المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

‌الفصل الأول

توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

الموريسكيون قوة أدبية واجتماعية. بعض ما قيل فى وصفهم. تعلقهم بتراثهم الروحى. يكتبون كتبهم بالألخميادو. نشاط ديوان التحقيق فى مطاردتهم. قضية موريسكية شهيرة. عدد الموريسكيين. ما يقوله عنهم سفير البندقية. أقوال ثرفانتس. براعتهم الاقتصادية. تخوف السياسة الإسبانية من وجودهم. صلات الموريسكيين بمسلمى إفريقية والترك. دسائس ومؤامرات مزعومة. غارات البحارة المجاهدين على الشواطىء الإسبانية. البحر المتوسط مسرح القراصنة منذ العصور الوسطى. ظهور المغامرين المسلمين فى هذه المياه. ظهور البحارة الترك والموريسكيين. النزعة الانتقامية فى هذه الغارات. تحوط اسبانيا ضد الغارات. غارات المجاهدين المغاربة. معاونة الموريسكيين للبحارة المغيرين. ظهور أوروج وخير الدين. استيلاء خير الدين على الجزائر والثغور المغربية. غاراته المتوالية على الشواطىء الإسبانية. توالى صريخ الموريسكيين. تحطيم سلطان البحارة الترك لمشاريع اسبانيا فى المغرب. استنصار أمراء المغرب بإسبانيا. غارات طرغود خلف خير الدين. غارات البحارة التونسيين. انزعاج اسبانيا ولوم الموريسكيين. اتساع نطاق الغارات فى البحر المتوسط. انتشار تجارة الرقيق. حوادث المغرب الأقصى. فرار الأمير الشيخ إلى اسبانيا واستغاثته بفيليب الثانى. الموريسكيون يحرضون مولاى زيدان على غزو اسبانيا. استيلاء الإسبان على ثغر العرائش. مقتل الشيخ وانتهاء مغامراته. الكفاح بين مولاى زيدان واسبانيا.

كان انهيار الثورة الموريسكية وسحق الموريسكيين، خاتمة عهد من الكفاح المرير بين شعب مهيض أعزل، يحاول أن يحتفظ بشخصيته وكرامته وحقه فى الحياة، وبين القوة الغاشمة، التى تريد أن تسحق فى بقية الأمة المغلوبة، كل أثر للحياة الحرة الكريمة، ولكن الثورة الموريسكية كانت من جهة أخرى، نذيراً عميق الأثر للسياسة الإسبانية. ذلك أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تجريدهم من كل مظاهر القوة المادية، قوة أدبية واجتماعية يخشى بأسها. وكان هذا الشعب المستكين الأعزل ما يزال رغم ضعفه وذلته، يملأ جنبات الجزيرة بفنونه ونشاطه المنتج، ويحتل مكانة بارزة فى الشئون الاقتصادية. وكانت الكنيسة ماتزال تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض، على مجتمع لم تطمئن لولائه وصدق إيمانه. وقد وصف المطران جريرو الموريكسيين فى سنة 1565 بقوله: "إنهم خضعوا للتنصير،

ص: 378

ولكنهم لبثوا كفرة فى سرائرهم، وهم يذهبون إلى القداس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية فى أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمون حتى فى ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدمون أولادهم للتنصير خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة فى ثياب أوربية، فإذا عُدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للرسوم العربية" (1).

والظاهر أن هذه الأقوال تنطوى على كثير من الصدق. ذلك أن الأمة الموريسكية المهيضة، بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف والإرهاق، متعلقة بتراثها الروحى القديم. وبالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين فى سرائرهم، يزاولون شعائرهم القديمة خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية، أو بالقشتالية المكتوبة بأحرف عربية، وهى التى تعرف بالألخميادو Aljamiado أى "الأعجمية" وهو ما نعود إلى التحدث عنه بعد. وقد انتهى إلينا الكثير من الكتب الدينية والأدعية والمدائح الإسلامية الموريسكية مكتوبة "بالألخميادو" وكثير منها يدور حول سيرة النبى العربى، وشرح تعاليم القرآن والسنة، يتخللها كثير من الخرافات والأساطير المقدسة (2). بيد أنها تدلى بما كانت تجيش به هذه النفوس المعذبة من إخلاص راسخ لدينها القديم، وإن التبست عليهم أصوله وشعائره بمضى الزمن.

وقد لبث ديوان التحقيق على نشاطه ضد الموريسكيين طوال القرن السادس عشر، ولم يفتر هذا النشاط حتى أواخر هذا القرن، مما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة بقيت بالرغم من كر الأعوام وتوالى المحن، دفينة فى قلب الشعب المضطهد، تنضح آثارها من آن لآخر. يدل على ذلك ما تسجله محفوظات الديوان، من أن قضايا الموريسكيين أمام محاكم التحقيق، بلغت فى سنة 1591، 291 قضية، وبلغت فى العام التالى 117 قضية، وظهر فى حفلة " الأوتو دافى " Auto da-fé التى أقيمت فى 5 سبتمبر سنة 1604 ثمانية وستون موريسكياً، نفذت فيهم الأحكام،

(1) Marmol: ibid ، II. Cap. I وكذلك: Dr. Lea: The Moriscos; p. 213 & 214

(2)

وضع القس الإسبانى Pedro Longas عن حياة الموريسكيين الدينية كتابه الذى سبقت الاشارة إليه غير مرة Vida Religiosa de los Moriscos (Madrid 1914) ، وفيه يورد كثيراً من رسومهم وعوائدهم الدينية، وكثيراً من الآيات والمدائح النبوية بالقشتالية

ص: 379

وظفر فى حفلة 7 يناير سنة 1607 ثلاثة وثلاثون موريسكياً، واستعمل التعذيب فى محاكمتهم خمس عشرة مرة، وكان الإتهام يوجه أحياناً إلى الموريسكيين جملة، على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات المورريسكية، فقد حدث مثلا فى سنتى 1589 و 1590، أن سجلت فى قرية مسلاته الموريسكية بالقرب من بلنسية مائة قضية، وسجلت فى قرية كارليت مائتان، واتهم أربعون أسرة بصوم شهر رمضان.

والواقع أنه كان من الصعب، على من بقيت فى نفوسهم جذوة أخيرة من دين الآباء، ولم يخمدها تعاقب جيلين أو ثلاثة من النصرانية المفروضة، أن يكونوا دائماً بمنجاة من الإتهام، ولهذا كان الشعب الموريسكى بأسره أينما وجد، عرضة للاتهام بالحق وبالباطل. وإذا كانت ثمة فترات يهدأ فيها نشاط محاكم التحقيق، فذلك يرجع بالأخص إلى استعمال الرشوة مع المأمورين، أو الحصول على براءات الحصانة بالمال. وتوضح لنا قضية بنى عامر زعماء الموريسكيين فى بلنسية هذه الحقيقة أتم وضوح.

كانت أسرة بنى عامر من أعرق الأسر المسلمة القديمة، التى أكرهت على التنصير، وكان زعماؤها إخوة ثلاثة، هم: دون كوزمى ودون خوان ودون هرناندو بنى عامر، ومنزل الأسرة فى بنجوازيل (بنى وزير) ضاحية بلنسية. وكان الثلاثة من ذوى المكانة والنفوذ، يسمح لهم بحمل السلاح وامتيازات أخرى، محرمة على الموريسكيين. ففى مايو سنة 1567 صدر قرار محكمة التحقيق باتهامهم، وتقرر القبض عليهم، ولكن بعد أن وافقت المحكمة العليا (سوبريما) نظراً لخطر مكانتهم، فاختفى الإخوة الثلاثة حيناً؛ ولكن الدون كوزمى قدم نفسه للسلطات فى يناير سنة 1568، وقرر فى التحقيق أنه يعتقد أنه نصّر طفلا، ومع ذلك فإنه لا يعتبر نفسه نصرانياً بل مسلماً، وأنه جرى خلال حياته على مراعاة الشعائر الإسلامية، ولم يذهب إلى المعترف إلا خضوعاً للأوامر، على أنه يبغى أن يكون فى المستقبل نصرانياً، وأن يؤدى ما يطلبه المحققون إليه، ولم يقدم دون كوزمى خلال محاكمته أى دفاع، ولكنه أفرج عنه فى 15 يوليه بضمان قدره ألفى دوقة، على أن يبقى فى بلنسية ولا يبرحها، ومع ذلك فقد سافر دون كوزمى إلى مدريد، وحصل على عفو عنه وعن أخويه من الملك والمحكمة العليا، نظير فداء قدره سبعة آلاف دوقة، واستطاع فوق ذلك بنفوذه القوى، أن يحصل للموريسكيين فى بلنسية على قرار التوفيق الصادر فى سنة 1571 حسبما قدمنا

ص: 380

وفى سنة 1577 جددت التهم القديمة ضد بنى عامر، وقبض على كوزمى وأخيه خوان، وحوكم كوزمى وشرح للمحكمة عقيدته الدينية، وهى مزيج من الإسلام والنصرانية، وعقدت الجلسات الأولى، ولكن القضية أوقفت قبل أن يصل التحقيق إلى مرحلة التعذيب، مما يدل على أن بنى عامر استطاعوا بالرغم من سوء حالتهم المالية يومئذ، أن يحصلوا على براءتهم وإطلاق سراحهم بدفع مبلغ من المال (1).

ْوهكذا نرى أن الموريسكيين استطاعوا بالرغم من العسف المنظم، الذى فرضته الدولة والكنيسة عليهم زهاء قرن، أن يحتفظوا فى قرارة نفوسهم الكليمة، ببقية راسخة من تراثهم الروحى القديم.

هذا من ناحية الدين والعقيدة؛ وأما من الناحية الاجتماعية، فقد كان الموريسكيون يكونون مجتمعاً متماسكاً متضامناً، قوياً بنشاكه ودأبه وذكائه، وقد بلغ عددهم فى أواخر القرن السادس عشر وفقاً لتقدير سفير البندقية زهاء ستمائة ألف نفس، وقدر البعض الآخر عددهم يومئذ بأربعمائة ألف نفس، وهو عدد ضخم بالنسبة لمجموع سكان اسبانيا فى ذلك الحين، وهو لم يتعد الثمانية ملايين.

ووصفهم سفير البندقية فى سنة 1595، أى بعد قرن من سقوط غرناطة، بأنهم شعب ينمو باضطراد فى العدد والثروة، وأنهم لا يذهبون إلى الحرب، ولكن يكرسون نشاطهم للتجارة واجتناء الربح. وذكر الكاتب الإسبانى الكبير ثرفانتيس (2) فى بعض رسائله أن الموريسكيين يتكاثرون وكلهم يتزوج، ولا يدخلون أولادهم قط فى سلك الكهنوت أو الجيش، ويقتصدون فى الإنفاق ويكتنزون المال، فهم الآن أغنى الطوائف فى اسبانيا. وأما عن الناحية الاقتصادية فقد قيل إن الموريسكيين كانوا يحتكرون تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها، ومنهم تجار البقالة والماشية، ومنهم القصابون والخبازون وأصحاب الفنادق وغيرهم، وهم لا يشترون العقارات احتفاظاً بحرية استعمال أموالهم، وقد كان ذلك من أسباب غناهم وقوتهم الإقتصادية (3).

(1) Dr. Lea: History of the Inquisition ; V. III. p. 362 - 365

(2)

مجيل ثرفانتس دى سافدرا (1547 - 1616) من أعظم كتاب اسبانيا وشعرائها، وهو مؤلف قصة الفروسية الشهيرة "دون كيخوتى دى لامانشا".

(3)

Dr. Lea: The Moriscos p. 204 & 210

ص: 381

كانت اسبانيا النصرانية إذاً، أبعد من أن تطمئن إلى مجتمع العرب المتنصرين، فقد كانوا فى نظر الكنيسة أبدا كفرة مارقين، وكانت الدولة من جانبها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع الدخيل ومطاردته، فهى تخشى أن يعود إلى الثورة، وهى تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمى إفريقية ومع سلطان الترك، وهى مازالت تحلم بتطهير اسبانيا من الآثار الأخيرة للشعب الفاتح، والقضاء إلى الأبد على تلك الصفحة من تاريخ اسبانيا.

والواقع أن صلات الموريسكيين مع أعداء اسبانيا، لبثت شغلا شاغلا للسياسة الإسبانية. وقد كانت الممالك والإمارات المغربية فى الضفة الأخرى من البحر، على استعداد دائماً لأن تصغى إلى هذا الشعب المنكود، سليل إخوانهم الأمجاد فى الدين، وأن تعاونه كلما سنحت الفرص. وكان سلاطين الترك يتلقون من الموريسكيين صريخ الغوث من آن لآخر، وكانت المنافسة بين الترك واسبانيا يومئذ على أشدها، فى مياه البحر المتوسط، وكانت طوائف الموريسكيين تعيش على مقربة من الثغور الشرقية والجنوبية. وأكثر من ذلك أن السياسة الإسبانية كانت تخشى دسائس فرنسا خصيمتها القوية يومئذ، وتخشى تفاهمها المحتمل مع الموريسكيين. وكانت هذه الظروف كلها تحمل اسبانيا النصرانية، على أن تعتبر الموريسكيين خطراً قومياً يجب التحوط منه، والعمل على درئه بكل الوسائل.

وتسوق الرواية الإسبانية إلينا دلائل هذا الخطر فى حوادث كثيرة. ففى سنة 1573 وقفت السلطات الإسبانية على أنباء مفادها أن أمراء تلمسان والجزائر يدبرون حملة بحرية لمهاجمة "المرسى الكبير" فى مياه بلنسية، يعاونهم الموريسكيون فيها بالثورة، ولذا بادرت السلطات بنزع السلاح من الموريسكيين فى بلنسية، وقيل بعد ذلك إن هذه الحملة المغربية كانت ستقترن بغزوة فرنسية لأراجون، ينظمها حاكم بيارن الفرنسى، وأن سلطان الترك وسلطان الجزائر كلاهما يؤيد المشروع، وأن أساطيل الغزو كانت تزمع النزول فى مياه برشلونة وفى دانية، وفيما بين مرسية وبلنسية، وأن الفضل فى فشل هذا المشروع كله يرجع إلى حزم الدون خوان ونزع سلاح الموريسكيين. ومما يدل على أن اسبانيا لبثت حيناً على توجسها من فرنسا ودسائسها لدى الموريسكيين، ما تسوقه الرواية الإسبانية من أن هنرى الرابع ملك فرنسا، كانت له فى ذلك مشاريع خطرة، ترمى إلى غزو اسبانيا من

ص: 382

ناحية بلنسية، حيث يوجد حشد كبير من الموريسكيين، وأن زعماء الموريسكيين وعدوا بإضرام نار الثورة، وتقديم عدد كبير من الجند، ولم يطلبوا سوى السلاح، وكان من المنتظر أن تقوم الثورة الموريسكية فى سنة 1605، ولكن المؤامرة اكتشفت فى الوقت المناسب، وانهار مشروع الغزو. وهذه الروايات العديدة التى جمعها "ديوان التحقيق" الإسبانى على يد أعوانه وجواسيسه، تنقصها الأدلة التاريخية الحقة (1).

على أن الخطر الحقيقى، كان يتمثل فى غارات المجاهدين من خوارج البحر المسلمين، على الثغور والشواطىء الإسبانية. وتملأ سير هذه الغارات فراغاً كبيراً فى الرواية الإسبانية، وتسبغ عليها الرواية صفة الإنتقام للأندلس الشهيدة. وقد لبثت هذه الغارات طوال القرن السادس عشر، واستمرت دهراً بعد إخراج العرب المتنصرين من اسبانيا. ويشير المقرى مؤرخ الأندلس إلى مغزى هذه الغارات البحرية بعد إخراج الموريسكيين، فيقول إنهم انتظموا فى جيش سلطان المغرب، وسكنوا سلا وكان منهم من الجهاد فى البحر ما هو مشهور الآن (2).

ويجب أن نذكر أن مياه البحر المتوسط شرقه وغربه، كانت خلال العصور الوسطى، دائماً مسرحاً سهلا للأساطيل الإسلامية. فمنذ أيام الأغالبة والفاطميين، ومنذ خلافة قرطبة ثم المرابطين والموحدين، كانت الأساطيل الإسلامية تجوس أواسط هذا البحر وغربيه، وكانت الدول الإسلامية الأندلسية والمغربية، ترتبط مع الدول النصرانية الواقعة فى شمال هذا البحر، مثل البندقية وجنوة وبيزة، بمعاهدات ومبادلات تجارية هامة، وكان التسامح يسود يومئذ علائق المسلمين والنصارى، وتغلب المصالح التجارية والمعاملات المنظمة، على النزعات الدينية والمذهبية.

وقد كانت المغامرات البحرية الحرة وأعمال "القرصنة"، توجد فى هذه العصور دائماً، إلى جانب نشاط الأساطيل الرسمية. وكان البحر المتوسط منذ أقدم العصور مسرحاً لهذه المغامرات، وكان معظم خوارج البحر (القراصنة) يومئذ من النصارى، من الأمم التى غزت البحر فى عصور متقدمة، مثل اليونان وأهل سردانية وجنوة ومالطة. وفى أيام الصليبيين ازدهرت المغامرات فى البحر المتوسط،

(1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 281 - 284 & 286 - 288

(2)

نفح الطيب ج 2 ص 617. وقد أنجز المقرى كتابه سنة 1630

ص: 383

واستمر النصارى عصوراً زعماء هذه المهنة. ولم تكن ثمة بحريات منظمة تقوم بمطاردة أولئك الخوارج. وكانت المغانم الوفيرة من الإتجار فى الرقيق، والبضائع المهربة، وافتداء الرقيق، تذكى عزمهم، وتدفع إليهم بسيل من المغامرين من سائر الأمم، ولما ظهرت الأساطيل الكبرى منذ القرن الرابع عشر، ضعف أمر أولئك المغامرين.

ولم تكن هذه المياه خلوا من نشاط المغامرين المسلمين، ولكنهم لم يظهروا فى هذا الميدان إلا منذ القرن الخامس عشر، حينما ضعف أمر الأندلس والدول المغربية وسادتها الفوضى، واضطربت العلائق البحرية والتجارية المنظمة بين دول المغرب والدول النصرانية. وكانت الشواطىء المغربية تقدم إليهم المراسى الصالحة. ولما اشتد ساعد البحرية التركية بعد استيلاء الترك على قسطنطينية، زاد نشاط المغامرين المسلمين فى البحر. وكان سقوط غرناطة واضطهاد الإسبان للمسلمين، إيذاناً بتطور هذه المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والموريسكيين المنفيين إلى ميدانها واتخاذها مدى حين صورة الجهاد والإنتقام القومى والدينى، لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق (1).

وقد بدأت هذه الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم المسلمين على التنصير. فى ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من الأندلسيين المجاهدين، أنفوا العيش فى الوطن القديم، فى مهاد الذلة والاضطهاد، تحت نير الإسبان، وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، وقلوبهم تفيض حقداً ويأساً، واستقروا فى بعض القواعد الساحلية، مثل وهران والجزائر وبجاية، ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد فى سبيل الله، والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم، وظلموا أمتهم، وانتهكوا حرمة دينهم. وكان البحر يهيىء لهم هذه الفرصة، التى لم تهيئها لهم الحرب البرية، وكانت شواطىء المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها وخلجانها الكثيرة، التى تحميها وتحجبها الصخور العالية، أصلح ملاذ لمشاريع أولئك البحارة المجاهدين والقراصنة المغيرين. وكانت الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع، وكانت هذه الغارات البحرية ْتعتمد بالأخص على عنصر المفاجأة، وتنجح فى معظم الأحيان فى تحقيق غاياتها. ويصف بيترو مارتيرى هذه الغارات بإسهاب ويقول إن فرناندو الخامس أمر فى سنة 1507، للتحوط ضد هذه الغارات بإخلاء الشاطىء الجنوبى، من جبل طارق

(1) Lane - Poole: The Barbary Corsairs p. 26 & 27

ص: 384

إلى ألمرية، لمدى فرسخين إلى الداخل. ثم صدرت مراسم متعددة تحظر على الموريسكيين السفر على أبعاد معينة من الشواطىء، ولكن هذا التحوط لم يغن شيئاً واستمرت الغارات على حالها. وكان اللوم يلقى فى ذلك منذ البداية على الموريسكيين ولاسيما أهل بلنسية. وكان الموريسكيون كلما اشتدت عليهم وطأة الاضطهاد والمطاردة، اتجهوا إلى إخوانهم فى المغرب، يستصرخونهم للتدخل والانتقام. وكان المجاهدون المغاربة، يغيرون فى سفنهم على الشواطىء الإسبانية، ويخطفون النصارى الإسبان، ويجعلونهم رقيقاً يباع فى أسواق المغرب، وكان الموريسكيون يزودون الحملات المغيرة بالمعلومات الوثيقة، عن أحوال الشواطىء ومواضع الضعف فيها ويمدونها بالأقوات والمؤن. وكانت هذه الحملات تجهز فى أحيان كثيرة لنقل الموريسكيين الراغبين فى الهجرة، وقد استطاعت خلال القرن السادس عشر، أن تنقل منهم إلى الشواطىء الإفريقية جماعات كبيرة.

وقد ظهر منذ أوائل القرن السادس عشر فى الميدان، عنصر جديد أذكى موجة الغارات البحرية فى هذه المياه. ذلك أن البحارة الترك، وعلى رأسهم الأخوان الشهيران أوروج (عروج) وخير الدين (1)، اندفعوا من شرقى البحر المتوسط إلى غربيه، فى طلب المغامرة والكسب. وفى سنة 1517 سار أوروج فى قوة برية وبعض السفن إلى الجزائر واستولى عليها. ولما قتل فى العام التالى فى معركة نشبت بينه وبين الإسبان، استولى أخوه خير الدرين على الجزائر، ثم استولى على معظم الثغور المغربية الساحلية، وعينه السلطان سليم حاكماً على هذه الأنحاء، وأمده بالسفن والجند. وتألق نجم خير الدين من ذلك الحين، وأضحى اسمه يقرن بذكر أعظم أمراء البحر فى هذا العصر. وكان من معاونيه نخبة من أمهر الربابنة الترك، مثل طرغود الذى خلفه فى الرياسة فيما بعد، وصالح ريس، وسنان اليهودى، وإيدين ريس وغيرهم من المغامرين، الذين اشتهروا بالجرأة والبراعة. وبسط أولئك البحارة الترك سلطانهم على معظم جنبات البحر المتوسط، واشتهروا بغاراتهم على الشواطىء الإيطالية والإسبانية، والتف حولهم معظم المجاهدين والمغامرين من

(1) ويعرف كلاهما فى الرواية الأوربية "بارباروسا" أو ذو اللحية الحمراء وقد انتهى إلينا عن مغامرات هذين الأخوين الشهيرين وغاراتهما البحرية كتاب بالعربية منقول عن أصل تركى، نشر فى الجزائر سنة 1934 بعنوان "غزوات عروج وخير الدين". والظاهر أنه من تأليف راوية معاصر أو قريب من العصر

ص: 385

المغاربة والموريسكيين. وبدأ خير الدين غاراته فى المياه الإسبانية بمهاجمة الشواطىء الشرقية، وقطع خلال هذه الغارة ثلاثة أشهر عاث فيها فى البقاع الساحلية، وجمع فى سفنه كثيراً من الموريسكيين الراغبين فى الهجرة، وأسر كثيراً من الإسبان. وعرج أثناء عوده على جزيرة منورقة. وكان من أهم الغارات التى نظمها خير الدين على الشواطىء الإسبانية غارة وقعت فى سنة 1529، وذلك أن جماعة من الموريسكيين فى بلنسية فاوضوه لكى ينقلهم خلسة إلى عدوة المغرب، فأرسل عدة سفن بقيادة نائبيه إيدين ريس، وصالح ريس، إلى المياه الإسبانية، ورست السفن المغيرة ليلا عند أوليفا الواقعة شمال غربى دانية أمام مصب نهر "ألتيا"، ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تجمع من الأنحاء المجاورة نحو ستمائة من الموريسكيين الراغبين فة الهجرة، وهنا فاجأت السفن المغيرة عدة من السفن الإسبانية الكبيرة، وطاردتها حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار). ولكن سفن " القراصنة " انقلبت فجأة من الدفاع إلى الهجوم، وانقضت على السفن الإسبانية وأغرقت بعضها، وأسرت البعض الآخر، وسارت سالمة إلى الجزائر تحمل الموريسكيين الفارين، وعدداً من أكابر الإسبان أخذوا أسرى، ومعها عدة من السفن الإسبانية الفخمة. وكان صريخ الموريسكيين يتوالى إلى خير الدين وحلفائه من أمراء المغرب ولاسيما أيام الثورات المحلية التى تشتد فيها وطأة الإسبان على الأمة المغلوبة، ومن ثم فقد توالت بعوث خير الدين وغاراته على الشواطىء الإسبانية، وتتابعت الفرص لدى الموريسكيين، للفرار والهجرة رفق السفن المغيرة، حتى بلغ ما نقلته سفن خير الدين منهم إلى شواطىء المغرب نحو سبعين ألفا (1).

وكان سلطان خير الدين وزملائه البحارة الترك فى المياه المغربية عاملا فى تحطيم كثير من مشاريع اسبانيا البحرية فى المغرب. وكان الإسبان قد استولوا على ثغر وهران منذ سنة 1505، واحتلوا مياه تونس سنة 1535، بانضواء أميرها الحفصى المعزول تحت لوائهم، وكان كثير من أمراء الثغور والقواعد المغربية الذين يهدد الترك سلطانهم يتجهون بأبصارهم إلى الإسبان للاحتفاظ برياستهم. ولدينا

(1) راجع كتاب الأستاذ لاين بول The Barbary Corsairs فى الفصول الأول والثانى والثالث، حيثما يورد كثيراً من التفاصيل الشائقة، عن هذه الغارات البحرية، وعن مغامرات أوروج وخير الدين. وراجع كتاب " غزوات عروج وخير الدين " الذى سبقت الإشارة إليه ص 19 و 48 و 81 و 82

ص: 386

صورة: أمير البحر خير الدين

عن صورة بلاثكيث المحفوظة بمتحف البرادو بمدريد، وهى صورة رائعة بالحجم الطبيعى، وفيها يبدو خير الدين مرتدياً ثوباً طويلا أحمر، وعباءة بيضاء، وقلنسوة صغيرة حمراء، وله شارب طويل أشهب

ص: 387

صور من عدة وثائق موجهة من هؤلاء الأمراء إلى الإمبراطور شرلكان، يستنصرون به، ويقطعون العهد على أنفسهم بطاعته، والانضواء تحت حمايته، وهى تدلى بموضوعها وأسلوبها بما انتهت إليه الجبهة الإسلامية فى المغرب فى هذا العهد من التخاذل والتفرق المؤلم (1).

وفى سنة 1559 قام أمير البحر التركى طرغود، الذى خلف خير الدين فى الرياسة، بغارة كبيرة على الشواطىء الإسبانية، واستطاع أن يحمل معه ألفى وخمسمائة موريسكى؛ وفى سنة 1570، استطاعت السفن المغيرة أن تحمل معها جميع الموريسكيين فى بالميرا. وفى سنة 1584 سار أسطول من الجزائر إلى ثغر بلنسية وحمل ألفين وثلاثمائة. وفى العام التالى استطاعت السفن المغيرة أن تحمل جميع سكان مدينة كالوسا. وبلغت الغارات البحرية التى وقعت على الشواطىء الإسبانية بين سنتى 1528 و 1584 ثلاثاً وثلاثين. هذا عدا الغارات المحلية التى كانت تقوم بها سفن صغيرة لحمل جماعات من الموريسكيين المهاجرين. وقد وصف لنا الكاتب الإسبانى الكبير ثرفانتيس هذه الغارات البحرية المروعة فى صور مثيرة شائقة، ولا غرو فقد كان هو أيضاً من ضحاياها، إذ أسر فى الغارات التى وقعت سنة 1575، وحمل أسيراً إلى الجزائر، ولبث يوسف فى سنة بضعة أعوام حتى تم افتداؤه فى سنة 1580 (2).

وكان ممن عملوا فى الجهاد فى البحر فى ذلك الحين ضد الإسبان بعض أكابر الزعماء الموريسكيين المنفيين الذين غدوا من أثر الاضطهاد من ألد أعداء اسبانيا مثل الريس بلانكيو Blanquillo، والريس أحمد أبو على من أشونية، ومراد الكبير جواديانو من مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) وغيرهم. وقد أبلى هؤلاء

(1) حصلنا على مجموعة من هذه الوثائق من دار المحفوظات الإسبانية العامة Arch. gen. de Simancas ومنها وثيقة هى عبارة عن اتفاق معقود بين أبى عبد الله محمد الحسن سلطان تونس والإمبراطور شرلكان بتاريخ 12 صفر سنة 942 هـ (13 أغسطس سنة 1535) يتعهد فيه السلطان بتسليم مدينة بونه للإمبراطور شرلكان بشروط معينة ويحمل توقيعهما. وخطاب كتبه السلطان المذكور إلى الإمبراطور بتاريخ ذى الحجة سنة 942 (1535) يحدثه فيه عن شئون قصبة بونة. وخطاب من أبى عبد الله المتوكل أمير تلمسان إلى السلطانة الإنبرطريس (الإمبراطورة) دونيا إيزابيل (زوجة الإمبراطور شرلكان) مؤرخ فى سنة 939 هـ (1532)، وخطاب من أبى عبد الله محمد بن القاضى صاحب حصن كوكو بالمغرب الأوسط إلى الإمبراطور مؤرخ سنة 949 هـ (1542 م) يستحثه فيه لقتال الترك وإراحة الناس منهم

الخ.

(2)

Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain ; V. III. p. 363

ص: 388

الزعماء الموريسكيون فى البحر خير بلاء، وكانوا خير مرشد لإحكام الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، ومضاعفة عصفها وعيثها.

ووقعت فى سنة 1602 غارة كبيرة، قام بها بحار مغامر يدعى مراد الريس على مدينة لورقة الواقعة غرب قرطاجنة على مقربة من الشاطىء، وحمل عدداً من الأسرى؛ وكثرت الغارات فى الأعوام التالية على الشاطىء الجنوبى، وظهر فيما بعد أن منظمها بحار إنجليزى مغامر، يحشد فى سفنه نواتية من المغاربة، وكان يعيث فى الشواطىء ألأندلسية ويقتنص الأسرى النصارى، ويبيعهم عبيداً فى أسواق المغرب.

وكانت ثغور تونس فى ذلك الوقت نفسه، فى أيام حاكمها عثمان داى (سنة 1007 - 1019 هـ 1598 - 1610 م)، ملاذاً لطائفة قوية من البحارة المغامرين، كانت تتكرر غاراتهم على الشواطىء الإسبانية بلا انقطاع. وكان من أشهر أولئك البحارة المغامرين يومئذ، عمر محمد باى الذى اشتهر بجرأته وبراعته، وقد قام بعدة غارات جريئة على شواطىء اسبانيا الجنوبية، وكان فى كل مرة يعود مثقلا بالغنائم والسبى (1).

وهكذا لبثت الغارات البحرية عصراً، تزعج الحكومة الإسبانية، وقد زاد عددها واشتد عيثها، بالأخص منذ منتصف القرن السادس عشر؛ وكان هذا غريباً فى الواقع، إذ كانت اسبانيا يومئذ سيدة البحار، وكانت أساطيلها الضخمة، تجوب مياه الأطلنطيق حتى بحر الشمال وجزائر الهند الغربية، وتسيطر على مياه البحر المتوسط الغربية. بيد أنها لم تستطع أن تقمع هذه الغارات الصغيرة المفاجئة، التى كانت تقوم بها على الأغلب جماعات مجاهدة، من القراصنة المغاربة، فى سفن صغيرة، تدفعهم روح من المغامرة والاستبسال، وكان اللوم يلقى فى ذلك دائماً على الموريسكيين، ولاسيما سكان الثغور منهم، فهم الذين يمدون هذه الحملات المغيرة بالمعلومات، ويزودونها بالمؤن والعون، ويعينون لها موضع الرسو والإقلاع، وقد كانت تأتى على الأغلب لمعاونتهم على الفرار إلى ثغور المغرب، وقد كان الموريكسيون بالرغم من اضطهادهم، والتشدد فى مراقبتهم، على اتصال دائم بمسلمى إفريقية وأمراء المغرب جميعاً. لبثت هذه الغارات البحرية عصراً شغلا شاغلا للحكومة الإسبانية لا تجد سبيلا إلى قمعها أو التخلص من آثارها. وكان اقترانها خلال القرن السادس عشر بنضال

(1) كتاب المؤنس فى أخبار إفريقية وتونس ص 192

ص: 389

الموريسكيين، عنصراً بارزاً فى تنظيمها وتوجيهها، وكانت فكرة الانتقام للأمة الشهيدة، تجثم فى معظم الأحيان وراء هذه الغارات المخربة. ولما تم نفى الموريسكيين من الأراضى الإسبانية حسبما نفصل بعد، زادت هذه الفكرة وضوحاً واشتدت وطأة الغارات، بما انتظم فى صفوف المجاهدين من المنفيين، وغدت سلا بالأخص بمرفئها البديع، الذى تحميه الخلجان المحجوبة مركزاً لأولئك المجاهدين، ومنها توجه أقوى الحملات المغيرة على الشواطىء الإسبانية (1).

ولبث البحارة الترك عصراً، يتزعمون هذه الغارات البحرية، وجل اعتمادهم على النواتية المغامرين من المغاربة والموريسكيين؛ ثم أخذت هذه الغارات تفقد مغزاها القديم بمضى الزمن، وتنقلب إلى حملات ناهبة، تنظم على الشواطىء الإيطالية كما تنظم على الشواطىء الإسبانية، وترمى قبل كل شىء إلى تغذية أسواق المغرب والشرق الأدنى، بأسراب الرقيق. وكان يشترك مع البحارة الترك والمغاربة مغامرون من الإفرنج من سائر الأمم. وألفى الباشوات أو الدايات الترك، الذين بسطوا حكمهم منذ أواخر القرن السادس عشر على طرابلس وتونس والجزائر، فى هذه الحملات الناهبة، فرصة سانحة للغنم، فكانوا يمدون الرؤساء والزعماء بصنوف العون، عند الحط والإقلاع فى ثغورهم، وكان الرؤساء من جانبهم، يقدمون إلى خزينة الباشا أو الداى عشر الغنائم. واسترق بهذه الطريقة عشرات الألوف من النصارى، واستمرت هذه الغارات بعد ذلك زمناً طويلا (2).

وحدثت فى تلك الآونة التى اشتدت فيها الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، فى أوائل عهد فيليب الثالث، فى عدوة المغرب أحداث أخرى، زادت فى توجس السياسة الإسبانية، من مساعى الموريسكيين فى استعداء مسلمى إفريقية. وذلك أنه على أثر وفاة السلطان أحمد المنصور ملك المغرب فى سنة 1012 هـ (1603 م) اضطرمت الحرب الأهلية بين أبنائه الثلاثة، أبى عبد الله المأمون المعروف بالشيخ، وكان ولى عهده الذى اختاره للملك من بعده،

(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 617.

(2)

استمرت غارات القراصنة فى البحر المتوسط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت بعض الدول الأوربية تعمل على تشجيعها لمضايقة البعض الآخر، والإضرار بتجارتها. ومنذ القرن السابع عشر تعمل انجلترا وهولندة وفرنسا على مقاومة هذه الحملات البحرية الجريئة والقضاء عليها، وذلك بمهاجمة الشواطىء المغربية وتدمير ثغورها، ولاسيما تونس والجزائر. على أنها لم تنقطع نهائياً إلا بعد أن غزت فرنسا الجزائر واستولت عليها فى سنة 1830

ص: 390

وأبى فارس الملقب بالواثق بالله، ومولاى زيدان. وكان أعيان فاس وعلماؤها، قد بايعوا عقب وفاة المنصور، لولده زيدان، وبايع أهل مراكش لولده أبى فارس ولكن معركة نشبت بين زيدان وأخيه الشيخ، انتهت بهزيمة زيدان، واستيلاء الشيخ على فاس. ثم نشبت بعد ذلك بين الأبناء الثلاثة سلسلة من المعارك الأهلية المتوالية، كانت سجالا بينهم، وهزم خلالها مولاى زيدان غير مرة، ودخل العاصمة مراكش غير مرة. واستمرت هذه الحرب الأهلية، بضع سنوات (1012 - 1016 هـ)، وانتهت آخر الأمر، بانتصار مولاى زيدان واستيلائه على الملك، ومقتل أخيه أبى فارس، وفرار الشيخ فى أهله وولده. ولكن الشيخ لم يستكن للهزيمة، بل فكر فى الاستنصار بالإسبان، فعبر البحر مع أسرته وأمه الخيزران إلى اسبانيا، واستغاث بملكها فيليب الثالث، وتعهد بأن يقدم ثغر العرائش إلى اسبانيا نظير معاونته على استرداد عرشه. وكان ذلك فى أوائل سنة 1608 (1017 هـ)(1). وهنا أرسل الموريسكيون فى بلنسية، رسلهم إلى مولاى زيدان، يوضحون له سهولة غزو اسبانيا ومحاربتها، وأنهم على استعداد لأن يقدموا له مائتى ألف مقاتل، متى أقدم على الغزو واحتلال أحد الثغور الإسبانية الهامة؛ ولكن السلطان زيدان لم يحفل بهذا العرض، وأجاب الرسل بأنه لن يحارب خارج بلاده (2). واستجاب فيليب الثالث لدعوة الشيخ، وأرسل معه بعض قواته وسفنه إلى شاطىء المغرب، فنزل الشيخ وحلفاؤه الإسبان أولا فى حجر باديس، غربى مليلة وذلك فى رمضان سنة 1019 هـ (أوائل سنة 1610 م)، ثم انتقل فى صحبه إلى قصر عبد الكريم (القصر الكبير)، وبعث سرية من رجاله، فقامت بإخلاء العرائش من أهلها المسلمين قسرا، وبعد مقاومة عنيفة، وسلمتها إلى الإسبان، تحقيقاً لتعهد الشيخ. وحاول الشيخ أن يعتذر عن تصرفه بأن الإسبان، احتجزوا أهله وولده، وأنه فعل ذلك فى سبيل افتدائهم، واستصدر فتوى بشرعية تصرفه من بعض العلماء، ولكن ذلك لم يغنه شيئاً، واشتد السخط عليه، وانفض عنه كثير من أنصاره. ثم سار الشيخ فى قواته إلى تطاون (تيطوان)، وأخذ يعيث فسادا فى تلك المنطقة، ومازال فى

(1) كتاب نزهة الحادى بأخبار ملوك القرن الحادى لأبى عبد الله اليفرنى (طبع فاس) ص 162 - 167، وراجع الإستقصاء ج 3 ص 102.

(2)

Dr. Lea: The Moriscos ; p. 289-290

ص: 391

مغامراته حتى تصدى له بعض زعماء غمارة وقتلوه على مقربة من تطاون، وذلك فى رجب سنة 1022 هـ (1613 م)، وانتهى بذلك أمره، وتوطد بذلك مركز مولاى زيدان، وتمكن عرشه، وإن كان قد لبث بعد ذلك حيناً فى مقارعة الخوارج عليه من أبناء الشيخ وغيرهم (1). واستمر السلطان زيدان حتى وفاته فى سنة 1037 هـ (1627 م) أعنى بعد نفى الموريسكيين بنحو تسعة عشر عاماً، فى كفاح دائم مع اسبانيا. وحدث خلال هذا الكفاح ذات مرة فى سنة 1612 م، أن غنمت السفن الإسبانية فى مياه المغرب على شاطىء الأطلنطى فيما بين آسفى وأغادير، مركباً لمولاى زيدان شحنت بالتحف، وبها ثلاث آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة (2)، وكان مولاى زيدان قد غادر مراكش تحت ضغط الحوادث، وركب البحر ملتجئاً إلى الجنوب وحمل معه مكتبته الثمينة وتحفه، فانتهبها الإسبان على هذا النحو، وحملت هذه الكتب إلى اسبانيا، وضمت فيما بعد إلى مجموعة الكتب الأندلسية بقصر الإسكوريال.

(1) نزهة الحادى بأخبار ملوك القرن الحادى ص 168 و 169. وراجع الاستقصاء ج 3 ص 106.

(2)

الإستقصاء ج 3 ص 130

ص: 392