المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامنالأندلس بين المد والجزر - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٥

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصْر الرّابعنهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

- ‌مقدمة

- ‌تصدير

- ‌تاريخ مملكة غَرناطة635 -897 هـ: 1238 - 1492 م

- ‌الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطةمنذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن635 -868 هـ: 1238 - 1463 م

- ‌الفصل الأوّل الأندلس الغاربة

- ‌الفصل الثانينشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

- ‌الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر)

- ‌الفصل الثالثطوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

- ‌الفصل الرابعطبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الخامسُتاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

- ‌الفصل السادسمملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

- ‌صورة: الملك ألفونسو العالم

- ‌الفصل السابعمملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

- ‌الفصْل الثامِنالأندلس بين المدّ والجزر

- ‌الفصْل التاسِعتاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

- ‌1 - قشتالة

- ‌2 - أراجون

- ‌3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

- ‌الكتاب الثانىنهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

- ‌الفصل الأوّلالأندلس على شفا المنحدر

- ‌الفصل الثانىبداية النهاية

- ‌الفصل الثالثالصراع الأخير

- ‌الفصل الرابعختام المأساة

- ‌1 - قصر قمارش

- ‌2 - قصر السباع

- ‌مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

- ‌الكتاب الثالثمراحل الاضطهاد والتنصير

- ‌الفصل الأولبدء التحول فى حياة المغلوب

- ‌الفصل الثانىديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

- ‌الفصل الثالثذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌الكتاب الرابعنهاية النّهاية

- ‌الفصل الأولتوجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌الفصل الثانىمأساة النفى

- ‌الفصل الثالثتأملات وتعليقات عن آثار المأساة

- ‌الكتابُ الخامسنظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

- ‌الفصل الأوّلنظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

- ‌الفصل الثانىالحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

- ‌الشعر والأدب

- ‌العلوم

- ‌الفصل الثالثعهد النضج والازدهار

- ‌الفصل الرابعالعصر الأخير والآثار الباقية

- ‌ثبت المراجع

- ‌مصادر مخطوطة

- ‌فهرست الموضوعات

- ‌فهرست الخرائط و‌‌الصورو‌‌الوثائق

- ‌الصور

- ‌الوثائق

الفصل: ‌الفصل الثامنالأندلس بين المد والجزر

‌الفصْل الثامِن

الأندلس بين المدّ والجزر

ولاية محمد الغنى بالله. وزيره ابن الخطيب. سفارته إلى السلطان أبى عنان. ثورة حاكم جبل طارق المرينى. الثورة فى غرناطة. مقتل الحاجب رضوان. عزل الغنى بالله وفراره. ولاية أخيه إسماعيل. جواز الغنى بالله وابن الخطيب إلى المغرب. ترحيب ملك المغرب بهما. قصيدة ابن الخطيب. ابن الخطيب وابن خلدون. مصرع سلطان المغرب وتغلب الوزير عمر على الدولة. الثورة فى غرناطة ومقتل السلطان اسماعيل. عبور الغنى بالله وابن الخطيب إلى الأندلس. استرداد الغنى بالله العرش. زيارة ابن خلدون للأندلس وسفارته إلى بلاط قشتالة. الحرب الأهلية فى قشتالة. موقعة نجارا. موقعة مونتيل. مصرع بيدرو ملك قشتالة وولاية أخيه الكونت هنرى. رواية ابن الخطيب عن هذه الحوادث. وزارة ابن الخطيب الثانية. استئثاره بالسلطة وجنوحه إلى الاستبداد. تقلص نفوذه وفراره إلى المغرب. اتهامه بالزندقة ومقتله. بعد نظره السياسى. شعوره بمصير الأندلس. جهود الغنى بالله الإنشائية.

توطد الصداقة بينه وبين بلاد مصر. معاهدة صداقة بينه وبين أراجون. سيادة السلام والأمن فى عصره. غزواته فى أرض النصارى. وفاته وولاية يوسف الثانى. وزيره خالد. عقد السلم بين الأندلس وقشتالة. ثورة محمد ولد يوسف. وفاة يوسف وولاية ولده محمد. اعتقاله لأخيه يوسف. الوزير ابن زمرك ومصرعه. الحرب بين المسلمين والنصارى. استنجاد الأندلس بملوك المغرب. غزو النصارى لأحواز رندة. غزو المسلمين لأراضى قشتالة. الهدنة بين الفريقين. وفاة محمد. تنظيم العلائق الدولية بين غرناطة وأراجون. ولاية يوسف الثالث. نقض القشتاليين للهدنة. زحفهم على أراضى غرناطة. سقوط أنتقيرة وهزيمة المسلمين. تجديد الهدنة. ثورة جبل طارق وإخمادها. السلم بين المسلمين والنصارى. حفلات الفروسية الأندلسية. وفاة السلطان يوسف وولاية ولده محمد الأيسر. صرامته وتكبره. الوزير يوسف بن سراج. بنو سراج وأصلهم. تعاقب الفتن فى غرناطة. غزوات النصارى. نشوب الثورة وسقوط الأيسر. ولاية محمد الزغير. خلاله وصفاته. مطاردته لبنى سراج. التجاؤهم إلى بلاط قشتالة. السعى لإعادة الأيسر. زحفه على غرناطة ودخوله الحمراء. مصرع الزغير وولاية الأيسر الثانية. الحرب بين الأيسر والنصارى. الفتن والدسائس حول غرناطة. قيام يوسف بن المول بمعاونة النصارى. عهده بالخضوع لملك قشتالة. تغلبه على الأيسر وانتزاعه العرش. وفاته وولاية الأيسر الثالثة. الحرب بين المسلمين والنصارى. مهاجمة النصارى لجبل طارق وهزيمتهم. تطور الحوادث فى غرناطة. ثورة محمد الأحنف وولايته. الأمير ابن إسماعيل وسعيه لانتزاع العرش. تدخل النصارى ودسائسهم. الحرب الأهلية فى غرناطة. هزيمة الأحنف وولاية ابن اسماعيل. تضارب الرواية فى شأن ولاية العرش. خلال ابن اسماعيل وصفاته. الخلاف بينه وبين قشتالة. غزو القشتاليين لغرناطة. سقوط جبل طارق. انحلال دولة بنى مرين وقيام دولة بنى وطاس. قصور المغرب عن إنجاد الأندلس. خضوع سلطان غرناطة لقشتالة. الصراع بين العرش والأسر الكبيرة. تفكك المملكة الإسلامية. ولاية السلطان سعد. الخلاف بينه وبين ولده أبى الحسن. رواية رحالة مصرى عن هذه الحوادث. فتح الترك لقسطنطينية وصداه فى اسبانيا. إحياء النزعة الصليبية.

ص: 138

لم تمض ساعات قلائل على مصرع السلطان يوسف أبى الحجاج فى صبيحة يوم عيد الفطر سنة 755 هـ، حتى خلفه فى الملك ولده محمد الملقب بالغنى بالله؛ وكان حَدَثاً يافعاً، فاستأثر بشئون الدولة حاجبه ومولى أبيه من قبل أبو النعيم رضوان. وكانت غرناطة بعد ما توالى عليها من الخطوب والأزمات فى أواخر عهد أبيه يوسف، قد تنفست الصعداء نوعاً منذ وفاة ملك قشتالة. وكان من بين كتابه ثم وزرائه لسان الدين بن الخطيب، مؤرخ الدولة النصرية وأعظم كتاب الأندلس وشعرائها يومئذ. وكان هذا المفكر البارع، أحد رجلين عظيمين شغلا يومئذ فى الغرب الإسلامى، مركز الصدارة فى التفكير والكتابة، هما ابن خلدون وابن الخطيب. وكان مولد ابن الخطيب فى لَوْشة (1) من أعمال غرناطة فى سنة 713 هـ (1313 م)، ودرس اللغة والأدب والطب والفلسفة، وبرز فى النثر والنظم (2)، وخدم الدولة منذ حداثته، فتولى ديوان الكتابة للسلطان أبى الحجاج، ثم انتقل إلى خدمة ولده محمد، فلم يلبث أن نال ثقته ورقاه إلى مرتبة الوزارة، وأوفده بعد ولايته بقليل على رأس وفد من كبراء الأندلس سفيراً من قبله، إلى ملك المغرب السلطان أبى عنان المرينى (أواخر سنة 755 هـ) يستنصره على مغالبة طاغية قشتالة، وليؤكد بينهما عهد الصداقة والمودة، جرياً على سنة أسلافه من ملوك بنى الأحمر، فاستقبله السلطان بحفارة، وأنشد بين يديه قصيدة هذا مطلعها:

خليفة الله ساعدَ القدرُ

عُلاك ما لاح فى الدجى قمرُ

ودافعتْ عنك كفُّ قدرته

ما ليس يستطيع دفْعَه البشرُ

فتأثر السلطان لقصيدته، ووعد بإجابة سائر مطالبه؛ وهكذا أدى ابن الخطيب سفارته بنجاح، وكان له فيما تلا من حوادث الأندلس أعظم نصيب (3).

وفى أواخر سنة 756 هـ (أواخر سنة 1355 م)، حاول حاكم جبل طارق المرينى عيسى بن الحسن بن أبى منديل أن يثير ضرام الثورة، وكانت محاولة خطيرة ربما أفسحت للنصارى ثغرة يضربون منها الأندلس وجحافل المغرب، والآن أهل جبل طارق نكلوا عن مؤازرة الثائر، وأخمدت ثورته فى المهد، وقبض

(1) لوشة وبالإسبانية Loja تقع على مسافة خمسة وخمسين كيلومتراً من غربى غرناطة، وهى اليوم بلدة متواضعة، وقد كانت أيام الدولة الإسلامية بلدة زاهرة.

(2)

سنعود إلى ترجمة ابن الخطيب واستعراض حياته الأدبية بإفاضة فى الكتاب الرابع.

(3)

راجع الإحاطة (المقدمة ص 37)؛ ونفح الطيب ج 3 ص 52؛ وابن خلدون ج 7 ص 373.

ص: 139

عليه وعلى ولده. وأرسلا مصفدين إلى المغرب فقضى بإعدامهما؛ وأرسل السلطان أبو عنان إلى جبل طارق ولده أبا بكر السعيد ومعه قوة من الفرسان، لحماية الثغر وتجديد تحصيناته (1).

وفى أوائل عهد السلطان محمد، شغلت قشتالة بحروبها الداخلية، فأمنت غرناطة شر العدوان مدى حين. ولكن الحوادث الداخلية كانت تؤذن بتطورات جديدة. ففى رمضان سنة 760 هـ (1359 م) نشبت فى غرناطة ثورة فقد فيها الغنى بالله ملكه. وكان أخوه إسماعيل المعتقل فى بعض أبراج الحمراء، تؤازره جماعة من الزعماء، وفى مقدمتهم صهره الرئيس عبد الله، وتدعو له سرًّا، وتترقب الفرص للوثوب بمحمد؛ وكانت أمه المقيمة بالقصر تؤيد مشاريعه بالسعى والبذل الوفير، وكان السلطان محمد قد تحول بولده إلى سكنى قصر جنة العريف الواقع شمال شرقى الحمراء، فانتهز المتآمرون ذات مساء فرصة ابتعاده عن دار الملك، وهاجموا حصن الحمراء (28 رمضان سنة 760 هـ)، ونفذوا إلى قصر الحاجب رضوان وقتلوه بين أهله وولده، ونادوا بإسماعيل أخى السلطان ملكاً مكانه.

وشعر محمد بعقم المدافعة، ففر إلى وادى آش. وحاول ابن الخطيب مصانعة السلطان الجديد، فاستبقاه فى الوزارة لمدى قصير. ثم ارتاب فى نياته وأمر باعتقاله ومصادرة أمواله، وكذلك أمر السلطان الجديد بعزل شيخ الغزاة يحيى بن عمر ابن رحّو من منصبه والقبض عليه، وعين مكانه فى مشيخة الغزاة، إدريس ابن عثمان بن أبى العلاء، وكان وقت نكبة أسرته، قد فر إلى أراجون واحتمى بملكها، فاستدعاه السلطان الجديد، وأسند إليه منصب أسرته القديم.

وكانت تربط السلطان المخلوع علائق مودة وصداقة بملك المغرب، السلطان أبى سالم ولد السلطان أبى الحسن. وكان أبو سالم قد لجأ إليه حينما تغلب عليه أخوه السلطان أبو عنان ونفاه إلى الأندلس فأكرم محمد مثواه. ولما وقعت الفتنة وخلع محمد، رعى له أبو سالم عهد الصداقة والوفاء، وأرسل إلى غرناطة سفيراً يسعى لدى حكومتها، فى إجازة السلطان المخلوع ووزيره المعتقل إلى المغرب، فنجح السفير فى مهمته، وعاد إلى المغرب ومعه محمد والوزير ابن الخطيب (المحرم سنة 761 هـ). واستقبلهما أبو سالم فى فاس أجمل استقبال، واحتفل بقدومهما فى يوم مشهود، وأنشده ابن الخطيب يومئذ قصيدة رائعة، يدعوه فيها لنصرة

(1) رحلة ابن بطوطة ج 2 ص 184.

ص: 140

سلطانه وغوثه، هذا مطلعها:

سلا هل لديها من مخبرة ذكرُ

وهل أعشب الوادى ونمَّ به الزهر

وهل باكَرَ الوسمى داراً على اللوى

عفت آيها إلا التوهُّم والذكر

بلادى التى عاطيتُ مشمولة الهوى

بأكنافها والعيش فينان مخضر

وجوى الذى ربى جناحى وكره

فها أنا ذا ما لى جناح ولا وكر

ومنها:

قصدناك يا خير الملوك على النوى

لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر

وأنت الذى تُدعى إذا دهم الردى

وأنت الذى ترجى إذا أخلف القطر

ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا

بيالمرين جاءه العز والنصر

فكان لإنشاده أعظم وقع فى النفوس، وتأثر السلطان لدعوته وندائه أيما تأثر (1). ولبث السلطان المخلوع فى بلاط فاس حيناً، وتوثقت بينه وبين المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، وهو يومئذ من أكابر رجال الدولة المرينية، روابط المحبة والصداقة، وعقدت أيضاً بين المؤرخ وبين قرينه ابن الخطيب أواصر صداقة نمت وتوثقت فيما بعد. وكان كلا المفكرين العظيمين يقدر مواهب صاحبه ويحله أسمى مقام، وكان كلاهما أستاذ عصره وقطره فى التفكير والكتابة. وكان محمد ابن الأحمر يؤمل أن يسترد ملكه المنزوع بمعاونة بيدرو الثانى (بطره) ملك قشتالة تنفيذاً للاتفاق الذى عقد بينهما، ولكنه لم يفعل شيئاً لتحقيق هذا الأمل. والواقع أن ملك قشتالة كان مشغولا بشئون مملكته وما يسودها من اضطراب، فآثر أن يعقد السلم مع سلطان غرناطة الجديد. وفى أثناء ذلك حدث انقلاب لقى فيه السلطان أبو سالم مصرعه، واستبد بالدولة الوزير عمر بن عبد الله، فسعى لديه ابن الأحمر ليعاونه على استرداد ملكه، فاستجاب إليه الوزير، وما زال محمد يدبر أمره بمعاونته، حتى تهيأت الفرصة بوقوع الثورة فى غرناطة، ومقتل منافسه السلطان إسماعيل، على يد المتغلب عليه الرئيس أبى سعيد؛ فجاز إلى الأندلس ونزل بمالقة، ثم سار إلى رندة، وكانت عندئذ من أملاك بنى مرين، وقد نزل له عنها الوزير عمر بن عبد الله، وسار منها فى صحبه وعصبته إلى غرناطة فاستولى عليها، وفر الرئيس أبو سعيد إلى ملك قشتالة، واسترد محمد ملكه (جمادى الآخرة

(1) الإحاطة، المقدمة ص 38 - 43؛ واللمحة البدرية ص 108؛ وابن خلدون ج 7 ص 306 وما بعدها؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 194 و 195.

ص: 141

سنة 763 هـ - 1361 م) وما لبث أن لحق به وزيره ابن الخطيب استجابة لدعوته، وعاد إلى سابق مكانته ونفوذه. وكان فى مقدمة ما فعله الغنى بالله أن قبض على إدريس بن أبى العلاء وقرابته من الغزاة، وأودعوا السجن، ومحا خطة مشيخة الغزاة من بنى مرين، وأسندها لابنه وولى عهده الأمير يوسف، فلبث مضطلعا بها زهاء ثلاثة أعوام. وكان علىّ بن بدر الدين بن موسى بن رحُو، مقدما على الغزاة فى منطقة وادى آش، وكان حينما فقد الغنى بالله ملكه، قد صحبه فى منفاه.

ولما عاد إلى الأندلس، عاد معه. فلما فكر الغنى بالله فى إحياء مشيخة الغزاة، وبحث عمن يسندها إليه، وقع اختياره على علىّ بن بدر الدين هذا، فعينه فيها (767 هـ)، ولكنه ما لبث أن توفى بعد عام فقط من تقلده إياها، فعندئذ قرر الغنى بالله أن يمحو هذه الخطة نهائياً من خطط مملكته، وصار أمر الغزاة والمجاهدين إلى السلطان مباشرة، وعنى بشئونهم بنفسه، وخص القرابة المضطلعين بها بعطفه وتكرمته. وانتهت بذلك رياسة بنى مرين لهذه الخطة الهامة من خطط، مملكة غرناطة بعد أن اضطلعوا بها زهاء قرن (1).

ووفد المؤرخ ابن خلدون بعد ذلك بقليل على غرناطة، فاحتفى به السلطان وأكرم مثواه، وأرسله سفيراً عنه إلى بيدرو ملك قشتالة ليوثق أواصر الصداقة بينهما (765 هـ - 1363 م)، فقصد ابن خلدون إلى بلاط إشبيلية ومعه هدية فخمة، وأدى سفارته ببراعة، وحظى بعطف ملك قشتالة وإعجابه. وهو يعرض لنا حوادث هذه السفارة فى "التعريف" بتفصيل شائق، ويقول لنا إنه عاين آثار أسرته بإشبيلية، وقد كانت منزل بنى خلدون أيام الدولة الإسلامية، وفيها سطع نجمهم حيناً، وإن ملك قشتالة وقف على تاريخ أسرته، وعرفه به وبمكانته طبيب يهودى فى بلاطه يدعى إبراهيم بن زرور، وكان قد تعرف به فى مجلس السلطان أبى عنان من قبل، ثم يقول لنا إن ملك قشتالة عرض عليه عندئذ أن يبقى فى خدمته، وأن يسعى لدى زعماء دولته ليرد إليه تراث أسرته بإشبيلية، ولكنه أبى. ولما اعتزم ابن خلدون العودة بعد أن أتم مهمته، وهبه ملك قشتالة "بغلة فارهة بمركب ثقيل ولجام ذهبيين" فأهداهما إلى السلطان. وسُرّ السلطان لنجاحه وأقطعه قرية إلبيرة بمرج غرناطة، وعاش فى بلاط السلطان فترة أخرى، معززاً مكرماً (2).

(1) راجع كتاب العبر ج 7 ص 377 - 379.

(2)

راجع تفاصيل هذه السفارة فى ابن خلدون، فى "التعريف " أو ترجمته لحياته فى =

ص: 142

ولم يمض قليل على ذلك حتى شغلت قشتالة مدى حين بمنازعاتها وحروبها الداخلية، وتمتعت غرناطة خلال ذلك بهدنة قصيرة؛ وكان بيدرو ملك قشتالة (دون بطره) الملقب بالقاسى، الذى خلف أباه ألفونسو الحادى عشر فى سنة 1350 م قد غلا فى استبداده وقسوته، حتى أنه لم يحجم عن قتل زوجته الملكة بلانش دى بوربون أخت ملك فرنسا بالسم، ليتزوج من خليلته، فسخط عليه الأمراء والأشراف لما نالهم من عسفه، وخرج عليه أخوه غير الشرعى الكونت هنرى دى تراستمارا، ولد إلينورا دى كزمان، وفر إلى فرنسا، وتحالف مع ملكها شارل الخامس، على أن يجمع له جيشاً من المرتزقة يقوده إلى قشتالة؛ وأشرف على تنفيذ المشروع الدوق دى جسكلان زعيم الفروسية الفرنسية يومئذ. وقاد هنرى جيشه إلى قشتالة (1366 م)، فلم يَقْوَ بيدرو على مقاومته لاشتداد السخط عليه، وتخلى الشعب عنه، وفر إلى ولاية جويين الفرنسية فيما وراء البرنيه، واستغاث بالأمير إدوارد ولىّ عهد انجلترا، وقد كان يحكم هذه الأنحاء المحتلة من فرنسا باسم أبيه، فاستجاب الأمير الإنجليزى لدعوته، وسار معه إلى قشتالة فى قواته، واستطاع الكونت هنرى بمعاونة شعبه، ومعاونة ملك أراجون، أن يحشد جيشاً عظيما. والتقى الفريقان فى "نجارا " فى الثالث من ابريل سنة 1367، فهزم الكونت هنرى بالرغم من وفرة جموعه، وقتل عدد كبير من جيشه، واسترد بيدرو عرشه. ولكنه لم يف بوعده إلى الأمير الإنجليزى، ولم يؤد إليه الجزية المشترطة، فسخط عليه وارتد بقواته إلى الشمال. وعندئذ عادت الثورة إلى الاضطرام فى قشتالة، ووثب الشعب ببيدرو مرة أخرى، وعاد أخوه الكونت هنرى فغزا قشتالة فى أنصاره، ونشبت بين الفريقين فى "مونتيل" موقعة أخرى هزم فيها بيدرو وقتل، وجلس أخوه مكانه فى العرش (سنة 1368 م)(1). وكان بين قوات الملك القتيل فرقة من حلفائه المسلمين. تعاونه وتذود عنه.

وقد كان وراء هذه الحرب الأهلية، فيما يبدو خطة نصرانية موضوعة للقضاء على المملكة الإسلامية بالأندلس. ولدينا ما يلقى الضياء على ذلك فى رسالة الوزير ابن الخطيب، بعث بها فى تلك الآونة، على لسان سلطانه الغنى بالله، إلى سلطان

= كتاب العبر ج 7 ص 412، والتعريف (طبعة لجنة التأليف والترجمة) ص 84 و 85؛ والإحاطة

ج 2 ص 15 (طبعة قديمة).

(1)

David Hume: History of England (1848) V. II. p. 202-205.

ص: 143

تلمسان الأمير أبى حمّو عبد الرحمن بن موسى، ففى هذه الرسالة التى وردت على بلاط تلمسان فى شهر رمضان سنة 767 هـ (يونيه سنة 1366 م)، والتى وجهها بلاط غرناطة بطلب المعاونة والإنجاد، يقول لنا ابن الخطيب، إن كبير دين النصرانية (يريد البابا)، لما أعيته الحيلة فى جمع كلمة النصرانية فى قشتالة، حرك من النصارى جموعاً عظيمة لتعين القند (الكونت) على أخيه، فإذا انتصر واستقل بالملك، تحالف النصارى الإسبان جميعاً ضد المسلمين؛ وقسم البابا تراث المملكة الإسلامية (الأندلس) بين قشتالة وأراجون، فتختص منها أراجون بما يلى الشاطىء الشرقى الجنوبى حتى ألمرية، وتختص قشتالة بالباقى، وتجتمع الأساطيل النصرانية فتحتل الساحل الجنوبى، وتقطع ما بين المغرب والأندلس، ويقوم النصارى بالعيث فى أراضى المسلمين، وإتلاف سائر الغلات والأقوات. ويتوجه بلاط غرناطة بعد شرح هذه الخطة إلى أمير تلمسان بطلب الغوث والإنجاد. وقد استجاب أبو حمو إلى هذا النداء، وبعث إلى الأندلس بالأموال، والسفن المشحونة بالخيل والسلاح والأقوات. واستوجبت هذه الأريحية توجيه رسالة أخرى من سلطان غرناطة إلى الأمير أبى حمو معرباً فيها عن خالص الشكر والعرفان (1).

تلك هى الخطة التى يقول لنا ابن الخطيب فى رسالته، إنها وضعت عندئذ للقضاء على مملكة غرناطة. ولكنها خطة لم يكن لها أى حظ من التنفيذ، وكانت مملكة غرناطة دائماً يقظة على أهبة الذود والدفاع.

وقد فصل لنا ابن الخطيب حوادث الحرب الأهلية فى قشتالة فى تلك الفترة، وقد كان معاصراً لها وقريباً من مسرحها. وروايته تدل على حسن اطلاعه، ودقة فهمه لسير الحوادث، فهو يقول لنا مثلا بعد أن أشار إلى ثورة الكونت هنرى على أخيه واستيلائه على العرش:

"ولما توسد له الأمر تحرك لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية فى البحر، واستقر وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطة القشتالية، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة (انجلترا) وهو المعروف ببرقسين، وبين أرضه وبين قشتالة ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور بأول ما تلقاه من تلك الأرض، وسفر

(1) وردت رسالة ابن الخطيب فى كتاب "بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد" تأليف الوزير يحيى بن خلدون (طبع الجزائر 1910) ج 2 ص 170 - 174، ووردت به الرسالة الثانية، وهى أيضاً من إنشاء ابن الخطيب، فى ص 174 - 181.

ص: 144

بينه وبين أبيه، فأنكر الأب استئذانه إياه والمراجعة فى نصره، حمية له وامتعاضاً منه. وحال هذه الأمة غريبة فى الحماية الممزوجة بالوفاء، والرقة والاستهانة بالنفوس فى سبيل الحمية، عادة العرب الأول، وأخبارهم فى القتال غريبة

وبعد انقضاء سبعة عشر يوما، كان رجوعه ورجوع الرئيس المذكور معه، مصاحباً بأمراء كثيرين من أخدانه، وبعد أن تسلموا مالا كثيراً

وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس أبريل العجمى بموافقة شعبان من عام ثمانية وستين (ابريل 1367 م).

وكان هذا الجمع الإفرنجى آتين من الأرض الكبيرة (فرنسا) وكان على مقدم القوم الدك (الدوق) أخو البرنس ( Prince of Wales) ، وكان فى مقدمة القند (الكونت) المستأثر بملك قشتالة أخوه شانجه (سانشو)

الخ". ثم يحدثنا بعد ذلك عن هزيمة " القند " وفراره إلى فرنسا، واستمرار الفتنة بينهم إلى وقت كتابة روايته (1).

تولى ابن الخطيب وزارة الغنى بالله للمرة الثانية، وهو متمتع بأقصى مراتب العطف والثقة، واستأثر فى البلاط وفى الدولة بكل نفوذ وسلطة، وقضى على نفوذ منافسه الوحيد فى السلطة وهو شيخ الغزاة عثمان بن يحيى، وما زال بالسلطان حتى نكبه، فخلا له الجو وتبوأ ذروة القوة والسلطان. وكان من معاونيه فى الوزارة تلميذه الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله بن زَمْرَك، وقد تولى كتابة السر فى كنفه وتحت رعايته. والظاهر أن اجتماع السلطان والنفوذ فى يد ابن الخطيب على هذا النحو كان سبباً فى انحرافه عن جادة الاعتدال والروية، فجنح إلى الاستبداد واتباع الهوى، وبث حوله معتركا من البغضاء والخصومة، وكثرت فى حقه السعاية والوشاية، واتهمه خصومه بالإلحاد والزندقة، لما ورد فى بعض كتاباته. وشعر ابن الخطيب فى النهاية أن السعاية قد بدأت تحدث أثرها، وأن عطف مليكه قد فتر، وخشى العاقبة على نفسه، فعوّل على مغادرة الأندلس، وسار إلى الثغور الغربية فى نفر من خاصته بحجة تفقدها، فلما وصل إلى جبل طارق عبر البحر فجأة إلى سبتة (773 هـ) وتفاهم سابق بينه وبين ملك المغرب السلطان عبد العزيز المرينى، وكانت تربطه به مودة وثيقة. وهكذا غادر ابن الخطيب الوطن والأهل والسلطان، بعد أن تربع فى الوزارة للمرة الثانية زهاء عشرة أعوام. وخلفه فى الوزارة تلميذه ابن زَمْرك، وكان قد انقلب عليه فى أواخر أيامه، وغدا من خصومه ومن أشدهم سعياً إلى نكبته.

(1) الإحاطة ج 2 ص 24 - 26.

ص: 145

وقضى ابن الخطيب فى منفاه زهاء ثلاثة أعوام، واستقر فى فاس معززاً مكرماً، ولكن السلطان عبد العزيز ما لبث أن توفى، وساءت الأمور فى عهد ولده الطفل الملك السعيد، ووقع انقلاب انتهى بجلوس السلطان أحمد بن أبى سالم على العرش، وهو صديق الغنى بالله وحليفه. وكان بلاط غرناطة وخصوم ابن الخطيب فى الأندلس يجدّون فى ملاحقته ومطاردته، فسعوا عندئذ لدى بلاط فاس فى القبض عليه واتهامه بالزندقة، وكلل مسعاهم آخر الأمر بالنجاح، واعتقل ابن الخطيب وأفتى بعض الفقهاء المتعصبين بوجوب قتله تنفيذاً لحكم الدين، ودس عليه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد، فقتلوه فى سجنه، وذلك فى أوائل سنة 776 هـ (أواخر 1374 م). وهكذا ذهب الكاتب والشاعر الكبير ضحية الغدر السياسى والتعصب الشائن (1).

وكان ابن الخطيب سياسياً بعيد النظر، وكان يرى فى حوادث الأندلس شبح المستقبل الرهيب واضحاً، ويستشف بنافذ بصيرته ما وراء الحجب، من نهاية محتومة لهذا الوطن الذى مزقته الأهواء وأضنته الفتنة، وكان يرى هذا المصير المحزن قبل وقوعه بأكثر من قرن، ويهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر أن يبادروا إلى غوثه ونصرته، وله فى ذلك رسائل ونداءات عديدة مؤثرة تفيض قوة وبلاغة، فى الحث على اليقظة، والذود عن الدين والوطن، والنذير بما يهددهم ويهدد دينهم ووطنهم، من خطر المحو والفناء، إذا تقاعسوا أو تخاذلوا وافترقت كلمتهم (2).

وأبلغ من ذلك كله فى الدلالة على شعور ابن الخطيب بخطر الفناء الذى ينتظر الأندلس، ما وجهه فى وصيته إلى أولاده من النصح، بعدم الإسراف فى اقتناء العقارات بالأندلس إذ يقول لهم: "ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذى لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع فى العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعياً لنفسه أن يتغلب العدو على بلده فى الافتضاح والافتقار، ومعوقا عن الانتقال

(1) تناولنا هذه الحوادث بالتفصيل عند كلامنا عن حياة ابن الخطيب فى الكتاب الرابع. وراجع ابن خلدون ج 7 ص 340 و 341. هذا وقد دوّن ابن الخطيب ما شهده فى منفاه فى المغرب لأول مرة من الحوادث فى كتاب سماه " نفاضة الجراب فى علالة الإغتراب". ومنه نسخة مخطوطة فى مكتبة الإسكوريال تحفظ برقم 1755 الغزيرى.

(2)

نقل إلينا المقرى فى نفح الطيب وأزهار الرياض كثيراً من هذه الرسائل. وراجع الإحاطة ج 2 ص 31 - 39.

ص: 146

أمام النواب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى فالإجمال فى الطلب أولى" (1).

وسلك الغنى بالله فى حكمه مسلك القوة والحزم، واشتهر بصرامته وعدله، وعنى بمشاريع الإنشاء والعمران، فأمر ببناء المارستان الأعظم (المستشفى) فى غرناطة، وأنفق عليه أموالا عظيمة، وعنى بتحصين الثغور وعمل على بث روح الجهاد والحمية فى النفوس، للدفاع عن الدين والوطن، وكان داعيته فى ذلك وسفيره إلى جمهور الأمة، وزيره القوى البليغ ابن الخطيب، فعمل على إذكاء الشعور ببراعة، واستمرت رسائله وخطبه المؤثرة فى ذلك تترى أينما كان، بالأندلس أو المغرب، حتى نهاية حياته.

وفى أواخر سنة 767 هـ (1366 م) نظم بعض الزعماء الخوارج مؤامرة لخلع السلطان وإقامة بعض قرابته مكانه. وهاجم الخوارج قلعة الحمراء فمزقتهم الجند وقبض على زعيمهم، وزاد فشل المؤامرة مركز السلطان توطدا.

وفى عصر الغنى بالله توثقت أواصر الصداقة والمودة بين بلاط غرناطة وبلاط القاهرة، واتصلت بينهما السفارة والمكاتبة. ومما وقفنا عليه من ذلك رسالة بعث بها "أمير المسلمين" بالأندلس محمد بن يوسف بن اسماعيل الغنى لله، إلى سلطان مصر الأشرف شعبان، وهى من إنشاء وزيره ابن الخطيب. وفيها يعرب سلطان غرناطة عن اغتباطه بتلقى رسالة سلطان مصر، ويشيد بموقف غرناطة كمركز للجهاد، وتعرضها الدائم لمهاجمة العدو، ويتقدم إلى السلطان الأشرف بالتهنئة على ما أحرزت جنوده من نصر حاسم على الفرنج، فى موقعة الإسكندرية فى سنة 767 هـ (1365 م)(2)، وأنه مما يزيد فى غبطتهم أن هذا الحادث لابد أن يذكى شعور الإشفاق والعطف على الأندلس، التى يدهمها الأعداء بشرهم من البر والبحر بلا انقطاع (3).

وفيما يختص بالعلائق الدبلوماسية، فقد عقد الغنى بالله بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه أبى فارس عبد العزيز سلطان المغرب، مع بيدرو الرابع

(1) نقل إلينا المقرى فى نفح الطيب وصية ابن الخطيب كاملة، وهى من أبدع الوصايا الأبوية السياسية (بولاق ج 4 ص 817 وما بعدها)، وكذلك فى أزهار الرياض ج 1 ص 32 وما بعدها.

(2)

هاجمت حملة من الفرنج بقيادة لوسنيان ملك قبرص ثغر الإسكندرية فى صفر سنة 767 هـ، واحتل الفرنج الإسكندرية أياماً، ولكنهم هزموا وطوردوا بعد معارك عديدة.

(3)

يراجع نص هذه الرسالة بأكمله فى صبح الأعشى ج 8 ص 107 - 115، وهى نموذج بارز من أسلوب ابن الخطيب السياسى.

ص: 147

ملك أراجون معاهدة صلح وصداقة لمدة ثلاثة أعوام من تاريخ عقدها وهو شهر رجب سنة 768 هـ (مارس 1367 م)، وفيها يتعهد كل من الفريقين بأن يمتنع رعاياه عن الإضرار بالفريق الآخر فى البر والبحر فى السر أو الجهر، وأن يكون لرعايا كل فريق حق التجول والمتاجرة بأرض الفريق الآخر، والمرور فى البر والبحر، دون اعتراض أو مغارم غير عادية، وأن تطلق أراجون حرية الهجرة للمدجّنين، وأن يمتنع كل فرق عن معاونة أعداء الفريق الآخر (1).

واستطال حكم الغنى بالله حتى سنة 793 هـ (1391 م) وساد الأمن والسلام فى عصره، وشغلت قشتالة عن محاربة المسلمين بحوادثها الداخلية وحروبها الأهلية، وغلب التهادن فى تلك الفترة بين غرناطة وقشتالة، واستطاعت السياسة الغرناطية أن تنتهز فرصة الحوادث الداخلية فى المملكة النصرانية، وأن تمد يد التحالف والحماية غير مرة لملك قشتالة المخلوع بيدرو القاسى، إذكاء للحرب الأهلية بين النصارى.

ولم يخل عصر الغنى بالله من مواطن الجهاد واستئناف الصراع مع القشتاليين. وكانت القوات القشتالية، قد تسربت من أطراف ولاية إشبيلية الجنوبية، إلى أحواز رندة الشرقية، واحتلت فيها موقعين حصينين من أراضى المسلمين هما برغة وجيرة (2)، واستطاعت بذلك أن تقطع الطريق بين رندة ومالقة، ففى شعبان سنة 767 هـ (1366 م)، زحف المسلمون على هذين المعقلين من الشمال والجنوب واحتلوهما بعد قتال شديد. وفى الوقت نفسه استؤنفت حركة الغزو لأراضى النصارى، ففى شعبان سنة 768 هـ (1367 م)، زحف الغنى بالله فى قواته على أراضى ولاية إشبيلية، وغزا مدينة أطريرة الواقعة جنوب شرقى إشبيلية، وافتتح حصن أشر من معاقلها، واستولى على كثير من الغنائم والسبى، وعاث فى أحواز إشبيلية ذاتها، وهى يومئذ عاصمة قشتالة. وفى أواخر هذا العام سار الغنى بالله فى قوة كبيرة إلى مدينة جيّان، وحاصرها بشدة، واقتحمها بعد معارك شديدة، واستولى المسلمون على سائر ما فيها من الأموال والسلاح والنعم، وأسروا جموعاً كثيرة، ولكنهم لم يحتلوها، لصعوبة الدفاع عنها، وتعذر الاحتفاظ بها، وهى

(1) Archivo de la Corona de Aragon، No. 152.

(2)

برغة هى Burgo الحديثة، وهى تقع على مقربة من شرقى رندة، وجيرة Guera، وتقع فى جنوب شرقى رندة.

ص: 148

واقعة فى قلب أراضى العدو. وكان ذلك فى أواخر شهر المحرم سنة 769 هـ (سبتمبر 1367 م). ثم اقتحم الغزاة فى طريقهم مدينة باغة، الواقعة على مقربة من جنوب غربى جيان، ونهبوها ودمروها. وفى شهر ربيع الأول من هذا العام، زحف الغنى بالله على مدينة أبّدة، شمال شرقى جيان، وافتتحها عنوة، ودمر صروحها وكنائسها، وأسوارها، وتركها خرابا بلقعا، وعاد إلى غرناطة مكللا بغار الظفر (1).

وفى أواخر سنة 769 هـ، سار الغنى بالله جنوبا إلى الجزيرة الخضراء، وحاصرها، وأرغم النصارى على إخلائها بعد قتال مرير، وبذا عاد الثغر القديم فترة أخرى إلى أيدى المسلمين. ثم رأى المسلمون أن يهدموا حصونها وصروحها ومعالمها، حتى لا تعود سليمة إلى أيدى النصارى، فهدمت وغدت قاعاً صفصفاً.

وفى ربيع سنة 771 هـ (1370 م) زحف المسلمون ثانية على أحواز إشبيلية، وحاصروا مدينة قرمونة الحصينة، مدى حين، واقتحموا مُرْشانة الواقعة فى جنوب شرقى قرمونة. وهكذا ظهرت المملكة الإسلامية فى تلك الفترة بمظهر من القوة لم تعرفه منذ بعيد، وكان عصر الغنى بالله عصراً ذهبياً مليئاً بالسؤدد والرخاء والدعة، لم تشهده الأمة الأندلسية منذ عصور.

- 2 -

ولما توفى الغنى بالله سنة 793 هـ (1391 م) خلفه ولده يوسف أبو الحجاج (يوسف الثانى)، وقام بأمر دولته خالد مولى أبيه، فاستبد بالأمر وقتل إخوة يوسف الثلاثة سعداً ومحمداً ونصراً فى محبسهم، ثم سخط يوسف على وزيره وقتله، لما نمى إليه من أنه يحاول اغتياله بالسم بالتفاهم مع طبيبه يحيى بن الصائغ اليهودى، وزج الطبيب إلى السجن ثم قتل بعد ذلك (2). واستأثر يوسف بالسلطة، وكتب إلى ملك قشتالة فى طلب المهادنة والسلم، وأطلق سراح عدد من الفرسان النصارى الذين أسروا فى بعض المعارك السابقة، وأرسلهم مكرمين إلى بلاط إشبيلية، فاستجاب ملك قشتالة إلى دعوته وعقد السلم بين المملكتين.

(1) الإحاطة ج 2 ص 54 - 58؛ والاستقصاء ج 2 ص 132؛ وقد وصف ابن الخطيب هاتين الغزوتين، وكان من مرافقى الحملة، فى رسالتين بعث بهما عن لسان سلطانه إلى السلطان عبد العزيز المرينى ملك المغرب، وقد وردتا فى كتابه " ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب " مخطوط بالإسكوريال (رقم 1825 الغزيرى) - اللوحات 37 - 44.

(2)

الاستقصاء ج 2 ص 142.

ص: 149

وحاول محمد ولد السلطان يوسف الثورة ضد أبيه، إذ كان يؤثر أخاه الأكبر يوسف بمحبته وثقته، وقد اختاره لولاية عهده، وزحف بالفعل فى أنصاره على الحمراء، ولكن المحاولة فشلت، وتفرق الثوار حين برز إليهم سفير المغرب وقد كان وقتئذ بالقصر، وأنّبهم على مسلكهم، وأنصحهم بالتزام الهدوء والاتحاد ضد النصارى (1).

وقام المسلمون فى عهد يوسف بالإغارة على أراضى النصارى فى أحواز مرسية ولورقة، وعاث الفرسان النصارى من جانبهم فى فحص غرناطة (المرج) La Vega فردهم المسلمون وأوقعوا بهم هزيمة شديدة. ثم عاد الفريقان إلى التهادن والسلم.

وتوفى السلطان يوسف فى أوائل سنة 797 هـ (1394 م) بعد حكم قصير لم يدم سوى ثلاثة أعوام وبضعة أشهر. وقيل إنه توفى مسموما على أثر مكيدة دبرها سلطان المغرب أبو العباس المرينى لإهلاكه، وذلك بأن أرسل إليه هدايا بينها معطف جميل منقوع فى السم، فلبسه يوسف ومسّه أثناء ركوبه وهو عرقان، فسرى إليه السم وتوفى، وهى رواية تحمل طابع الخيال المغرق (2).

وخلف يوسف ولده محمد بعد أن دبر أمره مع الزعماء ورجال الدولة لإقصاء أخيه الأكبر يوسف عن العرش، ثم قبض على أخيه يوسف وزجه إلى قلعة شلوبانية الحصينة على مقربة من ثغر المنكَّب، وشدد فى الحجر عليه حتى يأمن منازعته إياه على الملك. وكان محمد وافر العنف والجرأة بعيد الأطماع، بيد أنه كان فى الوقت نفسه أميراً موهوباً، رفيع الخلال، فياض العزم والشجاعة. ولأول ولايته استدعى الوزير أبا عبد الله بن زَمْرك لحجابته. وكان هذا الوزير الطاغية قد حلف أستاذه ابن الخطيب فى وزارة الغنى بالله مدى أعوام طويلة، فلما اشتد عيثه واستبداده نكبه الغنى بالله ونفاه من الحضرة؛ ولم يمكث فى الوزارة هذه المرة سوى أشهر قلائل أساء فيها السيرة وكثر خصومه، وفى أواخر سنة 797 هـ (1395 م) دهمه جماعة من المتآمرين بمنزله وقتلوه وآله (3).

وسعى السلطان محمد إلى تجديد صلات المودة والتهادن بين غرناطة وقشتالة،

(1) Condé: Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana ; V. III. p. 169.

(2)

Condé: ibid ; V. III. p. 171.؛ وراجع الاستقصاء حيث يردد هذه الرواية نقلا عن مصدر إسبانى آخر، ج 2 ص 142.

(3)

نفح الطيب ج 4 ص 286 و 290، وقد عرضنا إلى حياة الوزير ابن زمرك وآثاره الأدبية تفصيلا فى الكتاب الخامس.

ص: 150

وعقدت الهدنة فعلا بين الفريقين. بيد أنه لم يمض قليل على ذلك حتى أغار القشتاليون على بسائط غرناطة وعاثوا فيها، فحشد محمد قواته وغزا ولاية الغرب (1) وخربها، واستولى على حصن أيامونتى (2)، وعاد مثقلا بالغنائم والسبى. وانتقم النصارى بالعود إلى غزو أراضى غرناطة. وكان هنرى الثالث ملك قشتالة تحدوه نحو مملكة غرناطة أطماع عظيمة، وكان يجدّ فى الأهبة للحرب ويجهز الجيوش والأساطيل، وكان محمد من جانبه يتأهب للدفاع، ويراسل ملوك العدوة لإنجاده، وبعث ملك تونس وأمير تلمسان بالفعل إلى المسلمين نجدة من الوحدات البحرية، ولكنها هزمت ومزقت تجاه جبل طارق. ثم عقد بين الفريقين اتفاق هدنة وتحكيم لتقدير الأضرار لمدة عامين (6 أكتوبر سنة 1406 م)(3). ولكن هنرى الثالث توفى بعد ذلك بقليل (أواخر سنة 1406 م) وخلفه على عرش قشتالة ولده خوان (يوحنا) طفلا تحت وصاية أمه وعمه فرناندو. ولم يحترم الوصىّ الجديد أحكام الهدنة المعقودة، بل عمد إلى تنفيذ مشاريع قشتالة بمنتهى القوة والعزم، فسار إلى غزو أراضى المسلمين، واستولى على حصن الصخرة على مقربة من رندة، واقتحم حصن باغة (4)، وعاث فى تلك الأنحاء واسترد حصن أيامونتى من المسلمين.

وبادر محمد من جانبه بغزو أراضى قشتالة من ناحية الشرق وعاث فى ولاية جيان، فاضطر فرناندو أن يسير إلى الشرق لإنجاد النصارى، واستمرت المعارك بين الفريقين حينا، ثم انتهت بعقد الهدنة وبينهما لمدة ثمانية أشهر (أوائل سنة 1408 م). ولما عاد محمد إلى غرناطة اشتد به المرض ولم يلبث أن توفى وذلك فى سنة 811 هـ (1408 م).

على أنه فى الوقت الذى كانت الحرب تضطرم فيه بين غرناطة وقشتالة على هذا النحو بلا انقطاع، كانت غرناطة ترتبط بمملكة أراجون منافسة قشتالة وخصيمتها أحياناً، بصلات المودة والصادقة. ففى ربيع الأول سنة 808 هـ الموافق سبتمبر سنة 1405 م، عقدت بين السلطان محمد وبين مرتين ملك أراجون وولده مرتين ملك صقلية، معاهدة صداقة وتحالف، توضح لنا نصوصها الدقيقة الشاملة

(1) غربى الأندلس وهى بالإفرنجية Algarve محرفة عن كلمة الغرب.

(2)

أيامونتى Ayamonte مدينة صغيرة تقع على المحيط الأطلنطى، وهى بلد الحدود بين إسبانيا والبرتغال.

(3)

Archivo General de Simancas: P.R. 11-1، ولدينا صورة فتوغرافية من نصها القشتالى وفى ذيلها توقيع بالعربية لمندوب سلطان غرناطة.

(4)

وهى بالإسبانية Priego.

ص: 151

مجمل المسائل التى كانت فى هذا العصر، تشغل المسلمين والنصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية.

وتنص هذه المعاهدة على أن يعقد بين الدولتين "صلح ثابت" لمدة خمسة أعوام من تاريخ عقدها، وأنه يحق لرعايا كل من الفريقين أن يتردد على أراضى الفريق الآخر، آمنين فى أنفسهم وأموالهم للتجارة والبيع والشراء، وأنه متى احتاج ملك أراجون أو ملك صقلية إلى معاونة على أعدائهما، فإن سلطان غرناطة ينجدهما بأربعمائة أو خمسمائة فارس على أن يتكفلا هما بنفقاتهم، وذلك بشرط أن لا يكون هذا العدو صديقاً لمملكة غرناطة، وأن يعامل الملكان سلطان غرناطة بالمثل فيقوما بإعانته بأربعة أو خمسة سفن مشحونة بالرجال والسلاح، على أن يتكفل هو بنفقاتها، وعلى ألا يكون هذا العدو صديقاً لمملكة أراجون، وألا يساعد أحد من الفريقين الثوار الذين يخرجون على الفريق الآخر بأى نوع من أنواع المساعدة.

ونصّت فيما يتعلق بالمسائل البحرية، على أنه يسمح لسفن كل من الفريقين أن ترسو فى موانىء الفريق الآخر، وأن تزاول البيع والشراء آمنة، وأن تتلقى سائر أوجه الإعانة المشروعة، وألا تتعرض سفينة لأحد الفريقين للسفن الراسية فى موانىء الآخر، وأن يسمح للسفن التى تصاب بعطب من جراء العواصف أو غيرها، وتكون تابعة لأحد الفريقين، أن تصلح فى موانىء الآخر، وتُعان على ذلك، وأنه إذا استولى عدو على سفينة تابعة لأحد الفريقين، وقصدت مياه الطرف الآخر، فإنه لا يسمح لها بأن تبيع شيئاً من حمولتها فيه، وكذلك يكون الحكم فيما يتعلق بالأشخاص أو السلع المأخوذة من أحد الطرفين.

ونصت فيما يتعلق بتسريح الرعايا، على أنه إذا انتزع أحد الطرفين من عدوه مدينة أو موضعاً ما، وكان فيه أحد من رعايا الطرف الآخر، فإنه يسرح فى الحال مؤمناً فى نفسه وماله، ويكون الحكم كذلك فيما يتعلق بالسفن التى يستولى عليها أحد الطرفين من عدوه؛ وأنه إذا كان لدى أحد الطرفين أسرى من رعايا الطرف الآخر، فإنه يفك أسرهم لقاء دفع مائة دينار ذهبا عن الشخص الواحد، فإذا كان الأسير ملكاً لأحد من رعايا أى الطرفين، فإنه يسمح بافتكاك أسره نظير دفع الثمن الذى اشترى به، ويلتزم كل من الفريقين بألا يخفى أو يغيب أحداً من الأسرى؛ وأنه إذا دخل مجاورون تابعون لأحد الطرفين فى أرض الآخر واحتملوا منها أسرى أو بضائع، فإنها تطلب ممن تستقر لديه، ويأمر قائد الموضع الذى

ص: 152

به الأسرى والبضائع بردها لمن أخذت منهم، وبالبحث عن الفاعلين ومعاقبتهم (1).

ولما توفى محمد خلفه فى الملك أخوه يوسف (الثالث)، وكان سجينا طوال حكمه بقلعة شلوبانية كما قدمنا. ودخل يوسف غرناطة فى حفل فخم، واستقبله الشعب بحماسة. وكان يتمتع بخلال حسنة، ويعلق عليه الشعب آمالا كبيرة. وكان أول ما عنى به أن سعى إلى تجديد الهدنة مع قشتالة، فاستجاب بلاط قشتالة إلى دعوته فى البداية وعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عامين. ولكنه لما سعى بعد مضى العامين إلى تجديدها أبى القشتاليون، وطلبوا إليه الخضوع لقشتالة إذا شاء استمرار السلم، وأنذروه بإعلان الحرب، فرفض وأخذ فى الأهبة للقتال. وكان ملك قشتالة يومئذ خوان الثانى تحت وصاية أمه وعمه فرناندو، فما كادت تنتهى الهدنة حتى زحف النصارى على أرض غرناطة بقيادة فرناندو الوصى، وضربوا الحصار حول مدينة أنتقيرة فى شمال غربى مالقة، فهرع يوسف إلى لقاء الغزاة، وحاولت حامية أنتقيرة أن تحطم الحصار، وأنزلت بالمحاصرين خسائر فادحة، ثم نشبت بين المسلمين النصارى معركة كبيرة بجوار أنتقيرة، وبذل المسلمون لإنقاذ المدينة المحصورة جهوداً رائعة، ولكنهم هزموا أخيراً واضطرت المدينة الباسلة إلى التسليم، فدخلها النصارى (سنة 1412 م) وأسبغ على فاتحها فرناندو من ذلك الحين لقب "صاحب أنتقيرة". وعاث النصارى بعد ذلك فى أراضى المسلمين. وأخيراً رأى السلطان يوسف أن يسعى إلى عقد الهدنة مع قشتالة حقنا لدماء المسلمين، واجتنابا لاستمرار هذه المعارك المخربة، فارتضى بلاط قشتالة وعقد السلم بين الفريقين، على أن يطلق ملك غرناطة سراح بضع مئات من الأسرى النصارى دون فدية.

وفى عهد يوسف ثار أهل جبل طارق، ودعوا ملك المغرب أبا سعيد المرينى إلى احتلال الثغر. لاعتقادهم أنه أقدر على حمايتهم من غارات النصارى، فبعث إليهم أبو سعيد أخاه عبد الله فى الجند تخلصاً منه، ولكن ابن الأحمرما كاد يقف على هذه المؤامرة حتى أرسل المدد إلى حاكم جبل طارق، واستطاع الغرناطيون أن يهزموا المغاربة فى موقعة حاسمة، وأسر زعيمهم عبد الله، فأكرم ابن الأحمر وفادته، ثم رده إلى المغرب، وزوده بالمال وبعض الجند ليناهض أخاه،

(1) Archivo de la Corona de Aragon ; No. 173.

ص: 153

فهرعت القبائل لتأييده، واستطاع أن ينتزع الملك لنفسه من أخيه (1).

ولما عقدت الهدنة بين مملكتى قشتالة وغرناطة، أخذت أواصر السلم تتوثق بينهما، وسادت بين بلاط غرناطة وبلاط اشبيلية علائق المودة والاحترام المتبادل، ولم تشهد غرناطة من قبل عهداً كعهد يوسف ساد فيه الوئام بين الأمتين الخصيمتين. وكانت غرناطة يومئذ تغص بالفرسان والأشراف النصارى، تجتذبهم خلال أميرها وبهاء بلاطها وفروستها. وكانت حفلات المبارزات الرائعة تعقد بين الفرسان المسلمين والنصارى فى أعظم ساحات المدينة، وتجرى طبقاً لأرفع رسوم الفروسية الإسلامية، ويشهدها أجمل وأشرف العقائل المسلمات سافرات، وتبدو غرناطة فى تلك الأيام المشهودة فى أروع الحلل وأبدع الزينات (2). وكانت الأمة الأندلسية تتمتع يومئذ فى ظل ملكها الرشيد العادل بنعم الرخاء والسكينة والأمن، ولكنها كانت تنحدر فى نفس الوقت فى ظل هذا السلم الخلب والترف الناعم، إلى نوع من الانحلال الخطر الذى يعصف بمنعتها وأهباتها الدفاعية.

وتوفى السلطان يوسف فى سنة 820 هـ (1417 م) بعد حكم دام نحو تسعة أعوام، وكان أميراً راجح العقل، بارع السياسة، عظيم الفروسية والنجدة، محباً لشعبه، فكان حكمه التقصير صفحة زاهية فى تاريخ مملكة غرناطة.

- 3 -

وتوالى على عرش غرناطة بعد السلطان يوسف عدة من الأمراء الضعاف، أولهم ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر. وكان أميراً صارما سيىء الخلال، متعاليا على أهل دولته، بعيداً عن الاتصال بشعبه، لا يكاد يبدو فى أية مناسبة عامة، وكان وزيره يوسف بن سراج واسطته الوحيدة للاتصال بشعبه وكبراء دولته. وكان هذا الوزير النابه، وهو يومئذ زعيم أعظم وأشرف بيوت غرناطة، يعمل ببراعته ورقّة خلاله، لتلطيف حدة السخط العام على مليكه. بيد أنه كان يحاول أمراً صعباً. ولابد لنا أن نقول كلمة فى التعريف ببنى سراج، وهم الذين يقترن اسمهم منذ الآن بحوادث مملكة غرناطة، والذين غدت سيرتهم فيما بعد مستقى خصبا للقصص المغرق.

فهم بنو سراج من أعرق الأسر الأندلسية العربية، ويرجع أصلهم حسبما يشير

(1) السلاوى فى الاستقصاء ج 2 ص 148.

(2)

Condé: ibid ; V. III. p. 197 & 198. وكذلك Lafuente Alcantra ; Historia de Granada (1906) V. III. p. 46.

ص: 154

المقرى إلى مَذْحج وطىء من البطون العربية العريقة، التى وفد بنوها إلى الأندلس منذ الفتح، وكان منزلهم بقرطبة وقبلى مرسية، بيد أنهم لم يظهروا على مسرح الحوادث فى تاريخ الأندلس إلا فى مرحلته الأخيرة أعنى فى تاريخ غرناطة، وقد كانوا بغرناطة من أعظم سادتها، وكانوا أندادا للعرش والسلاطين (1). ومنذ عهد السلطان الأيسر نرى بنى سراج فى طليعة القادة والزعماء، الذين يأخذون فى سير الحوادث بأعظم نصيب. وقد كان حكم السلطان الأيسر، بداية سلسلة من الاضطرابات والقلائل المتعاقبة. وفى عهده ساءت الأحوال، واشتد سخط الشعب ولم تُجد محاولات الوزير ابن سراج لتهدئة الأمور. وقامت ثورات متعاقبة، فقد فيها الأيسر عرشه ثم استرده غير مرة، وكان بلاط قشتالة يشجع هذه الإنقلابات ويؤازرها، وكان الزعماء الثائرون يتطلعون دائماً إلى عون قشتالة ووحيها. وسنرى فيما يلى كيف كانت دسائس قشتالة ومؤامراتها حول عرش غرناطة فى تلك الفترة، من أعظم العوامل فى انحلال المملكة الإسلامية والتعجيل بسقوطها.

وفى خلال حكم الأيسر المضطرب، كان النصارى يتربصون الفرص لغزو مملكة غرناطة، فزحفوا عليها فى سنة 831 هـ (1428 م) وتوغلوا فى أرجائها، وعاثوا فى بسائط وادى آش، فزادت الأمور فى غرناطة اضطرابا، وازداد الشعب على الأيسر سخطاً، لأنه فوق غطرسته وتعاليه، لم يفلح فى رد العدو عن أرض الوطن؛ وسرعان ما انفجر بركان الثورة وزحف الثوار على الحمراء، ونادوا بولاية الأمير محمد بن محمد بن يوسف الثالث، وهو ابن أخى الأيسر. وفى رواية أنه ولده، ومحمد هذا هو الملقب "بالزغير". وفر الأيسر فى أهله ونفر من خاصته، وركب البحر إلى تونس مستظلا بحماية سلطانها أبى فارس الحفصى. وجلس محمد " الزغير " أو أبو عبد الله الصغير، حسبما يسمى فى بعض الوثائق الرسمية (2).

(1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 138 حيث يشير إلى أصل بنى سراج إشارة عابرة. وقد ذكر البعض أن بنى سراج ينتمون إلى يوسف السراج، وأن السراج هذا هو وزير السلطان الأيسر. ولكن إشارة المقرى الصريحة إلى الاسم والمنبت تنفى هذا التحريف فى الاسم. ويشغل بنو سراج فى الأساطير الإسبانية التى كتبت عقب سقوط غرناطة فراغاً كبيراً، مما يدل على ما كان لهم فى غرناطة من عظيم الشأن. وسنعود إلى ذكر هذه القصص والأساطير فيما بعد. وراجع المستشرق سيبولد فى Encyc. de l'Islam. تحت كلمة Abencerrages

(2)

راجع كتاب "وثائق عربية غرناطية" للمستشرق الغرناطى لويس سيكودى لوثينا، وقد وردت فى الوثيقة رقم 19 (ص 40) إشارة إلى " دنانير من ضرب السلطان أبى عبد الله =

ص: 155

على عرش غرناطة. وكان أميراً بارع الخلال، وافر الفروسية، يعشق الآداب والفنون، وكان يحاول اكتساب محبة الشعب، بفيض من الحفلات ومباريات الفروسة، ولكنه لم يوفق إلى إخماد الدسائس والفتن المستمرة. وكان بنو سراج ألد خصومه وأشدهم مراسا، فمال عليهم وطاردهم وعوّل على سحقهم، واستئصال نفوذهم القوى المتغلغل فى أنحاء المملكة، وغادر يوسف بن سراج غرناطة مع عدد كبير من السادة والفرسان من أفراد أسرته، تفاديا لانتقام "الزغير" وبطشه، وسار أولا إلى ولاية مرسية ثم سار إلى إشبيلية ملتجئاً إلى حماية ملك قشتالة خوان الثانى، فرحب بهم وأكرم وفادتهم. واتفق يوسف بن سراج مع ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر إلى العرش. واستدعى الأيسر من تونس فلبى الدعوة، وزوده السلطان أبو فارس بفرقة من الفرسان، وهدايا ثمينة لملك قشتالة، ونزل الأيسر فى عصبته فى ثغر ألمرية، حيث استقبله الشعب بحفاوة، ونودى به ملكا. ونمى الخبر إلى الزغير، فأرسل بعض قواته لمقاتلة الأيسر والقبض عليه، ولكن معظم جنده انضموا إلى الأيسر، وسار الأيسر بعد ذلك إلى وادى آش حيث يحتشد أنصاره، ثم زحف على غرناطة فى قوة كبيرة، ورأى محمد الزغير أنصاره ينفضون من حوله تباعا، بيد أنه امتنع فى عصبته القليلة بقلعة الحمراء، معتزما الدفاع عن ملكه. ودخل الأيسر غرناطة، واستقبل بحماسة وأعلن ملكاً، وحاصر الحمراء بشدة فسلمها إليه أنصار الزغير، وفى رواية أن الأيسر قبض على الزغير وقطع رأسه، وقبض على أولاده وأهله، وفى رواية أخرى أنه قبض عليه، واعتقله هو وأخاه الأمير أبا الحسن على بن يوسف فى قلعة شلوبانية الحصينة وهى سجن الدولة الرسمى فى عهد بنى نصر. وهكذا انتهت مغامرة الزغير على هذا النحو المؤسى بعد أن حكم عامين وبضعة أشهر (سنة 1430 م)(1).

ونظم السلطان الأيسر الأمور، وأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة،

= الصغير". والواقع أنه "زغير" هى النطق العامى الأندلسى لكلمة "صغير": Dozy: Supp. aux Dict. Arabes Vol. I. p. 595 وذكر كوندى أن الزغير معناها السكير: Condé ibid. V. III. p. 182.

(1)

Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 121 & 122 ; Condé ; ibid.; V. III. p. 184 & 185. وراجع أيضاً مقال الاستاذ سيكودى لوثينا المعنون Las Campanas de Castilla contra Granda en el amo 1431 المنشور فى مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الرابع) ص 80.

ص: 156

صورة رسالة وجهها السلطان أبو عبد الله الأيسر إلى قادة وأشياخ حصن قمارش بوجوب اليقظة والحرص على الدفاع عنه مؤرخة فى شعبان سنة 831 هـ (1428 م)، وأوردها المستشرق ريميرو فى رسالته Documentos Arabes de la Corte Nazari، منقولة من مجموعة هرناندو دى ثافرا H. de Zafra

ص: 157

وأرسل إلى ملك قشتالة خوان الثانى فى تجديد الهدنة، فبعث إليه سفيره كونثالث دى لونا واشترط لتجديدها أن يؤدى الأيسر ما أنفقه بلاط قشتالة فى سبيل استرداد عرشه، وأن يؤدى فوق ذلك جزية سنوية ضخمة اعترافاً منه بطاعة قشتالة، وأن يفرج عن سائر الأسرى النصارى الموجودين ببلاده، فرفض الأيسر وهدد ملك قشتالة بالحرب. وبعث خوان الثانى كذلك سفراءه ومعهم هدايا نفيسة إلى أبى فارس الحفصى سلطان تونس، وإلى سلطان فاس عبد الحق بن عثمان المرينى يرجو كلا منهما أن يبتعد عن التدخل فى شئون غرناطة، فوعد كلاهما بتحقيق رغبته. وما كادت تنتهى الفتنة الداخلية التى كانت يومئذ ناشئة فى قشتالة، حتى أغار القشتاليون فى قواتهم من قرطبة وجيان وإستجه على أراضى المسلمين، وقصدوا إلى أحواز رندة، فهرع الأيسر إلى لقائهم، واستطاع أن يردهم فى البداية، ولكن ملك قشتالة قدم بعدئذ بنفسه فى قوات كبيرة، وزحف على حصن اللوز وأرشدونة، وعاث فى تلك المنطقة، ثم عاد إلى قرطبة ومعه كثير من السبى والغنائم (1431 م).

وفى أثناء ذلك عاد الأيسر إلى غرناطة، متوجسا من سير الحوادث فيها: وكانت الفتن الداخلية قد عادت تنذر بانقلابات جديدة، وغدا عرش غرناطة مرة أخرى يضطرب فى يد القدر؛ وانقسمت المملكة الإسلامية شيعاً وأحزابا متنافسة متخاصمة، وألفى النصارى فرصتهم السانحة لإذكاء الفتنة، وبسط سيادتهم على مملكة يسودها الضعف والتفرق. وكان خصوم الأيسر قد التفوا حول أمير ينتمى إلى بيت الملك عن طريق أمه، هو أبو الحجاج يوسف بن المول. وكانت أمه ابنة للسلطان محمد بن يوسف بن الغنى بالله، وأبوه ابن المول من وزراء الدولة النصرية. ودبرت مؤامرة جديدة لخلع الأيسر. وكان يوسف أميراً قويا، وافر الثراء والهيبة، وكان ملك قشتالة، خوان الثانى، يعسكر يومئذ بجيشه على مقربة من غرناطة، يتتبع سير الحوادث، ويرقب الفرص. فقصد إليه يوسف، وطلب إليه العون على انتزاع العرش لنفسه، وتعهد بأن يحكم باسمه وتحت طاعته، فلبى ملك قشتالة دعوته، وعقد معه يوسف وثيقة بالخضوع، يقرر فيها أنه من أتباع ملك قشتالة وخدامه، وأنه إذا حصل على الملك، فإنه يتعهد بتحرير جميع الأسرى النصارى، وبأن يدفع لملك قشتالة جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار من الذهب، وأن يعاونه بألف وخمسمائة فارس لمحاربة أعدائه سواء أكانوا نصارى أو مسلمين،

ص: 158

صورة للجانب الأيسر من معاهدة التحالف والخضوع التى عقدت بين يوسف بن المول (يوسف الرابع) وخوان الثانى ملك قشتالة، وفوقه بضعة أسطر من النص القشتالى للمعاهدة. وهى مؤرخة فى جمادى الأولى سنة 835 هـ (يناير 1432 م) ومحفوظة بدار المحفوظات العامة Archivo General de Simancas برقم P، R. 11-124

ص: 159

وأن يحضر جلسات مجلس الكورتس (مجلس النواب القشتالى) بنفسه إن كان منعقداً جنوب طليطلة أو بإنابة أحد من أبنائه أو ذوى قرابته إن كان منعقداً داخل قشتالة. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يعقد الصلح مع يوسف طوال أيام حكمه وأيام أبنائه، وبأن يعاونه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وألا يحمى من يلتجىء إليه من أعدائه. ووقع مشروع هذه المعاهدة بين الفريقين فى السابع من المحرم سنة 835 هـ (16 سبتمبر سنة 1431 م) ونفّذت على الأثر، إذ أرسل ملك قشتالة، جنده فغزت مرج غرناطة، وسار الأيسر على رأس قواته والتقى بالنصارى فى بسائط إلبيرة، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، ارتد الأيسر على أثرها منهزماً إلى غرناطة. أما يوسف فقد استطاع بمؤازرة النصارى أن يستولى على عدة قواعد اعترفت بطاعته، مثل رندة ولوشة وحصن اللوز وغيرها. وأعلن ملك قشتالة انحيازه إلى يوسف ونُودى به ملكا، وسار يوسف بعد ذلك فى قواته إلى غرناطة فلقيته جنود الأيسر بقيادة الوزير ابن سراج فهزم ابن سراج وقتل، ودخلت جنود يوسف العاصمة، ونادت بطاعته معظم الجهات، وانفض الأشراف من حول الأيسر بعد أن رأوا خسران قضيته، فاعتزم الأيسر أمره وحمل أمواله وغادر غرناطة فى أسرته ونفر من خاصته، وقصد إلى مالقة التى بقيت على طاعته، ودخل يوسف بن المول الحمراء ظافراً وتربع على العرش، وذلك فى أول يناير سنة 1432 م.

وكان أول ما فعله يوسف أن جدد لملك قشتالة عهد الخضوع، فوقعه باعتباره سلطان غرناطة فى 22 جمادى الأولى من نفس العام (27 يناير سنة 1432 م)(1). وبيد أن حكمه لم يطل إذ كان شيخاً مريضاً، فتوفى بعد ستة أشهر لم يفعل خلالها شيئاً سوى اعترافه بطاعة ملك قشتالة، وهو ما كانت تسعى إليه قشتالة دائما مذ قامت مملكة غرناطة.

ومن المدهش أن نجد تماثلا غريبا بين نصوص المعاهدة التى عقدها محمد ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة بالخضوع لفرناندو الثالث، وبين عهد الخضوع الذى وقعه يوسف بن المول، والذى قطعت به قشتالة أكبر خطوة فى سبيل تحقيق

(1) Archivo General de Simancas ; P.R. 11-129. وقد حصلنا على صورة فتوغرافية لهذه الوثيقة بنسختيها العربية والقشتالية، ونشرنا النصين فى بحث ظهر فى صحيفة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الثانى - 1954).

ص: 160

أمنيتها القديمة. والواقع أن هذا العهد المؤلم كان أشنع ما انتهت إليه الخلافات الداخلية والحروب الأهلية فى مملكة غرناطة فى تلك الفترة الدقيقة من حياتها.

وعلى أثر وفاة السلطان يوسف، اتفقت الأحزاب كلها على رد الأمر للسلطان الأيسر، فجلس على العرش للمرة الثالثة، وبادر بالسعى إلى عقد السلم مع ملك قشتالة، فعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عام، ولكن القشتاليين ما لبثوا بالرغم من عقدها أن أغاروا على أراضى غرناطة الشرقية، فردهم المسلمون بقيادة الوزير ابن عبد البر زعيم بنى سراج، ثم هزموهم ثانية عند مدينة أرشدونة، وقتل وأسر منهم عدد كبير (838 هـ - 1434 م).

وفى العام التالى سار السلطان الأيسر لقتال القشتاليين، فى أحواز غرناطة ووادى آش، وهزمهم غير مرة، ثم عاد النصارى فأغاروا على بسطة ووادى آش، واحتلوا بعض الحصون والقرى المجاورة، وزحفت قوة كبيرة من النصارى بقيادة حاكم لبلة، على ثغر جبل طارق، ولكن أهل الثغر باغتوا النصارى وهزموهم، وقتل قائدهم وكثير منهم (840 هـ - 1436 م). ثم نشبت بعد ذلك بين المسلمين والنصارى موقعة أخرى على مقربة من كازورلا، أصيب الفريقان فيها بخسائر فادحة، وانتهت بنصر المسلمين، ولكن قائدهم الفارس ابن سراج وهو ولد الوزير السابق، سقط قتيلا فى الموقعة، فحزنت غرناطة لفقده، ،قد كان يخلب الشعب الغرناطى بظرفه وبارع فروسته (1).

وهكذا استمر الصراع بضعة أعوام سجالا بين المسلمين والنصارى. ولما رأى النصارى كثرة خسائرهم وعقم محاولاتهم، لجأوا إلى السكينة حينا. وأرسل السلطان الأيسر فى أواخر عهده إلى مصر سفارة يرجو فيها سلطان مصر الإنجاد والغوث لما رآه من اشتداد وطأة النصارى على أراضى مملكته. وقد انتهت إلينا رواية مخطوطة مبتورة عن قصة هذه السفارة (2)، كما أشارت إليها التواريخ المصرية.

وهذه أول مرة تتجه فيها مملكة غرناطة إلى الاستنجاد بمصر، وقد كانت حتى ذلك الحين تتجه دائماً إلى ملوك العدوة. وقد رأينا كيف لبث بنو مرين عصراً ملاذ

(1) Lafuente Alcantra: ibid: V. III. p. 147-150.

(2)

عثر بهذه الأوراق المخطوطة صديقى الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهوانى فى بعض محفوظات مكتبة مدريد الوطنية؛ ونشر نصها ضمن بحث عنوانه "سفارة سياسية من غرناطة إلى القاهرة فى القرن التاسع الهجرى" وذلك بمجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة (المجلد السادس عشر. الجزء الأول ص 95 - 121).

ص: 161

غرناطة، وساعدها الأيمن حين الخطر الداهم. ولكن الدولة المرينية، كانت قد دخلت يومئذ فى دور انحلالها، وخبت قواها التى انسابت مرارا إلى شبه الجزيرة، ومن ثم فقد وجه سلطان غرناطة صريخه إلى مصر. وتضع الروايات المصرية تاريخ هذه السفارة فى رجب سنة 844 هـ، وهو يوافق شهر ديسمبر سنة 1440 م. ولكنها تضطرب فى ذكر اسم سلطان غرناطة، فيسميه المقريزى "الغالب بالله عبد الله بن محمد بن أبى الجيوش نصر"، ويسميه السخاوى "عبد الله ابن محمد بن نصر"(1). وفى رأينا أن المرجح أن هذه السفارة صدرت عن السلطان أبى عبد الله محمد بن يوسف أى السلطان الأيسر، لأنه حكم حتى أوائل سنة 1441 م.

وهناك احتمال بأن يكون مرسلها هو خلفه الثائر عليه السلطان محمد بن نصر بن محمد الغنى بالله وهو المعروف بالأحنف حسبما نذكر بعد، ولعل خبر هذا الانقلاب لم يكن قد وصل إلى مصر حين وصل السفراء الغرناطيون إلى القاهرة، وقد كان وصولهم إليها فى نفس التاريخ الذى وقع فيه هذا الانقلاب بغرناطة، وهو مما يرجح كون السلطان الأيسر هو مرسل هذه السفارة.

وعلى أى حال فقد وصل السفراء الغرناطيون وعددهم أربعة، كما يستفاد من الرواية المخطوطة المشار إليها، فى شهر رجب سنة 844 هـ، وقدموا كتاب سلطانهم إلى سلطان مصر، الظاهر جقمق، وفيه يطلب الإنجاد من مصر. وقد رد سلطان مصر بأنه سوف يبعث إلى "ابن عثمان" أعنى إلى سلطان قسطنطينية، بأن ينجد الأندلس، ولما أكد السفراء الغرناطيون أنهم يتوجهون بصريخهم إلى مصر، اعتذر السلطان بأن بُعد الشقة يحول دون إرسال الجند إلى الأندلس، فطلب السفراء عندئذ أن تساهم مصر فى المعونة بالمال والعدة، فوعدهم السلطان بذلك.

وقدم السفراء الغرناطيون إلى السلطان هدية أندلسية من الفخار المالقى والأنجبار الغرناطى، ومن ثياب الخز الأندلسية، فاستحسنها السلطان، وفرقها بين مماليكه وحشمه وأهله. ولسنا نعرف شيئاً عن نتيجة هذه السفارة ولا عن موعد عودة السفراء الأندلسيين إلى غرناطة، لأن الرواية المخطوطة تنتهى بوصف رحلة هؤلاء السفراء إلى الحجاز مع ركب الحاج لقضاء الفريضة، وتقف عند وصف كاتبها للبقاع المقدسة، بيد أننا نرجح أنها لم تسفر عن أية نتائج عملية.

(1) الأول فى كتاب "السلوك فى دول الملوك". والثانى فى كتاب "الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع".

ص: 162

ولكن حوادث غرناطة كانت عندئذ تنذر بتطورات جديدة مزعجة. ذلك أن السلطان الأيسر بالرغم من حسن بلائه ضد النصارى لم يحسن السيرة فى الداخل، ولم ينجح فى اجتذاب شعبه، وكان فريق من خصومه من السادة الفرسان يلوذ بحماية ملك قشتالة، وعلى رأسهم الأمير يوسف بن أحمد حفيد السلطان يوسف الثانى، وابن عم الأيسر، وهو المعروف فى التواريخ القشتالية "بابن إسماعيل" وذلك لأن نسبه ينتهى إلى السلطان أبى الوليد إسماعيل الذى تولى العرش سنة 712 هـ. وكان ثمة فريق آخر من الزعماء الناقمين فى ألمرية يناصر الأمير محمداً بن نصر بن محمد الغنى بالله وهو المعروف بالأحنف. وكان الأحنف قد نجح فى دخول غرناطة سراً مع نفر كبير من أنصاره، وأخذ يعمل على إذكاء الفتنة. فلما آنس سنوح الفرصة، ثار فى عصبته واستولى على الحمراء والحصون المجاورة لها، وقبض على الأيسر وآله وزجهم إلى السجن، ونادى بنفسه ملكا، وذلك فى أوائل سنة 1441 أو أوائل سنة 1442 م، حسبما تدل على ذلك وثيقة عربية، هى عبارة عن خطاب موجه منه إلى ملك قشتالة فى شهر ذى القعدة سنة 846 هـ (مارس 1443 م). يشير فيه إلى بعض المشاكل القائمة بين البلدين، ويطالب بإطلاق سراح سفيره المعتقل فى قشتالة (1).

ولكن الفتنة لم تهدأ ولم تستقر الأمور. وكان يعارض ولاية الأحنف فريق قوى من الزعماء والشعب، ويتزعم هذا الفريق المعارض الوزير ابن عبد البر زعيم بنى سراج. وكان يقيم فى حصن مونتى فريو فى شمال غربى غرناطة، ويؤيد ولاية الأمير يوسف (ابن إسماعيل) المقيم فى بلاط قشتالة. ولم يمض قليل حتى سار هذا الأمير من إشبيلية إلى غرناطة ومعه سرية من الفرسان النصارى أمده بها ملك قشتالة. والظاهر أن ابن إسماعيل استطاع التغلب عندئذ على الأحنف، واحتل الحمراء، وحكم مدى أشهر قلائل. ولكن الأحنف عاد فتغلب عليه واسترد عرشه (أوائل سنة 1446 م). ورد السلطان الأحنف من جانبه بأن غزا أراضى قشتالة وهاجم قلعة بنى موريل وقلعة ابن سلامة، وقتل من فيهما من النصارى (1446 م) وسير الوقت نفسه جزءاً من قواته لمقاتلة خصمه ابن إسماعيل، وانتهز الأحنف فرصة الخلاف القائم يومئذ بين أراجون وقشتالة، فأرسل إلى ملك أراجون يعرض

(1) نشر نص هذا الخطاب مع صورته الفتوغرافية فى كتاب نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر (المنشور بعناية معهد فرانكو بتطوان) ص 76 - 78.

ص: 163

محالفته ضد قشتالة، ونفذ هذا الحلف بأن غزا الأحنف أرض النصارى من ناحية

أراضى مرسية، والتقى بالقشتاليين قرب جنجالة وهزمهم هزيمة شديدة (1450 م) ثم عادت قواته تكرر الإغارة والعيث فى أرض النصارى وتشغل قواتهم. وكان ابن إسماعيل يقيم أثناء ذلك فى حصن مونتى فريو، وقد أقرت بطاعته بعض البلاد والحصون المجاورة. وهكذا اتسع نطاق النضال، وعصفت الحرب الأهلية من جهة، وغزوات النصارى من جهة أخرى بقوى غرناطة. وكان السلطان الأحنف بالرغم من عزمه وقوة نفسه، يثير غضب الشعب بطغيانه وقسوته وعنفه، وكانت معظم الأسر الكبيرة تعمل لإسقاطه، لما لقيت من بطشه وعدوانه، وهكذا تهيأ الجو لانقلاب جديد. وهنا يحيق الغموض بولاية العرش الغرناطى ويختلف القول فى شأنها. والرواية الإسلامية مقلة فى هذا الشأن، ولم يصلنا منها عن حوادث هذه الفترة المضطربة من تاريخ غرناطة سوى القليل، ومن ثم فإن جل اعتمادنا هنا على الروايات القشتالية. وفى بعض هذه الروايات أن ملك قشتالة عاد بعد أن سوى خلافه مع أراجون إلى التدخل فى شئون غرناطة، فزود ابن إسماعيل ببعض قواته، وسار الأحنف لقتال منافسه، ونشبت بين الفريقين فى ظاهر غرناطة معركة شديدة، انتهت بهزيمة الأحنف وفراره؛ ودخل ابن إسماعيل غرناطة، وجلس على العرش، وكان ذلك فى سنة 1454 م. وفى بعض الروايات الأخرى أن السلطان الأحنف استمر فى الحكم حتى سنة 1458 م. ثم خلفه فى الحكم الأمير سعد بن محمد حفيد السلطان يوسف الثانى، واستمر فى الحكم أربعة أعوام. ثم عزل فى سنة 1462 م، وأعيد السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل)، وحكم حتى أواخر سنة 1463 م (1).

ْوكان السلطان ابن إسماعيل أميراً عاقلا حازما عادلا، محبا للإصلاح والأعمال الإنشائية، فعكف على ضبط الأمور وتوطيد الأمن، وإقامة الأبنية وتحصين القواعد والثغور. وكان فارسا بارعا يشترك بنفسه أحيانا فى مباريات الفروسة. ولأول عهده أرسل إلى ملك قشتالة خوان الثانى يؤكد طاعته، وساد السلم لفترة قصيرة بين المسلمين والنصارى. ولكن خوان الثانى توفى بعد أشهر قلائل، وخلفه ولده هنرى الرابع، وأبى ابن اسماعيل أن يعترف بحماية ملك قشتالة

(1) Condé: ibid ; V. III. p. 201 & 202.: وراجع أيضاً Seco de Lucena: Una Rectificacion a la Historia de los ultimos Nasries (Al-Andalus Vol. XVII، Fasc. 1) .

ص: 164

الجديد، محاولا بذلك أن يكتسب الشعب إلى جانبه، وأن يوطد مركزه؛ وسير بعض قواته فى نفس الوقت فأغارت على الأراضى القشتالية، وأصر ملك قشتالة من جانبه على وجوب خضوع ملك غرناطة وطاعته، واعتزم أن يتابع الضغط على المملكة الإسلامية الصغيرة دون هوادة، فسار إلى أراضى غرناطة فى جيش ضخم وعاث فيها، وانتسف المروج والضياع، وقتل وسبى من أهلها جموعا كبيرة، ولقيه المسلمون فى قوات صغيرة أنزلت بجيشه خسائر كبيرة. وعاد القشتاليون فى العام التالى إلى عيثهم فى أراضى المسلمين، وغزا المسلمون من جانبهم منطقة جيّان وأوقعوا هنالك بالنصارى، واستمرت هذه المعارك كدى حين سجالا بين الفريقين. وكان النصارى قد استولوا فى تلك الفترة المضطربة من حياة المملكة الإسلامية، على عدة من القواعد والثغور الإسلامية، بعضها اختيارا بتنازل سلاطين غرناطة والبعض الآخر بالفتح. وكانت أعظم ضربة أصابت مملكة غرناطة فى عهد السلطان ابن إسماعيل، سقوط ثغر جبل طارق فى يد النصارى. ففى سنة 1462 م (867 هـ) سارت إليه قوة من القشتاليين بقيادة الدوق مدينا سيدونيا، واستولت عليه بطريق المفاجأة. وكان سقوط هذا الثغر المنيع فى يد النصارى، أول خطوة ناجعة فى سبيل قطع علائق مملكة غرناطة بعدوة المغرب، والحول دون قدوم الأمداد إليها من وراء البحر.

على أن خطر الفورات الإسلامية القوية فيما وراء البحر، كان قد خبا منذ بعيد، وأخذت دولة بنى مرين القوية تجوز مرحلة الإنحلال والسقوط، وكان آخر ملوكهم السلطان عبد الحق، قد خلف أباه السلطان أبا سعيد المرينى فى سنة 823 هـ (1415 م). وفى عصره ساد الاضطراب والتفكك فى أنحاء المملكة، واستبد وزيره يحيى بن يحيى الوطّاسى بالدولة. وكان بنو وطّاس ينتمون إلى بطن من بطون بنى مرين، وينافسونهم فى طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبد الحق، بطش بهم وقتل معظم رؤسائهم، وفى مقدمتهم وزيره يحيى، ونجا البعض منهم وتفرقوا فى مختلف الأنحاء. وأسلم عبد الحق زمام دولته إلى اليهود فبغوا وعاثوا فى الدولة؛ وغضب الشعب على مليكه، واضطرمت الثورة، وعزل عبد الحق وقتل (869 هـ - 1464 م)، وانتهت بمصرعه دولة بنى مرين بعد أن عاشت زهاء مائتى عام؛ واستولى على تراث بنى مرين وملكهم، بنو وطّاس خصومهم القدماء، واستطاع زعيمهم محمد الشيخ أن يستولى على فاس فى سنة

ص: 165

876 هـ (1471 م)(1) وبذا قامت بالمغرب دولة فتية جديدة، بيد أنها لم تكن من المنعة والقوة بحيث تستطيع الإقدام على عبور البحر إلى الأندلس، فى سبيل الجهاد والنجدة، أسوة بما كانت تعمله دولة بنى مرين القوية الشامخة.

وهكذا كانت الأمة الأندلسية تشعر بأنها أضحت فريدة، فى مواجهة عدوها القوى، دون حليف ولا ناصر. ولم ير سلطان غرناطة بعد أن أضناه النضال، بدأً من قبول ما فرضه عليه ملك قشتالة من الاعتراف بسلطانه، وتأدية الجزية اغتناماً للمهادنة والسلم. وكانت مملكة غرناطة تجوز فى هذه الآونة العصيبة ذاتها مرحلة من الاضطراب الداخلى، وكان من أهم أسباب هذا الاضطراب الخطر، اضطرام المنافسة بين العرش وبين الأسر النبيلة القوية، مثل بنى سراج وبنى أضحى وبنى الثغرى وغيرهم (2)، واضطرام المنافسة فيما بين هذه الأسر القوية ذاتها، وغلبة نفوذ النساء فى البلاط. وكان من أثر ذلك أن حدثت فى سنة 1462 م فتنة خطيرة من جراء محاولة السلطان ابن إسماعيل أن يقضى على نفوذ بنى سراج أقوى هذه الأسر وأعرقها. وهكذا كانت نذر التفكك تعمل عملها المشئوم (3). ومع أن غرناطة تمتعت بمزايا الهدنة الخادعة التى عقدتها مع قشتالة لمدى قصير، فقد كان من الواضح أن المملكة الإسلامية كانت تنحدر سراعاً إلى مصيرها الخطر، وتواجه شبح الإنحلال الأخير.

(1) راجع الإستقصاء ج 2 ص 148 و 150 و 151 و 160.

(2)

بنو أضحى أو بنو ضحى من سادة غرناطة، وقد ذكرهم ابن الخطيب فى الإحاطة مع من ذكر من الأسر الغرناطية، ولكنا لم نعثر فى الرواية الإسلامية على أية إشارة تلقى ضوءاً على أصل بنى الثغرى وهم الذين يسمون فى الرواية النصرانية ( Zegris) . ويقول المستشرق الإسبانى جاينجوس مترجم نفح الطيب إن التسمية الفرنجية هى تحريف لكلمة الثغريين وهم الذين نرحوا من أراجون أو الثغر الأعلى (مملكة سرقسطة) إلى غرناطة بعد سقوطه فى يد النصارى ( Mohammedan Dynastics in Spain ; V. II. p. 541 & Alhambra ; Intr. p. 15 Note) . وقد كانت كلمة الثغرى فيما يبدو صفة أو لقبا لكثير من الأسر النازحة من الثغر الأعلى (أراجون) إلى مختلف أنحاء الأندلس ولا سيما منذ القرن السادس الهجرى. ولهذا نجد عدداً من الزعماء يحمل هذا اللقب (راجع الحلة السيراء لابن الأبار ص 217 و 218). على أن هذا التعليل لا يكشف لنا لقب هذه الأسرة الغرناطية الحقيقى وإنما ينصرف إلى الصفة والشهرة. وهنالك ما يدل على أن آل الثغرى كانوا من البربر ومن قبيلة غمارة؛ وقد كانت لهم كما سنرى مواقف مشهودة فى حرب غرناطة الأخيرة.

(3)

يرى المستشرق جاينجوس أن منافسات بنى سراج وبنى الثغرى، كانت من أهم أسباب التعجيل بسقوط غرناطة Gayangos ; ibid; V. I. p. 315

ص: 166

ولم يمض قليل على ذلك حتى وقع انقلاب جديد فى ولاية العرش الغرناطى.

ذلك أن الأمير سعداً عاد فهاجم الحمراء مع أنصاره وانتزع العرش لنفسه (1463 م) وفر ابن إسماعيل وخصوم السلطان الجديد. وهنا تلقى الرواية الإسلامية بعض مصرى زار المغرب والأندلس فى هذه الفترة، هو عبد الباسط بن خليل الحنفى، دونها فى مؤلفه المسمى "كتاب الروض الباسم فى حوادث العمر والتراجم"(1)؛ وهو يحدثنا عن بعض أخبار الأندلس التى سمعها أثناء زيارته للمغرب ثم بعد ذلك أثناء زيارته لغرناطة (سنة 870 هـ)، ويروى لنا ما وقف عليه من الحوادث فى سنى 867 - 870 هـ، ثم يستطرد فيما بعد فيروى لنا ما سمعه من أخبار الأندلس حتى سنة 887 هـ (1482 م).

ويقول لنا الرحالة المصرى إن سلطان الأندلس فى سنة 867 هـ (1462 - 1463 م) كان سعد بن محمد بن يوسف المستعين بالله المعروف بابن الأحمر، وإنه ما كاد يجلس على العرش حتى ثار عليه ولده أبو الحسن بتحريض بنى سراج وأخرجه عن غرناطة وامتلكها؛ فسار سعد إلى مالقة، وحكم أبو الحسن مكانه.

وفى العام التالى أعنى سنة 868 هـ، لما اشتد ضغط النصارى على الأندلس، عاد أبو الحسن فعقد الصلح مع أبيه، وأطلق سراحه، واختار سعد الإقامة فى ألمرية فلم يعترض ولده، ولم يلبث أن توفى فى أواخر هذا العام، وعندئذ خلص العرش لأبى الحسن.

ولكن حدثت بعد ذلك منازعات حول ولاية العرش بين أبى الحسن،

وأخيه أبى الحجاج يوسف، ولم ينته هذا النزاع إلا بوفاة يوسف بعد ذلك بقليل.

ويذكر لنا الرحالة أنه قابل السلطان أبا الحسن بحمراء غرناطة فى أواخر جمادى الأولى سنة 870 هـ (يناير سنة 1466 م)(2).

(1) تحفظ نسخة مخطوطة وحيدة من هذا الكتاب بمكتبة الفاتيكان الرسولية برقمى 739 & 728 Borg.، وهى فى مجلدين، الأول يقع فى 259 ورقة كبيرة، والثانى فى 66 ورقة. وترد أخبار الأندلس مبعثرة فى حوليات المجلدين المتوالية.

(2)

نقل العلامة المستشرق الأستاذ G. della Vida ما ورد فى كتاب عبد الباسط عن أخبار الأندلس، ونشره مجتمعاً فى مقال عنوانه: Il Regno de Granata nel 1463-66 nei recordi di un viagiattero egiziano وذلك بمجلة الأندلس ( Al-Andalus Vol. I - 1933 - Fasc. II)

ص: 167

وهذه النبذ القليلة التى يقدمها إلينا الرحالة المصرى، تلقى ضوءاً حسناً على حوادث مملكة غرناطة فى تلك الفترة الدقيقة من حياتها.

وفى حوادث مملكة غرناطة استولى محمد الفاتح عاهل الترك العثمانيين على قسطنطينية (سنة 1453 م) وانهار هذا الصرح المنيع، الذى كان يحمى أوربا النصرانية من جهة الشرق، من غزوات الإسلام، وانساب تيار الفتح العثمانى إلى جنوب شرقى أوربا، يكتسح فى طريقه كل مقاومة، وروعت أوربا النصرانية لهذا الخطر الجديد الذى يهدد حريتها وسلامها، وأخذت النزعة الصليبية تضطرم من جديد بقوة مضاعفة. وتردد هذا الصدى فى اسبانيا النصرانية، حيث كانت مملكة غرناطة ما تزال بالرغم من صغرها وضعفها، تمثل صولة الإسلام القديمة فى اسبانيا وقد تغدو فى الغرب نواة لهذا الخطر الإسلامى الداهم، الذى بدت طلائعه فى الشرق على يد الغزاة الترك، ومن ثم فقد كان طبيعياً أن تجيش اسبانيا النصرانية بفورة صليبية جديدة، وأن يذكى هذا الخطر الجديد، اهتمامها بالقضاء على مملكة غرناطة. وبالرغم مما كانت تجوزه مملكة غرناطة يومئذ من فتن داخلية، وما كان يفت فى قواها من عوامل الإنحلال السياسى والاجتماعى، فقد كانت تعتبر دائماً فى نظر اسبانيا النصرانية عدواً داخلياً له خطره. وكان أشد ما تخشاه اسبانيا النصرانية أن تغدو غرناطة قاعدة لفورة جديدة من الغزو الإسلامى تنساب من وراء البحر، كما حدث فى الحقبة الأخيرة غير مرة. والحقيقة أن حياة هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، قد استطالت أكثر مما كانت تقدره اسبانيا النصرانية.

وكانت مملكة قشتالة فى تلك الآونة بالذات تشغل بمنازعاتها الداخلية، ومضى زهاء ربع قرن آخر قبل أن تتحد اسبانيا النصرانية فى مملكة قوية موحدة. وقد كانت خلال الأحداث التى توالت عليها فى تلك الفترة، تجيش دائماً بنزعتها الصليبية المأثورة. فلما تحققت الوحدة واستقرت الأحوال واجتمعت الموارد، أخذت فرصة القضاء الأخير على المملكة الإسلامية الصغيرة، تبدو لخصيمتها القوية اسبانيا النصرانية، فى الأفق قوية سانحة.

ص: 168