القوة بعد أن لاح أنها شارفت طور الفناء.

ففى سنة 724 هـ (1324 م) زحف السلطان إسماعيل على مدينة بيَّاسة الحصينة وحاصرها بشدة، وأطلق المسلمون عليها الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع حتى سلمت. وفى رجب من العام التالى (725 هـ) سار اسماعيل إلى مرتش واستولى عليها عنوة، وكانت أعظم غزواته، وامتلأت أيدى المسلمين بالسبى والغنائم. ثم عاد السلطان إلى غرناطة مكللا بغار النصر. بيد أنه لم تمض على عوده

(1) راجع: Scott: ibid ; V. II. p. 476-78

(2)

Archivo de la Corona de Aragon، No. 151

ص: 120

ثلاثة أيام حتى قتل بباب قصره غيلة، وكان قاتله ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة، وقد حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن، ظفر بها فى موقعة مرتش، وبعث بها إلى حريمه بالقصر. ولما عاتبه محمد رده بجفاء وأنذره بمغادرة البلاط، فتربص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه، فحمل جريحاً حيث توفى على الأثر، وكان مصرعه فى السادس والعشرين من رجب سنة 725 هـ (يونيه سنة 1325 م).

وكان السلطان إسماعيل يتمتع بخلال باهرة، وكان يشتد فى إخماد البدع وإقامة الحدود. وفى عهده حرمت المسكرات وطورد الفساد الأخلاقى، وحرم جلوس الفتيات فى ولائم الرجال، وعومل اليهود بشىء من الشدة، وألزموا أن يتخذوا لهم شعاراً خاصاً بهم، وهو عبارة عن العمائم الصفراء (1).

فخلفه ولده أبو عبد الله محمد وهو فتى يافع لم يجاوز الحادية عشرة من عمره، وكانت أمه نصرانية تدعى علوة، وأخذ له البيعة وزير أبيه أبو الحسن بن مسعود، وقام بكفالته بضعة أشهر حتى توفى، ثم خلفه فى الوزارة وكيل أبيه محمد بن أحمد ابن المحروق، فاستبد بالأمور واستأثر بكل سلطة؛ فحقد عليه السلطان الفتى وكان رغم حداثته مقداما قوى النفس، ولم يلبث أن بطش بوزيره المتغلب عليه، فقتل بأمره فى المحرم سنة 729 هـ.

وكان من أوائل أعماله تجديد معاهدة الصداقة مع أراجون، وكان ملكها خايمى الثانى قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة التى عقدت بينه وبين أبيه، وانقضى أجلها المحدد بانقضاء أعوامها الخمسة، فوافق السلطان على تجديدها بسائر نصوصها وشروطها، ووقعت المعاهدة الجديدة فى جمادى الثانية سنة 726 هـ (مايو سنة 1326 م)(2).

ولأول عهده نشب الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة المغاربة، وعلى رأسهم عثمان بن أبى العلاء، وامتنعوا ببعض الثغور الجنوبية ولاسيما ألمرية، وانضم إليهم عم السلطان، محمد بن فرج بن إسماعيل، فقاموا بدعوته، ونشبت بين الفريقين عدة مواقع محلية، كان النصر فيها سجالا بينهما. وانتهز القشتاليون كعادتهم تلك

(1) الإحاطة ج 1 ص 395 - 410؛ واللمحة البدرية ص 71 - 74.

(2)

Archivo de la Corona de Aragon، No. 148

ص: 121

الفرصة، فأثخنوا فى الأراضى الإسلامية، واستولوا على ثغر بيره وعدة من الحصون (1).

ولما تفاقم عيث النصارى آثر السلطان التفاهم مع الخوارج عليه، وعقدت بينهما الهدنة على أن يستقروا بوادى آش باسمه وتحت طاعته. وتولى تدبير الأمور بعد مقتل ابن المحروق، الحاجب أبو النعيم رضوان النصرى، فهدأت الفتنة واستقرت الأمور نوعاً. ولكن ابن الأحمر كان يتوجس شراً من اضطراب الأحوال فى مملكته ومن تربص النصارى بها، ورأى أن يتجه بصريحه إلى بنى مرين مرة أخرى، وكانت العلائق يومئذ على صفائها بين غرناطة وفاس. وكان بنو مرين حينما شغلوا بشئونهم الداخلية قد تركوا الجزيرة وحصونها لابن الأحمر (سنة 712 هـ)، فلما اشتدت وطأة النصارى على غرناطة، عاد ابن الأحمر فنزل عن الجزيرة إلى ملك المغرب السلطان أبى سعيد (سنة 729 هـ)، لتكون رهينة ومنزلا للأمداد المرجوة من وراء البحر؛ ولكن النصارى استولوا على معظم حصونها، وأضحى طريق الجواز ولاسيما بعد ضياع جبل طارق عسيراً محفوفاً بالمخاطر. وعبر ابن الأحمر البحر فى أواخر سنة 732 هـ إلى عدوة المغرب، وقصد إلى فاس مستنجداً بملك المغرب، السلطان أبى الحسن على بن عثمان بن أبى يعقوب المرينى، فاستقبله السلطان بمنتهى الحفاوة، وشرح له ابن الأحمر ما انتهت إليه شئون الأندلس، وما ترتب على سقوط جبل طارق من قطع صلة الوصل بين المملكتين، ورجاه الغوث والعون.

والواقع أن استيلاء النصارى على جبل طارق فى سنة 709 هـ (1310 م) كان أعظم نكبة منيت بها الأندلس منذ سقوط قواعدها الكبرى. وقد شعرت حكومة غرناطة بفداحة النكبة، وازداد منذ وقوعها توجسها من المستقبل. ولقد أتيح لنا أن نزور هذه الصخرة الهائلة، وأن نشهد مبلغ روعتها ومنعتها. وكان المسلمون قد جددوا تحصيناتها فى منتصف القرن السادس الهجرى حينما عبر إليها خليفة الموحدين عبد المؤمن بن على (555 هـ)، وأسماها جبل الفتح، وأمر بتجديد حصنها الذى ما يزال قائماً حتى اليوم فوق الصخرة من ناحيتها الشمالية. وكان سلطان غرناطة يتوق إلى استرداد هذا المعقل المنيع درع مملكته من الجنوب. وكان السلطان أبو الحسن مشغوفاً بالجهاد واستئناف ما تصرم من أسبابه. وكان فوق اضطرامه بعاطفة الجهاد، يرى خطر اسبانيا النصرانية يلوح داهماً ليس على الأندلس فقط،

(1) الإحاطة ج 1 ص 544. وبيره Vera بلدة حصينة تقع فى شمال شرقى ولاية ألمرية على مقربة من البحر.

ص: 122

صورة وثيقة عقدت بين السلطان أبى عبد الله محمد بن إسماعيل وخايمى الثانى ملك أراجون بتجديد معاهدة الصلح التى عقدت بين والده وخايمى فى سنة 721 هـ، مؤرخة فى جمادى الثانية سنة 726 هـ (1326 م) ومحفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 154.

ص: 123

بل وعلى المغرب أيضاً. ذلك لأن الأندلس أخذت تبدو من ذلك الحين جناح المغرب، وخطه الدفاعى الأول من الشمال، ولابد من تأمين هذا الخط والسهر على سلامته، وذلك بدعم قوة الأندلس وتأييدها، ورد خطر النصارى عنها. ومن ثم فقد استجاب أبو الحسن لدعوة ابن الأحمر وبعث معه الأمداد بقيادة ولده أبى مالك، لمنازلة جبل طارق وافتتاحها، وتلاحقت فى أثرهم السفن تحمل المدد والعُدد والمؤن. وحشد ابن الأحمر قواته، وزحف على الجزيرة واستولى عليها. وطوق المسلمون جبل طارق من البر والبحر، ورابط أسطول المغرب فى مياه المضيق ليحول دون وصول الأمداد إلى النصارى، وهرع ملك قشتالة (ألفونسو الحادى عشر) فى قوة من الفرسان لإنجاد الحامية المحصورة، فبادر ابن الأحمر إلى مهاجمة النصارى، وهزمهم أمام جبل طارق تجاه البرزخ الإسبانى. وكان أكبر الفضل فى إحراز هذا النصر راجعاً إلى همة الحاجب رضوان النصرى وإقدامه وبراعته. ثم شدد المسلمون الحصار على الثغر، وقطعوا كل صلاته من البر والبحر، فلم تمض بضعة أسابيع حتى ساءت حال الحامية النصرانية، واضطرت إلى التسليم قبل مقدم الجيش القشتالى. وبذلك استعاد المسلمون الثغر المنيع فى أواخر سنة 733 هـ (1333 م) بعد أن لبث فى حوزة النصارى أربعة وعشرين عاماً، وكان أكبر الفضل فى استرداده راجعاً إلى معاونة السلطان أبى الحسن فى البر والبحر. ولما رابط المسلمون والنصارى فى الميدان وجهاً لوجه، ورأى ملك قشتالة أنه لا أمل فى كسب معركة انتهت فعلا بظفر المسلمين، آثر الصلح، وانتهى الأمر بعقد الهدنة بين الملكين (1). واعتزم السلطان محمد بن اسماعيل (ابن الأحمر) العودة بجنده إلى غرناطة، ولكنه ما كاد يغادر جبل طارق فى اليوم التالى عائداً إلى عاصمة ملكه، حتى اغتاله فى الطريق جماعة من المتآمرين بتحريض بنى أبى العلاء، (ذى الحجة سنة 733 هـ). وكان أولئك القواد المغاربة وعلى رأسهم شيخهم عثمان ابن أبى العلاء قد استفحل أمرهم فى الدولة، وأخذوا ينازعون السلطان فى أمر تصرفاته، ولما توفى شيخ الغزاة عثمان ابن أبى العلاء فى سنة 729 هـ عين مكانه فى المشيخة ولده أبو ثابت عامر، فاستمر يمارس سلطان أبيه ونفوذه، وتدخله فى شئون الدولة، وكان يؤازره إخوته إدريس، ومنصور، وسلطان. وبدأ ابن الأحمر

(1) الإحاطة ج 1 ص 540 - 552؛ واللمحة البدرية ص 77 - 82؛ وابن خلدون ج 7 ص 255.

ص: 124

يتبرم بتدخلهم واستبدادهم، وكان حينما عبر السلطان أبو الحسن قد خاطبه فى شأنهم وفى سبيل الخلاص منهم، واستراب بنو العلاء منه وتوجسوا شراً، فاتمروا به للتخلص منه قبل أن يبطش بهم، ولحق به المتآمرون حين عوده واغتالوه طعناً بالرماح، وتركت جثته فى العراء حيناً حتى نقلت بعد ذلك إلى مالقة ودفنت بها (1).

- 2 -

وولى العرش من بعده أخوه أبو الحجاج يوسف بن أبى الوليد إسماعيل، وهو فتى فى السادسة عشرة. وكان من أعظم ملوك بنى نصر وأبعدهم همة وأرفعهم خلالا. وكان عالماً شاعراً يحمى الآداب والفنون، وهو الذى أضاف إلى قصر الحمراء أعظم منشآته وأروعها. وما كاد يتبوأ العرش حتى عنى بتتبع بنى أبى العلاء قتلة أخيه، وتجريدهم من وظائفهم وتمزيق عصبتهم والقبض على شيوخهم، وكان ذلك فى الوقت نفسه تحقيقاً لرغبة السلطان أبى الحسن. ثم نفاهم فى السفن إلى تونس، وانتهت بذلك رياستهم بالأندلس، بعد أن طالت زهاء نصف قرن، ولما نزلوا على سلطان تونس أبى يحيى الحفصى، طالب السلطان أبو الحسن بتسليمهم فأرسلهم إليه أبو يحيى ولكن مع طلب الشفاعة فيهم، فعفا عنهم أبو الحسن، وأكرم مثواهم مدى حين، ولكنه عاد فقبض عليهم بتهمة التآمر عليه، وأودعهم ظلام السجن (2).

وعهد السلطان أبو الحجاج بمشيخة الغزاة، بعد سحق بنى أبى العلاء على النحو المتقدم، إلى زعيم آخر من قرابة بنى مرين هو يحيى بن عمر بن رحّو، فاضطلع بها على خير وجه، ولبث مضطلعاً بها طول عصر أبى الحجاج.

وقام بتدبير الأمور للسلطان أبى الحجاج وزير أخيه الحاجب أبو النعيم رضران، وكان هذا الوزير القوى الذى لعب فى تاريخ غرناطة دوراً ذا شأن، من أصل نصرانى قشتالى أو قطلونى، وسبى طفلا فى بعض المواقع، فأخذ إلى الدار السلطانية، ونشأ فى بلاط السلطان أبى الوليد إسماعيل (3). وظهرت نجابته وصفاته الممتازة، فعهد إليه بتربية ولده أبى عبد الله محمد. ولما تولى محمد الملك بعد أبيه تولى وزارته الحاجب رضوان، فأظهر فى تدبير الشئون كفاية ممتازة، وقاد بعض

(1) ابن خلدون ج 7 ص 263 و 264 و 372.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 264.

(3)

الإحاطة ج 1 ص 515.

ص: 125

الغزوات الناجحة إلى أرض النصارى، فغزا فى سنة 732 هـ أراضى قشتالة شرقاً حتى لورقة ومرسية وعاث فيها، وفى العام التالى غزا مدينة باغة واستولى عليها (1).

ولما تولى الملك السلطان يوسف وقع الإجماع على اختياره للوزارة، واستقرت الأمور فى عهده وساد الأمن والرخاء. وينوه ابن الخطيب - وهو معاصر الحاجب وصديقه - بصفاته ومواهبه ويسميه " حسنة الدولة النصرية، وفخر مواليها". ويصفه فيما يلى: "وكان أصيل الرأى رصين العقل، كثير التجمل، عظيم الصبر، قليل الخوف فى العيهات، ثابت القدم فى الأزمات، ميمون النقيبة، عزيز النفس عالى الهمة، بادى الحشمة، آية فى العفة، مثلا فى النزاهة". وكان من أعظم مآثره انشاء مدرسة (جامعة) غرناطة الشهيرة. فأقام لها صرحا فخما، ووقف عليها أوقافا جليلة وغدت غير بعيد من أعظم مناهل العلم فى الأندلس والمغرب (2)، وأمر ببناء السور الأعظم حول ربض البيازين، وأنشأ عدداً كبيراً من الأبراج الدفاعية، وأصلح كثيراً من الحصون الداخلية؛ ولكنه كسائر المتغلبين على السلطان، استبد بالأمر واستأثر بكل سلطة. فلما شعر السلطان يوسف باشتداد وطأته، وكثرت السعايات فى حقه، نكبه وأمر باعتقاله ونفيه إلى ألمرية، وذلك فى رجب سنة 740 هـ.

ولكنه اضطر إلى أن يعيده إلى الوزارة بعد ذلك ببضعة أشهر، حينما شعر بالفراغ الذى أحدثه تنحيه عن تدبير الشئون، فاستمر فى منصبه حتى نهاية عهده (3). وكان من بين وزراء السلطان يوسف، الكاتب والشاعر الكبير الرئيس أبو الحسن علىّ بن الجياب؛ وقد تقلب فى ديوان الإنشاء حتى ظفر برياسته. وكان من زملائه وأعوانه فى ديوان الإنشاء عبد الله بن الخطيب والد لسان الدين. ولما توفى عبد الله خلفه فى خدمة القصر ولده لسان الدين، وغدا أميناً لابن الجياب. فلما توفى ابن الجياب سنة 749 هـ فى الوباء الكبير خلفه فى الوزارة، وبزغ نجم مجده من ذلك الحين.

وفى عهد السلطان يوسف كثرت غزوات النصارى لأراضى المسلمين، وكان ألفونسو الحادى عشر تحدوه نحو المملكة الإسلامية أطماع عظيمة. ولما شعر يوسف

(1) الإحاطة ج 1 ص 548 و 549.

(2)

كانت مدرسة غرناطة تقوم إزاء المسجد الجامع وراء القيسرية. وقد أقيمت كتدرائية غرناطة مكان المسجد الجامع، ولبثت المدرسة قائمة حتى القرن الثامن عشر، ثم هدمت وأقيم مكانها بناء آخر، ولم يبق منها إلا بعض أبهائها القديمة. ونقلت معظم زخارفها ونقوشها إلى متحف غرناطة.

(3)

راجع الإحاطة ج 1 ص 518 وما بعدها.

ص: 126

باشتداد وطأة القشتاليين، وضعف وسائله فى الدفاع، أرسل يستنجد بالسلطان أبى الحسن علىّ بن عثمان ملك المغرب، فأرسل الأمداد للمرة الثانية إلى الأندلس مع ولده الأمير أبى مالك، فاخترق سهول الجزيرة الخضراء معلناً الجهاد. وتوجست اسبانيا النصرانية من مقدم الجيوش المغربية شراً، واعتزمت أن تواجه الغزاة فى قواها المتحدة، فسار أسطول مشترك من سفن قشتالة وأراجون والبرتغال، إلى مياه جبل طارق، بقيادة الدون جوفرى تنوريو ليمنع الأمداد عن جيوش المغرب، وبارك البابا الحملة، وسارت قوى اسبانيا المتحدة للقاء المسلمين. وكان أبو مالك فى تلك الأثناء قد زحف إلى أراضى النصارى، واجتاح سهل بجانة (1) وحصل على غنائم لا تحصى؛ وهنا فاجأه الإسبان قبل أن يستطيع الارتداد إلى أراضى المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة دموية هزم فيها المسلمون هزيمة شديدة وقتل أبو مالك، وكان ذلك فى أواسط سنة 740 هـ (1339 م).

وعندئذ عوّل السلطان أبو الحسن على العبور بنفسه إلى الأندلس، ليثأر لتلك الهزيمة المؤلمة، فجهز الجيوش والأساطيل الضخمة، وبلغ أسطول المغرب يومئذ مائة وأربعين سفينة منها عدد كبير من السفن الحربية، وجاز السلطان البحر إلى الأندلس فى أوائل المحرم سنة 741 هـ (يوليه سنة 1340 م) ونزل بسهل طريف ولحق به السلطان يوسف فى قوات الأندلس. وكانت الجيوش الإسبانية قد نفذت يومئذ إلى أعماق مملكة غرناطة، ووصلت إلى بسائط الجزيرة الخضراء، ورابط الأسطول النصرانى فى مياه المضيق بين المغرب والأندلس، ليمنع قدوم الأمداد والمؤن، وضرب النصارى الحصار حول ثغر طريف وتغلبوا على حاميته، ومضت أشهر قبل أن يقع اللقاء الحاسم بين الفريقين؛ فشحت الأقوات بين المسلمين، ووهنت قواهم. وكان الجيش الإسلامى يرابط عندئذ فى السهل الواقع شمال غربى طريف على مقربة من نهر "سالادو" الصغير الذى يصب فى المحيط الأطلنطى عند بلدة كونيل التى تبعد قليلا عن رأس طرف الغار. وفى يوم 30 أكتوبر سنة 1340 (جمادى الأولى سنة 741 هـ) نشبت بين الفريقين معركة عامة على ضفاف نهر سالادو، وتولى السلطان أبة الحسن قيادة جيشه بنفسه، وتولى السلطان يوسف قيادة فرسان الأندلس، ويقال إن الأندلسيين كانت لديهم فى تلك الموقعة آلات تشبه المدافع، وهى الآلات التى تطورت فيما بعد وكانت تسمى "بالأنفاط".

(1) وهو بالإسبانية Pechina

ص: 127

وتقدم ألفونسو الحادى عشر بجيشه لمهاجمة المغاربة، فصد فى البداية بقوة، واشتبك فرسان الأندلس مع جيش البرتغال. ولكن حدث عندئذ أن تسللت حامية طريف النصرانية من الجنوب وانقضت على مؤخرة الجيش الإسلامى، فدب الخلل إلى صفوفه، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة سالت فيها الدماء غزيرة، وقتل من المسلمين عدد جم، وسقط معسكر سلطان المغرب الخاص فى يد النصارى وفيه حريمه وحشمه وبعض أولاده، فذبحوا جميعاً على الأثر بوحشية مروعة، وانتثرت قوات المسلمين وبددت؛ وفر السلطان أبو الحسن، واستطاع أن يعبر إلى المغرب مع فلوله؛ وارتد السلطان يوسف إلى غرناطة، وكانت محنة عظيمة لم يشهد المسلمون مثلها منذ موقعة "العقاب"(1) وكان لها أعمق وقع فى المغرب والأندلس (2).

وانتهز ملك قشتالة فرصة ظفره وضعف المسلمين، فغزا قلعة بنى سعيد أو قلعة يحصب من أحواز غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير (742 هـ)(3). وكان ملك المغرب فى أثناء ذلك يضطرم ظمأً للانتقام، ويحشد قواته من جديد. ولما كملت أهبته أرسل أساطيله إلى مياه المضيق، وسار بالجيش إلى سبتة، وبادر ملك قشتالة من جانبه بإرسال أسطوله للقاء المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة بحرية هزم فيها المسلمون ومزق أسطولهم (743 هـ - 1342 م). وحاصر النصارى ثغر الجزيرة الخضراء، وسار السلطان يوسف فى جيشه لإنجاد الثغر المحصور، وكان جيشه مجهزاً بالآلات القاذفة الجديدة التى تشبه المدافع، ولكنه لم يفلح واضطر المسلمون إلى التسليم، وبذلك أضحى الثغران الجنوبيان المشرفان على مضيق

(1) هى الموقعة التى نشبت بين الموحدين والنصارى فى الأندلس على مقربة من أبدة فى سنة 609 هـ (1212 م) وفيها هزم الموحدون هزيمة شديدة. وتسمى موقعة العقاب وبالإسبانية Las Navas de Tolosa وقد سبقت الإشارة إليها.

(2)

راجع ابن خلدون ج 7 ص 261 و 262، والاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 2 ص 65 و 66، واللمحة البدرية ص 92 و 93. ويوجد فى متحف كتدرائية مدينة طليطلة علمان كبيران من أعلام السلطان أبى الحسن كانا ضمن غنائم النصارى فى هذه الموقعة، وقد نقشت عليها آيات قرآنية وأدعية واسم السلطان أبى الحسن.

(3)

قلعة يحصب أو قلعة بنى سعيد هى بلدة حصينة تقع شمال غرناطة، وجنوب غربى جيان. وسميت قلعة بنى سعيد لأنها كانت منزل أسرة بنى سعيد الكتاب والمؤرخين أصحاب كتاب " المغرب". ومكانها اليوم بلدة Alcala la Real ( القلعة الملكية) الإسبانية.

ص: 128

جبل طارق وهما الجزيرة وطريف فى أيدى النصارى، ولم يبق فى يد المسلمين سوى جبل طارق تؤدى مهمة الوصل بين المغرب والأندلس.

وكانت هذه الأحداث الخطيرة التى وقعت بالأندلس بين النصارى والسلطان أبى الحسن، موضوعاً لمكاتبات سياسية، بين بلاط مراكش وبلاط القاهرة. وكان ثمة بين ملوك مصر والمغرب منذ قيام دولة بنى مرين سفارات ومكاتبات ودية متصلة. ففى سنة 739 هـ أرسل السلطان أبو الحسن إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر والشام، سفارة من بعض أكابر دولته، وبرفقتهم والدة أخت السلطان الأميرة الحرة تريد الحج، ومعهم هدية فخمة من عتاق الخيل ونفيس المتاع والحلى قدرت بأكثر من مائة ألف دينار، ومصحف كتبه السلطان بيده، وزين بماء الذهب ووضع فى إطار فخم من الأبنوس والصندل، ليودع فى الحرم الشريف، فاستقبلهم الملك الناصر بالقاهرة أعظم استقبال وجهزهم بكل ما يلزم، وأرسل إلى ملك المغرب هدية جليلة (1). ثم عاد السلطان أبو الحسن، فكتب على أثر هزائمه أمام النصارى فى البر والبحر، إلى سلطان مصر الملك الصالح بن الملك الناصر بن قلاوون، كتاباً ينوه بما كان بينه وبين والد السلطان من رسائل الود، ويبسط له ما وقع من استغاثة أهل الأندلس به وإعداده الأساطيل لقتال النصارى، ثم مفاجأة النصارى لسفنه فى البحر بأساطيل قوية، وزحفهم على الجزيرة الخضراء ومحاولة إنجادها عبثاً، ومعاونته لصاحب الأندلس بالمال والرجال، واستطالة الحرب ونفاد الأقوات، واضطراره إلى عقد الصلح مع النصارى على تسليم الجزيرة، وما فتحه الله من أخذ جبل طارق قبل ذلك، وأنه ما زال يتأهب للجهاد بعد عوده. وقد كتب هذا الكتاب فى صفر سنة 745 هـ (1344 م).

ورد ملك مصر على كتاب ملك المغرب، فى رمضان سنة 745 هـ، بكتاب رقيق يبدى فيه أسفه على سقوط الجزيرة الخضراء، ويعزيه عن فقد أسطوله وما نزل به من هزائم، ويقول إن الحرب سجال، وإن فى سلامته الكفاية، وإن الله قد يمن عليه بالظفر مرة أخرى، ويبدى اغتباطه لاستيلاء السلطان على ثغر جبل طارق (2).

(1) المقريزى فى السلوك فى دول الملوك ج 2 ص 447 و 448، ويصف المقريزى الأميرة الحرة بابنة السلطان؛ وابن خلدون ج 7 ص 264.

(2)

لم ينقل إلينا القلقشندى فى صبح الأعشى نص هذين الكتابين. ولكن نقلهما إلينا المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 539 - 546.

ص: 129

ولم يخل عصر السلطان أبى الحجاج يوسف من عقد العلائق الدبلوماسية مع الدول النصرانية. وكان عقدها بالأخص مع مملكة أراجون التى كانت أقرب إلى مسالمة مملكة غرناطة من زميلتها مملكة قشتالة. ففى سنة 735 هـ (1335 م) أرسل السلطان سفيره القائد أبا الحسن بن كُماشه إلى ألفونسو الرابع ملك أراجون ليطلب تجديد معاهدة الصلح المعقودة بين المملكتين، فأجابه إلى ذلك وجددت المعاهدة.

وفى أواخر سنة 745 هـ (1345 م) عقد السلطان يوسف مع بيدرو الرابع ملك أراجون، معاهدة صلح ومهادنة جديدة، فى البر والبحر، لمدة عشرة أعوام على يد سفيره القائد المذكور، وطلب إلى السلطان أبى الحسن المرينى، ملك المغرب، أن يوافق على هذا الصلح فوافق عليه، وأبرمه من جانبه، بنفس الشروط ولنفس المدة التى يسرى فيها، وذلك حسبما يدل عليه عهد الموافقة التى أصدره بتاريخ صفر سنة 746 هـ (يونيه 1345 م)(1).

وهنا طافت بالأندلس واسبانيا تلك النكبة المروعة التى عصفت بالمشرق والمغرب معا، ونعنى بذلك الوباء الكبير الذى اجتاح سائر الأمم الإسلامية وحوض البحر الأبيض المتوسط فى سنة 749 هـ - 750 هـ (1348 م). وكان بدء ظهوره على على ما يرجح فى إيطاليا فى ربيع هذا العام، وحمل من الأندلس كثيراً من سكانها، وفى مقدمتهم عدة من رجالها البارزين من الكبراء والعلماء. وقد وصف لنا الوزير ابن الخطيب تلك المحنة التى كان معاصراً لها مشاهد عيان لروعها وفتكها فى رسالة عنوانها:"مُقنعة السائل عن المرض الهائل"، وكذلك وصف لنا عصف الوباء بثغر ألمرية شاعر ألمرية الكبير ابن خاتمة فى رسالة عنوانها "تحصيل غرض القاصد فى تفصيل المرض الوافد"(2).

ولبث ملك قشتالة أعواماً أخرى على خطته من إرهاق المملكة الإسلامية والعيث فيها، والمسلمون يدافعون جهد استطاعتهم، وأمراء المغرب مشغولون عن نجدتهم بما أصابهم من هزائم متوالية، وما شجر بينهم من خلاف. وفى سنة 750 هـ (1349 م) غزا النصارى سهول الجزيرة الخضراء مرة أخرى، وكان ملك قشتالة يرمى بهذه الغزوة إلى غاية هامة هى الاستيلاء على جبل طارق. وكان هذا

(1) Archivo de la Corona de Aragon No. 52 ; Alarcon y Santon ; Documentos Arabes Diplomaticos، Nos. 41، 56، & 96.

(2)

توجد هاتان الرسالتان ضمن مجموعة خطية تحفظ بمكتبة الإسكوريال برقم 1785 وقد نشرت رسالة ابن الخطيب مع ترجمتها الألمانية فى مجلة أكاديمية العلوم البافارية (سنة 1863).

ص: 130

صورة رسالة من السلطان يوسف أبى الحجاج إلى دون المنشة (ألفونسو) ملك أراجون يشكره فيها على حسن لقائه لسفيره، ويقرر تجديد الصلح المعقود بينهما، مؤرخة فى ذى الحجة سنة 735 هـ (يوليه 1335 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 138.

ص: 131

الثغر ما يزال منذ عصور أمنع ثغور المسلمين وأشدها مراسا. فلما رأى النصارى استحالة أخذه عنوة، ضربوا حوله الحصار الصارم، وكانت تدافع عنه حامية مغربية قوية، ورابط ملك غرناطة بجيشه فى مؤخرة النصارى؛ واستمر حصار جبل طارق زهاء عام كامل والمسلمون صامدون كالصخرة التى يدافعون عنها، وقد عيل صبر الغزاة ودب الوهن إلى نفوسهم. ثم فشا الوباء فى الجيش النصرانى وهلك ملك قشتالة فى مقدمة من هلك من جنده، فكان ذلك نذيراً بخلاص الثغر المنيع والمدافعين عنه، واضطر النصارى إلى رفع الحصار (751 هـ - 1350 م).

وأنقذ المسلمون بذلك من كارثة فادحة، وأبدى المسلمون بهذه المناسبة ضروبا موثرة من تسامح الفروسة، فتركوا موكب الملك المتوفى، يخترق طريقه إلى إشبيلية دون تعرض، وارتدى كثير من أكابرهم شارة الحداد مجاملة وتكريما، وخلف ألفونسو على العرش فى الحال ولده بيدرو (بطره) الملقب بالقاسى (1).

ووصف ابن الخطيب كاتب الأندلس وشاعرها، وقد كان يومئذ من كتاب السلطان يوسف، هذه الأحداث الخطيرة فى رسالة بعث بها السلطان إلى ملك المغرب، وفيها يشير إلى مهاجمة العدو لجبل طارق وطمعه فى الاستيلاء على الأندلس ويقول:"وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التى لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون فى هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة، والبحور الزاخرة والمرام البعيد" ثم يصف كيف تداركت رحمة الله الأندلس بعد ذلك فهزم العدو ولم يبلغ مراما (2).

وكان لحصار جبل طارق، ومصرع ملك قشتالة تحت أسواره، صدى عميق فى المغرب وفى أنحاء العالم الإسلامى. ويشير الرحالة الأشهر ابن بطوطة الطنجى الذى زار الأندلس بعد ذلك بقليل فى رحلته إلى تلك الحوادث، وإلى ما كان يتصوره ملك قشتالة، من أنه أضحى على وشك الاستيلاء على ما بقى من بلاد الأندلس، فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات بالوباء، وقد كان من أشد الناس خوفاً منه، ثم يصف لنا أهمية جبل طارق الدفاعية وما بذله السلطان أبو الحسن عقب استرداده من جهود فادحة لتحصينه، وتجديد أسواره وحصونه، وإنشائه لدار الصناعة، وما قام به ولده السلطان أبو عنان بعد ذلك من تجديد تحصيناته، وشحنه

(1) ابن خلدون ج 4 ص 183.

(2)

راجع هذه الرسالة فى نفح الطيب ج 2 ص 570 و 571.

ص: 132

صورة وثيقة اعتماد صادرة من السلطان يوسف أبى الحجاج إلى وزيره القائد ابن كماشة الذى أرسله سفيراً إلى بيدرو الرابع (دون بطره) ملك أراجون ليقوم بعقد الصلح بينه وبين السلطان أبى الحسن المرينى ملك المغرب مؤرخة فى شعبان سنة 745 هـ (ديسمبر 1344 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 45.

ص: 133

بالعُدد والأقوات. ويصف لنا ابن بطوطة بعد ذلك ثغور الأندلس وقواعدها الأخرى التى طاف بها يومئذ، مثل رندة ومربلة ومالقة وبلش، وما شاهده فيها من الخيرات والصناعات الفريدة، ولاسيما صناعة الخزف بمالقة، ثم يعرج على غرناطة وينعتها بعروس الأندلس، ويصف لنا رياضها وبساتينها الغراء، ويشير إلى ملكها فى عهد دخوله إياها، وهو السلطان أبو الحجاج يوسف، ولم يوفق يومئذ إلى لتائه لمرض ألمّ به.

وتدلى أوصاف ابن بطوطة بأن الأندلس كانت يومئذ، بالرغم من توالى غارات النصارى عليها وعيثهم فى ربوعها، بلاداً زاهرة نضرة، تزخر بالخيرات والنعم، وتموج بالملايين من سكانها النشطين الأذكياء، وصناعاتها الممتازة، وتحتشد فيها جمهرة كبيرة من العلماء والفقهاء والكتاب والشعراء مما يدل على أنها كانت فى هذا العصر تجوز أيضاً نهضة أدبية زاهرة (1). ولا غرو فقد كان هذا العصر هو الذى سطع فيه نجم ابن الخطيب أعظم كتاب الأندلس وشعرائها فى المائة الثامنة، وبلغ فيه الشعر والترسل يومئذ ذروة الروعة والبهاء.

واستمر أبو الحجاج يوسف فى الحكم بضعة أعوام أخرى، ساد فيها السلام والأمن، ولكنه ما لبث أن قتل غيلة أثناء صلاته بالمسجد الأعظم فى يوم عيد الفطر سنة 755 هـ (أكتوبر سنة 1354 م)، قتله مخبول لم يفصح عن بواعثه وأغراضه، فمزق وأحرق بالنار على الأثر (2). وكان مقتله وهو فى السابعة والثلاثين فى عنفوان فتوته ومجده. ويصف لنا ابن الخطيب، وقد كان من شهود هذا المنظر المؤسى، مقتل السلطان، فى قوله من رسالة بعث بها إلى السلطان أبى عنان ملك المغرب" ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب، إلا شقىّ قيضه الله تعالى لسعادته، غير معروف ولا منسوب، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب، تخلل الصفوف المعقودة، وتجاوز الأبواب المسدودة، وخاض الجموع المحشودة، ولا تدل العين عليه شارة ولا بزة، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة، وإنما هو خبيث ممرور وكلب عقور، وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور، فلما طعنه وأثبته وأعلق به شرك الحين، فما أفلته حتى قبض عليه من الخلصان الأولياء، من خير ضميره وأحكم تقريره، فلم يجب عند الاستفهام

(1) راجع رحلة ابن بطوطة (مصر) ج 2 ص 183 - 188.

(2)

اللمحة البدرية ص 97.

ص: 134

صورة وثيقة صادرة من السلطان أبى الحسن المرينى ملك المغرب بالموافقة على الصلح الذى عقده باسمه سلطان غرناطة يوسف أبو الحجاج مع بيدرو الرابع (دون بطره) ملك أراجون مؤرخة فى صفر سنة 746 هـ (يونيه 1345 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى برقم 52.

ص: 135

جواباً يعقل ولا عثر على شىء عنه ينقل، لطفاً من الله أفاد براءة الذمم، وتعاورته للحين أيدى التمزيق. وأتبع شلوه بالتحريق" (1). ودفن السلطان الشهيد فى مقبرة الحمراء إلى جانب آبائه مبكياً عليه من شعبه بدموع غزيرة. وكان السلطان يوسف فى الواقع أعظم ملوك غرناطة همة وعزماً، وأبدعهم خلالا، وكان فوق فروسته ونجدته عالماً أديباً، شغوفاً بالعمارة وإقامة الصروح الباذخة، وهو الذى شيد البرج الأعظم بقصر الحمراء، وأنشأ به أفخم أجنحته وأبدعها، وهو الذى أسبغ على هذا الصرح العظيم بمنشآته وزخارفه، بهاءه وروعته التى ما زال يحتفظ بلمحة منها. وفى عصره زهت العلوم والآداب، وذاعت شهرة العلماء المسلمين، ولا سيما فى الفلك والكيمياء.

وهكذا لبث بلاط غرناطة حقبة يقف من دولة بنى مرين مواقف متناقضة، ويتردد بين سياسة التحالف والقطيعة، وبين الثقة والتوجس؛ وليس من شك فى أن بنى مرين كانوا عضداً قيما لمملكة غرناطة الناشئة، وقد أدوا لها فى ميدان الجهاد وفى مقاتلة النصارى خدمات جليلة، وبذلوا فى ذلك السبيل تضحيات جمة، وأعادوا بانتصارهم على النصارى فى غير موقعة حاسمة، ذكريات الزلاّقة والأرك؛ ولولا غوث بنى مرين، واشتغال مملكة قشتالة بحوادثها الداخلية غير مرة، لما اشتد ساعد بنى الأحمر، وسطعت دولتهم خلال هذه الفترة المليئة بالحوادث الجسام، واستطالت أيام الإسلام بالأندلس زهاء مائة عام أخرى. وقد كان من سوء الطالع ألا يدرك بلاط غرناطة خطر الخلاف، مع الحليف الطبيعى الذى رتبه القدر فيما وراء البحر، لإنجاد الأندلس عند الخطر الداهم، وأن يجنح من آن لآخر إلى مخاصمة هذا الحليف ومحاربته، كما حدث حينما استولى ابن الأحمر على سبتة. كذلك لم تخل سياسة بنى مرين إزاء مملكة غرناطة أحياناً، من الالتواء وبث الشكوك فى نفوس أمراء بنى نصر، بما كانت تجنح إليه من مداخلة الخوارج عليهم. وهكذا كانت قوى الإسلام تبدد فى معارك أهلية، وقد كان حرباً أن تتضافر على مغالبة العدو المشترك. على أن الدولة المرينية ذاتها، تدخل منذ وفاة السلطان أبى الحسن فى سنة 752 هـ (1351 م) فى دور انحلالها، وتنحدر ألى غمر الحرب الأهلية، وتشغل بشئونها الداخلية، وتفقد غرناطة بذلك، العضد

(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 565.

ص: 136

الوحيد، الذى كانت تدخره وقت الشدائد. وقد استمرت العلائق بين غرناطة وبنى مرين عصراً آخر، ولكنها غدت غير بعيد علائق بلاط، تغلب عليها دسائس القصور، وانقطعت الجيوش المغربية عن العبور إلى الأندلس لمقاتلة النصارى، كما كانت تفعل أيام أبى يوسف وأبى يعقوب وأبى الحسن، ولم تعبر بعد ذلك سوى مرة واحدة لمعاونة الخوارج فى جبل طارق ضد ملك غرناطة حسبما يجىء؛ وتركت غرناطة من ذلك الحين إلى مصيرها داخل الجزيرة الإسبانية، تغالب قوى النصرانية بمفردها، وقدر استطاعتها، وكان ملاذها الأخير فى اختلاف كلمة النصارى، وانشغالهم بذلك الخلاف عن محاربتها.

ص: 137