الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لدعوتهم، واتخاذهم غرناطة قاعدة لجنودهم. وكادت تنشب من جراء ذلك حرب بين المسلمين والنصارى، لولا تدخل فيولا ملكة قشتالة، واسترضائها للخوارج بمختلف المنح. ولابد لنا أن نذكر هنا أن ألفونسو العاشر ملك قشتالة هذا، هو ألفونسو العالم أو الحكيم El Sabio، وكانت له صلات وثيقة بعلماء الأندلس، ومنهم تلقى الكثير وتأثر بمناهجهم فى التفكير والدرس. وقد وضع ألفونسو جداوله الفلكية الشهيرة المسماة بالجداول "الألفونسية"، على يد جماعة من العلماء المسلمين واليهود
صورة: الملك ألفونسو العالم
والنصارى، كما وضع تاريخاً عنوانه Cronica General de Espana " تاريخ اسبانيا العام" وقد اعتمد فيه على مصادر عربية كثيرة. ومع أنه لا يخلو من كثير من الأساطير والروايات المغرقة، فإنه يعتبر من أهم مصادر التاريخ الإسبانى فى العصور الوسطى. وكان ألفونسو العاشر يحب جيرانه المسلمين، ويقدر علمهم ورفيع ثقافتهم، وكان هذا من أسباب السخط عليه فى مملكته. وكان من جراء اشتغاله بالعلوم والآداب، فى عصر لا تنهض الممالك فيه إلا بالحرب والسياسة، أن اضطربت شئون المملكة.
وفى سنة 1282 م (أوائل 681 هـ) ثار عليه ولده سانشو وآزره معظم النبلاء، واستطاع أن ينتزع العرش لنفسه. فاتجه أبوه الملك المخلوع إلى السلطان أبى يوسف المنصور، وأرسل إليه بالمغرب وفدا من الأحبار يستمد منه الغوث والعون ضد ولده. فاستجاب السلطان لصريخه، وعبر البحر فى قواته إلى الأندلس فى ربيع الثانى سنة 681 هـ، وهرع ألفونسو إلى لقائه بمحلته بالجزيرة على مقربة من رندة، مستجيراً به، ملتمساً لنصرته، وقدم إليه تاجه رهنا لمعونته. فأمده السلطان بمائة ألف من الذهب، ليستعين بها على حشد الجند. قال ابن خلدون، وقد رأى هذا التاج ببلاط بنى مرين أيام أن كان فى خدمتهم:"وبقى بيدهم فخراً للأعقاب لهذا العهد"(1). وغزا أبو يوسف أراضى قشتالة وحاصر قرطبة، ثم زحف على طليطلة، وعاث فى نواحيها، ووصل فى زحفه إلى حصن مجريط (2). وتحاشى ابن الأحمر فى البداية لقاء السلطان لفتور العلائق بينهما، ولتوجسه من محالفته لألفونسو، ورأى من جانبه أن يتفاهم مع سانشو ملك قشتالة الجديد، وزحف على المنكَّب وهى من الثغور التى تحتلها قوات المغرب، فغضب السلطان وارتد لقتاله. وكادت تنشب بين الملكين المسلمين فتنة مستطيرة، لولا أن خشى ابن الأحمر العاقبة، وعاد إلى التفاهم مع المنصور، وصفا الجو بينهما نوعا. وعاث المنصور فى أراضى قشتالة مرة أخرى، وغص جيشه بالسبى والغنائم، ثم عاد إلى المغرب بعد أن ولّى على الجزيرة حاكما من قبله.
واستمرت الحرب الأهلية أثناء ذلك فى قشتالة بين الإبن والأب، ولبث هذا النضال الدموى زهاء عامين، حتى توفى ألفونسو العاشر طريداً مهزوما فى سنة 1284 م (683 هـ)، فكان لوفاته وقع عميق فى غرناطة والمغرب، وأرسل كل من الملكين المسلمين عزاءه فى الملك العالم المنكود إلى بلاط قشتالة. وكان موقف المملكتين الإسلاميتين غريباً إزاء حوادث قشتالة، إذ كان ملك المغرب يؤازر الملك المخلوع، وكان ملك غرناطة بالرغم من عطفه على ألفونسو العاشر، يؤازر ولده الخارج عليه. والحقيقة أن ابن الأحمر كان يشهد تقاطر الجيوش البربرية إلى
(1) ابن خلدون ج 7 ص 205؛ والإحاطة ج 1 ص 572؛ واللمحة البدرية ص 43؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 61.
(2)
كانت محلة مجريط الإسلامية الحصينة تشغل موقعاً يقع بجوار موقع العاصمة الإسبانية الحديثة مدريد.
الجزيرة الخضراء بعين الجزع، ويتوجس شراً من وجودهم بها، وقد كانوا يحتلون معاقلها وثغورها، ويظاهرون الخوارج عليه فى مالقة والمنكب وغيرهما من القواعد الجنوبية، وكان يتوقع أسوأ العواقب من تدخل ملك المغرب فى شئون الأندلس على هذا النحو، وكان مثل المرابطين ومأساة الطوائف عبرة خالدة. تساوره دائماً، وتذكى جزعه. على أن موت ألفونسو العاشر، وانتهاء الحرب الأهلية فى قشتالة، خفف من هذا التوتر بين المملكتين. وكان ابن الأحمر يذكر فى الوقت نفسه، غدر ملك قشتالة، وخطر النصارى على مملكته، فيجنح بعد التأمل إلى إيثار التفاهم مع ملك المسلمين.
وفى صفر سنة 684 هـ (1285 م) عبر السلطان المنصور إلى الأندلس للمرة الرابعة، وزحف على أراضى النصارى، وغزا مدينة شَريش؛ وسار ولده أبو يعقوب إلى أحواز إشبيلية فعاث فيها. ثم زحف المنصور على قرمونة والوادى الكبير، وخرب جنده بسائط إشبيلية ولبلة وإستجة والفرنتيره. وسُرّ ابن الأحمر لاجتياح أراضى قشتالة على هذا النحو، وبعث إلى السلطان مددا من غرناطة، وجاءت الأساطيل المغربية، فطاردت أساطيل العدو فى مياه المضيق واحتلته، ورأى سانشو ملك قشتالة تفاقم الأمر وعقم المقاومة، فجنح إلى طلب السلم، وبعث إلى السلطان وفداً من الأحبار يطلب الصلح، ويفوض السلطان فى اشتراط ما يراه، فاستجاب السلطان لرغبتهم، واشترط عليهم مسالمة المسلمين كافة، وأن يمتنع النصارى عن كل اعتداء على الأندلس، وعلى أراضى المسلمين ومرافقهم، وأن ترفع الضريبة عن التجار المسلمين بدار الحرب (بلاد الأعداء)، وأن تنبذ قشتالة سياسة الدس بين الأمراء المسلمين، فقبل النصارى جميع الشروط المطلوبة، وتعهدوا بتنفيذها. وقدم سانشو بنفسه إلى معسكر السلطان، فاستقبله المنصور بحفاوة، وقدم إليه طائفة من الهدايا، وتعهد سانشو بتحقيق شروط الصلح كاملة.
وسأله السلطان أن يرسل إليه قدراً من الكتب العربية، التى استولى عليها النصارى من القواعد الأندلسية، فأرسل إليه "ثلاثة عشر حملا" منها، وأرسلها السلطان إلى فاس، فكانت نواة المكتبة السلطانية. واتخذ المنصور أهباته الأخيرة نحو شئون الأندلس، وندب ابنه الأمير أبا زيان للنظر على الثغور الأندلسية، وأوصاه بألا يتدخل فى شئون ابن الأحمر. وكان من آثار التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور، أن أفسح ابن الأحمر لقرابة السلطان من بنى مرين النازحين إلى الأندلس مجال
السلطان والنفوذ فى بلاطه. وكان عدة من هؤلاء من خاصة الفرسان ومشاهير الغزاة، فأسند ابن الأحمر إليهم رياسة الجند فى منصب عرف فى الخطط الغرناطية "بمشيخة الغزاة"، ويحتله بالأخص رئيس من بنى العلاء المرينيين يسمى "شيخ الغزاة"، وتولى بنو العلاء قيادة الجيوش الأندلسية عصراً، وكانت لهم فى ميدان الحرب والجهاد مواقف مشكورة (1).
ولابد لنا أن نذكر كلمة عن أصل مشيخة الغزاة هذه، التى لبثت عصراً أهم المناصب العسكرية فى مملكة غرناطة، ولبثت فى الوقت نفسه دهراً وقفاً على القادة من بنى مرين. وذلك أنه لما اتجه بنو الأحمر إلى الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر، ملوك بنى مرين، جريا على سنة الأندلس القديمة منذ عهد المرابطين، استجاب لندائهم عاهل بنى مرين السلطان أبو يوسف بن عبد الحق، وعبرت إلى الأندلس النجدات المرينية الأولى بقيادة أبى معرف محمد بن إدريس بن عبد الحق وأخيه عامر، وهما من خاصة قرابة السلطان، وانتزعت مدينة شريش من النصارى، وذلك حسبما تقدم ذكره. وكان السلطان أبو يوسف يخشى من انتقاض فريق من القرابة وأبناء العمومة، تجديداً للخصومة القديمة بين فرعى بنى مرين الملكيين، وهما بنو عسكر وبنو حمامة، فلم يجد خيراً من إرسال من يخشى بأسهم من هؤلاء إلى الأندلس باسم الجهاد، وكان ابن الأحمر يستقبلهم بترحاب ومودة، فاجتمع لديه عدة من أولاد بنى عبد الحق؛ وكان ابن الأحمر يستقبلهم بترحاب ومودة، فاجتمع المجاهدين من زناتة، وبنى مرين. وكان أول من عقد له القيادة منهم، موسى ابن رحُّو، ثم عقد لأخيه عبد الحق، ثم لغيرهما من القرابة (2) وكان أول من استعملهم لقيادة الغزاة على هذا النحو السلطان محمد بن الأحمر الملقب بالفقيه. تم توالى عبور هؤلاء القادة إلى الأندلس. وكان معظمهم من قرابة السلطان والخارجين عليه. وكان فى مقدمة من نزح إلى شبه الجزيرة، أبو العلاء ورحُّو ابنا عبد الحق، وأولاد أبى يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن عبد الحق. واستقروا جميعاً بالأندلس فى كنف سلطان غرناطة، وكانوا يرجعون فى رياستهم إلى كبيرهم عبد الله بن أبى العلاء. وعقد له ابن الأحمر محمد الفقيه على جند زناتة إلى أن هلك فى إحدى الغزوات ضد النصارى وذلك فى سنة 693 هـ، ثم عقد ابن الأحمر،
(1) ابن خلدون ج 7 ص 209 و 210؛ ونفح الطيب ج 2 ص 639.
(2)
ابن خلدون فى كتاب العبر ج 7 ص 367 و 368.
السلطان أبو عبد الله المخلوع، القيادة لأخيه عثمان بن أبى العلاء على حامية مالقة وغربيها، وكانت لنظر الرئيس أبى سعيد فرج بن إسماعيل. فلبث فى منصبه إلى أن وقع الخلاف بين سلطان غرناطة وسلطان المغرب أبى يوسف المرينى، وقام عثمان بن أبى العلاء فى ذلك بدور كبير، سوف نأتى على تفاصيله فى موضعه (1).
وقفل السلطان المنصور راجعاً إلى الجزيرة ليستجم ثم يعود إلى المغرب، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى أدركه المرض، وتوفى بالجزيرة فى المحرم سنة 685 هـ (مارس سنة 1285 م)، بعد حياة حافلة بصنوف الجهاد المستمر، سواء بالمغرب أو الأندلس.
وكان السلطان أبو يوسف المنصور من أعظم ملوك المغرب قاطبة، وكان يعيد بشغفه بالجهاد، ووفرة جيوشه وأهبته الحربية، ذكرى أسلافه العظام، من أمثال يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن، ويعقوب المنصور. وقد وصفه مؤرخ معاصر فيما يلى:"أبيض اللون، تام القد، معتدل الجسم، حسن الوجه، واسع المنكبين، كامل اللحية، معتدلها، أشيب، كأن لحيته من بياضها قطعة ثلج، سمح الوجه، كريم اللقاء، شديد الصفح، كثير العفو، حليما، متواضعا شفيعاً كريماً، سمحاً، جواداً، مظفراً، منصور الراية"(2).
…
فخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب، وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس خبيراً بها. واستمرت علائق بلاط غرناطة وبنى مرين أعواماً أخرى على حالها من المودة والصفاء، وزادت توطيداً حينما قبل سلطان المغرب، أن ينزل لابن الأحمر طوعاً عن وادى آش. وذلك أن محمداً الفقيه كان قد عين صهره أبا إسحاق ابن أبى الحسن بن أشقيلولة حاكماً على قُمارش ووادى آش، فلما توفى أبو إسحاق سنة 682 هـ استرد ابن الأحمر قمارش، وخرج عليه أبو الحسن ولد أبى إسحاق فى وادى آش، وتحالف أولا مع قشتالة، فلما عقد السلم بين المسلمين والنصارى، أعلن أبو الحسن انضواءه تحت لواء ملك المغرب، وأغضى ابن الأحمر حيناً عن تصرفه. فلما اتصلت وشائج المودة من جديد، بينه وبين السلطان أبى يعقوب، سأله التنازل عن وادى آش، فأجابه إلى سؤله، ورحل عنها الثائر أبو الحسن إلى المغرب
(1) كتاب العبر ج 7 ص 370 - 372.
(2)
نقلنا هذا الوصف من المخطوط المعنون: "الياقوتة الحلية " الذى سبقت الإشارة إليه.
ملتجئاً إلى بلاط فاس. وبذا استطاع ابن الأحمر أن يبسط سلطانه على الأندلس كلها (1).
وفى أوائل سنة 690 هـ (1291 م) أغار سانشو ملك قشتالة على الثغور الأندلسية ناكثاً لعهده، فأرسل السلطان أبو يعقوب إلى قائده على الثغور أن يغزو شريش وأرض النصارى، فزحف عليها وعاث فيها. وأعلن أبو يعقوب الجهاد، وتقاطرت بعوث المجاهدين إلى الأندلس، فبعث سانشو أسطوله إلى مياه المضيق ليحول دون وصول الأمداد، فبعث السلطان أسطوله لمهاجمة السفن القشتالية، ونشبت بين المسلمين والنصارى معركة بحرية هزم فيها المسلمون (أغسطس سنة 1291 م). ولكن هذه الهزيمة لم تثن ملك المغرب عن عزمه، فبعث أسطولا آخر لمقاتلة النصارى، وانسحب النصارى هذه المرة. وعبر السل طان أبو يعقوب إلى الأندلس فى قواته فى رمضان سنة 690 هـ، واقتحم أرض النصارى، وغزا شَريش ووصل فى زحفه حتى أحواز إشبيلية وعاث فيها، ثم عاد إلى الجزيرة، وارتد عائداً إلى المغرب فى أوائل سنة 691 هـ.
وتوجس ملك قشتالة من مشاريع سلطان المغرب، فسعى إلى محالفة ابن الأحمر وحذره من نيات المغاربة، واستيلائهم على الثغور الأندلسية، ولاسيما ثغر طريف مدخل الجزيرة، وتفاهم الملكان على انتزاع هذا الثغر من المغاربة، واشترط ابن الأحمر أن تسلم إليه طريف عقب انتزاعها. وسير سانشو أسطوله إلى مياه المضيق ليحاصر طريف من ناحية البحر، وليحول دون وصول الأمداد إليها. وعسكر ابن الأحمر فى قواته بمالقة على مقربة منها، يعاون النصارى بالأمداد والمؤن، وصمدت حامية طريف أربعة أشهر، ولكنها اضطرت فى النهاية إلى التسليم للنصارى (سبتمبر سنة 1292 م). وهنا طالب ابن الأحمر سانشو بتسليمها فأبى وأعرض عنه، مع أنه نزل له مقابلها عن عدد من الحصون الهامة؛ فأدرك ملك غرناطة عندئذ خطأه فى الركون إلى وعود ملك قشتالة، وفى مغاضبة ملك المغرب حليفه الطبيعى، وسنده المخلص فى رد عدوان النصارى.
وعاد ابن الأحمر يخطب ود بنى مرين مرة أخرى، وأوفد ابن عمه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل ووزيره أبا سلطان عزيز الدانى على رأس وفد من كبراء الأندلس، إلى السلطان أبى يعقوب فى طلب المودة، وتجديد العهد، والاعتذار عن مسلكه فى شأن طريف، فأكرم السلطان وفادتهم، وأجابهم إلى طلب الصلح،
(1) ابن خلدون ج 7 ص 212 و 213.
ولما عاد الوفد إلى غرناطة، سُر ابن الأحمر من كرم السلطان ونبل مسلكه، واعتزم الرحلة للقائه بنفسه، وتأكيد المودة والاعتذار، فعبر البحر إلى العدوة فى أواخر سنة 692 هـ (1292 م) ومعه طائفة من الهدايا الفخمة، ونزل بطنجة حيث استقبله بعض أبناء السلطان، ثم جاء السلطان بنفسه إلى طنجة، وتلقاه بمنتهى الإكرام والحفاوة، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة وأراضى الغربية، وعدة من الحصون كانت من قبل فى طاعة ملك المغرب. وعاد ابن الأحمر مغتبطاً بنجاح مهمته؛ وأرسل السلطان معه حملة لغزو طريف بقيادة وزيره عمر بن السعود، فحاصرتها حيناً ولكنها لم تظفر بافتتاحها (1).
وكان لمحمد الفقيه، بالرغم من سمته العلمية، وقائع طيبة فى ميدان الجهاد ضد النصارى. ففى المحرم سنة 695 هـ (أواخر 1295 م) على أثر وفاة سانشو ملك قشتالة، زحف جيشه على أراضى قشتالة، وغزا منطقة جيَّان، ونازل مدينة قيجاطة (2) واستولى عليها، وعلى عدة من الحصون التابعة لها، وأسكن بها المسلمين. وفى صيف سنة 699 هـ (1299 م)، غزا أراضى قشتالة مرة أخرى، وزحف على مدينة القبذاق الواقعة جنوب غربى جيان، ودخل قصبتها وتملكها، وأسكن بها المسلمين (3).
واستمر محمد بن محمد بن الأحمر أو محمد الفقيه فى حكم غرناطة أعواماً أخرى، وهو ثابت العهد مقيم على صداقة بنى مرين. ومما هو جدير بالذكر أنه قبيل وفاته بقليل عقد معاهدة صلح وتحالف مع ملك أراجون خايمى الثانى ضد قشتالة، وذلك تجديداً وتعديلا لمعاهدة صلح سابقة عقدت بينهما فى سنة 695 هـ (1299 م). وقد نص فى هذه المعاهدة الجديدة على عقد "صلح ثابت وصحبة صادقة" وأن يلتزم كل من الفريقين عدم الإضرار بالآخر على يد أحد من رعاياه، وأن تكون أراجون معادية لأعداء غرناطة سواء من المسلمين أو قشتالة، وأن يفتح بلد كل من الفريقين لمن يقصده من تجار البلد الآخر مؤمنين فى أنفسهم وأموالهم، وأخيراً يتعهد ملك غرناطة بمعاونة أراجون ضد ملك قشتالة، وألا يعقد معه صلحاً إلا
(1) ابن خلدون ج 7 ص 217.
(2)
مدينة قيجاطة هى بالإسبانية Queaja وتقع شمال شرقى مدينة جيان، وجنوب شرقى مدينة أبدة. والقبذاق هى بالإسبانية Alcaudete.
(3)
الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 569.
صورة وثيقة التحالف والصلح المعقودة بين محمد بن الأحمر (محمد الثانى) ملك غرناطة وخايمى الثانى ملك أراجون فى ربيع الثانى سنة 701 هـ (ديسمبر 1301) ومحفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 148.
بموافقة حليفه، ويتعهد ملك أراجون لسلطان غرناطة بمثل ما تقدم، كما يتعهد السلطان بمعاونة حليفه بفرسان من عنده فى أرض مرسية إذا احتاج إلى هذا العون، وألا يعترض سلطان غرناطة على ما يأخذه ملك أراجون من أراضى قشتالة، إلا المواضع التى كانت لغرناطة، فهذه ترد إليها. وقد وقعت هذه المعاهدة فى آخر ربيع الثانى سنة 701 هـ (31 ديسمبر سنة 1301 م)(1)؛ ولم يمض على عقدها بضعة أشهر حتى توفى السلطان فى شعبان سنة 701 هـ (مايو سنة 1302 م) بعد أن حكم أكثر من ثلاثين عاماً، وقد زاد ملك بنى الأحمر فى عهده توطداً واستقراراً، بالرغم مما توالى فيه من الأحداث الخطوب. وكان وزيره فى أواخر عهده الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم اللخمى وهو من مشايخ رندة، وكان من قبل من كتابه فى ديوان الإنشاء، وكان رجلا وافر العزم قوى الشكيمة، ولقب بذى الوزارتين لجمعه بين الكتابة والوزارة، وكان لحزمه وقوة نفسه أكبر أثر فى استقرار الأمور فى هذا العهد (2).
- 2 -
وخلف محمداً الفقيه ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع، وكان ضريراً، وكان ذا نباهة وعزم، عالماً شاعراً يؤثر مجالس العلماء والشعراء، ويصغى إليهم ويجزل صلاتهم، محباً للإصلاح والإنشاء. وكان بين منشآته المسجد الأعظم بالحمراء، فهو الذى أمر ببنائه على أبدع طراز، وزوده بالعمد والنقوش والثريات الفخمة؛ ولكنه لم يحسن تدبير شئون الملك والسياسة، وغلب عليه كاتبه ووزيره ووزير أبيه من قبل أبو عبد الله محمد بن الحكيم اللخمى، فاستبد بالأمر دونه وحجر عليه، فاضطربت الأمور، وأخذت عوامل الانتقاض تجتمع وتبدو فى الأفق.
وفى عهده القصير، اضطربت علائق مملكة غرناطة وبنى مرين مرة أخرى. والواقع أنه حاول فى بداية عهده، أن يعمل على إحكام المودة بينه وبين بنى مرين،
(1) حصلنا على صور فتوغرافية لأصل هذه الوثيقة وسائر الوثائق الأخرى التى تتضمن معاهدات أو مراسلات تبودلت بين ملوك غرناطة وملوك أراجون من دار المحفوظات ببرشلونة المسماة "محفوظات التاج الأرجونى" Archivo de la Corana de Aragon، وتحفظ هذه الوثيقة بها برقم 148. ومن جهة أخرى فقد نشر نصها فى مجموعة الوثائق الدبلوماسية التى أصدرها: Alarcon و R. O. de Linares بعنوان: Los Documentos Arabes diplomaticos del Archivo de la Corona de Aragon (No. 3) .
(2)
يترجم له ابن الخطيب بإفاضة فى الإحاطة ج 2 ص 278 وما بعدها (طبعة قديمة).
فأرسل وزير أبيه أبا سلطان عزيز الدانى ووزيره ابن الحكيم إلى سلطان المغرب، ليجددا عهد المودة والصداقة، فوفدا عليه وهو بمعسكره محاصراً لتلمسان، فأكرم وفادتهما وطلب إليهما إمداده ببعض جند الأندلس الخبراء فى منازلة الحصون، فأرسلت إليه قوة منهم أدت مهمتها أحسن أداء. ولاح أن أواصر المودة أضحت أشد ما يكون توثقاً بين الفريقين، ولكن ابن الأحمر عرض له فجأة أن يعدل عن محالفة سلطان المغرب، وأن يعود إلى محالفة ملك قشتالة، فغضب السلطان أيو يعقوب لذلك، ورد جند الأندلس (703 هـ). وبدأ ابن الأحمر أعمال العدوان، بأن أوعز إلى عمه وصهره الرئيس أبى سعيد فرج بن إسماعيل صاحب مالقة، أن يحرض أهل سبتة فى الضفة الأخرى من البحر، على خلع طاعة السلطان، واستعد ابن الأحمر فى الوقت نفسه لمحاربة السلطان، إذا عنَّ له أن يعبر إلى الأندلس، وجهز الرئيس أبو سعيد حملة بحرية فى مياه مالقة بحجة مدافعة النصارى، ثم سيرها فجأة إلى المغرب، وذلك فى شوال سنة 705 هـ (1306 م). وكانت الحملة بقيادة عثمان بن أبى العلاء المرينى. فاستولت على سبتة، وجاء الرئيس أبو سعيد فاستبد بأمرها، وأعلن انضواءها تحت لواء ابن الأحمر، وقبض على ابن العزفى حاكمها من قبل السلطان وآله، وأرسل إلى غرناطة. ووقف السلطان أبو يعقوب على هذه الحوادث وهو تحت أسوار تلمسان، فوجد لذلك الغدر، وبعث حملة بقيادة ولده أبى سالم إلى سبتة فحاصرها حيناً، ولكنه أخفق فى الاستيلاء عليها وارتد أدراجه، وخرج فى إثره عثمان بن أبى العلاء فى جند الأندلس، وعاث فى أحواز سبتة وما جاورها (سنة 706 هـ).
وكان لتطور الحوادث على هذا النحو أسوأ وقع فى نفس السلطان أبى يعقوب، فاعتزم أن يسير بنفسه إلى استرداد سبتة، ولكن حدث بينما كان يجد فى الأهبة أن اغتاله كبير الخصيان، فى مؤامرة دبرها الخصيان للتخلص منه خوفاً من أن يبطش بهم، فتوفى قتيلا فى ذى القعدة سنة 706 هـ (أبريل سنة 1307 م)؛ ونشبت عقب مصرع السلطان حرب أهلية حول العرش بين ولديه أبى ثابت وأبى سالم، هزم فيها أبو سالم وقتل، واستقر أبو ثابت على العرش.
وفى ذلك الحين كانه عثمان بن أبى العلاء المرينى، يتوغل بجنده فى شمال المغرب، وكان هذا الجندى الجرىء يتجه بأطماعه نحو عرش المغرب، ويعتمد فى تحقيق مشروعه على أنه سليل بنى مرين. ولما توغل بجنده جنوبا، دعا لنفسه بالملك
واستولى على بعض الحصون، وأيدته بعض القبائل، وهزم عساكر السلطان أبى يعقوب حينما تصدت لوقفه وانتهز فرصة مصرع السلطان ونشوب الحرب الأهلية بين ولديه، فزاد إقداما وتوغلا واستفحل أمره، ولاح الخطر يهدد ملك بنى مرين.
وما كاد السلطان أبو ثابت يستقر فى عرش أبيه، حتى اعتزم أمره للقضاء على تلك الحركة الخطيرة، واسترداد سبتة، فسار إلى الشمال على رأس جيش ضخم فى شهر ذى الحجة سنة 707 هـ، ولما شعر عثمان بن أبى العلاء بوفرة قوته وأهبته، بادر بالفرار مع جنده خشية لقائه، وزحف السلطان على الحصون الخارجة عليه فأثخن فيها واستولى عليها، ثم سار إلى طنجة؛ وامتنع عثمان بن أبى العلاء بقواته فى سبتة، فسار إليها السلطان وضرب حولها الحصار الصارم، وأمر ببناء بلدة تيطاوين (تطوان) لنزول عسكره، ولكنه مرض أثناء ذلك وتوفى فى صفر سنة 708 هـ (يوليه سنة 1308 م)(1).
فخلفه فى الملك أخوه السلطان سليمان أبو الربيع، وارتد بالجيش إلى فاس تاركا سبتة لمصيرها. فخرج فى أثره عثمان بن أبى العلاء فى قواته، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها عثمان، وقتل من الأندلسيين عدد جم، وخشى عثمان العاقبة فعاد مع آله إلى الأندلس ولحق بغرناطة، وتابع السلطان أبو الربيع سيره إلى فاس واستقام له الأمر.
ولم تمض على ذلك أشهر قلائل حتى وقعت بالأندلس حوادث هامة. ذلك أن عوامل الإنتقاض التى لبثت بضعة أعوام تعمل عملها فى ظل محمد المخلوع، تمخضت فى النهاية عن نشوب الثورة. وكان مدبرها ومثير ضرامها أخوه أبو الجيوش نصر بن محمد الفقيه، ومن ورائه رهط من أكابر الدولة، سئموا نظام الطغيان الذى فرضه محمد المخلوع ووزيره ابن الحكيم. واضطرمت الثورة فى يوم عيد الفطر سنة 708 هـ (أوائل سنة 1309 م). ووثب الخوارج بالوزير ابن الحكيم فقتلوه، واعتقلوا السلطان محمداً، وأرغموه على التنازل عن العرش. وتربع أخوه نصر مكانه فى الملك، ونفى السلطان المخلوع إلى حصن المنكَّب، حيث قضى خمسة أعوام فى أصفاد الأسر، ثم أعيد بعد ذلك مريضاً إلى غرناطة حيث توفى فى سنة 713 هـ (2).
ووقف سلطان المغرب على حوادث الأندلس؛ وبلغه أن أهل سبتة قد سئموا
(1) ابن خلدون ج 7 ص 237.
(2)
الإحاطة ج 1 ص 552 - 564، واللمحة البدرية ص 48 - 54.
نير الأندلسيين، فبعث إليها حملة بقيادة تاشفين بن يعقوب، فلما وصلت إليها ثار أهل البلد، وطردوا منها جند ابن الأحمر وعماله، ودخلتها فى الحال جند المغرب واستولوا عليها، وذلك فى شهر صفر سنة 709 هـ (يوليه 1309 م).
واغتبط السلطان لانتهاء هذه المغامرة التى شغلت بنى مرين بضعة أعوام.
وكان سلطان غرناطة الجديد يوم جلوسه فتى فى الثالثة والعشرين من عمره، وكان ولوعاً بالأبهة والمظاهر الملوكية. وكان فى الوقت نفسه أديباً عالماً بارعاً فى الرياضة والفلك، وقد وضع جداول فلكية قيمة. ولكنه لم يحسن السيرة، ولم يوفق فى تدبير الأمور. وسرعان ما سخط عليه الشعب كما سخط على أخيه من قبل. فاضطربت الأحوال، وتوالت الأزمات، وكانت حوادث سبتة نذيراً بتفاقم التوتر بين بلاط غرناطة وبلاط فاس. ومن جهة أخرى فقد ساءت العلائق بين غرناطة وقشتالة، وانتهز القشتاليون كعادتهم فرصة اضطراب الأحوال فى غرناطة، فغزوا أرض المسلمين فى أوائل سنة 709 هـ (1309 م)، ووضع فرناندو الرابع ملك قشتالة مشروعا جريئاً للاستيلاء على جبل طارق. وكانت الأمداد المغربية قد انقطعت منذ استولى النصارى على طريف، وشغل بنو مرين بالحوادث، والثورات الداخلية، وساءت علائقهم ببنى الأحمر. ورأى فرناندو الرابع أن الفرصة سانحة ليضرب ضربته المفاجئة، فغزا الجزيرة الخضراء، وبعث أسطوله لحصار جبل طارق من البحر، وأوعز فى الوقت نفسه إلى خايمى ملك أراجون أن يحاصر ثغر ألمرية لكى يشغل قوات الأندلس فاستجاب لتحريضه، وذلك بالرغم من معاهدة التحالف والصداقة التى كانت تربطه بسلطان غرناطة. وبدأ حصار ألمرية وجبل طارق فى وقت واحد فى أوائل سنة 709 هـ، وبذل النصارى للاستيلاء على ألمرية جهوداً فادحة، ونصبوا على أسوارها الآلات الضخمة، وحفروا فى أسفل السور نفقاً واسعاً لدخولها، فلقيهم المسلمون تحت الأرض وردوهم بخسارة فادحة؛ ونشبت على مقربة من ألمرية معركة بين جند الأندلس بقيادة عثمان بن أبى العلاء وجند أراجون، فهزم النصارى واضطروا إلى رفع الحصار، ونجت ألمرية من خطر السقوط (1). ولكن ثغر جبل طارق كان أسوأ طالعا. فقد شدد النصارى حوله الحصار من البر والبحر، وبالرغم من هزيمتهم أمام المسلمين على مقربة من جبل طارق، فقد لبثوا على حصاره بضعة أشهر حتى
(1) ابن خلدون ج 7 ص 240؛ واللمحة البدرية ص 62.
أضنى الحصار المسلمين وأرغموا على التسليم. وسقط الثغر المنيع فى يد النصارى فى أواخر سنة 709 هـ (مارس سنة 1310 م) فكان لسقوطه وقع عميق فى الأندلس والمغرب معا؛ فقد كان باب الأندلس من الجنوب، وكان صلة الوصل المباشر بين المملكتين الإسلاميتين.
وأدرك ابن الأحمر على أثر هذه النكبة، فداحة الخطأ الذى ارتكبه بمجافاة بنى مرين، فبادر بإرسال رسله إلى السلطان أبى الربيع يبدى أسفه على ما سلف، ويسأله الصفح والصلح؛ فأجابه السلطان إلى طلبه، ونزل ابن الأحمر للسلطان عن الجزيرة ورندة وحصونها ترضية له وترغيباً فى الجهاد، واقترن بأخت السلطان توثيقاً لوشائج المودة، وأرسل السلطان إليه المدد والأموال، وعادت علائق التفاهم والتحالف بين غرناطة وفاس إلى سابق عهدها.
على أن هذا التحسن فى علائق المملكتين الإسلاميتين، لم يثن النصارى عن مشاريعهم تجاه غرناطة. ذلك أن الجيوش المغربية لم تعد تعبر إلى الجزيرة بكثرة. وكانت أحوال المغرب تعوق بنى مرين عن استئناف الجهاد فى الأندلس على نطاق واسع، وكانت أحوال غرناطة، من جهة أخرى تشجع النصارى على التحرش بها والإغارة على أراضيها. ولما رأى السلطان نصر تفاقم الأمور واشتداد بأس النصارى، لم ير وسيلة لاجتناب الخطر الذى يهدده سوى مصانعة فرناندو الرابع ملك قشتالة والتعهد له بأداء الجزية. وكان ذلك مما زاد فى سوء سيرته وفى سخط الشعب عليه. ولم تلبث أعراض الثورة أن ظهرت فى الجنوب حيث أعلن الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل النصرى صاحب مالقة وابن عم أبى السلطان، الخروج والعصيان. ورشح الخوارج للملك مكان نصر، أبا الوليد اسماعيل وهو حفيد لإسماعيل أخى محمد بن الأحمر رأس الأسرة النصرية. ولم يمض سوى قليل حتى استطاع أبو سعيد وشيعته التغلب على ألمرية وبلّش وغيرهما من القواعد الجنوبية. وفى أوائل سنة 712 هـ (1313 م) سار فى قواته إلى غرناطة، وهرع السلطان نصر إلى لقائه فكانت الهزيمة على نصر، فلجأ إلى غرناطة؛ ولكنه لم يلبث أن أذعن واضطر إلى التنازل عن العرش، وسار بأهله إلى وادى آش، وتولى حكمها حتى توفى سنة 722 هـ (1322 م)(1).
(1) الإحاطة ج 1 ص 393 و 394؛ واللمحة البدرية ص 57 - 63.