الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
طوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال
مملكة غرناطة وحدودها. عناصر سكانها. المدجنون. تاريخهم وحياتهم فى ظل الممالك النصرانية. وثائق هامة تلقى ضوءاً على أحوالهم. الأحكام الشرعية فى شأنهم. اضطهادهم على يد الكنيسة. نشاطهم وتفوقهم. النصارى المعاهدون وأحوالهم فى ظل الحكومة الإسلامية. تعصبهم وخياناتهم. هجرة الأندلسيين من مختلف القواعد إلى غرناطة. عناصر الأمة الأندلسية. المولدون. اليهود. الشعب الغرناطى. صفاته وخلاله.
كانت مملكة غرناطة عند قيامها فى أواسط القرن السابع الهجرى تشمل القسم الجنوبى من الأندلس القديمة، وتمتد فيما وراء نهر الوادى الكبير إلى الجنوب، حتى شاطىء البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، ويحدها من الشمال ولايات جيّان وقرطبة وإشبيلية، ومن الشرق ولاية مرسية وشاطىء البحر المتوسط الممتد منها إلى الجنوب، ومن الغرب ولاية قادس وأرض الفرنتيرة. وكانت تشتمل عندئذ على ثلاث ولايات كبيرة، وهى ولاية غرناطة الواقعة فى الوسط، والممتدة جنوباً حتى البحر، وأهم مدنها العاصمة غرناطة، ووادى آش وبسطة وأشكر وحصن اللوز ولوشة والحامة وأرحبة والمنكب وشلوبانية. وولاية ألمريَّة وهى تمتد من ولاية مرسية حتى البحر، وأهم مدنها ثغر ألمرية وبيرة والمنصورة وبرشانة وبرجة ودلاية وأندَرَش. وولاية مالقة، وهى تقع على البحر غربى غرناطة، وأهم مدنها ثغر مالقة، وبلِّش مالقة وطرُّش وقمارش وآرشدونة وأنتقيرة ورندة ومربلة. ويلحق بها منطقة جبل طارق والجزيرة الخضراء وطريف.
وتخترق مملكة غرناطة من الوسط جبال سيرّا نفادا (جبل شلير) الشاهقة، وهضاب البشرّات الوعرة وبسائطها الخضراء، كما تخترقها عدة أنهار منها شَنيل فرع الوادى الكبير ونهر أندرش الصغير، وفى الشرق نهر المنصورة. وكانت خواصها الطبيعية التى تجمع بين مزيج مدهش من المروج والوديان الخصبة، والجبال والهضاب الوعرة، تمدها بثروات زراعية ومعدنية حسنة، ينميها
ويضاعفها الشعب الأندلسى الموهوب بذكائه ونشاطه وبراعته المأثورة. وهكذا كانت مملكة غرناطة الصغيرة، تستمد من مواردها الطبيعية، أسباب القوة والمنعة والرخاء.
وقد رأينا فيما تقدم أن كورة إلبيرة، وهى التى غدت فيما بعد كورة غرناطة، كانت منذ الفتح منزل قبائل الشام، وقد لبثت أعقاب هذه البطون مدى عصور كثيرة فى تلك الولاية. ولما اضطرمت الفتن بالأندلس عقب انهيار الدولة الأموية، تقاطر البربر من الضفة الأخرى من البحر على قواعد غرناطة، ثم غدت مدينة غرناطة مدى حين إمارة بربرية، وأصبح البربر عنصراً بارزاً فى سكان هذه المقاطعة. وكانت الثغور الجنوبية بطبيعة الحال، منزل البربر كلما عبروا إلى الأندلس، وخصوصاً أيام المرابطين والموحدين. وكانت طوائف كبيرة من الغزاة، تتخلف فى هاتيك الوديان النضرة وتستقر فيها، يجذبهم خصبها ونعماؤها. ولما أخذت قواعد الأندلس الشرقية والوسطى تسقط تباعاً فى أيدى النصارى، كان يهرع إلى القواعد والثغور الجنوبية كثير من الأسر المسلمة الكريمة، التى آثرت الهجرة إلى أرض الإسلام، على التّدجُّن والبقاء تحت سلطان النصارى. على أنه بقيت فى القواعد والثغور التى استولى عليها النصارى جموع كبيرة من المسلمين، الذين حملتهم ظروف الأسرة ودواعى العيش على البقاء فى الوطن القديم، تحت حكم الإسبان سادتهم الجدد. وأولئك هم المدجَّنون (1)(أو بالإسبانية Mudéjares) أو أهل الدجن. وقد شاع استعمال هذا اللفظ بالأندلس منذ أوائل القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) أو بعبارة أخرى مذ كثر استيلاء النصارى، على أراضى المسلمين، وكثر عدد الرعايا المسلمين الذين تضمهم اسبانيا النصرانية ففى هذه الفترة بالذات سقطت معظم قواعد الأندلس فى أيدى النصارى، وسقطت منها فى الشرق، بلنسية وشاطبة ودانية، ولقنت، وأوريولة، ثم مرسية، وسقطت فى الوسط قرطبة وجيان، وسقطت فى الغرب ماردة وبطليوس وإشبيلية وقرمونة ولبلة وغيرها - سقطت هذه القواعد الأندلسية التالدة كلها فى أيدى النصارى فى النصف الأول من القرن السابع الهجرى، وبقيت من أهلها المسلمين طوائف كبيرة تحت حكم الإسبان، وهى التى غدت مجتمع المدجنين. وكان أكثر
(1) من دجن وتدجن أى أقام، ومصدره الدجن والتدجن ومنه دواجن البيوت وهى طيور وحيوانات أليفة مقيمة.
المدجنين احتشاداً فى شرقى الأندلس فى منطقتى بلنسية ومرسية. ولهذا المجتمع الإسلامى الإسبانى تاريخ طويل مؤثر. فقد لبث المدجنون عنصراً، يتمتعون فى ظل ملوك قشتالة وأراجون، بنوع من الطمأنينة والرخاء والأمن، فكان يسمح لهم بالاحتفاظ بدينهم وشريعتهم ومساجدهم ومدارسهم، وكان لهم فى العصور الأولى قضاة منهم يحكمون فى سائر المنازعات التى تقع فيما بينهم وفقاً للشريعة الإسلامية؛ أما المنازعات التى تقع بين مسلم ونصرانى، فكان ينظرها أحياناً قاض نصرانى أو تنظرها محكمة مختلطة من قضاة من المذهبين. وكان من امتيازاتهم، أن لا يدفعوا من الضرائب غير ما كانوا يؤدونه من قبل لملوكهم، ثم ترك هذا الامتياز بمضى الزمن، وأصدر الفونسو العاشر فى سنة 1254 م لسكان إشبيلية، امتيازاً يخولهم حق شراء الأراضى من المسلمين فى منطقتهم، مما يدل على أنه قد سمح للمسلمين بالاحتفاظ بأراضيهم، وكان لهم حق البيع والشراء فى العقارات. فلما تطورت الحوادث، وغلبت النزعة الرجعية فى أواخر القرن الثالث عشر، صدر قانون يحرم على المسلمين واليهود شراء الأراضى من النصارى، ولكن ترك هذا القانون فيما بعد. وكان يسمح للمدجنين أيضاً بحمل السلاح، ويلزمون بتأدية الخدمة العسكرية، ويعتبر الإعفاء منها امتيازاً خاصاً. ثم أعفى المدجنون بعد ذلك من الخدمة العسكرية نظير جزية سنوية يؤدونها، وكان انضمامهم إلى الجيوش النصرانية يقع فى حدود نسبتهم العددية. ولما توالى استيلاء الإسبان على القواعد والثغور الأندلسية، كان يخصص للمدجنين فى كل مدينة مفتوحة حىّ خاص لإقامتهم، يفصل بينه وبين أحياء النصارى سور ضخم، وكان هذا هو شأن اليهود أيضاً حيث كانوا يلزمون بالإقامة فى حىّ خاص بهم (1).
وتوجد فى كتدرائية سرقسطة مجموعة من وثائق عربية تلقى ضوءاًَ على تاريخ المدجنين وأحوالهم فى مملكة أراجون منذ القرن العاشر الميلادى إلى القرن الخامس عشر. وهى عبارة عن طائفة من عقود البيع والشراء والوديعة وغيرها التى عقدت بين أفراد من المدجنين وبين المدجنين والنصارى، وفيها وثائق محررة فى تواريخ متأخرة فى سنة 1482، وسنة 1496. ويستفاد من تلاوتها أن المدجنين فى مملكة أراجون، كانوا إلى هذا العصر المتأخر، حتى بعد سقوط غرناطة فى يد الإسبان،
(1) Dr. H. Ch. Lea: History of the Inquisition in Spain، V. I. p. 62-64.
يحتفظون بدينهم الإسلامى، وأنه كانت ما تزال ثمة بعض مساجد قائمة فى بعض أنحاء ولاية سرقسطة.
(1)
ومن ذلك وثيقة مؤرخة فى شهر ربيع الأول سنة 644 هـ (1246 م) تبدأ بالبسملة والصلاة على النبى، وهى عقد شراء، يشترى بمقتضاه "أحمد المران" من "محمد بن سلمة البرتيالى" جميع ما له من أملاك وديار ببطرة قرية ابتورة
…
بثمن مبلغه وعدته تسعون دنيراً قناشر من القناشر الجارية بسرقسطة
…
وذلك كله على سنة المسلمين فى طيبات بيوعاتهم ومرجع أدركهم وارتضاء ذلك البيعة المذكورة الشنيور من القرية المذكورة القسيس الأجل دون برتُلماوو شنت جيل عن إذن الأقسة من الكنيسة المذكورة، شهد على إشهاد المتبايعان المذكوران من أشهداه، وسمع منهما، وعرفهم، والجميع بحالة الصحة والجواز فى شهر ربيع الأول من سنة أربعة وأربعين وستمائة".
(2)
ووثيقة مؤرخة فى 9 أغسطس سنة 1484، ورد فيها ما يأتى: "الحمد لله وحده، أشهد على نفسه الكريم فرج الطليطلى الساكن بموضع قلعة التراب شهداء هذا الكتاب قولا بالحق وانقياداً إليه، أن عليه وفى ذمته وماله من المكرمان برول وكبلتة من شنت مرى لميور والسبداد ذاسرغوس وديعة محضة وأمان مؤتمن وذلك خمسون قفزاً قمح طيباً نقياً من مكايل مدينة سرقسطة
…
".
وكتب هذه الوثيقة: "محمد بن محمد الأزقة فقيه وخادم مسجد قلعة التراب".
(3)
ووثيقة مؤرخة فى شهر فبراير عام إحدى وتسعمائة (1496 م) تبدأ أيضاً بالبسملة والصلاة على النبى. وهى عبارة عن إقرار كل من "موسى الحسن وابن عبد الله محمد بن فرج المجه الساكنون فى بلدة الحمام بأنهم يحبسون وديعة قمح" لمن يدعى "أبو باكر ابن أبو باكر، من أهل قلعة التراب".
وكاتب الوثيقة هو: "ابراهيم البساتنى الينى هليجى خديم جامع البلد المذكور"(1).
وعثرنا فى متحف بلدية بنبلونة على وثيقة عربية وحيدة مؤرخة فى " التاسع من شهر أبريل عام احدى وثمانمائة"(1398 م) وهى عبارة عن إشهاد بالدين
(1) قام بدراسة هذه الوثائق المستشرق الإسبانى R. Garcia di Linares فى بحث عنوانه Escrituras Arabes Pertenecientes al Archivo de Nuestra Senora del Pilar de Zaragoza ومنشور فى كتاب Homenaje a Francisco Codera (Zaragoza 1904) p. 171-197.
صورة وثيقة مدجنية Mudéjar محفوظة بمتحف بلدية بنبلونة وهى عبارة عن إشهاد بالدين ومؤرخة فى سنة 801 هـ (1398 م).
مستهلة بالبسملة والصلاة على النبى ومحررة أمام "القاضى الأروع الأورع أبى الحسن على القريشى". وقد جاء فيها ما يأتى:
"أشهدوا على أنفسهم أبو الحجاج يوسف الحضرمى ومحمد بن محمد بن جعفر الزهرى، ويوسف بن زيد، وأحمد بن المكحل، ويوسف شداد بن دجنبر مسلمان ساكنان فى ربض المسلمين ببلدة برجة حاضرون بغايبون كل واحد منهم عنه وعن الكل، بأنهم دانوا الاشتراك الشابلى إسراييل ساكن بلدة المذكورة أو لمن ظهر هذا العقد عنده ثلثماية واثنين وثلثين فلريناش ذهباً قالب أرغون من سكة طيبة موزونة
…
الخ" وفى ذيلها عدة من أسماء الشهود المسلمين.
وفيما أوردناه من نص هذه الوثيقة، ما يدل على أنه كانت توجد فى تلك المنطقة النائية من شمال اسبانيا، فى بلاد نافار، أقليات مسلمة لها أحياء خاصة حيث وجدت، وتتمتع بالتعامل بلغتها القومية أمام قاضيها الخاص، وذلك فى هذا العصر المتأخر، فى أواخر القرن الرابع عشر، أعنى بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على استيلاء النصارى على سائر القواعد الإسلامية فى تلك الأنحاء.
وكانت مسألة التدجن هذه وبقاء المسلمين فى الأرض التى يفتتحها النصارى تثير كثيراً من المسائل الفقهية، وكان بعض الفقهاء يرمى أولئك المدجنين بالمروق عن الإسلام لبقائهم تحت حكم النصارى. وقد عثرت خلال بحوثى فى مكتبة الإسكوريال على رسالة مخطوطة تتناول هذه المسألة، وهى عبارة عن فتوى طلبها أحد الفقهاء عن حكم الشرع فيمن آثر من المسلمين الأندلسيين الهجرة من دار الإسلام إلى الأراضى المفتوحة ليعيش تحت حكم النصارى، والمقصود بهؤلاء بنوع خاص أولئك الذين هاجروا من القواعد الأندلسية المفتوحة إلى بلاد المغرب، ثم لم يجدوا بها ما أملوا من رخاء ويسر فى العيش، وترتب على ذلك أنهم ندموا على هجرتهم، وتمنوا العودة إلى ديارهم القديمة تحت حكم ملك قشتالة، وتتضمن الرسالة الأسئلة الآتية:
"ما حكم من تمادى من المسلمين فى ذلك؟ وما حكم من عاد منهم إلى دار الكفر بعد حصوله فى دار الإسلام؟ وهل يجب وعظ هؤلاء أو يعرض عنهم ويترك كل واحد منهم لما اختاره؟ وهل من شرط الهجرة أن لا يهاجر أحد إلا إلى دنيا مضمونة يصيبها عاجلا عند وصوله، جارية على وفق غرضه حيث حل من نواحى الإسلام، أو ليس ذلك بشرط بل تجب عليهم الهجرة من دار الكفر إلى دار
الإسلام، إلى حلو أو مر أو وسع أو ضيق أو عسر أو يسر بالنسبة لأحوال الدنيا، وإنما القصد بها سلامة الدين والأهل والولد، والخروج من حكم الملة الكافرة إلى حكم الملة المسلمة، إلا ما شاء الله من حلو أو مر أو ضيق عيش أو سعة ونحو ذلك من أحوال الدنيا.
وقد رد الفقيه المسئول، وهو أحمد بن يحيى التلمسانى الونشريشى عن هذه المسائل بما خلاصته:
1 -
أن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل. وهو يؤيد قوله بطائفة من الأحاديث النبوية.
2 -
ولا يُسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية على معاقلهم وبلادهم، ولا يتصور العجز عنها بكل وجه وحال، لا الوطن ولا المال، فإن ذلك كله ملغى فى نظر الشرع. وأما المستطيع بأى وجه كان وبأى حيلة تمكنت، فهو غير معذور وظالم لنفسه إن أقام. والظالمون أنفسهم إنما هم التاركون للهجرة مع المقدرة عليها حسبما تضمنه قوله تعالى: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
…
". والمعاقب عليه إنما هو من مات مصراً على هذه الإقامة.
3 -
وتحريم هذه الإقامة تحريم مقطوع به من الدين، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وقتل النفس بغير حق
…
ومن جوّز هذه الإقامة واستخف أمرها، واستسهل حكمها فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومنبوذ بالإجماع الذى لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.
قال زعيم الفقهاء القاضى أبو الوليد بن رشد رحمه الله فى أول "كتاب التجارة، إلى أرض الحرب"، من مقدماته: فرض الهجرة غير ساقط بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، وأجاب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهجره ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم.
4 -
ثم لما نبعت هذه الموالاة النصرانية فى الماية الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء ملاعين النصارى دمرهم الله على جزيرة صقلية وبعض كور الأندلس، سئل فيها بعض الفقهاء، واستُفهموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها، فأجاب بأن أحكامهم جارية مع أحكام من أسلم ولم يهاجر، وألحقوا
هؤلاء المسئول عنهم والسكوت عن حكمهم بهم، وسووا بين الطائفتين فى الأحكام الفقهية المتعلقة بأموالهم وأولادهم ولم يروا فيها فرقاً بين الفريقين" (1).
على أن هذه الاعتبارات الدينية لم تحل دون بقاء طوائف كبيرة من المسلمين فى الأراضى التى يقتطعها النصارى تباعاً من الوطن الأندلسى. وكانت الإعتبارات الدنيوية، وظروف الأسرة، ودواعى العيش، تغلب على كل الاعتبارات الأخرى. وكان تسامح النصارى فى البداية، وتركهم رعاياهم المسلمين، يتمتعون بتطبيق شريعتهم وأحكام دينهم فيما بينهم حسبما تقدم، يخفف عن أولئك المدجَّنين مرارة الانسلاخ عن مجتمعهم القديم، والانتماء إلى المجتمع النصرانى. وهكذا لبث المدجنون عصراً، يتمتعون فى ظل الحكم الإسبانى بامتيازات كثيرة، ويعيشون فى نوع من الأمن والدعة، بعيداً عن عصف الأهواء السياسية والقومية العنيفة. ولكن هذه الحال أخذت فى التبدل منذ اتسع نطاق الفتوحات النصرانية فى أراضى الأندلس، وزاد بذلك عدد المدجنين فى مختلف المناطق المفتوحة. وكانت الكنيسة تبغض هذه الطوائف الإسلامية، القائمة فى قلب المجتمع النصرانى، وتنقم على المدجنين هذه الدعة وهذا التسامح، وترى فى احتفاظهم بدينهم ولغتهم نوعاً من التحدى المذموم، وتأخذ على ملوك قشتالة وأراجون تسامحهم فى معاملتهم، وتسعى جاهدة لتحريضهم على اتباع سياسة الإنتقام والعنف، إزاء أولئك الرعايا المسالمين. ومنذ أوائل القرن الثالث عشر، تتوالى أوامر البابوية وقراراتها ضد المدجنين، والحض على استرقاقهم أو تنصيرهم، ومن ذلك ما أمر به البابا إنوسان الرابع فى سنة 1248 م، ملك أراجون خايمى الأول من وجوب استرقاق المسلمين فى الجزائر الشرقية. ولكن خايمى لم يأبه لذلك الأمر. ولما فتح ثغر بلنسية فى سنة 636 هـ (1238 م)، سمح للمسلمين أن يبقوا فيها كمدجنين. وكان ملوك قشتالة وأراجون يعارضون هذه السياسة العنيفة، لبواعث وأسباب تتعلق بمصالحهم القومية ورخاء بلادهم. ذلك لأن المدجنين كانوا بين رعاياهم، أفضل العناصر وأنشطها،
(1) عنوان هذه الرسالة المخطوطة هو: "كتاب أسنى المتاجر فى بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب على ذلك من العقوبات والزواجر"، وهى تقع فى عشر لوحات مزدوجة وتوجد ضمن مجموعة مخطوطة لا عنوان لها، وتحفظ بمكتبة دير الإسكوريال برقم 1758 الغزيرى، وفى نهاية هذه المجموعة أنها كتبت سنة 896 هـ (1490 م). وقد قام بتحقيقها ونشرها أخيراً الدكتور حسين مؤنس، وذلك فى مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الخامس ص 129 - 191).
وأكثرها دأبا ومثابرة، وأوفرها تأدية للضرائب، وكانوا ساعد النبلاء الأيمن فى زراعة أراضيهم واستغلالها. وكانوا يستأثرون بالتفوق فى العلوم والفنون والمهن. وكانوا أبرع الأطباء والمهندسين والبنائين. وكان لهم الفضل الأول، فى إدخال محاصيل عديدة فى اسبانيا النصرانية، مثل القصب والقطن والأرز والحرير والتين والبرتقال واللوز وغيرها، وما زالت مشاريع الرى التى أنشأوها، ولاسيما فى مناطق اسبانيا الشرقية والشمالية الشرقية تشهد بعبقريتهم فى هذا المضمار. وهم الذين وضعوا أسس الصناعة الإسبانية، وكانوا أساتذة الصناعات الدقيقة، وكانت صناعاتهم ولاسيما المنسوجات القطنية والحريرية، والفخار والخزف والجلود، نماذج بارعة تحذو حذوها الصناعة الأوربية، فلم يك ثمة أشهر من خزف مالقة، ولا أقمشة مرسية، ولا حرير ألمرية وغرناطة، ولا أسلحة طليطلة، ولا منتجات قرطبة الجلدية. وكانت بلنسية التى تضم كتلة كبيرة من المدجنين، تعتبر من أغنى ثغور أوربا بما تنتجه من السكر والنبيذ وغيرهما من المنتجات العديدة. وكان المدجَّنون مثال النشاط والدأب، يزاولون التجارة بنجاح وشرف، وكانوا أفضل التجار وأوفرهم أمانة ونزاهة، ولم يكن بينهم متسولون إذ كانوا يعولون فقراءهم. وكانوا مثلا للنظام والسكينة، يحسمون منازعاتهم بأنفسهم. وعلى الجملة فقد كانوا يؤلفون أصلح عنصر بين السكان الذين يمكن أن تحتويهم أى البلاد (1).
ويلخص لنا المؤرخ الإسبانى خانير أحوال المدجَّنين فى عصور التسامح والتزمت معاً على النحو الآتى:
"كان ثمة معاهدات من كل ضرب، تحترم بإخلاص فى سائر نقطها الجوهرية وتعتبر أساساً للحقوق والتعهدات المدنية للأندلسيين المدجنين، ويختلف بعضها عن بعض، سواء فى قشتالة أو أراجون، وفقاً لتباين النقط التى تتعلق بالامتيازات المختلفة. فهنا مثلا تطبق بنوع من التوسع، أو بروح يقل أو يكثر من الحرية أو التزمت، وذلك وفقاً لما نصت عليه اتفاقات تُطيلة أو طرطوشة، وقوانين قيجاطة أو عسقلونة، أو قلعة أيوب أو طليطلة، أو امتيازات بلنسية أو قرطبة أو إشبيلية، أو امتيازات القرى أو المزايا التى منحت للأحياء أو الضياع التى
(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain، V. II. p. 66، 67 ; Dr. Lea: The Moriscos of Spain p. 57.
يسكنها كلها المسلمون. ومن أمثال التوسع والتسامح التى يقدمها إلينا التاريخ، وهو واحد من عدة كثيرة، الإمتياز الذى منحه خايمى الفاتح إلى مسلمى "وادى أوشو"، بأن يسكنوا فيه، وأن يقيلهم من الجرائم التى ارتكبت فيه، والعقوبات التى وقعت بسببها، ومن الديون التى عليهم لليهود، وأن يستمروا فى تطبيق شريعتهم، وأن يعلموا القرآن جهراً لأولادهم، وأن يقوموا جهراً بسائر شعائرهم الإسلامية، وأن يتعاملوا فى كل شىء داخل المنطقة كلها، ويدفعوا الضرائب المعتادة، باستثناء السنة الأولى حيث يعفون منها، وأخيراً بأن يحكموا فى قضاياهم الخاصة، وأن يقوموا بإدارة إيراد المساجد، وتعيين القضاة والعلماء وفقاً لتقاليدهم القديمة، ثم ولا يسمح لنصرانى أو متنصر أن يقيم بينهم دون إذن خاص منهم، وأن يحصلوا على عهد بتأمين أنفسهم وأموالهم، سواء بالنسبة لهم أو بالنسبة لأعقابهم، وهم يتعهدون من جانبهم بأن يؤدوا العشور، وأن يتعاونوا مع الدولة ومع باقى الرعايا من جيرانهم، وألا يقتربوا مطلقاً من الأماكن التى توجد بها الحرب، وألا يساعدوا أعداء ملوك أراجون.
بيد أنه كان ثمة طوائف أخرى من المدجنين أقل حظاً، فى بعض القرى التى أخضعت لبعض الفروض، ذلك أنه بالرغم من منحهم حرية التعبد، وضمان أملاكهم، فإنه نص مع ذلك على ألا يتخذوا الرقيق أو الخدم من النصارى، وألا يأكلوا أو يستحموا مع النصارى، وألا يقوموا بعلاجهم حال المرض، وألا يدفنوهم فى مدافنهم؛ كذلك حرم عليهم أن يقوموا علناً بشعائر دينهم، وألا يتخذوا مسائل الدين المسيحى موضعاً للمناقشة. ويلاحظ، أنه خلال هذه القيود العادلة التى كانت تقتضيها كرامتنا، فى عصر كانت الحروب الدينية تلهب فيه حماسة الكافة، أن حالة المدجَّنين كانت أفضل بكثير من حالة اليهود. وأن المدجنين قد استحقوا الثقة فى عهودهم. وقد كان المدجنون واليهود كلاهما يعاونون الدولة بدفع العشور من مواردهم، وكان هذا مما يرضى العرش، أو السادة، أو الأحبار الذين يتبعونهم.
ونحن متى تدبرنا ذلك التنوع الذى يقدمه لنا التشريع النصرانى للجنس المغلوب خلال عصر الإسترداد، يجب ألا نعتقد أننا نستطيع أن نكتشف نظاماً سياسياً معيناً، يقصد إلى استغراق السكان المسلمين مباشرة، سواء بالقوة أو بالمصانعة، ويفضى تدريجياً إلى الوحدة، التى حققت فى النهاية فى المملكة، وكان واجباً أن
تحققها الأمة الإسبانية فى الدين كما تحققت فى شكل الحكومة. والواقع أنه إذا لم يكن ثمة نظام معين -كان من المستحيل تحقيقه أيام الاسترداد- فإنا نجد مع ذلك من خلال التعامل السلمى بين النصارى والمدجنين، والحرية المطلقة فى التعبد، ميولا واضحة للتوفيق قدر الإمكان بين الأجناس دون قوة ودون عنف. وهكذا فإنه مع ترك المساجد للمسلمين، كان الظافرون يخصصون أحدها فقط، وهو المسجد الجامع للعبادة النصرانية، كما حدث فى جيّان وقرطبة وإشبيلية. ولنفس هذه الغاية أنشأ الفونسو العالم فى سنة 1245 م فى إشبيلية دراسات لاتينية وعربية، وأمر أن تُرفع بعض الضرائب عن الأشخاص الذين ينتظمون فى دراستها. ويكفى للتدليل على روح التسامح التى كانت سائدة بين الأمتين أن نذكر التحية التى أداها ملك غرناطة المسلم لذكرى وفاة سان فرناندو، حيث أرسل فى سنة 1260 م، إلى الاحتفالات الدينية التى أقيمت بهذه المناسبة فى كتدرائية إشبيلية، طائفة من الفرسان من حاشيته، ومائة من المسلمين، حملوا فى أيديهم مع كثيرين آخرين شموعاً بيضاء. وفى خلال حرب غرناطة، أيام الملكين الكاثوليكيين، وهو عصر عظيم فى تاريخنا، كانت فيه القسوة تمتزج بالبطولة، سقطت أماكن كثيرة فى أيدى النصارى، بفضل ما أبداه هذان الملكان من الكياسة والحكمة السياسية، وما منحاه من ضروب الرحمة، والمنح الأخرى إلى المغلوبين، الذين فتحوا أبوابهم طوعاً، فى حين أنهم لو قاوموا حتى النهاية، لفرض الأسر على السكان، وبيعوا كالرقيق، ولم يمنحوا عهداً ما" (1).
وقد لبث ملوك قشتالة عصوراً يحرصون على الانتفاع بنشاط المدجنين وحمايتهم. ونستطيع أن نقول على ضوء الوثائق التى سبقت الإشارة إليها إنه كانت ثمة طوائف كبيرة منهم حتى القرن الخامس عشر، تعيش فى أنحاءكثيرة من اسبانيا النصرانية محتفظة بدينها ولغتها وتقاليدها (2). وكانت البابوية تسير على خطتها، من التحريض
(1) Florecio Janer: Condicion Social de los Moriscos de Espana (Madrid 1857) p. 13 & 14.
(2)
نشر المستشرق ديرنبور صورة وثيقة عربية إسبانية مؤرخة فى سنة 1312 م بعنوان: Une Charte Hispano-Arabe de l'année 1312:، وقد عقدت بين جماعة من المدجنين المقيمين بنافار وبين رئيس مستشفى يوهان دى أورشليم النصرانى. وفيها تبين حقوق كل طرف وواجباته. ومما رتب فيها على المدجنين "أن تعطوا للاشبطال Hospital المذكور الثلث من كل ما تجمعوا من طعام ومن عنب ومن زيتون ومن فول، ومن كل نوع من كل ما تجمعوا من كل فاكهة. وهذا =
عليهم والمطالبة بتجريدهم من دينهم، والعمل على تنصيرهم بطريق الاضطهاد والعنف، وتردد الكنيسة الإسبانية من جانبها هذا التحريض. ولكن هذه السياسة الباغية لم تحدث أثرها إلا ببطىء، ولم يتسع نطاقها إلا فى أواخر القرن الخامس عشر عندما أشرفت الدولة الإسلامية فى غرناطة على نهايتها. وكان قيام مملكة غرناطة فى ذاته، عنصراً من عناصر تكييف السياسة الإسبانية إزاء المدجنين. ذلك أن ملوك اسبانيا فوق ما كان يحدوهم من رغبة المحافظة على مصالحهم وسكينة بلادهم بإيثار الرفق فى معاملة المدجنين، كانوا أيضاً يخشون سياسة الانتقام من النصارى المقيمين فى غرناطة، وفيما وراء البحر فى بلاد المغرب، بل وفى الممالك الإسلامية الأخرى مثل مصر وتركيا. على أن العوامل الاجتماعية والمحلية كانت من جهة أخرى تحدث أثرها فى مجتمع المدجنين. ذلك أنه بالرغم من جميع الفوارق التى كانت تفصل بينهم وبين النصارى، فقد جنح الكثير منهم إلى التشبه بجيرانهم، وانتهوا بمضى الزمن وأثر الاختلاط والتزاوج إلى فقد دينهم ولغتهم، ومميزاتهم الجنسية والقومية، والاندماج شيئاً فشيئاً فى المجتمع الذى يعيشون فيه؛ وهكذا أصبحوا بالتدريج قشتاليين ونصارى، وأضحى علماؤهم يكتبون كتب الدين والشريعة بالقشتالية
= كله أن يعملوه فى عهد وميثاق وصدق. وكل مسلم أن يحبس دار ونار فى أسران المذكور أن يقدم لقائد أسران الذى يكون على الاشبطال المذكور ربع من قمح، النصافة من قمح والنصافة من شعير فى شهر أغشت من كل عام طول الأبد، وكل دار أن يعطى للاشبطال المذكور أربعة مرافق من تين فى كل عام، وكل عامر مسلم ومسلمين فى الموضع المذكور أى يعملوا كل نفقة أن يحتاج فى الموضع المذكور .. " ثم تقول الوثيقة:
"أن يطبخوا المسلمين المذكورة خبزهم فى فرن الإشبطال المذكور عن دايم الدهر، وأن يعطوا من ستة عشر خبزة واحدة، ولا يقطعوا أشجار، ولا يقلعوا كرمان دون أمر قائد أسران .. " يكون جميع خصماتكم لحكمه (أى القمندور) وإن كان تريدوا تعملوا عند حكمه ارتفاع (استئناف) أن تعملوا أمام كل قاضى أن يكون مسلم من تطيلة كما هو سنتكم وشرعتكم، وأن تكونوا أجسامكم وأموالكم ملتزمة للاشبطال المذكور، وذلك بشرط أن لا يكون لأحد منكم أن يخرج من الموضع المذكور، وكل واحد منكم لا يبيع ولا يرهن ميراث الاشبطال لنصرانى أو يهودى. ونص فى نهاية الوثيقة أنها ختمت بخاتم دون بطره غرسيس ملك نبره (نافار)، وأرخت فى الثامن عشر من فبراير سنة أحد عشر وسبعمائة هجرية وهى توافق سنة 1311 م. ووقعها من المدجنين سبعة منهم موسى الليلى المجتى والمراتب بن وليد وعيسى بن موسى ولب يارس دريس. ووضعت أصولها الإسبانية فوق كل عبارة عربية.
ويبدو من مضمون هذه الوثيقة العربية الإسبانية ومن ركاكتها أن المدجنين فى هذه المنطقة من نافار كانوا أقل احتفاظاً بلغتهم وامتيازاتهم وأنهم كانوا قد بدأوا يومئذ يفقدون كيانهم الاجتماعى وامتيازاتهم القديمة.
للرجوع إليها. وقام أيضاً بين المدجنين أدب قشتالى، استمر عصوراً حتى بعد إخراج العرب المتنصرين من اسبانيا (1). على أن المدجنين لبثوا بالرغم من هذا الاندماج الاجتماعى تطبعهم مسحة خاصة تباعد بينهم وبين المجتمع النصرانى القديم (2).
كان نظائر هؤلاء الأندلسيين المدجنين، جمهرة من النصارى الإسبان يعيشون فى القواعد والثغور الإسلامية، ويعرفون بالنصارى المعاهدين أو المستعربين (وبالإسبانية Mozarabes) . وقد لبثوا عصوراً يتمتعون فى ظل الحكم الإسلامى بضروب الرعاية والتسامح. وكانت الحكومات الأندلسية، حتى فى أزهى عصورها، تحافظ على سياسة التسامح التى اتبعت إزاءهم منذ الفتح، وتعاملهم بالرفق، وتحترم شعائرهم الدينية وتقاليدهم القومية، وتجانب أية محاولة لإرغامهم على اعتناق الإسلام. وكان من ضروب هذه الرعاية، أن أنشىء فى ظل حكومة قرطبة منذ عهد الحكم بن هشام، ديوان خاص للنظر فى شئون أهل الذمة (النصارى واليهود)، يتولاه كبير من الأحبار النصارى يطلق عليه " قومس أهل الذمة". وهكذا استطاعوا دائماً أن يحتفظوا بدينهم ولغتهم، ومميزاتهم القومية والاجتماعية. وكانت حال النصارى فى ظل الحكم الإسلامى، أفضل بكثير مما كانت عليه أيام القوط، وكثيراً ما كان يعهد إليهم بمناصب القيادة والوزارة، أو ينتظمون فى البلاط والحرس الملكى. ومع ذلك فقد كانت منهم دائماً طوائف متعصبة تسىء استعمال هذا التسامح، وتحاول بمختلف الوسائل أن تكيد للإسلام ودولته ومن ذلك ما حدث فى عهد عبد الرحمن بن الحكم (أواسط القرن التاسع الميلادى) من الحوادث الدموية التى أثارها تعصب النصارى (3). وهكذا فإن النصارى المعاهدين، لم يشعروا دائماً بالولاء والإخلاص للدولة الإسلامية. التى يعيشون فى ظلها، والتى توليهم كثيراً من رعايتها ورفقها، وكانوا دائماً يتربصون بها، وينتهزون الفرص لمناوأتها والكيد لها، ويستعدون عليها الوطن القديم، كلما اضطربت شئونها. وعصفت بها عواصف الثورة والحرب الأهلية. وكانت أعظم
(1) المقصود هنا أدب الألخميادو Aljamiado وهو عبارة عن كتابة اللغة القشتالية المحرفة بحروف عربية مشكلة. وكان العرب المتنصرون يضطرون إلى كتابة كتبهم الدينية بهذه اللغة بعد أن حرمت عليهم لغتهم العربية، وسنعود إلى التحدث عن ذلك فيما بعد.
(2)
Dr. Lea: History of the Inquisition، V. I. p. 65.
(3)
راجع كتاب " دولة الإسلام فى الأندلس"(الطبعة الثالثة) العصر الأول ص 264 - 270.
خيانة ارتكبوها من هذا النوع، فى أواخر أيام المرابطين، حينما دعوا ألفونسو الأول ملك أراجون الملقب بالمحارب عقب استيلائه على سرقسطة، إلى أن يسير إلى غزو الأندلس، بعد ما لاح من انحلال سلطان المرابطين فيها، واستجاب ملك أراجون لتحريضهم، وسار مخترقاً الأندلس بجيوشه، والنصارى المعاهدون فى كل قاعدة ينهضون إلى معاونته بوسائلهم، وذلك فى سنة 519 هـ (1125 م)، ْحتى انتهى إلى فحص غرناطة وحاصرها حيناً، ثم غادرها إلى الجنوب، ونشب القتال بينه وبين المرابطين فهزمهم. ولبث حيناً يعيث فى تلك الأنحاء، والنصارى المعاهدون يهرعون إلى شد أزره، ويمدونه بالأقوات والمؤن. ثم عاد ثانية إلى اختراق الأندلس إلى أراجون، وقد انضم إلى جيشه آلاف من النصارى المعاهدين. ولفتت هذه الغزوة أنظار المسلمين إلى خطر بقاء أولئك المعاهدين فى الثغور والقواعد الأندلسية، فانقلبت الحكومة الإسلامية إلى مطاردتهم، وأفتى القاضى أبو الوليد ابن رشد الجد بإدانتهم فى نقض العهد والخروج على الذمة، ووجوب تغريبهم وإجلائهم عن الأندلس، وأخذ أمير المرابطين علىّ بن يوسف بهذه الفتوى، وغرّبت ألوف من النصارى المعاهدين إلى إفريقية، وفرقوا هنالك فى أماكن مختلفة، وهلك الكثير منهم بسبب الطقس وتغير وسائل التغذية، وضم السلطان كثيراً منهم إلى حرسه الخاص، وكانت هذه المحنة سبباً فى تمزيق عصبتهم وإضعاف شوكتهم (1).
وقد كان مجتمع المستعربين أو النصارى المعاهدون، حتى فى القواعد الأندلسية التى سقطت تى يد اسبانيا النصرانية، وبسط عليها النصارى حكمهم، يتأثر بمجتمع المدجنين، وبأحواله وتقاليده، حتى أنهم كانوا يتخذون اللغة العربية لغة التعامل، ولغة التخاطب أحياناً، إلى جانب لسانهم القومى. وقد قمنا بدراسة مجموعة من الوثائق العربية المحفوظة بدار المحفوظات التاريخية بمدريد، والمنقولة إليها من دير سان كلميمنتى بطليطلة، وهى مجموعة ضخمة، كلها عقود تعامل من بيع وشراء وهبة وإيجار ووصية وغيرها، ومعظمها مكتوب فى القرن الثالث عشر الميلادى، وبعضها فى القرن الثانى عشر. وهى محررة على الأغلب بين المستعربين وأحياناً بينهم وبين المدجنين، بأسلوب عربى لا بأس به، وكلها تستهل بالبسملة مقرونة أحياناً بعبارة " وبه نستعين " أو " الحمد لله وحده "، وعلى كثير منها شهود مسلمون
(1) راجع الإحاطة ج 1 ص 115 و 120؛ والحلل الموشية ص 70 و 81؛ وراجع كتابى " عصر المرابطين والموحدين فى المغرب والأندلس " القسم الأول - ص 108 - 112.
مدجنون إلى جانب الشهود النصارى، ومما يلفت النظر أن أسماء المستعربين النصرانية قد عربت فيها تعريباً حسناً، وإليك ملخص لبعض ما جاء فيها:
(1)
من ذلك وثيقة مؤرخة فى "شهر دجنبر من عام سبعة وثمانين وماية وألف من تاريخ الصفر"(1187 م) وبمقتضاها " باعت الراهبة دونة بويابيه وأختها كرشتينة بنتى تمام الرطلقى ومرتين ودمنغة إبنى بشتة بنت تمام الرطلقى ومريّة ولوقاذة بنتى دمنغة بنت تمام الرطلقى من دون ردريق مينوس ومن زوجته دونه سسيلية نصف الضيعة المعلومة لتمام الرطلقى بقرية دليش مالمزنوفه من عمل طليطلة حرسها الله وذلك سهم ونصف والحنان كله الذى فيه البير إذ تبقت عواضه البيوت المعلومة لتمام المذكور بالقرية المذكورة .. بثمن عدته عشرون مثقالاونصف ذهباً مرابطية دفع المبتاعان بجميع الثمن إلى البائعين وقبضوه منهما
…
" وعلى الوثيقة أسماء شهود مدجنين مثل دمنغة بن عبد العزيز، واشتامن بن حسان، وشهود من النصارى.
(2)
ووثيقة مؤرخة فى شهر "أغشت من سنة ثلاث وسبعين وماية وألف لتاريخ الصفر"(1173 م) بمقتضاها" اشترى الوزير دون ميقايال بيطس أعزه الله من بهلول وأخيه بيطرة ابنى مرتين بن بهلول رحمه الله جميع الدار الكبيرة، والقرال المتصل بها من جهة الغرب والقبلاريسة المتصلة بها أيضاً من جهة القبلة حدود جميع ذلك كله فى الشرق الطريق السالك وإليه يشرع الباب، وفى الغرب دار ابن طورينه المسلم أمين الفخارين، وفى القبلة دار بيطرة البنا بن بهلول، وفى الجوف دار تبقت بيد البائعين، ودار سلمة بن حسان
…
بثمن عدته ثمانون مثقال ذهباً مرابطية
…
" وتحمل الوثيقة أسماء عدة شهود مسلمين مثل عبد الله ابن داود، وعامر بن تمام، وعلى بن عياش.
(3)
ووثيقة مؤرخة فى "العشر الأخر من شهر أكتوبر سنة خمس وأربعين ومايتين وألف للصفر " بمقتضاها " اشترى الوزير دون شانجه شقورة الفرايلى أدام الله عزته من دون خوان دمنغة بن الصباغ ومن زوجته دونة مريّة بنت تيان بيطر من جميع الكرم الكبير الذى لهما بحومة خندق عقرون من أحواز مدينة طليطلة حرسها الله، وحده فى الشرق كرم لورثة دون أندراش البرجمانس وفى الغرب مخدع سالك من نهر تاجه إلى الحقل وفى القبلة أرض بنضل لدون فرنندة بن بوارى عبد الملك وفى الجوف كرم كان للوزير المتشرف أبى عمر بن جوفار
ومنزل الآن للقاضى دون يليان افمانس
…
والثمن مبلغه وعدته ستون مثقالا ذهباً من الذهب الأذفونشى الضرب دفع المبتاع المذكور جميع الثمن للبايعين المذكورين وقبضاه منه
…
وخلص بذلك للمبتاع المذكور ملك جميع المبيع الموصوف
…
الخ " وعلى الوثيقة شهود مسلمون ونصارى.
ونحن نكتفى بإيراد ما تقدم من هذه الوثائق. وهذه العقود تدلى بكثير من الحقائق التاريخية، فمنها يستدل أولا على أنه كانت توجد بطليطلة حتى أواخر القرن الثالث عشر، أقلية مسلمة هامة من المدجنين. ونحن نعرف أن طليطلة سقطت فى أيدى النصارى منذ سنة 478 هـ (1085 م). ومنها نعرف الكثير عن خطط طليطلة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر للميلاد، ومنسوب أثمان العقارات، ونوع العملة المستعملة فى التعامل، وفيها ما يدل بوضوح على توثق أواصر المودة والتفاهم بين المدجنين والنصارى (1).
على أن الكثرة الغالبة من المسلمين فى القواعد الأندلسية الذاهبة، كانت تؤثر الالتجاء إلى أرض الإسلام والتشبث بلواء الدولة الإسلامية. وهكذا أخذت مملكة غرناطة، تموج منذ أواسط القرن السابع الهجرى بسيول الوافدين عليها، من بلنسية ومرسية وقرطبة وإشبيلية وجيان وبياسة وغيرها، وهكذا غدت المملكة الصغيرة تضيق بسكانها المسلمين، بعد أن احتشدت بقايا الأمة الأندلسية المتداعية فى تلك المنطقة الضيقة. ومن المرجح أن مملكة غرناطة كانت تضم فى عصورها الأخيرة، زهاء خمسة أو ستة ملايين من الأنفس، وكانت غرناطة وحدها تضم أكثر من نصف مليون نفس، وقد كانت هذه الهجرة الغامرة من مختلف القواعد الأندلسية فى الشرق والغرب، إلى ذلك الوطن الأندلسى الجديد، تضفى على التكوين العنصرى لسكان مملكة غرناطة طابعاً خاصاً. وبالرغم من أن العناصر الأساسية التى تتكون منها الأمة الأندلسية، وهى العرب والبربر والمولدون - وهم أعقاب الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح - لبثت على كر العصور
(1) تحفظ هذه الوثائق فى قسم Archivos Historicos الملحق بالمكتبة الوطنية بمدريد. وقد نشر معظم وثائق هذه المجموعة المستشرق الإسبانى الكبير كونثالث بالنثيا Gonzalez Palencia مقرونة بترجمته الإسبانية فى أربعة مجلدات كبيرة تحت عنوان Los Mozarabes de Toledo en los Siglos XII y XIII ونشرت مقتطفات منها فى P. Boigues: Escrituras Mozarabes Toledanas.
صورة وثيقة مستعربية Mozarabe من مجموعة دير سان كلميمنتى بطليطلة، وهى عبارة عن عقد شراء مؤرخ فى شهر " أغشت " سنة 1173 م، وقد وقع عليها شهود مسلمون مدجنون إلى جانب المتعاقدين النصارى.
دون تغيير، فإنه يلاحظ أن الجموع الوافدة على المملكة الإسلامية الجديدة، كانت تضم كثيراً من العناصر التى صقلتها حضارة أرقى، ومن ثم فإنه يمكن القول بأن الأمة الإسلامية الجديدة، كانت تمثل أطيب وأثمن ما بقى من القيم العنصرية والحضارية للأندلس القديمة.
وكان المولدون يمثلون فى المجتمع الأندلسى الجديد مثولا قوياً. وكان أولئك المولدون قد نموا بمضى الزمن حتى غدوا عنصراً هاماً بين سكان الأمة الأندلسية. وكان العرب والبربر ينظرون إليهم وبشىء من الريب. وكانوا بالرغم من تمتعهم فى ظل الحكومات الإسلامية المتعاقبة بنفس الحقوق التى يتمتع بها باقى المسلمين، ينزعون إلى الثورة فى أحيان كثيرة، وقد كان لهم شأن يذكر، فى إضرام بعض الثورات الخطيرة التى اضطرمت ضد حكومة قرطبة، مثل ثورة الربض، وثورة طليطلة أيام الحكم بن هشام، وثورة بنى قسىّ فى الثغر الأعلى، وقد كان جدهم الكونت قسىّ قوطياً نصرانياً. وكان المولدون أعوان ابن حفصون أعظم وأخطر ثوار الأندلس، وهو الذى استطاع بمؤازرتهم ومؤازرة النصارى المعاهدين، أن ينشىء مدى حين مملكة مستقلة فى منطقة رندة (أواخر القرن التاسع الميلادى). وكان ابن حفصون مولداً يرجع إلى أصل نصرانى. على أن المولدين كان لهم موقف آخر ضد الغزاة القادمين من إفريقية. فقد وقفوا إلى جانب مواطنيهم الأندلسيين ضد المرابطين ثم الموحدين، وكان عماد الثورة ضد المرابطين فى غربى الأندلس زعيم من المولدين هو الفقيه المتصوف أحمد بن قسىّ شيخ المريدين، وكان زعيم الثورة ضد الموحدين فى شرقى الأندلس زعيم من المولدين هو محمد بن سعد بن مردنيش أمير بلنسية ومرسية. وكان يتحدث القشتالية ويلبس الملابس الإفرنجية، ويحشد فى جيشه كثيراً من الضباط والجند النصارى (1). ولم يكن للعاطفة الدينية فى تلك العصور وفى تلك الظروف دائماً كبير أثر، بل كانت تغلب فى معظم الأحيان عواطف القومية والمصلحة الخاصة. ويبدو ذلك بنوع خاص فى سياسة زعيم مثل ابن مردنيش كانت سياسته تقوم على مصادقة النصارى، والاستعانة بهم على تنفيذ خططه (2). كذلك كان يمثل بين سكان غرناطة أقلية يهودية قوية، معظمهم من طائفة " السفرديم " القديمة أو اليهود الإسبان. وكان لليهود فى ظل معظم
(1) الإحاطة ج 2 ص 87.
(2)
Dr. Lea: History of the Inquisition، V. I. p. 50.
الحكومات الإسلامية نفوذ يذكر. وكان منهم أعلام فى العلوم والآداب مثل الرئيس موسى بن ميمون القرطبى، الذى غادر الأندلس إلى المشرق فى أواسط القرن السادس الهجرى، فراراً من اضطهاد الموحدين، وكان لهم مثل هذا النفوذ فى مملكة غرناطة، ومنهم معظم أطباء البلاط والخاصة.
وكانت العروبة تغلب على السكان المدنيين فى مملكة غرناطة، ولاسيما بعد أن نزح إليها على أثر سقوط القواعد الأندلسية فى أيدى النصارى، كثير من سادة البطون العربية القديمة. ويذكر لنا ابن الخطيب عشرات من الأنساب العربية العريقة التى كان ينتمى إليها أهل غرناطة. بيد أنها كانت عروبة من نوع خاص، صقلتها الأمة الأندلسية، وأضفت عليها طابعها وألوانها الخاصة. ويصف ابن الخطيب الغرناطيين بوسامة الوجوه، واعتدال القدود، وسواد الشعر، ونضرة اللون، وإناقة الملبس، وحسن الطاعة والإباء، يتحدثون بعربية فصيحة تغلب عليها الإمالة. ويصف نساءهم بالجمال والرشاقة والسحر، ونبل الخلال، ولكنه ينعى عليهن المبالغة فى التفنن فى الزينة والتبهرج فى عصره. أما الجند فكانت فيهم كثرة ظاهرة من البربر، ولا سيما من قبائل زناتة ومغراوة وبنى مرين. ويرجع ذلك إلى أن طوائف البربر التى تخلفت منذ عهد المرابطين والموحدين بالأندلس، كان أغلبها من الجند، وقد بقيت على عهدها تؤثر الجندية على الزراعة والمهن والفنون المدنية (1).
وهكذا كان الشعب الأندلسى حين آذنت شمسه بالمغيب، كما كان يوم مجده، يتكون من هذا المزيج العربى الإفريقى الإسبانى الذى أطلق عليه الغربيون عبارة "عرب الأندلس" أو "مسلمى الأندلس"(2).
وكانت الأمة الأندلسية تتمتع حتى فى عصورها الأخيرة بحضارة زاهرة، كانت مثار التقدير والإعجاب فى سائر الأمم الأوربية، وكان يحج إلى معاهدها العلمية كثير من الطلاب من مختلف أنحاء أوربا.
وكان الشعب الغرناطى من أهل السنة يدين بمذهب مالك، وهو المذهب الذى غلب على الأمة الأندلسية منذ أواخر القرن الثانى الهجرى، أعنى منذ عصر هشام بن عبد الرحمن الداخل، ولم تتأثر غرناطة فى نزعتها المذهبية ولا تقاليدها الدينية السمحة، بما توالى عليها من سيادة المرابطين والموحدين حيناً من الدهر.
(1) راجع الإحاطة فى أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 140 - 145؛ واللمحة البدرية، ص 27 و 28.
(2)
وهى بالإسبانية Los Moros، وبالإنجليزية The Moors، وبالفرنسية Les maures