الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيوت النّحل
وقد جعل الله تعالى بيوت النّحل ثلاثة أنواع:
إمّا في الجبال وكواها، وإمّا في الخشب المنحوت من الشّجر أو المجوّف منها، وإمّا فيما يعرش الإنسان، أى يهيئ من الخلايا ونحوها لقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي
الآية، فقرأ ابن عامر «1» :«يعرشون» بضم الراء، وقرأ الباقون- بكسرها- إلا عاصما، فإنه اختلف عنهم فروى الوجهان جميعا «2» .
وأصل العرش: السّرير المتخذ للملك، ثم استعير لغيره، فأطلق العرش على البيت، وجمعه: عروش.
وعرش البيت: سقفه، والعرش: الخيمة، والجمع: أعراش وعروش.
وعرش العرش يعرشه- بكسر الراء وضمها- عرشا: عمله، وعرش الرّجل: قوام أمره. وثلّ عرشه: هدم ما هو عليه من قوام أمره «3» .
والعرش: المنزل، وجمعه: عرش. والعرش والعريش: ما يستظل به، وجمعه: عروش.
وعرش البئر والرّكية «4» يعرشها عرشا: طواها من أسفلها بالحجارة، ثم طوى سائرها بالخشب، فالطىّ بالحجارة فقط. والعرش: ما عرشها به من الخشب، وجمعه: عروش. وعرش الكرم: ما دعّم به من الخشب. يقال: عرش الكرم يعرشه عرشا وعروشا: عمل له عرشا. فلا يوجد للنّحل في غير هذه الثلاثة.
وأكثر بيوتها في الجبال، ثم في الأشجار، ثم فيما يعرش الناس، وهى أقل بيوتها، وأباح تعالى للنحل أكل ما شاءت من الأشجار بقوله عزّ من قائل: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا
…
«5» فقوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
المراد:
«بعضها» كقوله تعالى
…
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
…
«1» يريد به «البعض» ؛ والسّبل: الطرق، واحدها: سبيل، وأضافها سبحانه إليه؛ لأنه الذى خلقها وقد أذن النّحل في سلوكها، أى تدخل طرق ربّها لطلب الرّزق في الجبال، وخلال الشّجر.
وذلّل لها الطرق: أى سهّلها، تقول:«سبيل مذلّل» : أى سهل سلوكه، وقد يكون (ذللا) : حالا من النّحل، أى تنقاد، وتذهب حيث شاء صاحبها، وذلك أنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، وتقف موقف يعسوبها، وتسير بمسيرة «2» .
و (ذللا) جمع ذلول وهو المنقاد: أى المطيع.
ثم عدّد تعالى على خلقه ما أنعم به عليهم من العسل الذى يخرج من النّحل، فإن في خروجه منها عبرة، فقال سبحانه:
…
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ
…
يعنى: العسل، فإنه من أفواه النّحل، لدلالة القرآن على أنها ترعى الزّهر، فيستحيل في أجوافها عسلا، ثم تلقيه من أفواهها فيجتمع منه القناطير المقنطرة.
روى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- أنّه قال- وقد حقّر الدنيا:
«أشرف لباسها لعاب دودة، وأشرف شرابها رجيع نحلة» ، وفي رواية:«إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم؛ فأشرف المطعوم: العسل، وهو مذقة ذباب. وأشرف المشروب: الماء، ويستوى فيه البرّ والفاجر. وأشرف الملبوس: الحرير، وهو نسج دودة. وأشرف المركوب: الفرس، وعليها تقاتل الرجال. وأشرف المشمومات: المسك، وهو دم حيوان. وأشرف المنكوحات: فرج المرأة، وهو ميال» «3» فقال قوم: «هذا يدل على خروج العسل من غير أفواه النحل» .
وقال قوم: «لا ندرى أيخرج من أفواهها أو من أسافلها، غير أنّه لا يتم
صلاحه إلّا بحمى أنفاسها» «1» .
وقد صنع بعض قدماء الفلاسفة بيتا من زجاج ليرى كيف تصنع النحلة العسل، وتضعه في بيوته من الشمع، بعد ما أدخلها في البيت؛ فلطّخت النحلة باطن الزّجاج بطين حتى لم يرها.
وقال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها
؛ لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.
ثم عدّد تعالى أنواع العسل الذى أنعم به على عباده، فقال: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ
يعنى من الأحمر، والأبيض، والجامد، والسائل؛ ليتذكروا قدرته سبحانه على الإيجاد والاختراع، فإن الأصل واحد، وما يكون عنه مختلف بسبب وقوع تنوّع غذائه، كما قد اختلف أيضا طعمه بحسب مراعى النّحل. ثم وصف تعالى هذا الخارج من النّحل بصفة شريفة، وهى (الشفاء) الذى أودعه فيه، فقال تعالى:
فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
، والجمهور على أن الضّمير عائد إلى العسل. واحتج من ذهب إلى ذلك، بأن مساق الكلام للعسل، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«صدق الله وكذب بطن أخيك» «2» يريد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:
…
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
…
، وهو العسل؛ وهذا تصريح منه- عليه الصلاة والسلام بأن الضمير في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ
يعود إلى الشراب الذى هو العسل، وهو الصحيح «3» . وبه قال عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس،
والحسن، وقتادة «1» .
وروى عن مجاهد، والضحّاك، والفرّاء «2» ، وابن كيسان «3» أن الضمير عائد على (القرآن) أى:«في القرآن شفاء للناس» ، وهو ضعيف «4» لمخالفته ظاهر القرآن، وصريح حديث المشتكى بطنه.
وقال النحاس «5» : «أى فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس» .
وزعم بعض غلاة الشّيعة: أن هذه الآية يراد بها آل البيت عليهم السلام، وأن الشّراب: القرآن والحكمة، والنّحل المذكور في الآية: هم آل البيت «6» ، ورووا حديثا أن النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال لعلى- رضى الله عنه: «أنت يعسوب المؤمنين، والمال
يعسوب الكفار» «1» ، وفي رواية:«والمال يعسوب الظلمة» «2» ، وفي رواية:
«والمال يعسوب المنافقين» «3» . ومعنى يعسوب المؤمنين: أى كبير المؤمنين الذين يلوذون بك، وإليك ينقادون «4» والكفار والظّلمة والمنافقون إنما يلوذون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها؛ ولذلك قالوا:«علىّ أمير النحل» وقد اختلف في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
هل هو على عمومه، أم لا؟ فذهب قوم إلى أنّه عام في كل حال، ولكل أحد؛ فعن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلّا جعل عليه عسلا، حتى الدمّل إذا خرج به طلى عليه عسلا «5» .
وعن أبى وجرة عوف بن مالك «6» بن أبى عوف الأشجعى أنّه كان يكتحل بالعسل، ويداوى به كلّ سقم. ومرض عوف بن مالك هذا، فقيل له:«ألا نعالجك؟» فقال: «ايتونى بماء» فإن الله تعالى يقول:
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً
«1» ثم قال: «ايتونى بعسل» فإن الله تعالى يقول: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
، وائتونى بزيت، فإن الله تعالى يقول:
…
مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ
…
«2»
فجاءه بذلك فخلطه، ثم شربه فبرئ.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود، قال: قال عبد الله: «عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل» «3» .
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله قال:«العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور» «4» .
وذهب آخرون إلى أنه ليس بعام في كل علّة «5» ، وكلّ إنسان، وإنما هو خبر بأنه يشفى كما يشفى غيره من الأدوية بعض الأمراض، لا كلها. واحتجوا لذلك بأن «شفاء» نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل العربية.
والتحقيق: أنّ من قوى يقينه، وصدق عزمه، لثبات قدمه ورسوخها في التصديق، فإنه يشفى بالعسل في كل جميع الأدواء، ويبرئ به الله على يديه سائر الأمراض، وأما من ضعف يقينه، وكان في شكّ، وتردد بين ما جاء به القرآن، وما ذكره الأطباء، فإنّه موكول إلى ما تعلّق به.
وقد اعترض على من قال بعموم منافع العسل «6» : أنه يضرّ بعض الناس كمن عنده صفراء محترقة، فإنه إذا شرب العسل عظمت مضرّته، أجيب: بأنه قد تقرر
بأن ما من شىء، وإن جلّت منفعته، كالماء «1» الذى منه حياة كل حيوان ونبات، إلا وفيه مضرّة ما، وما من شىء وإن عظمت مضرّته كالأفعى ونحوها إلّا وفيه منفعة، فالحكم للغالب، فما غلبت منفعته مضرته قيل فيه: نافع بإطلاق، وما غلبت مضرته منفعته قيل فيه: ضار بإطلاق.
ولا ريب عند الأطباء وغيرهم في عموم منفعة العسل، والتّداوى به في أكثر الأمراض، ومدحه لا سيما ما ركّب منه: كالسّكنجبين «2» والمعاجين، فإنّ أصلها العسل، ولا يغرنّك ما ألفته من استعمال ما ذكرنا بالسّكر دون العسل، فإنه أمر محدث لا تكاد تجده في كتب قدماء أطباء الإسلام، فضلا عن أطباء اليونان ومن قبلهم، وأنت تعرف صحة ذلك إن كنت ممن تمهّر في الطب.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخو المشتكى بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره صلى الله عليه وسلم بمعاودة شربه، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم:
فاعترض بعض من في قلبه شك بأن الأطباء قد أجمعوا على أن العسل يسهل، فكيف يوصف لمن به إسهال؟، وأجيب بالمنع، فقد نص علماء الطب كمحمد بن زكريا الرازى «3» ، والرئيس أبى على بن سينا «4» ، ومن قبلهما جالينوس «5» فى آخرين، بأن العسل وإن كان يجذب الرّطوبات من قعر البدن، ويليّن الطبيعة، وإن كان الاستعداد من الغذاء في النفود قليلا أطلق. هذا هو التحقيق في ذلك.
فتبين أن العسل ليس بمسهل على كل حال، وأن حكاية الإجماع غير صحيحه، فمن الأطباء من ذلك سوى من ذكرنا. وأجاب بعضهم: بأنّ الإسهال المذكور كان عن امتلاء وهيضة، فناسبه شراب العسل ليخرج ما هنالك منها حتى يذهب
الامتلاء «1» ، وقد أغنانا الله، وله الحمد، بما أنزله في كتابه، وما صحّ من حديث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن أقوال الأطباء التى لا تكاد أدلتها تصحّ، إذ غايتها أن تكون إقناعيّة. هذا لو كان قول الأطباء فيه ما يخالف ذلك، وأما ما كان موافقا فماذا بعد الحق إلّا الضلال.
وأوع سمعك فائدة جليلة، وهى أن الطبّ النبوى جميعه قسمان:
أحدهما: ما كان من عادة العرب العلاج والتّداوى به.
الثانى: ما جاء بوحى إلهى.
فالأول: قسم من أقسام الطب.
والثانى: لا يصح تأثيره إلا مع قوة إيمانية، ويقين صادق، وإلا فلا منفعة له، فإنه إذا اقترن به ما شرطناه، لأنجع دواء، وأسرع شفاء، فطالما استشفى وشفى أهل الله «2» ، وخاصته بآية من القرآن، وبلعقه من عسل، أدواء يعجز عنها حذاق الأطباء
…
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ*.