المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها - رحلة الصديق إلى البلد العتيق

[صديق حسن خان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية

- ‌الباب الأولفي فضل مكة وما يتصل به

- ‌1 - فصل في فضل مكة -زادها الله تشريفاً وتكريماً

- ‌2 - فصل في أسمائها

- ‌3 - فصل في ألقابها وحدودها

- ‌4 - فصل في جبالها وحكم زيارتها

- ‌5 - فصل في حكم المجاورة بها

- ‌6 - فصل في الموت بها، وذكر من دُفن بها

- ‌7 - فصل في آداب المجاورة بها

- ‌8 - فصل في مساجدها ودورها

- ‌9 - فصل في خطاها والمشي فيها

- ‌10 - فصل في النظر إلى البيت

- ‌11 - فصل في محلات يستجاب الدعاء بها

- ‌12 - فصل في بعض آياتها

- ‌الباب الثانيفي فضائل الحجاج والعمار والطواف وما ضاهاها

- ‌1 - فصل في فضل الحاج والمعتمر

- ‌2 - فصل في فضل رمضان بمكة والعمرة بها

- ‌3 - فصل في فضل الطواف

- ‌4 - فصل فيما جاء في الحَجَر والركنين والملتزم

- ‌5 - فصل في المشي بين الصفا والمروة

- ‌6 - فصل في فضل شرب ماء زمزم

- ‌7 - فصل في أسماء ماء زمزم

- ‌8 - فصل في المحافظة على الصلوات في المسجد الحرام جماعة في أوقاتها

- ‌9 - فصل في فضل من صبر على حرها ولأوائها

- ‌الباب الثالثفي مبادىء الحج والعمرة

- ‌1 - فصل في الترغيب في الحج والعمرة

- ‌2 - فصل في آداب سفر الحج، وهي كثيرة

- ‌3 - فصل في وجوب الحج والعمرة لله عز وجل

- ‌4 - فصل في وجوب الحج على الفور

- ‌5 - فصل في اعتبار الزاد والراحلة

- ‌6 - فصل في ركوب البحر

- ‌7 - فصل في حج الصبي والرقيق والحج عن الغير

- ‌8 - فصل في أنواع الحج

- ‌9 - فصل في بيان الأفضل من هذه الأنواع

- ‌10 - فصل في نوع حجه صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - فصل في إدخال العمرة على الحج وفسخه إليها

- ‌12 - فصل في مواقيت الحج

- ‌13 - فصل في ميقات العمرة وهو الحل

- ‌14 - فصل في كراهة الإحرام قبل أشهر الحج

- ‌15 - فصل في جواز العمرة في جميع السنة

- ‌16 - فصل في وجوه الإحرام

- ‌17 - فصل فيمن أحرم مطلقاً، أو قال: أحرمتُ بما أحرم به فلانٌ

- ‌18 - فصل في الاشتراط

- ‌19 - فصل في الفوات والإحصار ووجوب الهدي على المُحْصَر

- ‌20 - فصل في حكم الهَدْي

- ‌21 - فصل في ركوب الهدي والحمل عليه

- ‌22 - فصل فيما يجتنبه المحرم وما يباح له

- ‌23 - فصل في الفدية

- ‌24 - فصل في نكاح المحرِم

- ‌25 - فصل في صيد المُحْرِم

- ‌26 - فصل في جزاء الصيد

- ‌27 - فصل في قتل المؤذيات

- ‌28 - فصل في حرم مكة المكرمة -زادها الله تعالى تعظيماً

- ‌29 - فصل في حرم المدينة المنورة -زاد الله شرفها

- ‌30 - فصل في حرم وَجّ

- ‌31 - فصل في التفاضل بين مكة والمدينة

- ‌الباب الرابعفي مقاصد الحج من حين الإحرام إلى الرجوع عنه

- ‌1 - فصل في آداب الإحرام

- ‌2 - فصل في قطع التلبية

- ‌3 - فصل في آداب دخول مكة

- ‌4 - فصل في آداب الطواف

- ‌5 - فصل في صفة الطواف

- ‌6 - فصل في السعي

- ‌7 - فصل في المسير إلى منى، ومنها إلى عرفة

- ‌8 - فصل في الوقوف بعرفة

- ‌9 - فصل في الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة

- ‌10 - فصل في الوقوف بالمشعر الحرام

- ‌11 - فصل في رمي جمرة العقبة يوم النحر

- ‌12 - فصل في نحر الهدى وتحسينه

- ‌13 - فصل في الحلق والتقصير

- ‌14 - فصل في ترتيب الرمي والنحر والحلق

- ‌15 - فصل في الإفاضة من منى للطواف يوم النحر

- ‌16 - فصل في المبيت بمنى، وما يفعل في أيامها

- ‌17 - فصل في التحصيب

- ‌18 - فصل في دخول الكعبة

- ‌19 - فصل في صفة العمرة المفردة، وما يتصل بها من إكثار الاعتمار والطواف، وشرب زمزم وغيرها

- ‌20 - فصل في طواف الوداع

- ‌21 - فصل في زيارة المساجد وأبنية مكة

- ‌22 - فصل في الرجوع من حج أو عمرة وما يتصل به

- ‌الباب الخامسفي زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى صلى الله عليه وسلم

- ‌1 - فصل في حكم الزيارة

- ‌2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

- ‌3 - فصل في فضائل "المدينة" وما يشبهها

- ‌خاتمة

الفصل: ‌2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

‌2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني -رحمه الله تعالى-: إذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي فيه؛ فإن الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في "الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخرى، ومسجده صلى الله عليه وسلم كان أصغر مما هو اليوم، وكذا المسجد الحرام، لكن زاد فيه الخلفاء الراشدون ومَنْ بعدهم، وحكمُ الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه؛ فإنه قد قال: "ما من رجل يسلِّم عليَّ، إلا رد الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام" رواه أبو داود، وغيره.

وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلامُ عليك يا رسولَ الله، السلامُ عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا أبتِ، ثم ينصرف، هكذا كان الصحابة يسلِّمون عليه، وإذا قال في سلامه: السلامُ عليك يا نبيَّ الله، يا خيرةَ الله من خلقه، يا أكرمَ الخلقِ على ربه، يا إمامَ المتقين، فهذا كلُّه من صفاته، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وإذا صلى عليه مع السلام، فهذا مما أمر به، ويسلم عليهم مستقبلَ الحجرة، مستدبر القبلة عندَ أكثر العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وأما أَبو حنيفة، فإنه كان يستقبل القبلة، فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره.

واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرةَ ولا يُقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، ولا يدعو هناك مستقبلاً للحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالكٌ من أعظم الأئمة كراهةً لذلك، والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقتَ الدعاء كذبٌ على مالك. ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده صلى الله عليه وسلم.

ص: 145

قال: "اللهمَّ لا تجعل قبري وَثَناً يعبد"، وقال:"لا تجعلوا قبري عيداً"، و"ولا تجعلوا قبوركم بيوتاً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"، وقال:"أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ"، فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؛ أي: بليت؟ قال: "إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء"، فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وتبلغ إليه ذلك من البعيد.

وقال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذِّر مما فعلوا، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: ولولا ذلك، لأبرز قبره، ولكن كره أن يُتخذ مسجداً، أخرجاه في "الصحيحين"، فدفنه الصحابة في الموضع الذي مات فيه من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد من قبليِّه وشرقيِّه.

ولكن في زمن الوليد بن عبد الملك، غيّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن يشتري الحُجَر، ويُزاد في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبُنيت منحرفةً عن القبلة مسنَّمة لئلا يصلِّي إليها أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" رواه عن مسلم عن أبي مرثد الغنوي.

زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية

فالشرعية: المقصودُ بها السلامُ على الميت، والدعاءُ له، كما يقصد ذلك بالصلاة على جنازته، فزيارتُه بعد موته من جنس الصلاة عليه، والسنةُ فيها أن يسلم على الميت، ويدعو له، سواء كان نبياً، أو غير نبي، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول أحدهم:

"السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إنْ شاء الله بكم للاحقون، ويرحمُ الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسألُ اللهَ لنا ولكم العافيةَ، اللهم لا تحرْمنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم، واغفرْ لنا ولهم".

ص: 146

وهكذا يقول إذا زار أهلَ البقيع، ومَنْ به من الصحابة وغيرهم، وزار شهداء أحد وغيرهم.

بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبرُ أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم، أفضلُ من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة، وإما مكروهة.

والزيارة البدعية: أن يكون الزائر مقصودُه منها أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدَع المنهيِّ عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها.

وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل الأحاديث المذكورة في هذا الباب مثل:-

قوله: "من زارني، وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة".

وقوله: "من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي".

وقوله: "من زارني بعد مماتي، حلت عليه شفاعتي".

ونحو ذلك، كلها أحاديث ضعيفة، بل موضوعة.

ليست في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين، لا الأربعة منهم، ولا نحوهم، ولكن روى بعضها البزار، والدارقطني، ونحوهما بأسانيد ضعيفة.

بل من عادة الدارقطني وأمثاله أن يذكروا هذا في السنن؛ ليُعرف هو وغيره، وبينوا الضعيف من ذلك، وذا كانت هذه الأمور التي فيها شرك وبدعة قد نهى عنها عند قبره، وهو أفضل الخلق، فالنهي عن ذلك عند قبر غيره أولى وأحرى.

ويستحب أن يأتي قباء ويصلي فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من تطهَّر في بيته، فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كأجر عمرة"

ص: 147

رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه. وقال صلى الله عليه وسلم: الصلاة في "مسجد قباء تعدل عمرة" رواه الترمذي، وحسنه.

والسفر إلى المسجد الأقصى والصلاةُ فيه والدعاءُ والذكر والقراءة والاعتكاف مستحبٌّ في أي وقت شاء، سواء كان عام الحج، أو بعده، ولا يفعل فيه وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد، ليس فيه شيء يتمسح به ويُقبَّل ويُطاف به، هذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، ولا يستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلي في قبل المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين، ولا يسافر للوقوف بالمسجد الأقصى، ولا للوقوف عند قبر أحد من الأنبياء والمشايخ ولا غيرهم، باتفاق أئمة المسلمين.

بل أظهر أقوال العلماء ألا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور، ولكن تزار القبور بالزيارة الشرعية ممن كان قريباً، أو اجتاز بها أحد، كما أن مسجد قبا يزار من المدينة، وليس لأحد أن يسافر إليه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، وذلك أن الدين مبني على أصلين: لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يعبد إلا بما شرع، فلا يعبده بالبدع.

قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 101].

ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهمَّ اجعلْ عملي صالحاً خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

وقال فُضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [تبارك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً، لم يقبل حتى يكونا خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

فالمقصود بجميع العبادات: أن يكون الدينُ كلُّه لله، فاللهُ هو المعبود

ص: 148

والمسؤول، الذي يُرجى ويُخاف ويسأل ويعبد، فله الدين خالصاً، وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعاً وكرهاً. والقرآن الكريم مملوء من هذا كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقال تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقال:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} إلى قوله {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 14 - 64].

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79]، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 56 - 57].

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير عليهما السلام، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29].

ومثل هذا في القرآن العزيز كثير، بل ذلك مقصود القرآن، ودعوةُ الرسل كلهم، ولذلك خلق الخلق كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: يوحدون ويخلصون العمل لله وحده.

وبالجملة: فيجب على المسلم أن يعلم أن الحج من جنس الصلاة ونحوها من العبادات التي يُعبد بها اللهُ وحَده لا شريك له، وأن الصلاة على الجنائز وزيارة قبور الأموات من جنس الدعاء لهم، والدعاء من جنس المعروف والإحسان الذي هو من جنس الزكاة والعبادات التي أمر الله بها توحيد وسنة، والذي غيرُهما فيه شرك وبدعة؛ كعبادات النصارى ومَنْ أشبههم، فقصدُ البقعةِ لغير العبادات التي أمر الله بها ليس من الدين.

ص: 149

ولهذا كان جملة العلماء الذين يعتد بهم: يعدون السفر لقبور الأنبياء والصالحين من جملة البدع المنكرة.

وهذا في أصح القولين غيرُ مشروع، وكذلك من يقصد بقعة لأجل الطلب من مخلوق هي منسوبة إليه كالقبر والمقام، ولأجل الاستعاذة به، ونحو ذلك، فهذا شرك وبدعة؛ كما يفعل النصارى ومن أشبههم من مبتدعة هذه الأمة؛ بحيث يجعلون الحج أو الصلاة من جنس ما يفعلونه من الشرك والبدعة.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر بعض أزواجه (1) كنيسةً بأرض الحبشة، وذكرن له من حسنها وما فيها من التصاوير:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرارُ الخلق عند الله يوم القيامة".

ولهذا نهى العلماء عما فيه عبادة لغير الله، وسؤال من مات من الأنبياء والصالحين مثل من يكتب رقعة، ويعلقها عند قبر نبي أو صالح، أو يسجد لقبره، أو يدعوه، أو يرغب إليه، وقالوا: إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس ليال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا! فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"، وقال:"لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وهذه الأحاديث في الصحاح.

وما يفعله بعض الناس من أكل التمر في المسجد، وتعليق الشعر في القناديل، فبدعة مكروهة، وأما التمر الصيحاني، فلا فضيلة فيه، بل غيرُه من

(1) هي كانت: أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموية. أمها صفية بنت أبي العاص بن أمية عمة عثمان بن عفان، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة، وبها كانت تكنى، وتنصر عبيدُ الله، ثم مات هناك، وثبتت هي على الإسلام، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فزوجه إياها، والذي عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وأصدقها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مئة دينار. الملخص من "سيرة النبي"، لابن هشام، و"عيون الأثر" لابن سيد الناس.

ص: 150

التمر؛ كالبرنيِّ والعجوةِ خيرٌ منه، والأحاديث إنما جاءت في مثل ذلك، لا في الصيحاني، وقول بعض الناس: إن الصيحاني صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهلٌ منه، بل إنما سمى بذلك اليابس منه؛ فإنه يقال: يصوح التمر: إذا يبس.

وهكذا قول بعض الجهال: إن "عين الزرقاء" جاءت معه صلى الله عليه وسلم من "مكة"، ولم تكن بالمدينة على عهده صلى الله عليه وسلم عين جارية، لا الزرقاء، ولا غيرها من عيون جمرة وغيرها، بل كل هذا استخرج من بعد.

ورفعُ الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أشد، وقد ثبت في "البخاري": أن عمر بن الخطاب رأى رجلين من أهل الطائف يرفعان أصواتهما في المسجد، فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد، لأوجعتكما ضرباً، إن الأصوات لا تُرفع في مسجده، فما يفعله بعضُ جهال العامة من رفع الصوت عقيبَ الصلاة بقولهم: السلامُ عليكَ يا رسولَ الله بأصوات عالية، وأمثال ذلك، فمن أقبح المنكرات، ولم يكن أحد من السلف يفعل شيئاً من ذلك عقيبَ الصلاة، ولا قبلها، ولا بعدها، لا بأصوات عالية، ولا مستخفية، بل ما في الصلاة من قول المصلي في التشهد:"السلام عليكَ أيها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاته" هو المشروع، كما أن الصلاة عليه مشروعة في كل مكان وزمان.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: "من صلى عليَّ مرة، صلى الله عليه عشراً"، وفي "المسند": أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعلُ عليك ثلث صلاتي؟ قال: "إذن يكفيك الله ثلثَ أمرك"، فقال: أجعل عليك ثلثي صلاتي؟ قال: "إذن يكفيك الله ثلثي أمرك"، قال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ قال: "إذن يكفيك الله ما أهمَّكَ من أمر دنياك وآخرتك".

وفي "السنن" عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني". وقد رأى عبد الله بن الحسن -رضي الله تعالى عنه- في زمنه رجلاً ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده، فقال: يا هذا! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"، فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.

ص: 151

ولهذا كان السلف يُكثرون الصلاةَ والسلامَ عليه صلى الله عليه وسلم في كل مكان وزمان، ولم يكونوا يجتمعون عند قبره، لا لقراءة وإيقاد شمع وإطعام وإسقاء، وإنشاد قصائد، ولا نحو ذلك، بل هذا من البدع، وإنما كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء، والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه، ونحو ذلك.

وقد علموا أن له صلى الله عليه وسلم مثل أجر كلِّ عمل صالح تعملُه أمته؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى، فله من الأجر مثلُ أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"، وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، فكل خير يعمله أحد من الأمة، فله أجره، فلم يكن يهدى إليه ثواب صلاة أو صدقة أو قراءة من أحد، وكل من كان له أطوع وأتبع، كان أولى الناس به في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] وقال صلى الله عليه وسلم: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي اللهُ وصالحُ المؤمنين"، وهو أولى بكل مؤمن من نفسه، وهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله تعالى، والحرامُ ما حرمه، والدين ما شرعه، واللهُ هو المعبود المسؤول المستعاذُ به الذي يُخاف ويُرجى منه ويُتوكل عليه.

قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وإنما الخشية والتقوى لله وحده، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 53]، فأضاف الإيتاء إلى الله والرسول، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فليس لأحد أن يأخذ إلا ما أباح له الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان الله آتاه ذلك من جهة القدرة والملك، فإنه يؤتى الملكَ لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاعتدال من الركوع وبعد السلام من الصلاة: "اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا رادَّ لما قضيتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ"؛ أي: من آتيته جَدّاً، وهو: البخت والملك، فإنه لا ينجيه منك، وإنما ينجيه الإيمان والتقوى.

ص: 152

وأما التوكل، فعلى الله وحده، والرغبةُ إليه وحده، كما قال تعالى:{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] ولم يقل: ورسوله، وقالوا:{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] ولم يقل: ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله تعالى. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8] وقال: الذين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس، قال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك. ومن قال: إن المعنى: إن الله والمؤمنين حسبك، فقد، غلط وضل، بل قوله من جنس الكفر؛ فإن الله وحده هو حسبُ كل عبد مؤمن، والحسبُ: الكافي، كما قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].

والله تعالى له حق: لا يُشرك فيه مخلوق؛ كالعبادة والإخلاص والتوكل والخوف، والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة، والرسول له حق: كالإيمان به وطاعته واتباع سننه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، وتقديمه في المحبة على الأهل والمال والنفس، كما قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".

بل يجب تقديم الجهاد، والذي أمر به على هذا كله، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، وما أوقفه بسنة الرسول وأحقه بالسمع والقبول!

ثم يستحب أن يخرج إلى البقيع، ويزور مَنْ به من الصحابة وغيرهم،

ص: 153