الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وترك شكاية الخلق «1» وترك لومهم والرضا عن الله والتسليم لحكمه.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده، والتأله من عباده له سبحانه، كما أن الرحمة هى الوصلة بينهم وبينه- عز وجل واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدرا توحيد الله تعالى، غير أن التوحيد له قشران:
الأول: أن تقول بلسانك: لا إله إلا الله، ويسمى هذا القول توحيدا، وهو مناقض للتثليث الذى تعتقده النصارى، وهذا التوحيد يصدر أيضا من المنافق الذى يخالف سره جهره.
والقشر الثانى: ألا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا توحيد عامة الناس.
لباب التوحيد وجوهره:
ولباب التوحيد أن يرى الأمور كلها من الله تعالى ثم يقطع الالتفات عن الوسائط وأن يعبده سبحانه عبادة يقرّه بها، ولا يعبد غيره. ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى، فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
«2» وإذا تأملت عرفت أنّ عابد الصنم لم يعبده، إنما عبد هواه، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعانى التى يعبّر عنها بالهوى.
ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره أو يأمل سواه، وهذا التوحيد مقام الصديقين.
ولا ريب أنّ توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله «3» ، وإنما أنكروا
توحيد الإلهية والمحبة كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
«1» فلما سووا؟؟ غيره به في هذا التوحيد كانوا مشركين كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
«2» .
وقد علم الله تعالى عباده كيفية مباينة الشرك في توحيد الإلهية، وأنه تعالى [حقيق] بإفراده وليا وحكما وربا فقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا
«3» وقال:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً
«4» ، وقال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا
«5» فلا ولى ولا حكم ولا رب إلا الله الذى من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحد ربوبيته، فتوحيد الربوبية هو الذى اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، ولو قال: لا ربّ إلا الله، لما أجزأه عند المحققين.
فتوحيد الألوهية هو المطلوب من العباد؛ ولهذا كان أصل الله: الإله، كما هو قول سيبويه «6» ، وهو الصحيح وهو قول جمهور أصحابه إلا من شذ منهم «7» .
وبهذا الاعتبار الذى قررنا به الإله وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه كان الله هو الاسم الجامع لجميع معانى الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو الذى ينكره المشركون، ويحتجّ الربّ سبحانه وتعالى عليهم بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته كما قال تعالى:
ِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
…
«8» .
وكلما ذكر تعالى في آياته جملة من الجمل قال عقبها: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ*
، فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات «1» توحيد الإلهية لا الربوبية على أن منهم من أشرك في ربوبيته «2» كما يأتى بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكرى الإلهية بإثباتهم الربوبية، والملك هو الآمر الناهى الذى لا يخلق خلقا بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون فإن الملك هو الآمر الناهى المعطى المانع الضار النافع المثيب المعاقب؛ ولذلك جاءت الاستعاذة «3» فى سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الرب والملك والإله، فإنه لما قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
«4» كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقى أن يقال: لما خلقهم هل كلفهم وأمرهم ونهاهم؟ قيل: نعم، فجاء مَلِكِ النَّاسِ
فأثبت الخلق والأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
«5» ، فلما قيل ذلك قيل: فإذا كان ربا موجدا وملكا مكلّفا، فهل يحب ويرغب إليه ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: إِلهِ النَّاسِ
أى مألوههم ومحبوبهم الذى لا يتوجه العبد المخلوق المكلف العابد إلا له، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها، وهاتان السورتان أعظم عوذة «6» فى القرآن، وجاءت الاستعاذة بهما وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سحر النبى صلى الله عليه وسلم، وخيّل له أنه يفعل
الشىء وما فعله «1» ، وأقام على ذلك أربعين يوما كما في الصحيح «2» ، وكانت عقد السحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية فانحلت بكل آية عقدة «3» ، وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله، وهو المعبود وحده لاجتماع صفات الكمال فيه، ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل ذى الأسماء الحسنى والصفات العليا المرغوب إليه في أن يعيذ عبده الذى يناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربه، ثم استحب التعلق باسم الإله في جميع المواطن التى يقال فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن اسم الله هو الغاية للأسماء؛ ولهذا كان كل اسم بعده لا يتصرف إلا به، فتقول: الله هو السلام المؤمن، فالجلالة تعرف غيرها، وغيرها لا يعرفها، والذين أشركوا به تعالى في الربوبية منهم من أثبت معه خالقا وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدرية «4» ، وربوبيته سبحانه للعالم الربوبية الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم؛ لأنها تقتضى ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيته، إذ كيف يتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه.