المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - فصل في حكم الزيارة - رحلة الصديق إلى البلد العتيق

[صديق حسن خان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية

- ‌الباب الأولفي فضل مكة وما يتصل به

- ‌1 - فصل في فضل مكة -زادها الله تشريفاً وتكريماً

- ‌2 - فصل في أسمائها

- ‌3 - فصل في ألقابها وحدودها

- ‌4 - فصل في جبالها وحكم زيارتها

- ‌5 - فصل في حكم المجاورة بها

- ‌6 - فصل في الموت بها، وذكر من دُفن بها

- ‌7 - فصل في آداب المجاورة بها

- ‌8 - فصل في مساجدها ودورها

- ‌9 - فصل في خطاها والمشي فيها

- ‌10 - فصل في النظر إلى البيت

- ‌11 - فصل في محلات يستجاب الدعاء بها

- ‌12 - فصل في بعض آياتها

- ‌الباب الثانيفي فضائل الحجاج والعمار والطواف وما ضاهاها

- ‌1 - فصل في فضل الحاج والمعتمر

- ‌2 - فصل في فضل رمضان بمكة والعمرة بها

- ‌3 - فصل في فضل الطواف

- ‌4 - فصل فيما جاء في الحَجَر والركنين والملتزم

- ‌5 - فصل في المشي بين الصفا والمروة

- ‌6 - فصل في فضل شرب ماء زمزم

- ‌7 - فصل في أسماء ماء زمزم

- ‌8 - فصل في المحافظة على الصلوات في المسجد الحرام جماعة في أوقاتها

- ‌9 - فصل في فضل من صبر على حرها ولأوائها

- ‌الباب الثالثفي مبادىء الحج والعمرة

- ‌1 - فصل في الترغيب في الحج والعمرة

- ‌2 - فصل في آداب سفر الحج، وهي كثيرة

- ‌3 - فصل في وجوب الحج والعمرة لله عز وجل

- ‌4 - فصل في وجوب الحج على الفور

- ‌5 - فصل في اعتبار الزاد والراحلة

- ‌6 - فصل في ركوب البحر

- ‌7 - فصل في حج الصبي والرقيق والحج عن الغير

- ‌8 - فصل في أنواع الحج

- ‌9 - فصل في بيان الأفضل من هذه الأنواع

- ‌10 - فصل في نوع حجه صلى الله عليه وسلم

- ‌11 - فصل في إدخال العمرة على الحج وفسخه إليها

- ‌12 - فصل في مواقيت الحج

- ‌13 - فصل في ميقات العمرة وهو الحل

- ‌14 - فصل في كراهة الإحرام قبل أشهر الحج

- ‌15 - فصل في جواز العمرة في جميع السنة

- ‌16 - فصل في وجوه الإحرام

- ‌17 - فصل فيمن أحرم مطلقاً، أو قال: أحرمتُ بما أحرم به فلانٌ

- ‌18 - فصل في الاشتراط

- ‌19 - فصل في الفوات والإحصار ووجوب الهدي على المُحْصَر

- ‌20 - فصل في حكم الهَدْي

- ‌21 - فصل في ركوب الهدي والحمل عليه

- ‌22 - فصل فيما يجتنبه المحرم وما يباح له

- ‌23 - فصل في الفدية

- ‌24 - فصل في نكاح المحرِم

- ‌25 - فصل في صيد المُحْرِم

- ‌26 - فصل في جزاء الصيد

- ‌27 - فصل في قتل المؤذيات

- ‌28 - فصل في حرم مكة المكرمة -زادها الله تعالى تعظيماً

- ‌29 - فصل في حرم المدينة المنورة -زاد الله شرفها

- ‌30 - فصل في حرم وَجّ

- ‌31 - فصل في التفاضل بين مكة والمدينة

- ‌الباب الرابعفي مقاصد الحج من حين الإحرام إلى الرجوع عنه

- ‌1 - فصل في آداب الإحرام

- ‌2 - فصل في قطع التلبية

- ‌3 - فصل في آداب دخول مكة

- ‌4 - فصل في آداب الطواف

- ‌5 - فصل في صفة الطواف

- ‌6 - فصل في السعي

- ‌7 - فصل في المسير إلى منى، ومنها إلى عرفة

- ‌8 - فصل في الوقوف بعرفة

- ‌9 - فصل في الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة

- ‌10 - فصل في الوقوف بالمشعر الحرام

- ‌11 - فصل في رمي جمرة العقبة يوم النحر

- ‌12 - فصل في نحر الهدى وتحسينه

- ‌13 - فصل في الحلق والتقصير

- ‌14 - فصل في ترتيب الرمي والنحر والحلق

- ‌15 - فصل في الإفاضة من منى للطواف يوم النحر

- ‌16 - فصل في المبيت بمنى، وما يفعل في أيامها

- ‌17 - فصل في التحصيب

- ‌18 - فصل في دخول الكعبة

- ‌19 - فصل في صفة العمرة المفردة، وما يتصل بها من إكثار الاعتمار والطواف، وشرب زمزم وغيرها

- ‌20 - فصل في طواف الوداع

- ‌21 - فصل في زيارة المساجد وأبنية مكة

- ‌22 - فصل في الرجوع من حج أو عمرة وما يتصل به

- ‌الباب الخامسفي زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى صلى الله عليه وسلم

- ‌1 - فصل في حكم الزيارة

- ‌2 - فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

- ‌3 - فصل في فضائل "المدينة" وما يشبهها

- ‌خاتمة

الفصل: ‌1 - فصل في حكم الزيارة

‌الباب الخامس

في زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى صلى الله عليه وسلم

-

وفيه فصول:

‌1 - فصل في حكم الزيارة

اعلم أنه قد اختلفت فيها أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور: إلى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية: إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريب من الواجبات.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعضُ الحنابلة، وجمعٌ من أهل الحديث، وروي ذلك عن مالك، والجويني، والقاضي عياض، احتج القائلون بأنها مندوبة بقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].

وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره بعد موته (1)؛ كما في حديث: "الأنبياء أحياء في قبورهم"، وقد صححه البيهقي، وألف في ذلك جزءًا، قال: الأستاذ أَبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ بعد وفاته، انتهى.

ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء أحياء يرزقون في قبورهم، والنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإذا ثبت أنه حي، كان المجيء إليه بعد الموت كالمجيء إليه قبله، ولكنه ورد

(1) وهذا يناقض قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].

ص: 134

أن الأنبياء لا يُتركون في قبورهم فوق ثلاث ليال، وروي: فوق الأربعين، فإن صح ذلك، قدح في الاستدلال بالآية.

ويعارض القول بدوام حياتهم في قبورهم ما سيأتي من أنه صلى الله عليه وسلم يرد عليه روحه عند التسليم عليه، وحديث:"من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي" الذي سيأتي إن صح، فهو الحجة في المقام.

وقال محمد بن عبد الهادي، في "الصارم المنكي على نحر ابن السبكي": الكلام في الآية في مقامين: أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبه، والثاني: بيان دلالتها على نقيضه، وإنما يتبين الأمر بفهم الآية وما أريد بها، وسيقت له، وما فهمه منها أعلمُ الأمة بالقرآن ومعانيه، وهم سلف الأمة، ولم يفهم منها أحد من السلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم.

والآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت، دونَ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، ثم لم يجىء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له.

وكانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة، جاء إليه، فقال: يا رسول الله! فعلتُ كذا وكذا، فاستغفرْ لي، وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين.

فلما نقل الله بيته صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم إلى دار كرامته، لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله! فعلتُ كذا وكذا، فاستغفر لي، ومن يقل هذا عن أحد منهم، فقد جاهر بالكذب والبهت، وافترى. وعطل الصحابة والتابعون، وهم خير القرون على الإطلاق، هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه، وجعل التخلف من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم.

وأما دلالة الآية على خلاف تأويلها، فهو أنه سبحانه صدَّرها بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64]، وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم طاعة له،

ص: 135

ولهذا ذمَّ من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم قط: إن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، وهذا بخلاف قوله:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]؛ فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو ما جاء به حياً وميتاً، ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه.

ويوضح ذلك أنه قال: "لا تجعلوا قبري عيداً"، ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره، لكان القبرُ أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة به وبما جاء به، انتهى كلامه ملخصاً.

واستدلوا ثانياً بقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .} [النساء: 100] الآية، والهجرة إليه في حياته الوصولُ إلى حضرته، فكذلك الوصول بعد موته.

ولا يخفى أن الوصول بحضرته في حياته فيه فوائد لا توجد في الوصول إلى حضرته بعد مماته، منها: النظر إلى ذاته الشريفة، وتعلُّم أحكام الشريعة منه، والجهاد بين يديه، وغير ذلك.

واستدلوا ثالثاً للأحاديث الواردة في ذلك:

منها: الأحاديث الواردة في مشروعية زيارة القبور على العموم، والنبي صلى الله عليه وسلم داخل فيه دخولاً أولياً، وكذلك الأحاديث الثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم في زيارتها.

ومنها: أحاديث خاصة بزيارة قبره الشريف: أخرج الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن حاطب، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي"، وفي إسناده رجل مجهول، والحديث ضعيف مضطرب الإسناد. وعن ابن عمر عند الدارقطني أيضاً قال، فذكر نحوه، ورواه أبو يعلى في "مسنده"، وابن عدي في "كامله"، وفي إسناده حفص بن أبي داود، وهو ضعيف الحديث.

وقال أحمد فيه: إنه صالح، وعن عائشة عند الطبراني في "الأوسط" عن

ص: 136

النبي صلى الله عليه وسلم مثلثه، قال الحافظ: وفي طريقه مَنْ لا يُعرف، وعن ابن عباس عند العقيلي مثلُه، وفي إسناده فضالة بن سعد المازني، وهو ضعيف، وعن ابن عمر حديث آخر عند الدارقطني بلفظ:"من زار قبري، وجبت له شفاعتي"، وفي إسناده موسى بن هلال العبدي، قال أبو حاتم: مجهول؛ أي: العدالة، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريقه، وقال: إن صح الخبر، فإن في القلب من إسناده شيئاً، وأخرجه أيضاً البيهقي، وقال العقيلي: لا يصح حديث موسى، ولا يتابعَ عليه، ولا يصح في هذا الباب شيء.

وقال أحمد: لا بأس به، وأيضاً قد تابعه عليه مسلمة بن سالم كما رواه الطبراني من طريقه، وموسى بن هلال المذكور، رواه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وهو ثقة من رجال الصحيح، وجزم الضياء المقدسي، والبيهقي، وابن عدي، وابن عساكر: بأن موسى رواه عن عبد الله بن عمر -المكبر-، وهو ضعيف، ولكنه قد وثقه ابن عدي، وقال ابن معين: لا بأس به، وروى له مسلم مقروناً بآخر، وقد صحح هذا الحديث: ابنُ السكن، وعبد الحق، والسبكي.

وردّ ابن عبد الهادي على هؤلاء رداً مشبعاً في صارمه إلى أوراق، وقال: هو حديث غير صحيح، ولا ثابت، بل هو منكر عند أئمة هذا الشأن، ضعيف الإسناد عندهم، لا تقوم بمثله حجة، ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمَدُ على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعفَ هذا الخبر، ونكارته، انتهى.

وعن ابن عمر عند ابن عدي، والدارقطني، وابن حبان في ترجمة النعمان بلفظ:"من حج ولم يزرني، فقد جفاني"، وفي إسناده النعمانُ بن شبل، وهو ضعيف جداً، ووثقه عمران بن موسى، وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان، لا عليه، ورواه أيضاً البزار، وفي إسناده إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عمر، وقال: إسناده مجهول، قال في "الصارم": هذا منكر جداً لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات، وهو كذب موضوع على مالك، مختلق عليه، لم يحدث به قط، ولم يروه إلا من

ص: 137

جمع الغرائب والمناكير والموضوعات، ولقد أصاب ابن الجوزي، وذكره في "الموضوعات" إلى قوله.

والحاصل: أن هذا الحديث الذي تفرد به محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك، لا يحتج به ويعتمد عليه إلا مَنْ أعمى الله قلبه، وكان من أجهل الناس بعلم المنقولات، ولو فرض أنه خبر صحيح، وحديث مقبول، لم يكن فيه حجة إلا على الزيارة الشرعية، انتهى. وأطال في جرحه إلى أوراق. وعن أنس عند ابن أبي الدنيا بلفظ:"من زراني بالمدينة محتسباً، كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة"، وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي، ضعفه ابن حبان، والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وعن عمر عند أبي داود الطيالسي بنحوه، وفي إسناده مجهول.

قال في "الصارم": هذا حديث ساقط الإسناد، لا يجوز الاحتجاجُ به، ولا يصلح الاعتماد على مثله، وقد خرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، وقال: هذا إسناد مجهول، انتهى. وورد بألفاظ، فجعلوها ثلاثة أحاديث، وهو واحد مضطرب الإسناد. وذكر ابن حبان في "كتاب الثقات" له خلقاً عظيماً من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب، فلا تغتر بتوثيقه للرواة في أمثال تلك الأحاديث.

وعن عبد الله بن مسعود عند أبي الفتح الأزدي بلفظ: "من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله فيما افترض عليه". قال ابن قدامة في "الصارم": هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك وريب عند أهل المعرفة بالحديث، انتهى.

ثم أطال بيان وضعه إلى صفحة. وعن أبي هريرة بنحو حديث حاطب المتقدم.

وعن ابن عباس عند العقيلي بنحوه، وعنه في "مسند الفردوس" بلفظ:"من حج إلى مكة، ثم قصدني في مسجدي، كتبت له حجتان مبرورتان". وعن علي بن أبي طالب عند ابن عساكر: "من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في

ص: 138

جواره"، وفي إسناده عبد الملك بن مروان، وفيه مقال.

وعن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من جاءني زائراً، لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة"، رواه الطبراني، وله ألفاظ، وليس في هذا الحديث -على فرض صحته- ذكرُ زيارة القبر، ولا ذكرُ الزيارة بعدَ الموت، مع أنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح للاحتجاج به، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه أحد من الأئمة المعتبرة، ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه.

وقد تفرد به مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يُعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وله مناكير كثيرة ذكرها ابن قدامة في "الصارم". وعن ابن عمر:"من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي"، رواه الدارقطني. وتقدم نحوه عنه، وهو حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة، بل ضعفوه، وطعنوا فيه، وذكر بعضهم: أنه من الأحاديث الموضوعة، والأخبار المكذوبة كما صرح به في "الصارم" مفصلاً.

وحديث: "من زراني متعمداً، كان في جواري يوم القيامة"، رواه العقيلي، وغيره من رواية سوار بن ميمون، وهو حديث ضعيف مجهول الإسناد، من واهي المراسيل وأضعفها، وفيه الاختلاف والجهالة والإرسال والانقطاع والاضطراب، وبعض هذه الأمور يكفي في ضعف الحديث وردِّه، وعدمِ الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن.

فكيف اجتماعها في خبر واحد! وفي رواية: "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني وأنا حي" رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في جزء له، وهو حديث منكر لا أصل له، وإسناده مظلم، بل هو حديث موضوع على عبد الله العمري الصغير -المكبر- المضعف كما بينه ابن قدامة في "الصارم" بياناً شافياً.

وفي رواية: "ما من أحد من أمتي له سعة، ثم لم يزرني، فليس له عذر"، رواه ابن النجار عن أنس، وهو حديث موضوع مكذوب مختلق، مصنوع من النسخة الملصقة بسمعان بن المهدي، وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق

ص: 139

بعض. وفي رواية: من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً، أو قال: شفيعاً" أخرجه العقيلي في "كتاب الضعفاء"، وابن عساكر بلفظ: "من زارني في المنام، كمن زارني في حياتي، والباقي سواء" وهو حديث منكر جداً، ليس بصحيح، ولا ثابت، بل هو موضوع على ابن جريج، وقد وقع تصحيف في متنه وإسناده.

وفي حديث: "من أتى المدينة زائراً إليَّ، وجبت له شفاعتي يوم القيامة" أخرجه يحيى الحسيني في "أخبار المدينة"، وهو حديث باطل لا أصل له، وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل، وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة، لم يكن فيه دليل على محل النزاع، وكذا حديث:"من لم تمكنه زيارتي، فليزر قبر إبراهيم الخليل"؛ فإنه من الأحاديث المكذوبة، والأخبار الموضوعة، كما ذكر في "الصارم".

وبالجملة: هذه جميع الأحاديث التي استدل بها: تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة ست وخمسين وسبع مئة في "شفاء السقام في زيارة خير الأنام"، والشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي المكي في "الجوهر المنظم في زيارة النبي المكرم"، وغيرهما، في غيرهما وليس فيها حديث حسن، أو صحيح، بل كلها ضعيفة موضوعة، أو منكرة لا أصل لها؛ قال الحافظ ابن حجر: أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة، انتهى.

فظهر بهذا أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وأهل الحديث، ومالك إمام دار الهجرة، والجويني، والقاضي عياض ومَنْ تبعه من المحققين: من تضعيفها، وردِّها، وعدم قبولها، هو الصواب البحتُ، والحق الصرفُ الذي لا مَحيصَ عنه، وعلى فرض حسنها أو صحتها، لا دلالة لها على السفر للزيارة، بل على الزيارة فقط، وليس النزاع في نفس زيارة القبور، بل في السفر إليها، وشد الرحال لها، وهو مسألة غير هذه المسألة.

قال في "الفتح": وأصح ما ورد في ذلك: ما رواه أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما من أحد يسلم عليّ، إلا ردَّ الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه

ص: 140

السلام"، وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب، ولكن ليس فيه ما يدل على اعتبار كون المسلِّم عليه على قبره، بل ظاهره أعمُّ من ذلك، انتهى.

وقد رُويت زيارته صلى الله عليه وسلم عن جماعة من الصحابة، منهم: بلال عند ابن عساكر، وابن عمر عند مالك في "الموطأ"، وأبو أيوب عند أحمد، وأنس ذكره عياض في "الشفا"، وعمر عند البزار، وعلي عند الدارقطني، وغير هؤلاء، ولكنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحال لذلك إلا عن بلال؛ لأنه روى عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بداريّا يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أمالك أن تزورني؟ " روى ذلك ابن عساكر، ولكن هذا الأثر ليس بصحيح عنه، ولو كان صحيحاً عنه، لم يكن فيه دليل على محل النزاع، ولا يكون المنام حجة شرعية، وقول القائل: سنده جيد، خطأ منه كما بينه في "الصارم" بياناً كافياً، وهو أثر غريب منكر، وإسناده مجهول، وفيه انقطاع بل بعض ألفاظ الخبر يشهد ببطلانه عنه.

وثبت عن ابن عمر: أنه كان إذا قدم من سفر، أتى قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر، وليس فيه شد رحال، ولا إعمال مطي، ومع هذا قال أبو عثمان العمري: ما نعلم أحداً من أصحابه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إلا ابن عمر، هكذا ذكر عبد الرزاق في "مصنفه".

واستدل القائلون بالوجوب بحديث: "من حج ولم يزرني، فقد جفاني"، رواه ابن عدي في "الكامل"، وله ألفاظ متقاربة، قالوا: والجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم محرم، فتجب الزيارة لئلا يقع في المحرم، وأجاب عنه الجمهور: بأن الجفاء يقال على من ترك المندوب؛ كما في ترك البر والصلة، وعلى غِلَظ الطبع؛ كما في حديث:"من بدا فقد جفا"، وأيضاً الحديث على انفراده مما لا تقوم به الحجة، وقد تقدم جرحه.

واستدلوا رابعاً بالإجماع، وقالوا: قد حكى القاضي عياض: أن العلماء مجمعون على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، وممن حكاه النووي.

والجواب عن ذلك بوجوهٍ ذكرها في "الصارم"، حاصلها: أن المانع لم

ص: 141

يقل: إن زيارة القبور محرمة أو مكروهة، بل هي مستحبة عنده أيضاً؛ للدعاء للموتى، مع السلام عليهم، وإنما الكلام في السفر إليها، وليس في المسألة إجماع لتحقيق ثبوت الخلاف فيها عن بعض المجتهدين، وإن كان قوله ضعيفاً من حيث الدليل، قال ابن البطال: كره قوم زيارة القبور؛ لأحاديث في النهي عنها، وقال الشعبي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، لزرت، انتهى.

وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثلُه، وبه قال مالك، والجويني، وعياض، فأي ذنب لشيخ الإسلام ابن تيمية إن قال به؟ وليس هو بمتفرد بهذا القول، والمقصود: أن الإجماع المذكور في هذه المسألة غير محقق.

واستدلوا خامساً بالقياس، وقالوا: جاء في السنة الصحيحة: الأمرُ بزيارة القبور، فقبرُ نبينا منها أولى وأحقُّ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم زار أهل البقيع، وشهداء أحد، وقد مر الجواب عن ذلك بأن هذا خارج عما نحن فيه؛ لأن الكلام في السفر إلى زيارة القبور؛ لا في نفس الزيارة.

واحتج من قال: إنها غير مشروعة بحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وهو في الصحيح، وحديث:"لا تتخذوا قبري عيداً" رواه عبد الرزاق، قال النووي في "شرح مسلم": اختلف العلماء في شد الرحال لغير الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى حرمته، وأشار عياض إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا: أنه لا يحرم، ولا يكره، قالوا: والمراد: أن الفضيلة الثابتة إنما هي لشد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة، انتهى.

وقد أجاب الجمهور عن حديث شد الرحال: بأن القصر فيه إضافي باعتبار المساجد، لا حقيقي، قالوا: والدليل على ذلك ما في بعض ألفاظ الحديث: "لا ينبغي للمطي أن تشدَّ رحالُها إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير مسجدي هذا، أو المسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فالزيارة وغيرها خارجة عن النهي، لكن إن صح هذا الخبر، فلينظر فيه.

ص: 142

وأجابوا ثانياً بالإجماع على جواز شد الرحال للتجارة وسائر مطالب الدنيا، وعلى وجوبه إلى عرفة للوقوف، وإلى منى للمناسك التي فيها، وإلى مزدلفة، وإلى الجهاد، والهجرة عن دار الكفر، وعلى استحبابه لطلب العلم.

قلت: هذه الأسفار قد ثبت بعضها بفعل الشارع وقوله، ولم يثبت السفر للزيارة بفعله ولا قوله، ولم يحصل الإجماع على جوازه بحمد الله تعالى إلى الآن.

بل نهى العلماء عنه قديماً وحديثاً، بل بعض الأسفار لها، بل غالبها لا يخلو من أحوال الشرك وأعمال الكفر كما لا يخفى على الخبير.

وأجابوا عن حديث: "لا تتخذوا قبري عيداً": بأنه يدل على الحث على كثرة الزيارة، لا على منعها، وأنه لا يُهمل حتى لا يُزار إلا في بعض الأوقات؛ كالعيدين، والعالم بمفاهيم السنة وعطفها، والعارف بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاب أبداً في أن ذلك التأويل من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ومن قبيل تأويل الجهلة وانتحال المبطلة؛ فإنه يأباه ظاهر الحديث وباطنُه، ولو كان مقصود الشارع ما فهمَ هؤلاء، لقال: زوروا قبري كل حين، ولا تملوا عنه حتى لا تزوروه إلا في بعض الأحيان كالعيد.

واحتج أيضاً من قال بالمشروعية: بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الأعمال، ولم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم، فكان إجماعاً.

قلت: وما الدليل على أن هذا الوصول كان لمجرد زيارة القبر؟ بل الظاهر أنه كان لمسجده صلى الله عليه وسلم، وكانت الزيارة مغمورة فيه، ومن ادعى خلاف ذلك، فعليه البيان مع البرهان.

وما ذكره ابن الجوزي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يبرد البريد من الشام، يقول له: سَلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالجواب عنه أولاً: بالمطالبة عن صحة الإسناد إلى عمر، والثاني: بأنه في إسناده ضعف وانقطاع.

ص: 143

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مصنفاته، وفتاواه، ومناسكه: استحبابَ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض، والجويني، فينبغي أن يعرف الفرق بين محل النزاع وغيره، ولا يخلط بعضه ببعض، ولا ريب أن الإنسان إذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، استحب له أن يفعل فيه ما يُشرع له من الصلاة والسلام على الرسول، والتسليم، والثناء عليه، فهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية، والسفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، وما يتبع ذلك مستحبٌّ بالنص والإجماع.

والسفر لمجرد زيارة القبر فيه نزاع، ومن سافر لمجرد قبر، فلم يزر زيارة شرعية، بل بدعية، فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون، وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمَعَ عليه من المتنازَع فيه؛ فإن الزيارة فيها مسائل متعددة متنازَع فيها، ولكن لم يتنازعوا -فيما علمت- في استحباب السفر إلى مسجده، واستحباب الصلاة والسلام فيه، ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده، ولم يتنازع الأئمة الأربعة.

والجمهور: في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب، لا لقبور الأنبياء والصالحين، ولا غير ذلك؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال. . . " حديث متفق على صحته، وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً للاستحباب، وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحاً، فتعين أنه نهي، فهذان طرفان لا أعلم فيهما نزاعاً بين الأئمة الأربعة والجمهور، فتدبر.

وتمام الكلام في مسألة الزيارة ومتعلقاتها مبسوط في "الصارم" في ذيل فصول هي للدين أصول.

ص: 144