المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«كلام السلف في الاستثناء» : - رسائل المقريزي

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة رسائل المقريزي

- ‌تقى الدين المقريزى

- ‌مؤلفاته:

- ‌صفاته وسلوكه:

- ‌وصف المخطوطات:

- ‌[فصل: في اختصاص بني هاشم بالدعوة والنبوة والكتاب على سائرهم من بين قريش]

- ‌[فصل: في بيان السر في خروج الخلافة بعد رسول الله ص عن على بن أبى طالب ع إلى أبى بكر وعمر ثم عثمان]

- ‌[فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة]

- ‌[فصل: اتفق في الخلافة الإسلامية كما اتفق في الملة الموسوية حذو القذاة بالقذاة]

- ‌[فصل: مطابقة السنن الكونية في الأمة الإسلامية لماسبقها من الشعوب والأمم من اليهو والنصارى وغيرهم]

- ‌لباب التوحيد وجوهره:

- ‌«أنواع الشرك الواقع في الأمم» :

- ‌«الإشراك في المحبة» :

- ‌«صرف العبادة إلى غير الله شرك أكبر» :

- ‌«كثرة الأدلة على توحيده تعالى» :

- ‌«الشرك في الربوبية» :

- ‌«شرك القدرية» :

- ‌«النهى عن اتخاذ القبور مساجد» :

- ‌أقسام الناس في زيارة القبور:

- ‌النهى عن السجود لغير الله:

- ‌الشرك في الألفاظ:

- ‌الشرك في الإرادة والنية:

- ‌بطلان الوسائط والشفعاء في التقرب إلى الله:

- ‌أنواع الشرك:

- ‌أنواع التعطيل:

- ‌شرك التشبيه والتمثيل

- ‌حقيقة الشرك:

- ‌صرف العبادات إلى غير الله من التشبيه له بخلقه

- ‌التشبه بالله:

- ‌تحريم التشبه بالله في أفعاله وأسمائه:

- ‌سوء ظن المعتقدين في الوسائط:

- ‌عدم حاجته تعالى إلى الوسائط:

- ‌أصل ضلال أهل البدع والزيغ:

- ‌عبادة غير الله عبادة للشيطان:

- ‌مراتب الناس في عبادة الله:

- ‌القسم الثالث:

- ‌حقيقة الاستعانة:

- ‌القسم الرابع:

- ‌المتابعة والإخلاص شرطان لقبول الأعمال:

- ‌أفضل العبادات وأنفعها:

- ‌من قال: إن الزهد أفضل العبادات:

- ‌أقسام الناس في منفعة العبادة:

- ‌رأى القدرية في الحكمة والتعليل:

- ‌تناقض الجبرية والقدرية:

- ‌الأعمال سبب لدخول الجنة:

- ‌رأى الفلاسفة والمتصوفة في العبادات:

- ‌قول أهل الحق في العبادة:

- ‌محبة الله أصل العبادة:

- ‌تقديم الآراء على نصوص الوحى منافى للمحبة:

- ‌قواعد العبادة:

- ‌فصل في النقود

- ‌النقود الإسلامية

- ‌نقود مصر

- ‌[فصل في تفسير آية التطهير وبيان المراد بأهل البيت في الآية المباركة]

- ‌فصل: الأجسام المتولدة

- ‌فصل في أقسام المعادن

- ‌القول في الفلزات

- ‌القول في الأحجار

- ‌ذكر بلاد الحبشة

- ‌ذكر بلاد الزيلع

- ‌ومملكة أوفات

- ‌ومملكة دوارد

- ‌ومملكة أرابينى

- ‌ومملكة هديّة

- ‌ذكر الدولة القائمة بجهاد النصارى من الحبشة

- ‌«الاستثناء في الإيمان» :

- ‌«رفض الحنفية للاستثناء» :

- ‌«كلام السلف في الاستثناء» :

- ‌[فصل في تعرف النحل وأنواعه وخصائصه]

- ‌[فصل في بيان أصناف النحل]

- ‌فصل في بيان فائدة شمع النحل وخصائصه

- ‌الآفات التى تصيب الخلايا

- ‌[الدّبر: عسله وأنواعه]

- ‌فصل: فى ماهية العسل

- ‌[فوائد العسل]

- ‌فصل في تكريم النحل من خلال تنويه الله تعالى بذكرها في القرآن

- ‌بيوت النّحل

- ‌[فصل في نهي النبي عن قتل أربع من الدواب ومنها النحلة]

- ‌[فصل في سماع النبي ص دوي النحل عند نزول الوحي]

- ‌[فصل اختلف أهل العلم في أكل النّحل]

- ‌[فصل في تسمية البعض بأسماء النحل وتكنيتهم بها والسبب في ذلك]

- ‌[فصل أجود ما قيل في الشمعة]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌الأعلام

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس القبائل

- ‌فهرس البلدان

- ‌فهرس النقود والدراهم والموازين

- ‌ثبت بالمراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌«كلام السلف في الاستثناء» :

«الاستثناء في الإيمان» :

ونشأ عن هذه المسألة مسألة أخرى عظم فيها الخلاف من الفريقين، وأطلق بعض مخالفى الأشعرية لسانه من أجل هذه المسألة بما لا يحمل وهى: هل يقال: أنا مؤمن إن شاء الله أو لا؟

فذهب أكثر أصحابنا الأشاعرة إلى أنه يجوز إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن إن شاء الله، لا للشك، بل لأن مذهبهم العبرة بحالة الموت، لا الإيمان الموجود في الحال ولا للكفر الموجود في الحال، بل ذلك الحال مشتبه عليهم، وإذا لم يعلموا بها لم يعلموا ما هم عليه في الحال لسقوط ما هو الموجود للحال، وتذكر- رحمك الله- هنا حال سحرة فرعون وحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمرهم وما آلت إليه أحوالهم، يفدك هنا فائدة جليلة، وقد أشار إلى ذلك بعض أهل العرفان بقوله:«وكم لله من قوم هم في المعاصى والمعاصى لا تضرهم» .

«رفض الحنفية للاستثناء» :

وخطأ الحنفية من استثنى في إيمانه وقالوا: قد شهد الله لمن آمن بالله ورسوله بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ

«1» الآية وخرج بقطع القول للذين قالوا: رَبُّنَا اللَّهُ*

«2» ولم يأمرهم بالاستثناء، وكذلك قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

«3» فأمر تعالى بذلك من غير استثناء، وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ

إلى قوله: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ

«4» فجعل تعالى قول القائل: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ

أحسن قول.

«كلام السلف في الاستثناء» :

وقال النووى «5» : واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن. فقالت طائفة: لا يقول: أنا مؤمن مقصرا عليه، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين،

ص: 262

وذهب آخرون إلى جواز إطلاقه وأنه لا يقول: «إن شاء الله» وهذا هو المختار، وقول أهل التحقيق.

وذهب الأوزاعى وغيره إلى جواز الأمرين «1» ، والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن قال: إن شاء الله، فقالوا فيه: هو إما للتبرك، وإما لاعتبار العاقبة، وما قدر الله تعالى فلا يدرى أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه، والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين، ورفعا لحقيقة الخلاف، وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: هو كافر، ولا يقال: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو فى التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله تعالى نظرا إلى الخاتمة، وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم.

انتهى «2» .

وقد جاء في معنى خاتمة الخير أحاديث وآثار.

قال ابن السنى: ثنا نجيح بن إبراهيم بن محمد بن ميمون ثنا صالح بن أبى الأسود عن عبد الملك النخعى عن ابن جدعان، عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا انصرف من الصلاة:«اللهم اجعل خير عمرى آخره، واجعل خير عملى خواتمه، واجعل خير أيامى يوم لقاك» «3» .

وقد روى عن الإمام أبى عبد الله أحمد بن حنبل رضى الله عنه أنه كان كثيرا ما يدعو: اللهم أمتنى على الإسلام والسنة.

ومن الأدعية المأثورة: «اللهم ألبسنى العافية كى تهيننى المعيشة، واختم لى بخير حتى لا تقرنى ذنوبى، واكفنى مؤونة الدنيا وكل هول في الآخرة حتى تدخلنى الجنة في عافية» .

ص: 263

ومن دعاء بعضهم: اللهم إنى أعوذ بك من العجز عند الكبر، وأعوذ بك من سوء الخاتمة عند الموت.

والله الموفق والهادى إلى سبيل الرشاد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا دين الإسلام بالسيوف الحداد.

والحمد الله وحده

تم.

ص: 264

الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء

ص: 265

(الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد وقف ذو القريحة «1» الشحيحة، والخاطر الحائر على ما برزت به الإشارة الكريمة، من حل لغز قد استغلق معناه، وبعد مرماه، فامتثلت ذلك ولم أكن هنالك أدخل الألغاز غير صناعتى، والنظر فيها ومعاناتها ليست من بضاعتى، لكنى سألت الله أن ييسر لى حله، فأعان عليه، وأهدى بفضله إليه، فإذا هو قد ألغز فى الماء الذى به حياة الأنفس، وحياة كل شىء حى وبيانه أنه قال:

ما قولكم في شىء يطير بلا جناح يبيض ويفرخ في البطاح «2» ؟

هذا إشارة إلى نزول الماء من السحاب، فإن الطيران هو الاستعلاء في جو السماء والارتفاع في الهواء والمرور فوق الأرض وتحت السماء، وكذلك الماء فإنه يستعلى في الجو، فإن الشمس إذا أشرقت وارتفع الندى طار، وحقيقة الندى النازل من السمآء إنما هو أجزاء مائية صغيرة واعتبره هذا تجده عيانا، فإنك إذا وضعت قشرة بيضاء تحت السماء في ليلة ذات أندية فإنها توجد في السحر قد امتلأت ماء، فإذا طلعت الشمس تراها ترتفع في الجو بنفسها حتى تغيب عن العيان، وأما مرور الماء فوق الأرض وتحت السماء، فأمر مشاهد عند نزول المطر، فقد بان واتضح أنه يطير بلا جناح، وإطلاق الطيران عليه يكون من باب الاستعارة.

وقوله: «يبيض ويفرخ في البطاح» استعارة لطيفة، فإن الماء إذا نزل إلى الأرض أخرجت عند ذلك حبّها، ومن هذا فاستعار اسم البيض والفراخ لما يكون عن الماء، والاستعارة تكون بأوفى علاقة كما تقرر في علم البيان.

«رأسه في ذنبه» يشير إلى أن وقت نزول الماء من السماء يرى خطوطها؟؟ كأنها حبال أو أعمدة، أو خيوط بحسب غزارته، فيكون رأس الخط الممتد مما يلى

ص: 267

الأرض، وفي الحقيقة إنما هو طرفه الآخر، وذكر الذنب أيضا إنما يكون من باب الاستعارة، وإذا بالذنب الطرف.

وقوله: «وعينه في موضع قتبه «1» » معنى مستغلق شرحه أن الماء إذا اجتمع فى موضع ثم سقط فيه المطر انتشر في أعلاه- أعنى سطحه- شىء مستدير يقال لما كان مثله في الخمر عند من لها أحباب، ولله در أبي الحسن بن هانئ الحكمى حيث يقول:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها

حصباء «2» در على أرض من الذهب

فاستعار الغيث لما يتكون في سطح الماء الذى هو ظهره في تلك الهيئة، وشبه تلك الفواقع التى حدثت في الماء بالعيون وهى شبه تلك الفواقع التى حدثت في الماء بالعيون، وهى شبه بالحدقة ومقلة العين فلذلك قال: وعينه في موضع قتبه، ولم يقل: وعينه في قتبه تحقيقا للاستعارة، وناسب ذكر القتب دون ما سواه آلات الدواب كالسرج والإكاف «3» ونحوهما شيئين أحدهما:«أن البعير الذى القتب آلة لظهره يشبه بالسفن، ففى الأمثال «الإبل سفن البر» ، ويؤخذ هذا المثل من القرآن الكريم، قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ

«4» والضمير في قوله: مِنْ مِثْلِهِ

يعود إلى الفلك وهو معنى حسن، والثانى: أنه لا يوجد في الدواب ما يوقر «5» وهو بارك ثم يثور بحمله سوى البعير، قال الله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ

«6» يعنى- والله أعلم- الإبل، فشابه البعير- من هذه الحيثية- السفن؛ لأنها تحمل من الأثقال ما لا يحمله سواها مما أعد للحمل.

وقوله: «ويسمع بأذن واحدة، ويبصر بعين زائدة» .

ص: 268

استعارة لطيفة؛ لأن الناس إذا قحطوا وضجوا «1» بالدعاء نزل الغيث غالبا، فعبر عن نزوله وقت اجتماعهم بالدعاء بالسمع، فكأنه سميع لصحيح الأصوات باختلاف اللغات، وتفنن العبارات، فنزل من أعلى السماوات، والأذن الواحدة إشارة إلى الجهة، فإن نزوله إنما هو من جهة العلو المعبر عنها بالسماء، ولا يرد على هذا أن الماء ينبع من الأرض فإنه لا ماء فيها إلا ما استودعته منه في جوفها مما نزل من السماء.

قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ

«2» ، وكونه يبصر بعين زائدة إشارة إلى ما تقدم تبيانه من ظهور تلك الفواقع التى تشبه مقلة العين، فصار كأنه يبصر بعين هى واحدة في الهيئة لا متعددة الكيفية، يعنى استدارتها، وما ألطفه حين وصف العين بالزيادة، إذ هى حادثة لا أصلية كما يحدث الموج في البحر، فلا هو هو ولا هو غيره، ولأصحابنا من الصوفية هنا كلام لا يليق بهذا المقام ذكره.

وقوله: «له قرن كالنخلة السّحوق» «3» هذا تخيل حسن، فإن الماء في حال نزوله من السماء يرى كحبال ممتدة عبّر عن هيأتها بالقرن «4» من باب الاستعارة يعمى به.

وقوله: «يعجب من أبصره ويروق» ظاهر فإن الماء يعجب من رآه ويروقه.

وقوله: «يصل إلى الغرب بالليل» معنى عويص جدا يحتاج إلى إطالة شرح، وملخصه: أن جميع أنهار الأرض الكبار تنبعث خارجة من جهة المشرق، وتمر في جريانها أمة نحو الغرب، ما عدا أنهار ثلاثة وهى: نيل مصر، وعاصى «5» مدينة حماة، ونهر أيل بأطراف بلاد الترك مما يلى الخطا، فإن هذه الأنهار الثلاثة تخالف

ص: 269

سائر أنهار الأرض، وتخرج من جهة الجنوب وتمر إلى الشمال، ولهذا علل لا يحتمل هذا الموضع إيرادها فاستعار هذا الملغز لمرور مياه الأنهار نحو الغرب، وذكره الليل لا يلزم منه الاختصاص دون النهار، وهذه مسألة من مسائل أصول الفقه، وهى: أن التنصيص على الشىء باسمه العلم لا يدلّ على الخصوص لقوله صلى الله عليه وسلم:

«الماء من الماء» «1» ومعنى الحديث الغسل بالماء من إنزال المنى «2» ، ولا يلزم منه اقتصار الغسل على نزول المنى، بل يلزم منه ومن الإيلاج، وفي هذه المسألة خلاف قديم ولشرحها موضع معروف من كتب الفقه.

وقوله: «ويسجد طول دهره لسهيل «3» » فهذا أعوص مما قبله لكن نبيّنه فنقول: سهيل أحد الكواكب الثابتة التى تعرف بالبيانية «4» ، وهو أبدا لا يرى إلا في ناحية الجنوب، ومتى تركت عراق الغرب وراءك وسرت لا تراه، ويصير بتلك الأقطار الشمالية أبدا الخفاء، كما هو جهات الجنوب أبدى الظهور.

وفي إقليمى مصر والشام يرى محاذيا للأفق أحيانا، ويخفى أوقاتا، والسحب إنما تنشأ من البخار دائما، وهى مركبة من بخارين فتصير عند انتشائها تواجه سهيلا؛ لأن ناحية الجنوب حيث مدار سهيل ليس فيها بخار «5» كما تقرر في موضعه من العلم الطبيعى، ولا يعترض بما يشاهد من بلاد الشام وما وراءها من الشمال والمشرق

ص: 270

من تصاعد الأبخرة في أيام الشتاء من الجبال وقفر «1» الأرض، فنقول وقد نشأ السحاب من هذين أيضا فما دام الأمر كذلك، فإن البخار الناشئ من الأرض إنما يسير بالنسيم إلى بخار البخار وهما يتحدان عند تصاعدهما فيكون منهما السحاب، ولست الآن بصدد الكلام على هذا فله مكان هو أليق به من هنا.

وقوله: «فتقرب به الملوك للخالق» :

تنويه بهذا المعمّى، حيث نصّ على الملوك، فإنهم أعلى طبقات البشر ولأمر ما يسود من يسود، فما من ملك من الملوك إلا وهو إذا أراد الصلاة التى هى أشرف ما تقرب بها العباد إلى ربهم عز وجل، فإنه يرفع أحداثهم بالماء.

وقوله: «ويوحدوه بقول صادق» .

أى: يفردوه فلا يتقربون في تطهيرهم بغيره، ولا يرد على هذا التيمم بالصعيد من التراب وغيره، فإنه بدل لا يصار إليه إلا عند فقد الماء صورة أو معنى.

قوله: «النصارى تتقرب به واليهود» .

قول ظاهر ما أحد منهم إلا وهو يتقرب بالماء في إزالة أحداثه. ولا يرّد على هذا كون النصارى الآن لا تغتسل من جنابة، ولا تتوضأ، بل ولا توجب إزالة شىء من النجاسات العينية بالماء، فإن هذا من بدع ضلالتهم التى ابتدعوها، وليس مما جاء به المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، كما ابتدعوا الصوم، وأحدثوا فيه أسبوعا من الأسبوع يلزم اليعاقبة دون المليكة افتراء على الله، وكما ابتدعوا الرهبانية، وكما ابتدعوا ومنعوا من أكل اللحوم في أيام الصوم، وكما ابتدعوا من بدعهم التى اتبعتها «2» فى حواشى الإنجيل عندما طالعته قديما.

وقوله: «والكتب المنزلة بذلك شهود» كلام صحيح، ففى القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب الأنبياء التى توجد اليوم بأيدى اليهود والنصارى وهى نيف على خمسين كتابا، فى عدة مواضع شاهدة أن الماء يتقرب به، ولولا خوف الإطالة لسردت منها كثيرا، فقبح الله النصارى وجعل عليهم ما يخرج من أسافلهم حيث استدلوا على ترك إزالة النجاسات العينية بقوله في الإنجيل: «ليس

ص: 271

النجس ما يخرج منك، إنما النجس كلمة تخرج من فيك» فإن هذا لا يقتضى ما زعموه، إنما فيه شناعة الكلام الخبيث لا حجة لهم غيرها، وقد بسطت الكلام في حواشى الإنجيل عليها بما لا يرده إلا جاهل أو معاند.

وقوله: «ريشه كثير ووبره غزير» إشارة إلى كونه يتكون عنه ما يلبسه الإنسان من القطن والكتان ونحوهما من الثياب يقال لها: ريش ورياش، وهما قراءتان في قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى

«1» .

فقرأ الجمهور من الناس «وريشا» ، وقرأ الحسن «2» وعاصم «3» وجماعة «ورياش» بألف بعد الياء، وقال الكلبى «4» : لباس التقوى: العفاف «5» .

وقيل في قوله تعالى: أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً

أنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به لباسا، وبهذا يتبين معنى قوله: ووبره غزير.

وقوله: «طعامه الجوز والعسل» :

معناه: من طعامه الذى يتكون في الأرض عقيب ريها منه مما يطعمه الناس الجوز والعسل.

وقوله: «وبه يضرب المثل» يريد: معنى قولهم هو أعذب من الماء، هو أصفى من الماء، هو ألذّ من الماء عند الظمآن، ونحو ذلك، على ما تضمنه «كتاب الأفعال»

ص: 272

لابن القوطية «1» ، وعلى ما هو عند الناس من ضربهم المثل بالماء.

وقوله: «شرابه اللبن والخمر» يعنى: يكون من شرابه اللبن، فإنه يتولد في الحيوان ما يتغذاه، والأغذية كلها من الماء وكلها لا تكون إلا عن الماء، وأما الخمر فالأمر فيه ظاهر.

وقوله: «ونقله الملح والتمر» هو أيضا من هذا الباب كأنه يقول: ومما ينتقل به مما يكون عنه الملح والتمر، وحقيقة الملح ما جمد في أرض خاصة، فاستحال أو أحالته الأرض إلى طبيعتها، كما قد علل هذا في موضعه من العلم الطبيعى، وأما التمر فإنه يتكون أيضا عن الماء ومما ينتقل به أى يوجد أحيانا.

وقوله: «يكره النسوان ويحب الغلمان» فإنه معنى مستغلق بعيد المعنى يحتاج إيضاح؛ لأنه مما لا يعرفه إلا الأقل من القليل، ولولا خشية الظن أنى أتكثر بما لا أعرف لما سمحت به، فإن كثيرا من أصحابنا- غفر الله لهم- يوهم أحدهم أنه يعرف العلم كله، فإذا فضحته شواهد هذا الامتحان تبين أنه لا يعرف شيئا.

فنقول: من الأسرار المعتبرة عند أئمة السحرة أنه إذا نزل المطر والبرد فتجردت امرأة من جميع ثيابها واستلقت على قفاها، ورفعت رجليها وباعدت ما بينهما بحيث يبقى فرجها بارزا نحو السماء، فإن المطر والبرد يرتفع نزوله عن تلك المزرعة والساحة التى بها تلك المرأة، ولا ينزل عليها منه شىء ما دامت المرأة كذلك، وشرط بعضهم أن تكون المرأة حائضا.

وأما حب الغلمان فسر بديع لم أر أحدا يذكرانى به، وهو أيضا من علوم القدماء، وذلك أن العين إذا أرادوا استبطا «2» أو كان ماؤها قليلا وقصدوا غزارته فإنهم يعمدون إلى سبعة غلمان بارعين في الجمال، فائقين في الحسن، مجيدين لضرب العود، عارفين بصناعة الموسيقا، ذوى أصوات مطربة، ثم يقومون صفا واحدا متحاذين وبيد كل واحد منهم عود وقد استقبلوا بوجوههم منبع العين، ويحركون أوتار عيدانهم تحريكا واحدا بإيقاع واحد مدة ثلاث ساعات بطالع

ص: 273

معروف، فإن ذلك الماء يسيح حتى يبل أقدامهم فكلما تأخروا تبعهم حتى يحصل به الغرض، فينصرفوا، فاعتبر ذلك بأن تجلس جماعة على شاطئ سيما وقت المد، ويكون من الجماعة صبى، فإذا تأملت البحر تجده يقذف موجه إلى جهة الصبى أشد ما يقذف به إلى جهة غيره من الجماعة، ولله في خليقته أسرار يبدى منها ما يشاء لمن يشاء سبحانه.

وقوله: «يحمل الأثقال وهو ضعيف» كلام صحيح، فإن السفن تمر فيه وهى موسقة بالأحمال، ومع حملها فهو في نفسه ضعيف، فإنه يؤثر فيه كل شىء ويغير بما يغيره.

«ويقذى «1» الأسد وهو ضعيف» صحيح أيضا، فإن المطر إذا نزل منه قطرة فى عين الأسد صار كأنما في عينه قذاة، وهى القشة ونحوها، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه ينكى الأسد الذى هو أقوى الحيوانات من كونه نحيفا يعنى لطيفا فلا شىء ألطف من الماء حاشا الهوى.

وقوله: «إن طلب أدرك وإن طلب أهلك» بلاغة، فإن الفصيح لا يستعمل هذه الجملة من الكلام إلا في حالة المغالبة كالحرب ونحوها، ففيه تنويه بقدر هذا المعمّى، وأنه لا يغالب، وكذلك هذا الماء من غالبه غلبه وأهلكه، ومن قوته مع لطافته سرعة نفوذه وسريانه في أضيق المسام.

وقوله: «يقطع في الأرض في ساعة بلا مال ولا بضاعة» إشارة إلى سرعة نزول الماء من السماء، وهو ظاهر، ويمكن أن يقال: أراد بالقطع الإبانة، فإن الماء يقطع في الأرض، أى: يجعل فيها أخاديد سيما وقت مسيل الماء في الأودية.

وقوله: «ويسكن القصور» ظاهر إذ ما من قصر إلا وفيه الماء.

وقوله: «ويأوى الليل إلى القبور» تعمية لطيفة، فإن الندى والطل يكون نزولهما ليلا أندى، وما الندى إلا الماء، وما من قبر بارز لا يحول بينه وبين الماء شىء إلا وينزل عليه الندى ليلا، فإذن صدق عليه أنه يأوى إلى القبور.

وقوله: «يبكى على الأحباب ويندب فقد الشباب» :

ص: 274

من المعانى الجيدة، فإنك تقول: بكت السماء: إذا نزل الغيث، ويعدون نزول المطر على رممهم وديارهم التى أقفرت «1» من [ساكنيها]«2» بكاء وندما، وفي أشعارهم وأشعار من بعدهم من هذا كثير يخرجنا عن الغرض إيراده.

وقوله: «ما ملكه قط بشر، ولا حازه أنثى ولا ذكر» .

إشارة إلى أن الماء لا يملك، وذلك ما لا خلاف فيه فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذى لا يملك فقال:«الماء والكلأ» أو قال: «الماء والنار» «3» .

وقوله: «تلعب به الصبيان» كلام بين بنفسه، فمن ذا صبى لا يلعب بالماء، كذلك كنتم من قبل.

وقوله: «تقلى من سعره الأثمان» كلام بين نفسه، وكل أحد يعلم أن الماء حتى عزّ وجوده اشتراه مبتغيه وطلبه بأعلى الأثمان.

روينا عن ابن السماك «4» أنه قال لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، لو منعت عنك شربة من الماء، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكى، قال: فلو شربتها واحتبست فلم تخرج، بكم تشترى خروجها؟ قال: بنصف ملكى الآخر. قال:

فما قدر ملك قيمته بوله، فبكى الرشيد.

وقوله: «تمازجه الإيقاف» وأظنه تصحيف. وقوله: «وما يتلى في سورة ق» يشير إلى قوله: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ

«5» .

وقوله: «يصلى ويصوم» . فصلاته إما دلالته على خالقه سبحانه وتعالى، أو حمل ذلك على ظاهره وهما قولان مشهوران، وقد ثبت بنص كتاب الله أن كل

ص: 275

مخلوق فإنه يسجد لله، قال الله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

«1» .

وكرر هذا في غير موضع. وصيامه في قوله الأول:

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج «2» وأخرى تعلك «3» اللجم

«ويقعد ويقوم» : فقعوده: ركوده في المستنقعات والبرك، وقيامه حال كونه مطرا، وهذا من باب الاستعارة.

وقوله: «خلقته لا تحصى وصفاته لا تستقصى» كلام ظاهر، فمن يحيط بخلقة الماء ويعلمها إلا الخالق تعالى، ومن ذا يستقصى صفاته يعنى منافعه، فكفاك قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ

«4» ففيه أعظم دلالة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفوق كل ذى علم عليم.

هذا ما دل قائد الاختيار عليه، وقام دليل الفكر إليه، فأملاه الجنان على اللسان، وخطه البنان في نصف النهار الأول من يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت من شهر الله المحرم الحرام سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة من غير مراجعة كتاب، ولا تعليق مسودة، فإن كنت أصبت فلله المنة أهل الحمد ومستحقه، وإن أخطأت فعذرى مقبول عند أهل الإنصاف لقصور باعى في العلوم النقلية والعقلية، وقد انتهى ما نقلته من الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، تم.

ص: 276

نحل عبر النحل

ص: 277