المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول الأندلس الغاربة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الأول الأندلس الغاربة

‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

دول الطوائف. المرابطون والموحدون. سياسة الإسترداد النصرانية. سقوط القواعد الأندلسية في يد النصارى. موجة الاسترداد الغامرة في القرن السابع. شعور أهل الأندلس بمصيرهم. مدينة غرناطة. صفتها أيام الدولة الإسلامية. ما بقى من خططها ومعالمها الأندلسية.

- 1 -

يقدم إلينا تاريخ الأندلس في مراحله الأولى، صفحات باهرات من ضروب المجد الحربى والسياسى، وآيات ساطعات من ضروب التمدن والعرفان. ولكنه يقدم إلينا في مراحله الأخيرة، صفحات مشجية مؤثرة من تقلب الجدود، وتعاقب المحن، والانحدار البطىء المؤلم، إلى معترك الهزيمة، والذلة والسقوط.

ولا تمثل قصة الأندلس، سوى الحقيقة التاريخية الخالدة. وليس مجرى التاريخ سوى تعاقب الأجيال والأمم، وتبدل الحضارات والدول. ولكن الصراع الطويل المضطرم، الذي خاضته الأمة الإسلامية في الأندلس، قبل أن تستسلم إلى قدرها المحتوم، يبدو فضلا عما يحف به من ألوان البطولة الخالدة، صفحة رائعة من الاستشهاد المؤثر، قلما يقدمها إلينا تاريخ أمة من الأمم، التي اشتهرت بالذود عن حياتها وحرياتها.

وقد سقطت قواعد الأندلس الشهيرة، في سلسلة من المعارك والمحن الطاحنة، التي تقلبت فيها الأمة الأندلسية، منذ انهار صرح الخلافة الأموية في الأندلس، في أواخر القرن الرابع الهجري، وقامت دول الطوائف الصغيرة المفككة، على أنقاض دولة عظيمة شامخة. وكان سقوط كل قاعدة من هذه القواعد الشهيرة التي كانت تسطع بمجتمعاتها وحضارتها الزاهرة، خلال حلك العصور الوسطى، يمثل ضربة مميتة للدولة الإسلامية في الأندلس، ويحدث أعمق صدى في جنبات الدول الإسلامية في الشرق والغرب، وينتزع من وحى النثر والنظم أروع المراثى. وكانت الأمة الأندلسية، كلما سقطت قاعدة من قواعدها الشهيرة، في يد عدوتها القديمة المتربصة بها - إسبانيا النصرانية - ألفت عزاءها في قواعدها الأخرى،

ص: 16

وهرع معظم السكان المسلمين إلى تلك القواعد الإسلامية الباقية، إستبقاء لحرياتهم ودينهم وكرامتهم، حتى لم يبق من تلك القواعد الشهيرة سوى غرناطة وأعمالها، تؤلف مملكة إسلامية صغيرة، ولكن أبية ساطعة، استطاعت عبقرية بناتها النصريين، أن تسير بها خلال العاصفة أكثر من مائتى عام.

والحقيقة أن مصير الأندلس، كان يهتز في يد القدر، مذ فشلت ريح دول الطوائف، وغلب عليها الخلاف والتفرق، وانحدرت إلى معترك الحرب الأهلية، تفسح لعدوها الخطر مجال التفوق عليها، والضرب والتفريق بينها. وقد استطاع بعض ذوى النظر الثاقب من رجالات الأندلس، حتى في ذلك العصر، الذي كان الإسلام يسيطر فيه على معظم أنحاء شبه الجزيرة الإسبانية، أن يستشفوا ما وراء هذا التفرق من الخطر الداهم. فنرى ابن حيان مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري، يقول لنا بعد أن يصف حوادث سقوط بربشتر، من أعمال الثغر الأعلى (أراجون)، في يد النصارى (النورمان) في سنة 456 هـ (1063 م) وما اقترن بسقوطها من القتل والسبى وشنيع الاعتداء:"وقد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها، مما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولاشك عند أولى الألباب، أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادى عليه، على شفا -جرف يؤدى إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا -لا قدس- بهيم الشبه، ما أن يباهى بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالى الغى بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعى لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقرى بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفا، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم "(1)، ولم يكن هذا التنديد من

(1) نقلنا هذه الفقرة من تعليقات ابن حيان على نكبة بربشتر، عن الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث المخطوط المحفوظ بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (لوحات 34 - 36). ونقل المقري بعض هذه التعليقات في نفح الطيب (مصر) ج 2 ص 576.

ص: 17

جانب المؤرخ الأندلسى الكبير، بتواكل أهل الأندلس، وتخاذلهم عن نصرة دينهم وإخوانهم، إلا معبراً عن حقيقة راسخة مؤلمة، ظهرت بأروع مظاهرها، في عصر الطوائف. بل لقد لاح مدى لحظة، حينما سقطت طليطلة أول قاعدة إسلامية كبيرة، في يد اسبانيا النصرانية في سنة 478 هـ (1085 م)، أن الأندلس أضحت على وشك الفناء، وأن دول الطوائف المنهوكة الممزقة، سوف تسقط تباعاً في يد عدوها القوى، وأن دولة الإسلام في اسبانيا سوف تطوى وتختتم حياتها المجيدة في شبه الجزيرة. وقد ساد الفزع والتوجس يومئذ جنبات الأندلس كلها، حتى قال شاعرهم حينما سقطت طليطلة:

يا أهل أندلس شدوا رحالكم

فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه وأرى

سلك الجزيرة منثوراً من الوسط

من جاور الشر لا يأمن بوائقه

كيف الحياة مع الحيات في سفط

ولكن الدرس كان عميق الأثر، فجنح زعماء الطوائف إلى الرشاد، وجمعت المحنة منهم الكلمة، وارتدوا إلى ما وراء البحر، يلتمسون الغوث إلى "المرابطين" إخوانهم في الدين. وكان المرابطون يومئذ في عنفوان دولتهم، وأميرهم يوسف ابن تاشفين يبسط سلطانه القوى على أمم المغرب، من المحيط غرباً حتى تونس شرقاً. فاستجاب المرابطون إلى صريخ الطوائف، وعبروا البحر إلى الأندلس في قوات ضخمة، والتقت الجيوش الإسلامية المتحدة بقيادة يوسف بن تاشفين، بالجيوش النصرانية المتحدة بقيادة ألفونسو السادس زعيم اسبانيا النصرانية، في سهول الزلاّقة في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م) فأحرز المسلمون نصراً عظيماً حاسماً. وكانت موقعة الزلاّقة من أيام الأندلس المشهورة، وانتعشت دول الطوائف، وقويت نفوس الأمة الأندلسية، وبدأت الأندلس حياة جديدة. ولكن سرعان ما انقلب المرابطون على إخوانهم وحلفائهم، واجتذبتهم نعماء الأندلس وثرواتها، فحطموا دول الطوائف، وبسطوا حكمهم على الأندلس زهاء نصف قرن. ولما سقطت دولتهم في المغرب، وقامت على أنقاضها دولة الموحدين، جاشت مختلف القواعد الأندلسية بالثورة على المرابطين، وعبر الموحدون البحر إلى اسبانيا، واستولوا تباعا على القواعد الأندلسية الكبرى وبسطوا على الأندلس حكمهم زهاء قرن آخر. وفي ظل الموحدين أحرزت الجيوش الإسلامية كما أحرزت في الزلاّقة أيام المرابطين، نصرها الحاسم ضد اسبانيا

ص: 18

النصرانية، بقيادة الخليفة الموحدى يعقوب المنصور، وذلك في موقعة الأرك الشهيرة (591 هـ - 1195 م)(1). ولكنها ما لبثت أن لقيت هزيمتها الحاسمة، بعد ذلك بقليل على يد اسبانيا النصرانية، في عهد الخليفة محمد الناصر ولد المنصور في موقعة العقاب المشئومة التي فنى فيها معظم الجيوش الموحدية والأندلسية (609 هـ - 1212 م)(2). وكانت هزيمة العقاب ضربة شديدة لسلطان الموحدين ولاسبانيا المسلمة، فعاد شبح الفناء يلوح للأندلس قوياً منذراً، وسرى هذا التوجس إلى كتاب العصر وشعرائه، وظهر واضحاً في رسائلهم وقصائدهم. ومن ذلك ما قاله أبو اسحق ابراهيم بن الدباغ الإشبيلى معلقاً على موقعة العقاب:

وقائلة أراك تطيل تفكراً

كأنك قد وقفت لدى الحساب

فقلت لها أفكر في عقاب

غدا سبباً لمعركة العقاب

فما في أرض أندلس مقام

وقد دخل البلا من كل باب (3).

وفي خلال ذلك كانت الأندلس تضطرم بأشنع ضروب الخلاف والفتن، والقواعد والثغور يتناوبها الزعماء والمتغلبون، واسبانيا النصرانية تنزل بالأندلس ضرباتها المتوالية، وتستولى تباعاً على القواعد والثغور.

والحقيقة أن الجهد المضطرم الذي بذلته اسبانيا النصرانية يومئذ، لانتزاع القواعد الأندلسية لم يكن سوى الذروة في مرحلة طال أمدها، من حركة الفتح والاسترداد النصرانية La Reconquista. وقد بدأ هذا الاسترداد من جانب اسبانيا النصرانية لأراضيها المفتوحة منذ عصر مبكر جداً، أعنى مذ قامت المملكة النصرانية الشمالية عقب الفتح الإسلامى بقليل في حمى الجبال الشمالية، واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت منذ منتصف القرن الثامن الميلادي أن تدفع حدودها تباعاً نحو الجنوب. وكانت أولى القواعد الإسلامية التي سقطت هي "لُك" في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة، وأسترقة في شمال نهر دويرة، وسمورة وشلمنقة وشقوبية وآبلة في الناحية الأخرى من دويرة. ولم تتأثر الأندلس المسلمة

(1) وتعرف في الاسبانية بموقعة Alarcos. وتراجع تفاصيلها في كتابى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثاني ص 200 - 214.

(2)

وتعرف في الاسبانية بموقعة Las Navas de Tolosa. وتراجع تفاصيلها في الكتاب السالف الذكر القسم الثاني ص 293 - 322.

(3)

نفح الطيب ج 2 ص 582.

ص: 19

كثيراً بفقد هذه القواعد الأولى لنأيها وقربها من المملكة النصرانية. ولكن الأندلس شعرت بالخطر الحقيقى منذ استطاع النصارى عبور نهر التاجُه متوسط شبه الجزيرة في غزوات قوية، واستيلائهم بعد ذلك على طليطلة ثالثة القواعد الأندلسية الكبرى بعد قرطبة وإشبيلية. ووضع نصر الزلاّقة، وقيام سلطان المرابطين في شبه الجزيرة، حداً مؤقتاً لتقدم النصارى في وسط شبه الجزيرة وشرقيها. ولكن موجة جديدة من الغزو النصرانى اجتاحت شمال شرقى الأندلس منذ بداية القرن السادس الهجري، فسقطت سرقسطة في يد النصارى (512 هـ - 1118 م)، وكانت تطيلة حصنها الأمامى قد سقطت قبل ذلك بعام، ثم تلتها بقية قواعد الثغر الأعلى، لاردة وإفراغة ومكناسة وطرطوشة (543 هـ - 544 هـ)(1148 - 1149 م). وفي تلك الآونة ذاتها بدأ سقوط القواعد الإسلامية في غربي شبه الجزيرة أعنى في البرتغال، فسقطت أشبونة وشنترة وشنترين في يد النصارى في سنة 1147 م (542 هـ)، وسقطت باجة بعد ذلك بقليل في سنة 1161 م (556 هـ)، ثم تلتها يابرة في سنة 1165 م (561 هـ).

ولما توطد سلطان الموحدين بالأندلس في أواخر القرن السادس الهجري، توقفت حركة الإسترداد النصرانى مدى حين، ثم عادت تضطرم قوية بعد إحراز اسبانيا النصرانية لفوزها الحاسم على الموحدين في موقعة العقاب (609 هـ). ومنذ أوائل القرن السابع الهجري تجتاح اسبانيا المسلمة موجة عاتية من الغزو النصرانى وتسقط قواعد الأندلس التالدة شرقاً وغرباً في يد النصارى. وهكذا سقطت جزيرة ميورقة (627 هـ - 1229 م)، وبياسة (623 هـ - 1226 م) وأبَّدة (630 هـ - 1233 م) ثم قرطبة (633 هـ - 1236 م) وإستجة والمدور (633 هـ - 1236 م) وبلنسية (636 هـ - 1238 م) ودانية ولقنت (641 هـ - 1244 م) وأوريولة وقرطاجنة (643 هـ - 1245 م) وشاطبة (644 هـ - 1246 م) ومرسية (640 هـ - 1243 م) وجيان (643 هـ - 1246 م)، ثم إشبيلية (646 هـ - 1248 م). واجتاحت غرب الأندلس في الوقت نفسه موجة مماثلة من الغزو النصرانى، فسقطت بطليوس (627 هـ - 1230 م) وماردة (628 هـ - 1231 م) وشلب (640 هـ - 1242 م) وشنتمرية الغرب (647 هـ - 1249 م) ولبلة وولبة (655 هـ - 1257 م). ثم سقطت قادس في سنة 1261 م، وتلتها شريش في سنة 1264 م. وهكذا لم يأت منتصف القرن

ص: 20

السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي) حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها، قد سقطت في يد اسبانيا النصرانية، ولم يبق من تراث الدولة الإسلامية بالأندلس، سوى بضع ولايات صغيرة في طرف اسبانيا الجنوبى.

وأخذت الأندلس عندئذ، تواجه شبح الفناء مرة أخرى، وطافت بالأمة الأندلسية التي احتشدت يومئذ في الجنوب في بسيطها الضيق، ريح من التوجس والفزع، وعاد النذير يهيب بالمسلمين، أن يغادروا ذلك الوطن الخطر، الذي يتخاطف العدو أشلاءه الدامية، وسرى إلى الأمة الأندلسية شعور عميق بمصيرها المحتوم.

ولكن شاء القدر أن يرجىء هذا المصير بضعة أجيال أخرى، وشاء أن يسبغ على الدولة الإسلامية بالأندلس. حياة جديدة في ظل مملكة غرناطة، التي استطاعت أن تبرز من غمر الفوضى ضئيلة في البداية، وأن توطد دعائم قوتها شيئاً فشيئاً، وأن تذود عن الإسلام ودولته الباقية بنجاح، أكثر من قرنين. وكان من حسن طالع هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، أن شغلت عدوتها القوية اسبانيا النصرانية مدى حين، بمنازعاتها وحروبها الداخلية، فلم توفق إلى تحقيق غايتها الكبرى، وهي القضاء على دولة الإسلام في الأندلس، وعلى الأمة الأندلسية بصورة نهائية، إلا بعد أن تهيأت لذلك جميع الظروف والأسباب. ولم يكن ذلك قبل مائتين وخمسين عاماً، عاشتها مملكة غرناطة الصغيرة أبية كريمة، ترفع لواء الإسلام عالياً في تلك الربوع، التي افتتحها الإسلام قبل ذلك بعدة قرون، وأنشأ بها المسلمون حضارتهم العظيمة التي حفلت بأرقى نظم للحياة المادية والأدبية، وأرفع ضروب العلوم والفنون التي عرفت في العصور الوسطى.

- 2 -

كانت غرناطة وقت افتتاح الأندلس، مدينة صغيرة من أعمال ولاية "إلبيرة" تقع على مقربة من مدينة إلبيرة قاعدة الولاية، من الناحية الجنوبية (1)، افتتحها المسلمون عقب انتصارهم على القوط، بقيادة طارق بن زياد فاتح الأندلس، في موقعة شَريش في رمضان سنة 92 هـ. (يوليه سنة 711 م). ولما اضطرمت الفتنة بالأندلس، ودب الخلاف بين القبائل، عقب موقعة بلاط الشهداء (732 م)

(1) إلبيرة وبالاسبانية Elvira هي مدينة رومانية قديمة كانت تسمى أيام الرومان Iliboris وكانت عاصمة للولاية التي تسمى بهذا الاسم، وكانت أيام الفتح الإسلامى مدينة كبيرة عامرة.

ص: 21

واشتد التنافس على الإمارة بين الشاميين من ناحية، والعرب والبربر من ناحية أخرى، رأى أمير الأندلس أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبى، أن يعمل على تهدئة الفتنة بتمزيق عصبة الشاميين، ففرقهم في أنحاء الأندلس، وأنزل جند الشام بكورة إلبيرة، وجند حمص بإشبيلية، وجند فلسطين بشذونه والجزيرة، وجند الأردن بريُّه، وهكذا نزل الشاميون منذ البداية بولاية إلبيرة، وغدوا بمضى الزمن كثرة فيها. واستمرت مدينة إلبيرة قاعدة لهذه الولاية ومركز قضائها في ظل الدولة الأموية، حتى أواخر القرن الرابع حينما انهارت الخلافة الأموية وتعاقبت الفتن، وعاث البربر في النواحى، وخربت مدينة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى غدت غرناطة قاعدة الولاية مكانها، وغلب اسم غرناطة على الولاية نفسها، ومن ذلك الحين يختفى اسم إلبيرة كقاعدة من قواعد الأندلس، ويذكر مكانها اسم غرناطة. والواقع أن إلبيرة وغرناطة تعتبران في معظم الأحيان ولاسيما في المراحل الأولى لتاريخ الأندلس، إسمين لمكان واحد، وقد جرى كثير من المؤرخين والجغرافيين على المزج بينهما (1).

وغَرناطة أو إغرناطة اسم قديم يرجع إلى عهد الرومان والقوط، وقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فيرى البعض أنه مشتق من الكلمة الرومانية Granata أى الرمانة، وأنها سميت كذلك لجمالها، ولكثرة حدائق الرمان التي تحيط بها (2)، ويرى البعض الآخر أن التسمية ترجع إلى أصل قوطى أو أنها ترجع إلى أصل بربرى مشتق من اسم إحدى القبائل (3). والواقع أن غرناطة تتمتع بموقع فائق في الحسن، فهى تقع في واد عميق يمتد من المنحدر

(1) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة، لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 99 - 105.

(2)

المستشرق سيبولد في Ency. de l'Islame: Grenade؛ وكذلك في معجم ياقوت حيث يقول إن معنى غرناطة " الرمانة " بلسان عجم الأندلس سمى البلد كذلك لحسنه (راجع معجم ياقوت تحت كلمة غرناطة). وقيل إنها سميت كذلك لأنها أنشئت على البقعة التي زرع فيها الرمان لأول مرة عند نقله من إفريقية إليها، وقيل أيضاً إنها سميت كذلك لأنها بموقعها وانقسامها على التلين تشبه بمنازلها الكثيفة الرمانة المشقوقة. راجع كتاب:( Prescott: Ferdinand and Isabella، p. 190، Note) .

(3)

هذا ما يراه المستشرق الإسبانى سيمونيت، إذ يقول إن المرجح أن الاسم قوطى الأصل، وأنه مركب من كلمة " ناطة " وهو اسم قرية قديمة كانت تقع على مقربة من إلبيرة و" غار" وهو المقطع الذي أضافه المسلمون إليها فصارت "غرناطة ". أو أن البربر سموها كذلك عند نزولهم بها وهو اسم أحد قبائلهم راجع:( Simonet: Descripcion del Reino de Granada (Granada 1872) p. 40 & 41) وراجع كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 99 الهامش.

ص: 22

الشمالى الغربي لجبال سيرّا نفادا، وتظللها الآكام العالية من الشرق والجنوب، ويحدها من الجنوب نهرث شَنيل فرع الوادى الكبير (1)، وهو ينبع من جبال سيرّا نفادا، ويخترقها فرعه المسمى نهر حدرُّه أو هدره El-Darro، ويلتقى به عند جنوبى المدينة. وقد كان شنيل وفرعه حدره أيام المسلمين يفيض بالماء، ولاسيما في الصيف حين تذوب الثلوج، وكانت ضفافهما خضراء يانعة تغص بالحدائق الغناء. أما اليوم فقد جف مجرى شنيل، وقلما يجرى فيه الماء سوى القليل أيام الشتاء. وأما فرعه حدرُّه فيخترق المدينة من الشرق عند سفح التل الذي تقع عليه "الحمراء" ويتصل بشنيل عند القنطرة الأندلسية القديمة. وهو يكاد يختفى اليوم ولم يبق من مجراه سوى الجزء الصغير المجاور لتل الحمراء. وأما جزؤه الذي كان يخترق وسط المدينة فقد غطى اليوم بشارعها الرئيسى الأوسط المسمى "شارع الملكين الكاثوليكيين"، وامتداده في الميدان الكبير حتى قنطرة شنيل.

وتشرف غرناطة من الجنوب الغربي، على بسيط شاسع أخضر وافر الخصب، هو المرج أو الفحص الشهير La Vega (2) الذي يمتد غرباً حتى مدينة لَوْشة، ومن الجنوب الشرقى على جبال سيرّا نفادا Sierra Nevada ( جبل شُلير أو جبل الثلج)(3) التي تغطى آكامها الثلوج الناصعة.

وكانت غرناطة أيام الدولة الإسلامية، جنة من جنات الدنيا، تغص بالرياض والبساتين اليانعة، التي كانت لوفرة خصبها وروعة نضرتها، تعوف "بالجنات"، فيقال للمزرعة أو البستان "جنة كذا" أو جنة فلان، مثل جنة الحرف، وجنة العرض، وجنة الحفرة، ومدرج نجد، ومدرج السبيكة، وجنة ابن عمران وجنة العريف وغيرها. وقد ذكر ابن الخطيب أن هذه الجنات الغرناطية الشهيرة كانت تبلغ في عصره زهاء المائة، كما ذكر لنا أن منطقة غرناطة، كانت تضم زهاء ثلاثمائة قرية عامرة، منها ما كان يبلغ سكانه الألوف ومنها ما كان يملكه

(1) شنيل هو بالاسبانية Xenil أو Genil، ويسمى أيضاً عند الأندلسيين بنهر سنجيل مشتقاً من اسمه اللاتينى Singilis.

(2)

وهي كلمة إسبانية معناها المرج. ولعلها مشتقة من كلمة "فحص" العربية.

(3)

يطلق الجغرافيون الأندلسيون اسم شلير أو جبل الثلج على جبال "سييرا نفادا ". فأما "شلير" فهو محرف عن اللاتينية Solarius ومعناها جبل الشمس، وذلك لأن الشمس تسلط أشعتها الساطعة على تلك الجبال فينعكس ضوؤها على الثلوج الناصعة التي تغطيها. وأما تسميتها بجبل الثلج، فهى ترجمة عربية مطابقة لاسمها القشتالى Sierra Nevada.

ص: 23

مالك واحد أو ملاك قلائل. هذا عدا الأملاك السلطانية والحصون (1). وبذلك نستطيع أن نقدر أن مدينة غرناطة، كانت تضم أيام أن كانت عاصمة للدولة الإسلامية، أكثر من نصف مليون من الأنفس. وأما خارج المدينة فيصفه ابن الخطيب في قوله:

"ويحف بسور المدينة المعصومة بدفاع الله تعالى، البساتين العريضة المستخلصة، والأدواح الملتفة، فيصير سورها خلف ذلك كأنه من دون سياج كثيفة، تلوح نجوم الشرفات البيض أثناء خضرايه، فليس تعرى جنباته من الكروم والجنات جهة". وأما المرج الشهير أو الفحص La Vega فقد كان بسيطاً رائع الخضرة يشبهونه بغوطة دمشق، وتخترقه الجداول والأنهار، ويغص بالقرى والجنات، ويهرع إليه الرواد في ليالى الربيع والصيف فيغدو مسرح الأسمار والأنس.

وكانت المدينة ذاتها نموذجاً بديعاً للعمارة الإسلامية، تغص بالصروح والأبنية الفخمة، وتتخللها الميادين والطرقات الفسيحة. وكانت مدينة الحمراء أو دار الملك أروع ما فيها، تطل على أحيائها "في سمت من القبلة، تشرف عليه منها الشرفات البيض، والأبراج السامية والمعاقل المنيعة، والقصور الرفيعة، تغشى العيون، وتبهر العقول"(2).

وقد أشاد بذكر محاسن غرناطة وفضائلها كتاب الأندلس وشعراؤها؛ وانتهت إلينا من منظومهم ومنثورهم فيها تراث حافل، ينم بالرغم مما يحمله أحياناً من طابع المبالغة، عما كانت تثيره غرناطة في نفوسهم من عميق الإعجاب والحب. وقد أورد لنا ابن الخطيب في "الإحاطة" والمقرى في "نفح الطيب"، و "أزهار الرياض" كثيراً من هذه القصائد والرسائل، وإليك بعض نماذج منها: قال ابن الخطيب:

بلد تحف به الرياض كأنه

وجه جميل والرياض عذاره

وكأنما واديه معصم غادة

ومن الجسور المحكمات سواره

(1) الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 122 و 123. ويقدم لنا ابن الخطيب بياناً وافياً عن القرى الغرناطية. (راجع ص 131 - 138 والهوامش حيث تبين مواقع هذه القرى وأسماؤها الاسبانية الحالية).

(2)

راجع الإحاطة في أخبار غرناطة ج 1 ص 121. واللمحة البدرية في تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب أيضاً ص 13 و 14.

ص: 24

وقال أبو الحجاج يوسف بن سعيد:

أغرناطة العلياء بالله خبرى

أَلِلْهائم الباكى إليك طريق

وما شاقنى إلا نضارة منظر

وبهجة واد للعيون تروق

تأمل إذا أملت " حوز مؤمل "(1)

ومد من الحمراء عليك شقيق

وأعلامه نجد والسبيكة قد علت

وللشفق الأعلى تلوح بروق

وقد سل شَنيل فرندا مهندا

يضىء فوق درٍّ ذُرَّ فيه عقيق

وقال آخر:

غرناطة ما لها نظير

ما مصر ما الشام ما العراق

ما هي إلا العروس تجلى

والأرض من جملة الصداق

أما اليوم فقد غدت غرناطة مدينة متواضعة لا يزيد سكانها على مائة وثلاثين ألفاً. وهي عاصمة الولاية الأندلسية المسماة بنفس الإسم. وبالرغم من أنها قد فقدت بهاءها السالف، فإنها مازالت، تتشح بطابع خاص من التحفظ والنبل المؤثر. وقد اختفت معظم خططها الإسلامية، وقامت على أنقاضها مدينة أوربية حديثة. بيد أن غرناطة مازالت مع ذلك تحتفظ ببقية من صروحها ومعالمها الأندلسية، وتجتمع هذه البقية بالأخص في قسمها الشرقى حيث تربض أبراج "الحمراء" فوق هضبتها العالية، وأعظم آثارها الإسلامية الباقية هو بلا ريب قصر الحمراء الملكى الذي مازال يحتفظ بكثير من روعته القديمة، وقصر "جنة العريف" El Generalife الواقع في شرقه على مسافة قليلة، وقد كان مصيفاً لملوك غرناطة، وبقية ضئيلة من "قصر شنيل" Alcazar Genil (2) ، وهي تقع في ضاحية أرملة (أرمليا) على مقربة من شنيل، و "الخان" Alhondiga، وهو ذو عقد عربى رائع، ويقع على مقربة من دار البريد القديمة. أما المسجد الجامع وبقية المساجد الأخرى فقد هدمت جميعاً وقامت على أنقاضها الكنائس. وأما ما بقى من خططها الإسلامية، فهو ظاهر بالأخص في "حي البيازين" Albaicia الواقع في شمالها

(1) هو اسم مكان بغرناطة الإسلامية كان يشتهر بنضرته ورياضه، ويحتل مكانه اليوم الحى الغرناطي المسمى Campo del Principe ( راجع الإحاطة ج 1 ص 449 والهامش).

(2)

هو القصر الذي يعرف في تاريخ غرناطة بقصر السيد، وقد أنشىء في عصر الموحدين، أنشأه السيد أبو إبراهيم إسحاق بن يوسف بن عبد المؤمن والى غرناطة، وذلك في سنة 614 هـ (1217 م) وعرف عندئذ بقصر السيد. وكان أيام الدولة النصرية يستعمل قصرا للضيافة الملكية (راجع كتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الثاني ص 331).

ص: 25

الغربي، والميدان الكبير الذي مازال يحمل اسمه القديم "رحبة باب الرملة" Plaza de Bibrambla، وإلى جواره القيسرية القديمة Alcaicaria. هذا فضلا عما يبدو في كثير من دروبها الضيقة الصاعدة، ومنازلها العديدة ذات الطراز الأندلسى، من الملامح الأندلسية الواضحة.

كذلك بقيت قطعة كبيرة من أسوار غرناطة الإسلامية، وبضعة من أبوابها القديمة مثل باب البنود وباب إلبيرة وباب البيازين وباب فحص اللوز، وباب الشريعة وهو مدخل الحمراء الرئيسى. هذا ومازالت "قنطرة شنيل"، قائمة على النهر عند التقائه بفرعه "حدرُّه"، وتحمل اسمها الإسلامى القديم Puente Genil.

وتوجد في متحف غرناطة الأثرى طائفة كبيرة من اللوحات والنقوش والتحف الأندلسية.

ولغرناطة منزلة خاصة في نفوس الإسبان وفي التاريخ الإسبانى. فهى إلى كونها خاتمة الفتوح المظفرة التي توجت حروب الإسترداد الإسبانية La Reconquista تعتبر بتاريخها المؤثر أنبل المدن الأندلسية، ويعتبر سقوطها في أيدى الإسبان فاتحة عصر اسبانيا الذهبى. ومن ثم فقد اتخذت مثوى أبدياً لفاتحيها الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيسابيلا، حيث يرقدان في كنيستها العظمى التي أقيمت فوق موقع المسجد الجامع. ونالت غرناطة حظوة خاصة لدى ملوك اسبانيا المتوالين فحبوها بمختلف المنشآت وضروب الإصلاح والتجميل؛ وحرص الإسبان على أن تبقى عاصمة الأندلس القديمة كما كانت مركز العلوم في جنوبى اسبانيا، فأنشئت جامعة غرناطة الشهيرة في سنة 1531 م، في عصر الإمبراطور شرلكان، وهي اليوم من أهم وأقدم الجامعات الإسبانية، ويوجد ضمن معاهدها الخاصة، معهد لدراسة عصر الملكين الكاثوليكيين فاتحى غرناطة، ومدرسة للدراسات العربية. وفي غرناطة معاهد علمية وثقافية عديدة أخرى، وعدة متاحف فنية أثرية.

ص: 26