المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

‌الفصل السادس

مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

ولاية محمد الفقيه. تربص النصارى بالأندلس. بنو مرين ومبدأ أمرهم. القتال بينهم وبين الموحدين. ولاية أبى يحيى المرينى. ولاية أبى يوسف يعقوب. انهيار دولة الموحدين. استغاثة الأندلس ببنى مرين. استجابة السلطان أبى يوسف لصريخ الأندلس. إرساله حملة إلى الأندلس ثم عبوره إليها. موقف بنى أشقيلولة. غزو أبى يوسف لبسائط الفرنتيرة. موقعة إستجة وغزوات أبى يوسف. عوده إلى المغرب. توجس ابن الأحمر وعتابه لأبى يوسف. عبور أبى يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية. توغله فى أراضى النصارى. اللقاء بينه وبين ابن الأحمر. استيلاء ابن الأحمر على مالقة. تفاهمه مع ملك قشتالة. انتصار المغاربة فى البحر. زحفهم على مربلة. القتال بينهم وبين ابن الأحمر. توجس أبى يوسف من العواقب. عود التفاهم بينه وبين ابن الأحمر. أثر غرناطة وبنى مرين فى شئون قشتالة. ألفونسو العالم ملك قشتالة. ثورة ولده سانشو عليه. التجاؤه إلى السلطان أبى يوسف المنصور. عبور المنصور لنصرته وغزوه لأراضى قشتالة. تفاهم ابن الأحمر مع سانشو. عود التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور. توجس ابن الأحمر من المغاربة. عبور المنصور إلى الأندلس للمرة الرابعة. غزواته فى أرض النصارى. سانشو ملك قشتالة يذعن للصلح. خطة مشيخة الغزاة. وفاة المنصور وولاية ولده أبى يعقوب. خروج أبى الحسن بن أشقيلولة فى وادى آش. استرداد ابن الأحمر لوادى آش. إغارة ملك قشتالة على أراضى الأندلس. سير الجيوش المغربية إلى الأندلس. هزيمة المغاربة فى البحر. عبور السلطان أبى يعقوب إلى الأندلس. غزوه لأراضى النصارى. توجس ابن الأحمر من نيات أبى يعقوب وتفاهمه مع ملك قشتالة. انتزاع سانشو لطريف من المغاربة. نكثه لعهوده لابن الأحمر. سعيه للتفاهم مع أبى يعقوب وعبوره إلى المغرب. معاهدة تحالف بين غرناطة وأراجون. وفاة ابن الأحمر وخلاله. ولاية محمد الملقب بالمخلوع. غلبة وزيره ابن الحكيم عليه. اضطراب العلائق بين محمد والسلطان أبى يعقوب. استيلاء محمد على سبتة. مصرع أبى يعقوب. زحف عثمان بن أبى العلاء على المغرب. ولاية السلطان أبى ثابت لعرش المغرب. مسيره إلى الشمال ووفاته. ولاية السلطان أبى الربيع. هزيمة الأندلسيين ومقتل عثمان. الثورة فى غرناطة. اضطراب الأحوال فى عهد نصر. غزو القشتاليين لأرض الأندلس. مشروع فرناندو لغزو جبل طارق. حصار ألمرية وهزيمة النصارى. سقوط جبل طارق. الصلح بين ملك غرناطة وبنى مرين. مصانعة نصر لملك قشتالة. تعهده بأداء الجزية. الثورة فى غرناطة. هزيمة نصر وعزله.

لما توفى محمد بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة. خلفه فى الملك ولده وولى عهده أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقب بالفقيه لعلمه وتقواه. وكان مولده بغرناطة سنة 533 هـ (1235 م). وهو الذى رتب رسوم الملك للدولة النصرية،

ص: 94

ووضع ألقاب خدمتها، ونظم دواوينها وجبايتها، وخلع عليها بذلك صفتها الملوكية الزاهية. وكان يتمتع بكثير من الخلال الحسنة، من قوة العزم، وبعد الهمة وسعة الأفق، والبراعة السياسية. وكان عالماً أديبا يقرض الشعر، ويؤثر مجالس العلماء، والأدباء (1). ولأول عهده نشط ملك قشتالة ألفونسو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم إلى محاربة المسلمين، وكان مثل أبيه فرناندو الثالث، يرى أن دولة الإسلام بالأندلس قد دنت نهايتها، ويتربص الفرصة بالمملكة الإسلامية الفتية، ويحاول أن يعمل كأبيه للقضاء عليها قبل استفحال أمرها. ولم يكن ملك غرناطة بغافل عن الخطر الذى يتهدده من مشاريع قشتالة. وكان محمد بن الأحمر قد أوصى ولده بالحرص على محالفة بنى مَرِين، ملوك العُدوة والاستنجاد بهم كلما لاح شبح الخطر الداهم (2). وكان بنو مَرِين وهم الذين استولوا على ملك الموحدين بعد ذهاب دولتهم، يومئذ فى عنفوان قوتهم، وكانت مملكتهم الفتية، تشغل فى نظر الأندلس ونظر اسبانيا النصرانية، نفس الفراغ الذى تركه ذهاب دولة المرابطين ثم دولة الموحدين، وكان من الطبيعى أن تؤدى هذه الدولة الجديدة فى ميدان السياسة والحرب نحو الجزيرة الإسبانية، نفس الدور الذى أدته المملكتان المغربيتان الذاهبتان.

وبنو مَرِين بطن من بطون قبيلة زناتة البربرية الشهيرة، التى ينتمى إليها عدة من القبائل التى لعبت أدواراً بارزة فى تاريخ المغرب، مثل مغراوة ومغيلة ومديونة وجراوة وعبد الواد وغيرهم. ومع ذلك فإن بنى مرين يرجعون نسبتهم إلى العرب المضرية، وذلك بالانتساب إلى بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار. وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجى بن ماخوخ (3). وكانت القبائل المرينية فى بداية أمرها من العشائر البدوية المتنقلة، تجول فى صحارى المغرب الأوسط وهضابه وتسير نحو المغرب الأقصى أيام الصيف. وفى فاتحة القرن السابع الهجرى، نشبت الحرب بينهم وبين بنى عبد الواد، فتوغلوا فى هضاب المغرب، ونزلوا بوادى ملوية الواقع بين المغرب والصحراء وأقاموا هنالك حينا. وكانت قوى الموحدين قد تضعضعت منذ موقعة العقاب (609 هـ)(4)، وسرت إلى دولتهم عوامل

(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 565.

(2)

الذخيرة السنية ص 163؛ وابن خلدون ج 7 ص 191.

(3)

الذخيرة السنية ص 10 و 11 و 16.

(4)

الذخيرة السنية ص 52 و 53؛ والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ج 2 ص 3 و 5.

ص: 95

التفكك والانحلال. ولما توفى ملكهم الناصر، وهو المهزوم فى موقعة العقاب، سنة 610 هـ، ولى بعده ولده يوسف المستنصر، وكان فتى حدثاً ضعيف الهمة والخلال، فانكب على لهوه وساءت أمور المملكة وسرت إليها الفوضى. ففى تلك الآونة التى بدأ فيها ملك الموحدين يهتز فى يد القدر، نفذ بنو مرين إلى المغرب، وتوغلوا فى جنباته، واشتبكوا مع الموحدين لأول مرة فى سنة 613 هـ، إذ حاول الملك المستنصر أن يقضى عليهم، فأرسل جيوشه لقتالهم ولكنها هزمت، ووصل بنو مرين إلى أحواز فاس؛ وكان أمير بنى مرين يومئذ أبو محمد عبد الحق بن خالد ابن محيو، ولكنه قتل فى بعض المواقع فى سنة 614 هـ، فخلفه فى الإمارة ولده أبو سعيد عثمان، واستمر يقود قومه فى ميدان النضال ضد الموحدين (1).

وفى سنة 639 هـ (1241 م) سير الرشيد خليفة الموحدين جيشاً لقتال بنى مرين فهزم الموحدون هزيمة شديدة، واستولى المرينيون على معسكرهم. وتوفى الرشيد فى العام التالى. فخلفه فى الملك أخوه أبو الحسن السعيد، واعتزم أن يضاعف الجهد للقضاء على بنى مرين، فسير لقتالهم فى سنة 642 هـ (1244 م) جيشاً ضخماً ونشبت بين الموحدين وبين بنى مرين موقعة هائلة، هزم فيها بنو مرين وقتل أميرهم أبو معرِّف محمد بن عبد الحق، وكانت ضربة شديدة هدّت من عزائمهم مدى حين.

وتولى إمارة بنى مرين بعد مقتل أبى معرف، أخوه أبو بكر بن عبد الحق الملقب بأبى يحيى. وفى عهد اشتد ساعد بنى مرين واستولوا على مكناسة (643 هـ) ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد (648 هـ - 1250 م). وكان سقوط فاس حاضرة المغرب القديمة، أعظم ضربة أصابت دولة الموحدين، وكان نذير الإنهيار النهائى. ثم استولوا على سجلماسة ودرعة (655 هـ). ولما توفى أبو يحيى سنة 656 هـ، تولى أخوه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق من بعده رياسة بنى مرين وجعل مدينة فاس حاضرة ملكه. وفى سنة 657 هـ نشبت الحرب بين بنى مرين وبين الأمير يَغْمُراسن بن زيان ملك المغرب الأوسط وزعيم بنى عبد الواد، فهزم يغمراسن وارتد إلى تلمسان. وفى العام التالى (658 هـ) هاجم النصارى (الإسبان) فى سفنهم ثغر سلا فجأة، وقتلوا وسبوا كثيراً من أهله، فبادر أبو يوسف بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه.

ثم كانت الموقعة الحاسمة بين الموحدين وبنى مرين، ففى أواخر سنة 667 هـ

(1) الذخيرة السنية، ص 93 و 94.

ص: 96

(1269 م) سار الواثق بالله المعروف بأبى دبوس خليفة الموحدين من مراكش لقتال بنى مرين، والتقى الجمعان فى وادى غفّو بين فاس ومراكش، فهزم الموحدون بعد معركة شديدة، وقتل منهم عدد جم فى مقدمتهم الواثق، واستولى أبو يوسف على معسكرهم ومؤنهم وخزائنهم، ثم سار إلى مراكش فدخلها فى التاسع من المحرم لسنة 668 هـ، وتسمى بأمير المسلمين، وبذلك انتهت دولة الموحدين فى المغرب، كما انتهت فى الأندلس، بعد أن عاشت زهاء قرن وثلث قرن، وقامت مكانها دولة بنى مرين تسيطر على أنحاء المغرب الأقصى كله، وتستقبل عهداً جديداً من القوة والسلطان (1).

إلى تلك الدولة الجديدة الفتية، كانت تتجه أنظار الأندلس كلما لاح لها شبح الخطر الداهم. وقد شاء القدر أن تلعب دولة بنى مرين وريثة المرابطين والموحدين، فى حوادث الأندلس الداخلية والخارجية أعظم دور. ولم تفت مؤسس مملكة غرناطة أهمية التحالف مع بنى مرين والاستنصار بهم، فبعث قبيل وفاته بقليل حسبما رأينا إلى السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق الملقب بالمنصور يطلب إليه غوث الأندلس وإنجادها. وكان السلطان أبو يوسف حينما وصله صريخ ابن الأحمر فى سنة 670 هـ يسير إلى غزو تلمسان، فلما وقف من الرسل على حال الأندلس وما يهددها من الأخطار، جمع أشياخ القبائل، واتفق الجميع على وجوب إنجاد الأندلس والجهاد فى سبيل الله، وأرسل السلطان إلى الأمير يَغْمُراسن صاحب تلمسان يعرض عليه عقد الصلح، لكى يتمكن من العبور إلى الأندلس، فأبى واقتتل الفريقان على مقربة من وَجْدة، فى شهر رجب سنة 670 هـ (1272 م) فهزم يغمراسن وفر جريحا (2)، وعاد أبو يوسف مظفراً إلى المغرب، وهو يعتزم استجابة دعوة الأندلس وإنجادها.

على أنه مضى أكثر من عامين، قبل أن تسنح له الفرصة المرجوة. فلما تولى محمد الفقيه، أرسل عقب ولايته بقليل وفداً من أكابر الأندلس إلى ملك

(1) راجع فى أصل بنى مرين ونشأتهم، الذخيرة السنية ص 10 و 16 و 94 و 99 و 123 و 124؛ والاستقصاء ج 2 ص 13 و 14؛ وابن خلدون ج 7 ص 166 - 180. هذا وقد عثرنا فى مكتبة مدريد الوطنية على قطعة صغيرة من مخطوطة عنوانها " ذكر الياقوتة الحلية فى الذرية السعيدية المرينية المباركة العبد الحقية " وهى فى أربعة عشرة صفحة تتناول نشأة بنى مرين وسيرتهم حتى بداية السلطان أبى يوسف، ولا يخرج ما ورد فيها عما قدمنا خلاصته.

(2)

الذخيرة السنية ص 148؛ والاستقصاء ج 2 ص 16.

ص: 97

المغرب يحمل إليه رسالة استغاثة مؤثرة، فشرحوا له حال الأندلس من الضعف ونقص الأهبة، وتكالب العدو القوى عليها، واستصرخوه للغوث والجهاد ومما جاء فى رسالة ابن الأحمر إلى أبى يوسف بعد الديباجة:

مرين جنود الله أكبر عصبة

فهم فى بنى أعصارهم كالمواسم

مشنفة أسماعهم لمدائح

مسورة إيمانهم بالصوارم

"تطول علينا بمعلوم حدك ومشهود جدك، قد جعلك الله رحمة تحيى عيشها بجيوشك السريعة، وخلفك سُلَّما إلى الخير وذريعة، فقد تطاول العدو النصرانى على الإسلام، واهتضم جناحه كل الاهتضام، وقد استخلص قواعدها، ومزق بلدانها، وقتل رجالها وسبى ذراريها ونساءها، وغنم أموالها. وقد جاء بإبراقه وإرعاده، وعدده وإيعاده، وطلب منا أن نسلم له ما بقى بأيدينا من المنابر والصوامع والمحاريب والجوامع، ليقيم بها الصلبان، ويثبت بها الأقسة والرهبان. وقد وطأ الله لك ملكا عظيما شكرك الله على جهادك فى سبيله، وقيامك بحقه، وإجهادك فى نصر دينه وتكميله، ولديك من نية الخير، فابعث باعث بعثك إلى نصر مناره، واقتباس نوره، وعندك من جنود الله من يشترى الجنات بنفسه، فإن شئت الدنيا فالأ، دلس قطوفها دانية، وجناتها عالية، وإن أردت الآخرة بها جهاد لا يفتر، وهذه الجنة ادخرها الله لظلال سيوفكم، واحتمال معروفكم، ونحن نستعين بالله العظيم وبملائكته المسومين، ثم بكم على الكافرين"(1).

ثم تتابعت رسل ابن الأحمر وبنى أشقيلولة إلى السلطان أبى يوسف، ينوهون بالخطر الداهم الذى يهدد الأندلس، ويلتمسون إليه المبادرة بالإسعاف والإمداد، فاستجاب السلطان أخيراً لدعوتهم، وكتب إلى ابن الأحمر يطمئنه، ويعرب عن عزمه على الجواز إلى الأندلس فى فاتحة سنة أربع وسبعين، ومما جاء فى رسالته:

"وإنا لنرجو أن نصلكم بنفوس صلح جهرها وسرها، ونسقى بماء الثلج واليقين غرها، ونقدم عليكم بما يبسط نفوسكم ويسرها، ويطلع لها الفرح من المكاره ويذهب عسرها، فلتطب نفوسكم برحمة الله وعونه، ولتفرحوا بفضل الله وصونه، ونحن قادمون عليكم فى إثر هذا إن شاء الله، ووعدنا بوفاء يعين الله على أعدائه"(2).

(1) راجع هذه الرسالة بأكملها فى الذخيرة السنية ص 159 - 161.

(2)

راجع نص رسالة السلطان أبى يوسف بأكمله فى الذخيرة السنية ص 162 و 163.

ص: 98

وهكذا اعتزم السلطان أبو يوسف أن يؤدى رسالة المغرب التاريخية فى إنجاد الأندلس ونصرتها، وكان بنو مرين فى عنفوان دولتهم يجيشون بنزعة الجهاد الفتية.

وخرج السلطان من فاس فى رمضان سنة 673 هـ برسم الجهاد فى الأندلس، وأرسل للمرة الثانية إلى الأمير يَغْمُراسن صاحب تلمسان، يعرض الصلح توحيداً للكلمة وتعضيداً للجهاد. فقبل يغمراسن وتم الصلح. وبادر السلطان فجهز ولده أبا زيان (1) فى خمسة آلاف مقاتل، فعبر البحر من قصر المجاز (قصر مصمودة) إلى الأندلس، ونزل بثغر طريف فى شهر ذى الحجة سنة 673 هـ (1275 م)، ونفذ إلى أرض النصارى حتى شَريش، وعاث فيها وعاد مثقلا بالسبى والغنائم، وقدَّم إليه ابن هشام وزير ابن الأحمر ثغر الجزيرة فنزل فيه، وجاز ابن هشام إلى العدوة فلقى السلطان أبا يوسف فى معسكره على مقربة من طنجة. وكان السلطان قد استكمل أهبته، فعبر من قصر المجاز إلى الأندلس فى صفر سنة 674 هـ (يوليه 1275 م)، فى جيش كثيف من البربر، داعيا إلى الجهاد على سنة أسلافه المرابطين والموحدين. وكان أبو يوسف قد اشترط على ابن الأحمر حينما استنجد به، أن ينزل له عن بعض الثغور والقواعد الساحلية، لتنزل بها جنوده فى الذهاب والإياب. فنزل له عن رندة وطريف والجزيرة، ونزل أبو يوسف بجيشه فى طريف، وهرع ابن الأحمر وبنو أشقيلولة إلى لقائه، واهتزت الأندلس كلها لعبور ملك المغرب. ولكن ابن الأحمر ما لبث أن غادره مغضبا لما رأى من تدخله فى شئون الأندلس بصورة مريبة. ذلك أن بنى أشقيلولة أصهار بنى الأحمر، وفى مقدمتهم محمد بن أشقيلولة زعيم الأسرة وزوج أخت محمد بن الأحمر، وأخوه أبو الحسن زوج ابنته، كانوا يجيشون نحو عرش غرناطة بأطماع خفية. وكان أبو محمد ممتنعاً بمالقة مغاضبا لملك غرناطة حسبما قدمنا. فلما عبر أبو يوسف إلى الأندلس، سار إليه وانضوى تحت لوائه، ولم يفلح أبو يوسف فى التوفيق بين ابن الأحمر وبين أصهاره، وخشى ابن الأحمر عاقبة هذا التحالف بين أصهاره وبين أبى يوسف، فارتد إلى غرناطة حذرا متوجسا.

ونفذ السلطان أبو يوسف بجيشه إلى بسائط الفرنتيره (2) وكانت فى يد النصارى

(1) الذخيرة السنية ص 164، ولكن ابن خلدون يقول إن السلطان بعث الجند مع ولده منديل (ج 7 ص 119) ومنديل حفيد السلطان أبى يوسف.

(2)

الفرنتيره La Frontera هى السهل الواقع فى غربى مثلث إسبانيا الجنوبى (الجزيرة) ويمتد من قادس جنوباً حتى طرف الغار.

ص: 99

وعاث فيها. تم توغل غازيا، ينتسف الضياع والمروج ويسبى السكان، حتى وصل إلى حصن المقورة وأبدة على مقربة من شرقى قرطبة. وعندئذ عول القشتاليون على لقائه دفاعا عن أراضيهم. وخرج القشتاليون فى جيش ضخم، تقدره الرواية الإسلامية بنحو تسعين ألف مقاتل (1)، وعلى رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة الدون نونيو دى لارا، الذى تسميه الرواية الإسلامية "دونونه أو دننه أو ذنونه".

وكان أبو يوسف قد ارتد عندئذ بجيشه إلى ظاهر إستجة، ومعه حشد عظيم من الغنائم والأسرى، فأغلقت المدينة أبوابها، واستعدت للقتال، ووضع أبو يوسف الغنائم فى ناحية تحت إمرة حرس خاص حتى لا تعيق حركاته، وعقد لولده أبى يعقوب على مقدمته، وخطب جنده وحثىعلى الجهاد والموت فى سبهلي الله. ثم تاقدم لملاقاة النصارى، ومعه بعض قوات الأندلس برياسة بنى أشقيلولة. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى، على مقربة من إستجة جنوب غربى قرطبة، فى اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة 674 هـ (9 سبتمبر 1275 م)، فنشبت بين الفريقين معركة سريعة هائلة، هزم النصارى على أثرها هزيمة شديدة، وقتل قائدهم الدون نونيو دى لارا وعدة كبيرة منهم (2). وكان نصراً عظيما أعاد إلى الأذهان، ذكريات موقعة الزلَاّقة وموقعة الأرك، وكان أول نصر باهر يحرزه المسلمون على النصارى، منذ موقعة العقاب، ومنذ انهيار الدولة الإسلامية بالأندلس، وسقوط قواعدها العظيمة. وتبالغ الرواية الإسلامية فى تقدير خسائر النصارى، فتقول إنه قتل منهم فى الموقعة ثمانية عشر ألفاً، جمعت رؤوسهم وأذَّن عليها المؤذن لصلاة العصر، هذا فى حين أنه وفقاً لقولها أيضاً، لم يقتل من المسلمين سوى أربعة وعشرين رجلا (3).

وبعث السلطان أبو يوسف برأس دون نونيو إلى ابن الأحمر، فقيل إنه بعثها بدوره إلى ملك قشتالة مضمخة بالطيب، مصانعة له وتوددا إليه. وكتب أبو يوسف إلى العُدوة رسالة يشرح فيها حوادث الموقعة، وما انتهت إليه من نصر باهر، فقرئت على المنابر، وكتب رسالة مماثلة إلى ابن الأحمر، فرد عليه بالشكر والدعاء. ورفع

(1) الذخيرة السنية ص 169 و 170.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 191؛ واللمحة البدرية ص 44؛ والإحاطة ج 1 ص 573؛ والذخيرة السنية ص 170 - 172.

(3)

الذخيرة السنية ص 173.

ص: 100

ابن أشقيلولة إلى أمير المسلمين أبى يوسف، قصيدة يهنئه فيها بالنصر جاء فيها:

هبت بنصركم الرياح الأربع

وسرت بسعدكم النجوم الطلع

وأتت لنصركم الملائك سيفا

حتى أضاق بها الفضاء الأوسع

واستبشر الفلك الأثير تيقنا

أن الأمور إلى مرادك ترجع

وأمدك الرحمن بالفتح الذى

ملأ البسيطة نوره المتشعشع

ولبث أبو يوسف بالجزيرة الخضراء بضعة أسابيع، قسمت فيها الغنائم واستراحت الجند. ثم خرج للمرة الثانية فى جمادى الأولى سنة 674 هـ، وتوغل غازيا فى أراضى قشتالة حتى وصل إلى أحواز إشبيلية؛ فأغلقت المدينة أبوابها. وعاث أبو يوسف فى تلك الأنحاء، ثم سار إلى شَريش فضرب حولها الحصار، فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها وطلبوا إليه الأمان والصلح، فأجابهم إلى طلبهم وعاد إلى قواعده مثقلا بالغنائم والسبى. وقضى بضعة أسابيع أخرى بالجزيرة الخضراء، ثم عبر البحر إلى المغرب فى أواخر شهر رجب 674 هـ، بعد أن قضى بالأندلس زهاء خمسة أشهر.

على أن هذا النصر الباهر، الذى أحرزه السلطان أبو يوسف المرينى على النصارى، لم يحدث أثره المنشود فى بلاط الأندلس. ذلك أن محمد بن الأحمر، جنح إلى الارتياب فى نيات ملك المغرب، وخصوصاً مذ أسبغ السلطان حمايته على بنى أشقيلولة، وغيرهم من الخوارج على ملك غرناطة، ومثلت بذهنه مأساة الطوائف وغدر المرابطين بهم (1). وبعث ابن الأحمر إلى السلطان قبيل مغادرته الجزيرة، يعاتبه على تصرفه فى حقه بقصائد مؤثرة يستعطفه فيها ويستنصره، والسلطان يجيبه عنها بقصائد مثلها. ومن ذلك قصيدة من نظم أبى عمران بن المرابط كاتب ابن الأحمر هذا مطلعها:

هل من معينى فى الهوى أو منجدى

من متهم فى الأرض أو من منجد

هذا الهوى داع فهل من مسعف

بإجابة وإنابة أو مسعد

ومنها فى الاستغاثة:

أفلا تذوب قلوبكم إخواننا

مما دهانا من ردًى أو من ردى

أفلا تراعون الأذمة بيننا

من حرمة ومحبة وتودد

أكذا يعيث الروم فى إخوانكم

وسيوفكم للثار لم تتقلد

(1) ابن خلدون ج 7 ص 198 و 367.

ص: 101

يا حسرتى لحمية الإسلام قد

خمدت وكانت من قبل ذا تتوقد

أبنى مرين أنتم جيراننا

وأحق من فى صرخة بهم ابتدى

أبنى مرين والقبائل كلها

فى المغرب الأدنى لنا والأبعد

كتب الجهاد عليكم فتبادروا

منه إلى القرض الأحق الأوكد

أنتم جيوش الله ملىء فضائه

تأسون للدين الغريب المفرد (1).

وفى أوائل سنة 676 هـ توفى أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة، فعبر ولده محمد إلى المغرب ونزل عنها للسلطان، فبعث إليها السلطان حاكما من قبله، فزاد ذلك فى توجس ابن الأحمر، وأرسل وزيره أبا سلطان عزيز الدانى فى بعض قواته إلى مالقة، ليحاول الاستيلاء عليها، فلم يوفق. ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى عبر السلطان أبو يوسف المنصور البحر إلى الأندلس للمرة الثانية فى سنة 677 هـ (1278 م)، ونزل بمالقة فاحتفل به أهلها، ثم توغل بجيشه فى أرض النصارى يعيث فيها، ومعه بنو أشقيلولة فى جندهم، حتى أحواز إشبيلية. واجتنب القشتاليون لقاءه. ثم دعا ابن الأحمر إلى لقائه، فوافاه عند قرطبة والريب يملأ نفسه، وتبادل الملكان عبارات العتاب والتعاطف، ولكن ابن الأحمر لم تطمئن نفسه، وعاد السلطان إلى المغرب دون أن تصفو القلوب.

وزاد توجس ابن الأحمر لحوادث مالقة وانحيازها إلى السلطان، وجال بخاطره أن التفاهم مع ملك قشتالة خير وأبقى. وفى أواخر سنة 677 هـ استطاع ابن الأحمر أن يستولى أخيراً على مالقة. وذلك بإغراء صاحبها بالنزول عنها، والاستعاضة بالمنكَّب وشلوبانية (2). ثم سعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة والتحالف معه، على منع السلطان المنصور من العبور إلى الأندلس. ونزلت القوات القشتالية بالفعل فى الجزيرة. وكاتب ابن الأحمر أيضاً الأمير يَغْمُراسن ملك المغرب الأوسط، وخصم السلطان المنصور، يسأله العون والتحالف. وعلم المنصور بذلك فأراد العبور توا إلى

(1) نقل إلينا ابن خلدون هذه القصيدة بأكملها (ج 7 ص 198 - 200) وفيها كثير من المعانى التى وردت فى مرثية أبى البقاء الرندى، كما أشار إلى ردود السلطان أبى يوسف إشارة عابرة (ص 200).

(2)

المنكب، وبالإسبانية Almunecar، وشلوبانية وبالإسبانية Salobrena ثغران صغيران من ثغور مملكة غرناطة القديمة، يقع كلاهما جنوبى غرناطة على البحر الأبيض المتوسط وتفصلهما عن بعضهما مسافة صغيرة.

ص: 102

الأندلس، ولكن عاقته حوادث المغرب حينا. وفى أوائل سنة 678 هـ (1279 م) بعث ولده الأمير أبا يعقوب إلى الأندلس فى أسطول ضخم، ونشبت بينه وبين أسطول النصارى المرابط شرق المضيق معركة هائلة، هزم النصارى على أثرها واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة، فغادرها النصارى فى الحال.

وأراد الأمير أبو يعقوب أن يتبع نصره، بعقد الصلح مع ملك قشتالة والتحالف معه على قتال ابن الأحمر ومهاجمة غرناطة، فأنكر عليه أبوه السلطان ذلك، ثم زحف جند المغرب على ثغر مربلَّة، وهو من أملاك ابن الأحمر تريد الاستيلاء عليه، فامتنع عليهم. وانتهز القشتاليون تلك الفرصة، فزحفوا على غرناطة ومعهم بنو أشقيلولة، فلقيهم ابن الأحمر وردهم على أعقابهم (679 هـ). بيد أنه بالرغم من هذا النصر المؤقت أخذ يشعر بدقة موقفه، وخطورة القوى التى يواجهها، سواء من جانب القشتاليين، أو من جانب الجيوش المغربية، التى استدعيت فى الأصل لتكون له سنداً وغوثاً، فانقلبت إلى مناوأته وقتاله. ومن جهة أخرى فقد كان السلطان المنصور يخشى عاقبة هذا التصرف على مصير المسلمين؛ وعلى ذلك فقد بعث إلى ابن الأحمر فى وجوب عقد المودة والتفاهم، فلقى لديه مثل رغبته، وبادر السلطان إلى عقد أواصر الصلح والتحالف بين المسلمين، على أن ينزل ابن الأحمر عن مالقة للسلطان المنصور، لتكون له قاعدة للعبور والغزو.

وصفا جو العلائق على أثر ذلك بين ابن الأحمر وبنى مرين، وشغل السلطان المنصور حينا بمحاربة الخوارج عليه.

ولم يمض قليل على ذلك، حتى عادت شئون الأندلس تستغرق اهتمام المنصور؛ وكانت شئون الأندلس قد غدت فى الواقع عنصراً بارزا فى سياسة بنى مرين، وكانت مملكة غرناطة حتى فى ذلك الوقت الذى انكمشت فيه الدولة الإسلامية فى الأندلس، تلعب دورها فى شئون اسبانيا النصرانية كلما اضطربت فيها الحوادث. ولما سطع نجم الدولة المرينية فيما وراء البحر، اتجه إليها اهتمام النصارى، وكانت كلما وقعت فى قشتالة حرب أهلية، لجأ هذا الفريق أو ذاك إلى مؤازرة غرناطة أو بنى مرين، على غرار ما كان يحدث فى الماضى. ومن ذلك ما حدث فى سنة 669 هـ (1270 م) من خروج الإنفانت فيليب على أخيه ألفونسو العاشر مع جماعة من النبلاء، والتجائهم إلى السلطان المنصور فى طلب العون واستجابته

ص: 103