الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
قال العبد الخامل المتواري
صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري
عفا الله عنه ما جناه، واستعمله فيما يحب ويرضاه
قد رحلت يوم الإثنين لسبع وعشرين قد خلت من شهر شعبان سنة خمس وثمانين ومئتين وألف الهجرية (1) -على صاحبها الصلاة والتحية-، غبَّ صلاة الظهر من محط رحلي "بهوبال" على جناح السلامة، مغتنماً لكل فائدة وكرامة، مريداً لتأدية حج الإسلام إلى "بيت الله الحرام"، ووصلت بعدما قطعت سبعة من المنازل في اليوم الثامن إلى مجرى عجلة النار المعروفة بالبابور (2)، وحملت عليها الأثقال، وركبتها يوماً وليلة، ثم نزلت بمحروسة "ممبي"، وهي ساحل البحر المحيط للحجاج، وأقمت بها منتظراً لحصول المركب.
وتهيأ زاد السفر اثني عشر يوماً، ثم ركبت يوم الخميس تاسع رمضان قبيل صلاة العصر في المركب المسمى بـ"فتح السلطان"، ورفعوا لنجر [مرساة] السفينة ذلك اليوم مع توسم الظفر والسكينة.
وكانت الريح يومئذ طيبة، فسار المركب ستين مرحلة بالتخمين، ثم سكن الريح، وركد المركب على ظهر البحر كالغدير الدائم لا يتحرك، كأنه الماء الراكد، ولركبه مُناكِد، حتى أتت ثلاثة أيام على هذا الحال، وتشتت لأهل المركب البال.
فلما استيئسوا من مجراه، خلصوا نجياً، وختموا هذه الآية: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
(1) المطابق 1868 الميلادية.
(2)
قطار سكة الحديد.
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] كيف وقد قال تعالى: إثرها: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، فتنفس من بركتها الريح، وذهب العنا والتبريح، وكان هو به
ليلة الأحد ثاني عشر [12] رمضان ورأيت في هذه الليلة بالمنام: كأني أعانق من شجر السدر أشجاره، وأجتني منه ثماره، وثمره طيب نفيس، يهواه فؤاد كل صحيح ولقيس، فعبرت الرؤيا: ببلوغ الأرب، وحصول المقصود من أرض العرب.
وقد اتفق في بدء ركوب البحر الغثيان والصداع إلى ثلاثة أيام، ثم حصلت الخفة للطبع في اليوم الرابع، ووجدت المركب بيتاً كالموطن، وشاهدت فيه معنى قول السادة الصوفية: السفر في الوطن.
وكان ركاب السفينة نحواً من ثلاث مئة نفس، وكان الوضوء والغسل من ذلك الماء المالح، وأما الشرب، فكان أهل السفينة استصحبوا معهم الماء العذب من "ممبي"، وظهرت البثور في المنخرين من شدة ملوحة ماء البحر، وانجرت تلك إلى حمى البدن، حتى أفطرت ثلاثة أيام أو يومين، وأتممت بقية رمضان بالسفينة، بالاطمئنان والسكينة، واجتمع لي في هذا السفر الرحلة للحج، وصوم رمضان، وتمت لنا فيه عبادتان.
ومررت في السابع عشر من هذا الشهر من يوم الرحيل من "ممبي" على أسقوطر [سقطرة] عدن، وباب اسكندر، وألقت السفينة مرساها على ساحل حُديدة، ولم نر شيئاً من "ممبي" إلى هنا من وعثاء السفر وكآبة الحضر.
وكتبت بيدي في المركب كتاب "الصارم المنكي على نحر ابن السبكي للحافظ ابن قدامة المقدسي في مجلد وسط، ولم أضيع زمن ركوبي البحر عبثاً، وكان نزول "الحديدة" يوم الأحد في السادس والعشرين من رمضان، ونزلت بدار القاضي حسين ابن محسن، والشيخ زين العابدين -سلمهما الله تعالى، وجزاهما خيراً يوم الدين-، وحصل من جهتهم ما يحق للضيف، من الإكرام والإطعام والمروءة في الشتاء والصيف.
وأقمت هنا اثني عشر يوماً، أراجع كتب الحديث، وأكتبها بيدي ما أستطيع، ولم أذهب إلى المساجد إلا للصلوات الخمس؛ لكثرة اشتغالي بطلب العلم.
وفشا خبر رؤية هلال شوال بالحُديدة يوم الثامن والعشرين من رمضان، بحسب رؤيتنا أهل السفينة، وضُربت المدافع للإعلام بالعيد، فعجبنا من ذلك، وتفحصنا عما هنالك، فقيل: اليوم يوم التاسع والعشرين، ولكنا لم نره مع تعمق البصر وإمعان النظر.
وصليت صلاة العيد موافقة لأهل البلد، وذهب صبح يوم الربوع الذي كان بحسابنا يوم التاسع والعشرين إلى المصلى، وكان الإمام يومئذ والخطيب رجلاً صالحاً ذا شيبة يسمى: بعبد الرحمن الشافعي، وكان حاكم البلد أحمد باشا التركي حاضراً بالمصلى، وحزر الحاضرون بالمصلى، فكانوا نحواً من ألفين، من أهل البلد والغرباء في رأى العين، ومصلى الحديدة فضاء ليس به بناء غير المنبر للخطبة المبني من الآجر والطين، وكانت صلاة العيد على مذهب الشافعية.
وفي أيام الإقامة بهذه البلدة أهديت نسخاً من كتابي: "الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة" لعلمائها، وأهل العلم المقيمين بالمرادعة، وبيت الفقيه، وغيرهما، وكلهم استحسنوها، ودعوا لمؤلفها.
وقال لي الشيخ علي بن عبد الله شارح البخاري -سلمه الله- حين لاقني: وجود مثلكم في هذا الزمان من نعم الله تعالى لو كانوا يعقلون.
واستعرت رسائل السيد محمد الأمير حين الرحيل من حديدة؛ لأجل النظر والنقل، فمنها ما نظرت فيها واستفدت، ومنها ما نقلت واستنسخت، ثم طلعت على المركب بعد طلب العلم عاشر شوال من "الحديدة"، ومكثت فيه أنتظر رفع المرساة، ومعي في المركب الشيخ حسين الحسام إلى ثلاثة أيام نتذاكر العلم وأهله ومعدنه ومحله، حتى تدفقت بالبركات أمطارنا، وغردت بأحاديث الحبيب أطيارنا، وقد كنت اشتريت من الحديدة:
1 -
كتاب: أقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم.
2 -
وإرشاد
الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.
3 -
ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار.
4 -
وفتح القدير في فني الرواية والدراية من التفسير، وغير ذلك مما شغفت به.
ويوم الثلاثاء رابع عشر من شوال وقتَ الصبح رفعوا مرساة السفينة، فكان مجموع أيام الإقامة بالحديدة على هذا الحساب مع أيام المكث في المركب ثمانية عشر يوماً، ولم آلُ جهداً في هذه الحركة وأيام البركة من تحصيل العلم النافع، والخير الجاري.
ولما سار المركب من الحديدة، سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزديب، وكان إذ ذاك زمان الحج أقرب، وجاء الغيم والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام آبسين عن الوصول إلى المأمول، وراجين من الله حصول المسؤول، مع أن "جدة" من "الحديدة" مسير أسبوع لا غير لبطيء السير، ولكن وصل مركبنا إليها بعد نحو شهر حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت من طول الركوب، ومخالفة الهواء وقلة المطعوم والمشروب، حتى قنعت في اليوم والليلة بجرعة من الماء، ولقيمات من الأرز الذي لم يخالطه شيء من السمن والإدام.
وبلغت الأنفس التراقي في تلك الأيام، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، والأعين والآذان كأنها على طريق مجيء الريح الطيب ورؤية "جدة" موضوعة، ثم سمع الله قول هؤلاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من جهة رب العالمين إلى يومين، وكانت بالغاية ضعيفة بلا مين، ولكنه أخرج المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة.
ورأينا يوم السبت في المركب هلالَ ذي القعدة، ويوم الثالث منه تقوى الريح قليلاً، وجرى المركب.
ويوم الثلاثاء رابع ذي القعدة من السنة المذكورة بعد صلاة الصبح اغتسلنا وأحرمنا بالعمرة مع نية التمتع من محاذي "يَلَمْلَم"، وذهب عنا ما كنا نجده من
الغم والألم، ورفعنا الأصوات بالتلبية، وأخلصنا العمل لله والنية، وما حصل لنا من السرور بهذا الإحرام لا يمكن شرحه بالأقلام.
وفي هذه الحالة لما قربنا من "جدة"، قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، فاضطرب المعلم له اضطرباً شديداً، وربط أشرع السفينة بالأدقال، وخفت منه الأثقال، وعمل كل تدبير خطر له بالبال، وأرسى المركب في محله في الحال.
وأنزل الملاحون أقرب المركب لدرك حقيقة الحال، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قليلاً، لتصادم بالجبال، فمضى هذا الليل للركاب، في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ولم يكن هذا الليل أقل من يوم القيامة، ولكن رحم الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذاك الجبل في ضوء النهار.
ومن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها: أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح أو هبوبها مخالفة أو شيئاً من الخوف على السفينة وأهلها، كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس وغيره من المخلوقين، مستغيثين ومستعينين به، ولم يكونوا يذكرون الله عز وجل أبداً، أو يدعوه بأسمائه الحسنى، وكنت إذا سمعتهم ينادون غير الله، ويستعينون بالأولياء، خفت على أهل المركب خوفاً عظيماً من الهلاك.
وقلت في نفسي: يا لله العجب! كيف يصل هذا المركب بأهله إلى ساحل السلامة! فإن مشركي العرب قد كانوا لا يذكرون آلهتهم الباطلة في مثل هذا المقام، بل يدعون الله تعالى وحده غيرَ مشركين به، كما حكى عنهم سبحانه في محكم كتابه المبين:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، وهؤلاء القوم الذين يسمون أنفسهم المسلمين يدعون غيرَ الله، ويهتفون بأسماء المخلوقين، ولقد صدق الله تعالى فيما قال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
ولكن لما كانت رحمة الله سبقت غضبه، أوصل أرحمُ الراحمين المركب
بفضله كيفما اتفق بعد اللتيا والتي إلى المنزل المقصود، ورفعوا مرساة السفينة صبحَ تلك الليلة الهائلة إلى "جدة"، وألفوا الريح موافقة، فطوى المركب الطريق الباقية في يوم وليلة، ووصل إلى ساحل "جدة" حين صلاة الظهر من يوم الأحد تاسع ذي القعدة، والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً.
والذي حصل لنا من مسرة القلب وإشراق الوجه والحبور إذ ذاك لا يعلم حقائقها إلا العليم بذات الصدور، وكيف؟ فقد ظهرت صورةُ المراد بعد شهرين غبَّ اليأس، وكنا نقول: يا رب الناس! أقمْ سفينتنا على "جدة" كما استوت سفينة نوح عليه السلام على الجودي، فليس ذلك بعزيز على فضلك المجدي.
وحين نزلت بجدة أقصت بها ثلاثة أيام للاستراحة من تعب السفر واستكراء الجمال لحمل الأثقال.
ووجدت بجدة: الماكسين من جهة الترك ظالمين على الناس بأخذ أموالهم بالباطل.
ثم يوم الربوع ثاني عشر ذي القعدة ركبنا من "جدة" إلى حدة بعد صلاة المغرب، ومن حدة إلى كعبة المقصود، وعتبة الجود، بعد جمع صلاة الظهر والعصر، ودخلنا البلد الأمين بعد نصف الليل مع السيد أبي بكر المطوِّف، ونزلنا عن الجمال، ومشينا على الأقدام، وتركنا الأحمال والأثقال مع الخدام ولم نعرج على شيء، وقصدنا المسجد الحرام، ودخلنا "باب السلام"، وأدينا أعمال العمرة من الطواف والسعي والحلق على الترتيب.
وتيسر لنا -بحمده تعالى- ما كنا نبغي من تقبيل الحجر، واستلام الركن في كل شوط بخلو المطاف والمسعى وغيرهما من كل مقيم وغريب.
ومن أول نظرة وقعت إلى جمال "الكعبة المكرمة" ذهلنا عن مصائب السفر ومشاقه كلها، كأنما لم نُشَكْ بشوكة في الطريق، وهكذا شأن كل مشوق وصديق، كيف والكعبة الزهراء -زادها الله ضياء وسناء- ياقوته كحلية تجلو بصائر أعين الصلحاء، مجلوة للناظرين في حلة من الكرامة سوداء.
وبعدما فرغنا عن السعي بين الصفا والمروة، رأينا أن نتم الليل بجوار الكعبة، فجاورناها إلى الفجر بالتهجد والدعاء والاستغفار إلى الإسفار، وصلينا الصبح مع أول جماعة شافعية، ثم رجعنا إلى المنزل، وحلقنا الرأس، ولبسنا المخيط، وحللنا الإحرام.
ومكثنا بمكة منتظرين الحج؛ لأن زمان الرحلة إلى "المدينة" قد مضى بتأخير المركب عن الوصول، ولولا ذلك، لقدمنا الرحيل إلى المسجد النبوي، وسعدنا بالسلام على القبر المطهر المنور الأحمدي، ولم نترك الاشتغال بالعلم في هذه الفرصة القليلة؛ أعني أواخر ذي القعدة، بل حصلنا فيها بعض الكتب والفوائد.
ولما كان يوم التاسع والعشرين من الشهر المذكور، شهد رجال عند قاضي "مكة" برؤية هلال ذي الحجة، واستقر يوم الثلاثين منه أول يوم من ذي الحجة، ولم ير أهل "مكة" وغيرهم من المسافرين الهلالَ إذ ذاك، ولكن اتبع الناس القاضي فيما هناك، فأحرمتُ يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وتوجهت إلى منى، وبلغت المنى، وكنت ماشياً، ثم ركبت منها إلى عرفة، وفرغت من أعمال الحج على الترتيب المذكور في هذا المنسك، وعلى الوجه المأثور بالسنة الصحيحة.
وقرأت: "الحزب الأعظم" لعلي القاري كلَّه قبل الوقوف بعرفة، ثم وقفت بها، ولم آلُ جهداً في الدعاء والاستغفار إلى الغروب، والتضرع والابتهال إلى علام الغيوب، والمأمول من الله القبول، ثم أفضت منها إلى مزدلفة، ومنها إلى منى، وأديت بقية الأعمال، وأتيت بها في أحسن الأحوال، ومن غاية الشغف بعلوم السنة لم أترك كتابة العلم بعرفة ومنى في أيام إقامتها، لكن في غير أوقات المناسك.
ولما رجعت يوم الثالث عشر إلى مكة لم أجد قافلة تذهب إلى "المدينة"، فأقمت منتظراً للرفقة.
وشددت الرحل يوم الخامس عشر من شهر صفر سنة ست وثمانين ومئتين وألف الهجرية من "مكة المكرمة" إلى "المدينة المنورة"، ووصلتها في عشرين
يوماً خلافَ الميعاد؛ لأن مسيرتها تكون اثني عشر يوماً غالباً في المعتاد، ولكن الجمالين لم يكونوا معنا مجاملين، فتركوا القافلة "بعسفان"، واضمروا الشر والعدوان، فكفى الله المؤمنين الغرباء شرهم والبأساء، وأوصل الجميع مع سلامة المال والروح إلى طابة، وجعل دعوتهم مستجابة.
واتفقت الإقامة بهذه البلدة المباركة إلى أسبوع، وتيسر لي حضور المسجد النبوي، والسلام على المرقد المنور المصطفى وأصحابه، وزيارة بقيعه، وشهداء أحد، سيما سيد الشهداء حمزة -رضي الله تعالى عنه-، وغير ذلك من المساجد والآبار، خصوصاً مسجد قباء، على الوجه المأثور المسنون بلدة طيبة ملئت بأنواع البركات، وآثار من الرحمة وأنوار من التجليات، كيف والأنوار الإلهية والبركات النبوية تترشح من جدرانها، والسكينة والوقار تتنزل كل حين على بنيانها.
واشتريت بالمدينة: كتاب "المدخل" لابن الحاج، وهو كتاب يحتوي على رد بدع المتفقهين ومحدثات المتصوفين.
وأحرمت بالعمرة حين الرجوع منها، ووصلت "مكة" يوم الثاني عشر من بدء السفر نصف الليل كما وصلت إليها من حدة، ووجدت المطاف والمسعى خالياً عن الناس، فأتيت بأعمالها على ترتيبها، وحصلت لي -بحمد الله تعالى- حجة وعمرتان.
وكانت مدة إقامتي بمكة وجواره تعالى أولاً وآخراً نحواً من أربعة أشهر، وعندي أن حاصل عمري كان تلك الأيام، والذي مضى في غيرها لم يكن إلا منام أو أحلام، وأرجو من الله تعالى عودَ هذه الأزمان، وقضاء بقية الحياة في جوار الرحمن.
وقد كنت أقمت بمكة بمحلة أهل الهند، وأغدو وأروح إلى الحرم المحترم من "باب الزيادة"، وأذكر قول الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وأرجو منه سبحانه أن يجعلني من أهل تلك السعادة، وكثيراً ما أمر على "باب السلام" مبتغياً كتب العلم، وأقول في نفسي: ادخلوها بسلام.
وقد اشتريت هناك:
1 -
كتاب الزرقاني شرح الموطأ،
2 -
وحسن المحاضرة في أحوال مصر والقاهرة،
3 -
وتاريخ الخميس والبيجوري على الشمائل،
4 -
والتعريفات،
5 -
ومغني اللبيب،
6 -
والرياض المستطابة،
7 -
وبهجة المحافل شرح الشمائل،
8 -
ومواهب الرحمن،
9 -
وأذكار النووي،
10 -
وكتاب التلخيص، إلى غير ذلك من كتب الحديث والعربية والتواريخ، واستكتب بعض الرسائل المختصرة والمطولة بيدي.
وطفت للوداع في أوائل جمادى الأولى، وسرت إلى "جدة"، وركبت المركب المسمى بـ"فيض الباري"، وكان يسع تسع مئة [900] نفس سوى الأحمال والأثقال، ومررت بساحل "الحديدة" في هذا الرجوع أيضاً، وأقام المركب هناك ثلاثة أيام لبعض الحوائج، ثم سار إلى "ممبىء".
وكان الزمان زمانَ حر شديد، وكان الريح سموماً، وماء البحر ناراً، فمرض أهل المركب إلا من عصمه الله، ومات بعض القوم من شدة الحر إلى أن طوى المركب نصف الطريق، ومر من عدن، فجاء البرد والمطر، وذهب المرض والحر، فلما آن المركب بساحل "ممبي": ضل المعلم الطريق لأجل غيبوبة الشمس وتراكم السحاب، وكان من قوم النصارى، وصار ركاب السفينة لذلك حيارى.
وكان الموسم موسم طوفان وتلاطم البحر والأمواج، فكسرت حجرات المركب التي كانت فوق التتق من صدمات الموج، وتحركت خشبات المركب، واستيقن أهله بمجيء الموت، وصارت السفينة في البحر كريشة في الفلاة، وضاقت الأنفس من حلاوة الحياة، حتى جاءت رحمة الله تعالى، وهو أرحم الراحمين.
فأخرجت الشمس من مطلعها، وصح حساب الرصد لمعلم المركب بطلوعها، وأجرى السفينة على سواء الطريق، وجاء مركب البريد من نحو ممبىء، فلحق بنا وسار بهذا المركب حتى أوصله إلى ساحل النجاة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد شاهدت في سفري هذا عجائب، ورأيت فيه عدة مصائب، واختبرت الناس، وميزت السفهاء من الأكياس، ووقفت على رسوم القوم وبدعهم ومحدثاتهم، وانهماكهم في تحسين الملابس والمطاعم والمناكح والمساكن، وقصر هممهم على ذلك، وعدم رفع رؤوسهم إلى السنن، وما مات منها، وضعف الإسلام، وهذا شين لأهل الدين، لا سيما أهل مكة والمدينة الذين هم في خير بقاع الأرض، وهم قدوة المسلمين، خصوصاً الأئمة منهم.
وقد رأيت منهم الإسراف المنهي عنه: في طول الذيول والثياب وغيرها، حتى رأيت العمائم كالأبراج، والكمائم كالأخراج، وبِدَعاً لا تُحصى، ومحدَثات لا تستقصى، فرحم الله امرأً اجتنب عن ذلك، وصان نفسه عما هنالك، ونهى القوم عن هذه المناهي والمنكرات، وجمعهم على التمسك بالسنة والكتاب، وذكر مقامه ومقامهم بين يدي رب الأرباب، وخاف الله في كل ما يأتي به ويذر، في الحضر والسفر، والحياة والممات وكل الأحوال.
وفي اثنين وعشرين يوماً وصلنا من "جدة" إلى "ممبي"، وأقمنا بها بكثرة المطر أياماً، ووصلنا إلى محط الرحال "بهوبال" في أوائل شهر جمادى الآخر على البابور من تلك المنازل التي مررنا بها أولاً.
وكانت مدة الذهاب والإياب ثمانية أشهر، والحمد لله على ذلك، وكان يوم الذهاب من "بهوبال" ويوم الرجوع إليها يوماً واحداً، وهو يوم السبت، فكأن هذا السفر المبارك ما كان إلا يوماً واحداً.
ونحن الآن مقيمون بـ"بهوبال" إلى ما شاء الله المتعال، والرجاء من ربنا ذي الجلال تيسر المقام على الدوام، إلى وقت الحمام، ببيت الله الحرام، أو بمدينة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، وبالله التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق.
* * *