الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأذكار والدعاء والإكثار من ذلك، وليحرصْ على التلبية، فهذا آخر زمنها، وربما لا يقدر له في عمره تلبية بعدها، انتهى.
فإذا انصرف منه، وبلغ وادي محسِّر، وهو مسيل ماء فاصل بين مزدلفة ومنى، وقيل: إنه من منى، قال الأرزقي: هو خمس مئة ذراع، وخمسة وأربعون ذراعاً، أسرعَ قدرَ رمية حجر بالاتفاق، وكان وادي محسِّر موقفاً للنصارى والعرب يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، فاستحب الشارع مخالفتَهم بالإسراع، وحكى الرافعي وجهاً ضعيفاً: أنه لا يستحب الإسراع للماشي، ويسمى وادي محسر: وادي النار؛ لأنه يقال: إن رجلاً صاد فيه صيداً، فنزلت عليه نار فأحرقته، فإذا خرج من وادي محسر، فالمستحب أن يسلك الطريق الوسطى التي تخرج إلى العقبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبين كل مشعرين برزخ ليس منهما، فبين عرفة ومزدلفة بطنُ عُرنة، وبين مزدلفة ومنى بطنُ مُحسر، فمنى من الحرم، وهي مشعر، ومحسر من الحرم، وليس بمشعر، ومزدلفة مشعر وحرم، وعرنة ليس بمشعر، وهي من الحل.
11 - فصل في رمي جمرة العقبة يوم النحر
إذا وصل إلى منى، يستحب ألا يعرج على شيء من نزول أو حط رحل أو غير ذلك حتى يرمي جمرة العقبة بالاتفاق، وهو تحية منى، وهي في آخر منى مما يلي مكة المشرفة، وهي الجمرة الكبرى، ولا يرمي يوم النحر غيرها، فإذا وصل إليها، فالأفضل عند الشافعية، والحنفية، والمالكية: أن يقف تحتها، ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويستقبل الجمرة، هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومذهب الحنابلة: أن الأفضل أن يستبطن الوادي، ويقف مستقبل القبلة، ويرميها عن يمينه.
وقال الشافعية: يقصد المرمى، وهو مجمع الحصى عند البناء الشاخص هناك، لا ما سال من الحصى، يرمي سبع حصيات في سبع مرات بيده، وهذا مقتضى قول الحنابلة، وعند الحنفية: يرمي بسبع حصيات في سبع مرات، فإن وقعت عند الجمرة أو قريباً منها، أجزأه، وإن وقعت بعيداً منها، لم يجزه، وقال
ابن الحاجب من المالكية: إنه يشترط كونه حجراً ورمياً على الجمرة أو موضع حصاها، واستحب الشافعية: أن يكون الرمي باليمنى، واستحب الشافعية والحنابلة: أن يرفع الرجل يده في الرمي حتى يُرى بياض إبطه، والمرأة لا ترفع، والحنفية: أنهما يرفعان.
والسنة عند الأربعة: أن يكبر مع كل حصاة، وإن شاء قال مع ذلك:"اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً"، قاله ابن مسعود، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر؛ مثل ذهابه إلى عرفات، ومن عرفة إلى مزدلفة، ومنها إلى منى حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع [في] الرمي، قطع التلبية؛ فإنه حينئذ يشرع التحلل، والعلماء في التلبية على ثلاثة أقوال:
1 -
منهم من يقول: يقطعها إذا وصل إلى عرفة،
2 -
ومنهم من يقول: يلبي بعرفة،
3 -
والثالث: إذا فاض إلى مزدلفة لبى، ومنها إلى منى حتى يرمي جمرة العقبة، وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التلبية في وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة، فلم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا لا يلبون بعرفة. والسنة عند الشافعية: أن يرمي راكباً، فإن رمي ماشياً، أجزأه، وعن أبي حنيفة ومحمد: الرمي كله راكباً أفضل، وعند المالكية: ماشياً أفضل.
قلت: وفي حديث جابر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. وفيه أن رمي الراكب أفضل من رمي الراجل، وقيل: إن الرمي واجب بالإجماع، واقتصر في "الفتح" على حكاية الوجوب عن الجمهور، وقال: إنه عند المالكية سنة، وحكى عنهم: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. وحكى ابن جرير عن عائشة وغيرها: أن الرمي شرع حفظاً للتكبير، فإنْ تركه وكَبَّر، أجزأه.
والحق أنه واجب؛ لما قدَّمنا من أن أفعاله صلى الله عليه وسلم: بيان لمجمَل واجب، وهو قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة بنصف الليل من ليلة العيد، ويمتد
إلى آخر أيام التشريق، ووقتها الفاضل بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وقبلَ الزوال، فإن ترك الرمي حتى فات الوقت، لزمه دم كدم التمتع، هذا مذهب الشافعية، وبه قال عطاء، وطاوس، والشعبي، وقالت الحنفية، وأحمد، وإسحاق، والجمهور: إن وقته بعد طلوع الشمس، ويبقى إلى غروب شمسه، وفيما بعد ذلك من الليل إلى طلوع الفجر من الغد يجزي الرمي مع الكراهة، ولا شيء عليه، وفيما بعد ذلك من أيام التشريق ولياليها يجزيه، وعليه مع ذلك دم عند أبي حنيفة؛ خلافاً لصاحبيه، ووقتها المسنون بعد طلوع الشمس إلى الزوال.
قال ابن المنذر: إن السنة ألا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر، وفاعله مخالف للسنة. ومن رماها حينئذ، فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحداً قال: لا يجزيه، انتهى. والأدلة تدل على أن وقت الرمي بعد طلوع اليوح لمن كان له رخصة له، ومن كانت له رخصة؛ كالنساء وغيرهن من الضعفة، جاز له قبل ذلك، ولكن لا يجزي في أول ليلة النحر إجماعاً، وعند المالكية: أن أول وقت رمي جمرة العقبة يدخل بطلوع فجر يوم النحر، ويبقى وقت الأداء إلى الغروب، ثم يكون قضاءً إلى آخر أيام التشريق، ويجب الدم مع القضاء، وأفضله من طلوع الشمس إلى الزوال، ومذهب الحنابلة: أن وقتها الفاضل بعد طلوع الشمس إلى الزوال، ووقت الجواز من نصف الليل إلى آخر أيام التشريق، لكن لا يصح في ليالي التشريق، وإذا أخر الرمي وفعله في أيام التشريق، لم يرم إلا بعد الزوال، ولا شيء عليه، فإذا فرغ من الرمي، فالسنة ألا يقف عندها للدعاء بالاتفاق.
وليس بمنى صلاةُ عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة ولا عيداً في سفره، لا بمكة ولا بغيرها، بل كانت خطبته بعرفة خطبة نسك، لا خطبة جمعة.
والسنة للإمام في هذا اليوم أن يخطب بعد الزوال، وهي خطبة وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما رجع بعد الرمي إلى منى، خطب الناس خطبة بليغة،