المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة] - رسائل المقريزي

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة رسائل المقريزي

- ‌تقى الدين المقريزى

- ‌مؤلفاته:

- ‌صفاته وسلوكه:

- ‌وصف المخطوطات:

- ‌[فصل: في اختصاص بني هاشم بالدعوة والنبوة والكتاب على سائرهم من بين قريش]

- ‌[فصل: في بيان السر في خروج الخلافة بعد رسول الله ص عن على بن أبى طالب ع إلى أبى بكر وعمر ثم عثمان]

- ‌[فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة]

- ‌[فصل: اتفق في الخلافة الإسلامية كما اتفق في الملة الموسوية حذو القذاة بالقذاة]

- ‌[فصل: مطابقة السنن الكونية في الأمة الإسلامية لماسبقها من الشعوب والأمم من اليهو والنصارى وغيرهم]

- ‌لباب التوحيد وجوهره:

- ‌«أنواع الشرك الواقع في الأمم» :

- ‌«الإشراك في المحبة» :

- ‌«صرف العبادة إلى غير الله شرك أكبر» :

- ‌«كثرة الأدلة على توحيده تعالى» :

- ‌«الشرك في الربوبية» :

- ‌«شرك القدرية» :

- ‌«النهى عن اتخاذ القبور مساجد» :

- ‌أقسام الناس في زيارة القبور:

- ‌النهى عن السجود لغير الله:

- ‌الشرك في الألفاظ:

- ‌الشرك في الإرادة والنية:

- ‌بطلان الوسائط والشفعاء في التقرب إلى الله:

- ‌أنواع الشرك:

- ‌أنواع التعطيل:

- ‌شرك التشبيه والتمثيل

- ‌حقيقة الشرك:

- ‌صرف العبادات إلى غير الله من التشبيه له بخلقه

- ‌التشبه بالله:

- ‌تحريم التشبه بالله في أفعاله وأسمائه:

- ‌سوء ظن المعتقدين في الوسائط:

- ‌عدم حاجته تعالى إلى الوسائط:

- ‌أصل ضلال أهل البدع والزيغ:

- ‌عبادة غير الله عبادة للشيطان:

- ‌مراتب الناس في عبادة الله:

- ‌القسم الثالث:

- ‌حقيقة الاستعانة:

- ‌القسم الرابع:

- ‌المتابعة والإخلاص شرطان لقبول الأعمال:

- ‌أفضل العبادات وأنفعها:

- ‌من قال: إن الزهد أفضل العبادات:

- ‌أقسام الناس في منفعة العبادة:

- ‌رأى القدرية في الحكمة والتعليل:

- ‌تناقض الجبرية والقدرية:

- ‌الأعمال سبب لدخول الجنة:

- ‌رأى الفلاسفة والمتصوفة في العبادات:

- ‌قول أهل الحق في العبادة:

- ‌محبة الله أصل العبادة:

- ‌تقديم الآراء على نصوص الوحى منافى للمحبة:

- ‌قواعد العبادة:

- ‌فصل في النقود

- ‌النقود الإسلامية

- ‌نقود مصر

- ‌[فصل في تفسير آية التطهير وبيان المراد بأهل البيت في الآية المباركة]

- ‌فصل: الأجسام المتولدة

- ‌فصل في أقسام المعادن

- ‌القول في الفلزات

- ‌القول في الأحجار

- ‌ذكر بلاد الحبشة

- ‌ذكر بلاد الزيلع

- ‌ومملكة أوفات

- ‌ومملكة دوارد

- ‌ومملكة أرابينى

- ‌ومملكة هديّة

- ‌ذكر الدولة القائمة بجهاد النصارى من الحبشة

- ‌«الاستثناء في الإيمان» :

- ‌«رفض الحنفية للاستثناء» :

- ‌«كلام السلف في الاستثناء» :

- ‌[فصل في تعرف النحل وأنواعه وخصائصه]

- ‌[فصل في بيان أصناف النحل]

- ‌فصل في بيان فائدة شمع النحل وخصائصه

- ‌الآفات التى تصيب الخلايا

- ‌[الدّبر: عسله وأنواعه]

- ‌فصل: فى ماهية العسل

- ‌[فوائد العسل]

- ‌فصل في تكريم النحل من خلال تنويه الله تعالى بذكرها في القرآن

- ‌بيوت النّحل

- ‌[فصل في نهي النبي عن قتل أربع من الدواب ومنها النحلة]

- ‌[فصل في سماع النبي ص دوي النحل عند نزول الوحي]

- ‌[فصل اختلف أهل العلم في أكل النّحل]

- ‌[فصل في تسمية البعض بأسماء النحل وتكنيتهم بها والسبب في ذلك]

- ‌[فصل أجود ما قيل في الشمعة]

- ‌الفهارس العامة

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌الأعلام

- ‌فهرس الأحاديث

- ‌فهرس القبائل

- ‌فهرس البلدان

- ‌فهرس النقود والدراهم والموازين

- ‌ثبت بالمراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌[فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة]

من بيته إلى المسجد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، ذكره أبو بطال. وقد جعل جمهور الصحابة رضى الله عنهم استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه فى الصلاة وهو مريض دليلا وإشارة إلى أنه الخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاه لدنيانا؟ «1» .

وثبت في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان عمر رضى الله عنه يدخلنى مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم يدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله، فقال: إنه ممن قد علمتهم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعانى معهم، وما رأيته دعانى يومئذ إلا ليريهم منى، فقال: ما تقولون في إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً

«2» ، حتى ختم السورة؟

فقال: أمرنا أن نحمد ونستغفر إذا جاء نصرنا وفتح علينا.

وقال بعضهم: لا ندرى، ولم يقل بعضهم شيئا. فقال لى: يا ابن عباس، أكذا هو؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه الله له يقول: إذا جاء نصر الله والفتح، فتح مكة، فذلك علامة أجلك، نسبح بحمد ربك ونستغفره، إنه كان توابا.

قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم «3» ، فهذا فهم الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين وهم القدوة وهم الأسوة ووفقنا الله لاتبّاعهم.

[فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة]

(فصل:) إياك والاعتراض على ما تقدم أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة، وأقاموا خلفاء نيفا على خمسمائة وعشرين سنة، فإن الخلافة إنما صارت إليهم بعد ما ضعف أمر الدين، وتخلخلت أركانه، وتداول الناس أمر الأمة بالغلبة، ونقذها حينئذ بنو العباس بأيدى العجم أهل خراسان، ونالوها بالقوة ومناهضة الدول وتناولوا العز كيف كان في وصل أمر الأمة أهل العدالة والطهارة، ولا وليهم ذو الزهادة والعبادة، ولأساسهم أرباب الورع والأمانة، بل استحالت الخلافة كسروية وقيصرية بحيث إن إبراهيم الإمام بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس لما وجّه

ص: 64

أبا مسلم الخراسانى «1» بخراسان ووصّاهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قال له: إنك رجل منا أهل البيت، احفظ وصيتى، انظر هذا الحى من اليمن فأكرمهم واسكن بين ظهورهم فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم وإنهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، اقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتممه فاقتله «2» ، فأين- أعزك الله- هذه الوصية من وصايا الخلفاء الراشدين لعمّالهم، وتالله لو توجه أبو مسلم إلى أرض الحرب ليغزو أهل الشرك، بالله لما جاز أن يوصى بهذا، فكيف؟

وإنما توجه إلى دار السلام وقتال أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب لينزع من أيديهم ما فتحه آباؤهم من أرض الشرك ليتخذ مال الله دولا وعبيده خولا، فعمل أبو مسلم بوصية الإمام حتى غلب على ممالك خراسان وتحطمت عساكره إلى العراق، فيقال: إنه قتل ستمائة ألف «3» إنسان وصار في الناس بالعسف والجبرية لمرسى سيرته، إنه لما قوى أقره وصار في عسكر، ودخل مرو في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائة، واستولى عليها، أراد الغدر بنصر بن سيار «4» ، وقد أنسه وبسطه وضمن له أن يكف عنه ويقوم بشأنه عند الإمام، فبعث إليه لاهز بن قريط وسليمان بن كثير وعمران بن إسماعيل وداود بن كراز، يعلمه أن كتابا أتاه من الإمام يعده فيه ويمنّيه ويضمن له الكرامة، ويقول له: إنى أريد مشافهته وأقرأ كتاب الإمام عليه، يريد بذلك أنه إذا أتاه قبض عليه، فلما أتته الرسل تلا تلاهز قول

ص: 65

الله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ

«1» فتنبه نصر على ما أراد من تحذيره فقال: أنا صائر معكم إلى الأمير أبى مسلم، ودخل بستانا له، كأنه يريد أن يلبس ثيابه ويركب دابته وهرب إلى الرى، وسأل أبو مسلم عنه فأخبره بتلاوة لاهز له الآية فقال: فاضربا عنقه، فضربت عنق لاهز. وكان سليمان بن كثير الخزاعى أحد نقباء الدعوة فقتله أبو مسلم؛ لأنه كره سيرته، وأخذ عنقود عنب، فقال: اللهم سوّد وجه أبى مسلم كما سودت هذا العنقود واسقنى دمه، وقال أيضا: حفرنا نهرا بأيدينا فجاء غيرنا فأجرى فيه الماء- يعنى: أبا مسلم. وقتل زياد بن صالح من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على إقامه العدل وإحياء السنن وهذا جائر ظالم يسير بسير الجبابرة، وكان مخالفا وكان لزياد بلاء حسن في إقامة الدولة، فلم يرع له ذلك فغضب عيسى بن ماهان مولى خزاعة، لقتل زياد، ودعى لحرب أبى مسلم سرا، فاحتال عليه بأن دس على بعض ثقاته بقتله فكتب إليه: إنى رسول أمير المؤمنين- يعنى: السفاح، قد قدم على الأمير بخلع.... «2» وللأولياء قصر إلينا لتشركنا في أمرنا فقدم عليه فأخذه وأدخله جوالق وضربه بالخشب حتى قتل.

وكان أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة القوارى بخراسان وكان صديقا لأبى مسلم يلاعبه الشطرنج ويؤانسه، وكان ذا اقتداء بخراسان، فلما ظهرت الدعوة قدم على أبى مسلم وقال (شعرا) :

قل للأمير أمين الإمام

وصيّ وصيّ وصيّ وصيّ

أتيتك لا طالبا حاجة

وما لي في أرضكم من كفي

وكان أبو مسلم يبّره ويكرمه، ثم أمر بقتله. فقيل له: صديقك وأنيسك، فقال:

رأيته ذا همة وأبهة فقتلته مخافة أن يحدث حدثا، وكان لا يقعد على الأرض إذا قعدت على السرير، ولقد كان على كريما وكنت له محبا فعيّر أبو جعفر المنصور أبا مسلم بقتله فيما عيّره به لما عزم على قتله، وكان أبو مسلم يخدم يونس بن مسلم فابتاعه منه بكير بن ماهان بأربعمائة درهم، وبعث به إلى إبراهيم الإمام، فلما ملك أبو مسلم مرو، قدم عليه ابن عاصم فأكرمه غاية الإكرام، ثم دسّ إليه رجلا

ص: 66

فقال، سله عن حاله عندى ولم أكرمه، فسأله فقال: كنت قهرمانا «1» له ناصحا، فقال أبو مسلم: أبيت إلا كرما، فقال: يا ابن الخنا «2» أردت أن أقول: إنك كنت لى خادما فتقتلنى، فبالله أسلكك لو لم أقلب المعنى ما كنت فاعلا، قال: قد والله كنت قدرت موضع خشيتك، قال: أكان هذا جزائى، قال: ومن جازيناه بجزائه وضعت سيفى فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته. ومثل هذا كثير وما زال يسعى جهده حتى أزال بنى أمية، وأقيم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس الملقب بالسفاح «3» فبعث عمه عبد الله بن على «4» لقتال مروان بن محمد، فقتله وبطش في أهل الشام بطش الجبارين، وصارت من الجور سيرة لم يسرها أحد قبله؛ وذلك أنه لما عزم مروان بالزاب وغلب على بلاد الشام، وقتل أهل دمشق وهدم سورها وسار إلى فلسطين نادى وهو على نهر فطرس في بنى أمية بالأمان واجتمعوا إليه فعجلت الخراسانية إليهم بالعمد فقتلوهم، وقتل عبد الله جماعة منهم ومن أتباعهم، وأمر بنبش قبر معاوية بن أبى سفيان فما وجد منه إلا خطا، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجد منه سلاميات «5» رجله، ووجد من عبد الملك بعض شؤون رأسه، ولم يوجد من الوليد وسليمان بنى عبد الملك إلا رفات، ووجد هشاما صحيحا إلا شيئا من أنفه وشيئا من صدغه «6» ، فضرب عدة سياط «7» وصلب،

ص: 67

ووجدت جمجمة مسلمة بن عبد الملك فاتخذت عرضا حتى تناثرت، ولم يعرض لعمر بن عبد العزيز وجمع ما وجد في القبور فأحرقه، وخطب عبدة بنت عبد الله ابن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، زوجه هشام بن عبد الملك بن مروان، فأبت عليه التزويج فأمر ببقر بطنها وتقتل «1» ، وجعلت حين أتى بها لبقر بطنها تنشد (شعرا) :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

فهذه سيرة عبد الله بن على «2» وولى السفاح ابن أخيه: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على سنة ثلاث وثلاثين ومائة، و [أما] الموصل فدخلها في اثنى عشر ألفا، فأول ما بدأ به أن دعا أهل الموصل فقتل منهم اثنى عشر وجزءا، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فنادى من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون إليه فأقام الرجال على أبواب الجامع، وقتل الناس فيه قتلا ذريعا تجاوز فيه الحد وأسرف فى المقدار فيقال: إنه قتل أحد عشر ألف إنسان ممن له خاتم سوى من ليس في يده خاتم وهم عدد كثير جدا بحيث لم ينج من رجال الموصل مع كثرتهم إلا نحو أربعمائة رجل، صدموا الجند فأخرجوا لهم، فلما كان الليل سمع صراخ النساء اللاتى قتل رجالهن فأمر من الغد بقتلهن، فأقام رجاله ثلاثة أيام يقتلون النساء والصبيان، وكان في عسكره قائد ومعه أربعة آلاف زنجى، فأخذوا النساء قهرا، فلما فرغ إبراهيم من قتل الناس في اليوم الثالث، ركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف مسلولة، فأخذت امرأة بلجام دابته، فأراد أصحابه قتلها، فكفهم عنها، فقالت له: ألست من بنى هاشم، ألست ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما تأنف العربيات المسلمات أن ينكحن الزنوج؟ فلم يجبها وبعث معها من بلّغها مأمنها، ثم

ص: 68

جمع من الغد الزنوج للعطاء وقتلهم عن آخرهم، ثم أمر أن لا يترك في الموصل ديك إلا ذبح ولا كلب إلا عقر، فنفذ ذلك فكانت هذه فعلة لم يسمع بأقبح منها إلا ما كان من السفاح فإن زوجته أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية قالت له: يا أمير المؤمنين لأى شىء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف، فقال لها: وحياتك لا ما أدرى ولم يكن عنده من إنكار هذا الأمر القطب سوى هذا، ولعمرى لقد فاق فرعون في فساده، وأربى عليه في عتوه وعناده، وابن السفاح بما فعله ابن أخيه قد صار يسوء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العذاب أشد وأقبح ما كان فرعون يسوء بنى إسرائيل به، فكيف بها إذا ضمت مع ما حكاه البلاذرى «1» ، قال:

كان أبو العباس السفاح يسمع الغناء، فإذا قال للمغنى: أحسنت، لم ينصرف من عنده إلا بجائزة وكسوة، فقيل له: إن الخلافة جليلة، فلو حجبت عنك من يشاهدك على النبيذ فاحتجبت عنهم، وكانت صلاته قائمة لهم. فأين هذا من الهدى النبوى وسير أئمة الهدى، فما أبعده عن هداهم، ولله درّ القائل:

نزلوا بمكة في قبائل نوفل

ونزلت بالبيداء «2» أبعد منزل

وأما أبو جعفر: عبد الله محمد المنصور «3» فإنه تزيا بنى الأكاسرة، وجعل أبناء فارس رجالا دولتهم كبنى يرمك، وبنى نوبخت «4» وأحدث تقبيل الأرض، وتحجب عن الرعية وترفع عليهم بحيث إن عقال بن شيبة قال له: احمد الله، فقد حزت هدى الخلفاء. فغضب المنصور، وقال: كبرت يا عقال وكبر كلامك. ففطن وقال: أجل، لقد أحزن سهلى واضطرب نقلى، وأنكرت أهلى، ولا أقوم هذا المقام بعد يومى.

فلم يعش المنصور بعد ذلك إلا شهرين وأياما، وحتى أن الربيع حاجبه ضرب

ص: 69

رجلا شمّت «1» المنصور عند العطسة، فلما اشتكى ذلك إلى المنصور قال: أصاب الرجل السنة وأخطأ الأدب. فأين قول أبى جعفر من حديث النبوة الناطقة والإمامة الصادقة؟! والله ما الأدب كله إلا في السنة النبوية، فإنها هى الجامعة للأدب النبوى والأمر الإلهى، لكنه غلب على القوم الجبروت، ودخلت النفرة في أنوفهم، وظهر الخسران بينهم فسموا موائد العجم أدبا وقدموها على السنة التى هى ثمرة النبوة فزادهم ذلك جفاء وقسوة، حتى أن أبا جعفر كان بايع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن «2» على بن أبى طالب ليلة تشاور بنى هاشم فيمن يعقدون له الإمامة، وذلك حين اضطربت بنو أمية، فلما أقيم أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح في الخلافة وعهد بها عند وفاته لأخيه أبى جعفر عبد الله بن محمد المنصور وقام من بعده بالأمر، أهمه أمر محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وألح على أبيهما عبد الله بن الحسن أن يحضرهما إليه لما حج، وكان قد شردهما خوف جوره، ثم حبس عبد الله وعدّه من بنى حسن ومعهم محمد الديباج «3» ابن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت أبى عبد الله الحسين ابن على بن أبى طالب، وجعل القيود والأغلال في أرجلهم، وأركبهم محامل «4» بغير وطاء، وسار بهم كذلك من المدينة النبوية وطنهم ووطن آبائهم حتى قدموا عليه وهو بالربذة «5» ، فأمر بالديباج فانشقت عنه ثيابه وضرب خمسين ومائة سوط،

ص: 70

فأصاب سوط منها في وجهه، فقال: ويحك اكفف عن وجهى فإن له حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المنصور للجلاد: الرأس الرأس فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، فأصاب إحدى عينيه سوط منها، فسالت على خده، ثم قتله، ومضى ببنى حسن إلى الكوفة فسجنهم «1» بقصر ابن هبيرة، وأحضر محمد بن إبراهيم بن حسن وأقامه ثم بنى عليه أسطوانة وهو حى وتركه حتى مات جوعا وعطشا، ثم قتل أكثر من معه من بنى حسن، وكان إبراهيم القمر بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم فيمن حمل مصفدا بالحديد من المدينة إلى الأنبار، فكان يقول لأخويه عبد الله والحسن: أعوذ بالله من مناطهر منايا ما تمنينا ذهاب سلطان بنى أمية، واستبشرنا بسلطان بنى العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال إلى ما نحن عليه، وقد قتل أبو جعفر أيضا إسماعيل الديباج بن إبراهيم القمر ومحمد بن إبراهيم فدفنه حيا، وكان لأبى القاسم الرسى بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج ضيعة بالمدينة يقال لها: الرّس، فلم يسمح له أبو جعفر بالمقام بها حتى طلبه، ففرّ إلى السند وقال (شعرا) :

لم يروه ما أراقا لبقى دمّنا

فى كل أرض ولم يقصر من الطلب

وليس يشفى غليلا في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها أبناء ليت بنى

وكتب صاحب السند إلى أبى جعفر أنه في خان بالمولتين مكتوبا يقول القاسم ابن إبراهيم طباطبا العلوى: انتهيت إلى هذا الموضع بعد أن انتقلت الدم من المشى، وقد قلت شعرا:

عسى منهل يصفو فترى طميه

أطال صداها المشرب المتكدر

عسى جابر العظم الكسير بلطفه

سيرتاح للعظم الكسير فيجبر

عسى صور أسا لها الجرح

سيبعثها عدل يجىء فتظهر

عسى الله لا تيأس من الله إنه

ييأس منه ما يعز ويعسر

فكتب إليه: قد فهمت كتابك وأنا وعلى وأهله كما قيل يحاول إذلال العزيز، لأنه بدأنا بظلم واستمرت مرائره واستحلف ريطة امرأة ابنه محمد المهدى ألا تفتح بيتا عرضه عليها إلا مع المهدى بعد وفاته، ففتحه مع المهدى، فإذا فيه من قتل من

ص: 71

الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وفيهم أطفال، فأمر المهدى فحفرت لهم حفرة ودفنوا فيها.

فأين هذا الجور والفساد عن عدل الشريعة المحمدية وسيرة أئمة الهدى، وأين هذه القسوة الشنيعة مع القرابة القريبة من رحمة النبوة، وتالله ما هذا من الدين في شىء، بل هو من باب قول الله سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ

«1» .

وكان أبو الجهم بن عطية مولى باهلة من أعظم الدعاة قدرا وأعظمهم غنى، وهو الذى أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذى أخفاه فيه أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال «2» وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك، وكان أبو مسلم يثق به ويكاتبه، فلما استخلف أبو جعفر المنصور وجار فى أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناه، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه ودعاه ذات يوم فجلس عنده ثم سقاه شربة من سويق «3» لوز وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور:

إلى أين يا أبا الجهم، قال: إلى حيث أرسلتنى. ومات بعد يوم أو يومين فقال (شعرا) :

أحذر سويق اللوز لا تشربنه

فشرب سويق اللوز أردى أبا الجهم

وأما غدره بأبى مسلم فغير خاف على رواة الأخبار، وكان أشد ما يحقده عليه كتابه إليه: أما بعد، فإنى اتخذت أخاك إماما وكان في قرابته برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحله من العلم على ما كان ثم استخف بالقرآن وحرّفه طمعا في قليل من الدنيا، قد نعاه الله لأهله، ومثلت له ضلالته على صورة العدل فأمرنى أن أجرد السيف

ص: 72

وآخذ بالظنة «1» ، ولا أقبل معذرة وأن أسقم البرىء وأبرئ السقيم، وأثر أهل الدين في دينهم، وأوطأنى في غيركم من أهل بيتكم العتوة «2» بالإفك والعدوان، ثم إن الله بحمده ونعمته استنقذنى بالتوبة وكره إلى الحومة، فإن يعرف فقد عرف ذلك منه، وإن يعاقب فبذنوبى وما الله بظلام للعبيد. فكتب إليه أبو جعفر: قد فهمت كتابك أيها المدّل على أهل بيته بطاعته ونصرته ومحاماته وجميل بلائه، فقال: فلا يريك الله في طاعتنا إلا ما تحب، فراجع أحسن نيتك وعملك ولا يدعونك ما أنكرته إلى التجنى، فإن الغيظ ربما تعدى في العول فأخبر بما لا يعلم والله ولى توفيقك وتسديدك، فأقدم رحمك [الله]«3» مبسوط اليد في أمرنا محكما فيما هويت الحكم فيه، ولا تشمت الأعداء بك وبنا إن شاء الله تعالى «4» . فقدم عليه فقتله.

فانظر- أعزك الله- إلى كتاب أبى مسلم يفصح لك عن سيرة القوم، ولن تجد أخبر بهم منه، ثم انظر إلى كتاب أبى جعفر جوابا له كيف لم ينكر عليه ما رماهم به ولا كذّبه في دعواه، ذلك يحقق عندك صدقه ولا يوحشنك هذا من أخبارهم بل ضمه إلى وصية إبراهيم الإمام تجدهما خرجا من آل واحد، وكان عبد الله بن ذؤابة وهو المقفع «5» قد كتب لعبد الله بن على أمانا حين أجاب أبو جعفر إلى أمانه، فكان فيه: فإن عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، لم يف بما جعل لعبد الله بن على، فقد خلع نفسه والناس في حل وسعة من نقض بيعته، فأنكر أبو جعفر ذلك وأكبره واشتد غيظه على ابن المقفع.

وكتب إلى سفيان بن معاوية «6» عامله على البصرة: اكفنى ابن المقفع. ويقال:

ص: 73

إنه شافهه بذلك عند توديعه إياه، فجاءه ابن المقفع يوما فأدخله حجرة، ثم سجر له تنورا ألقاه فيه وهو يصيح: يا أعوان الظلمة، وقيل: إنه ألقى في بئر وأطبق عليه حجر. وقيل: حماما، فلم يزل فيه حتى مات، وقيل: دقت عنقه وقطّع عضوا عضوا وألقيت أعضاؤه في النار، وهو يراها ويصيح صياحا شديدا، وقيل:

فى بئر النورة في الحمام وأطبق عليه صخرة فمات «1» .

وشكا بنو على بن عبد الله ما صنع سفيان بابن المقفع إلى أبى جعفر المنصور، فأمر بحمل سفيان إليه، فلما جىء به وجاء عيسى بن على وغيره ليشهدوا عليه أن ابن المقفع دخل داره فلم يخرج، وصرفت دوابه، وغلمانه يصرخون وينعونه وجاء عيسى بتاجرين يثبتون الشهادة على قتله، فقال لهم المنصور: أرأيتكم إن أخرجت ابن المقفع إليكم، ماذا تقولون؟ فانكسروا على الشهادة، وكف عيسى عن الطلب بدم ابن المقفع، وكان سديف بن ميمون مولى آل المهلب مائلا إلى أبى جعفر، فلما استخلف وصله بألف دينار، ثم اتصل بمحمد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن حتى قتلا، فاختفى حتى أمنه عبد الله بن على والى المدينة، فلما قدمها أبو جعفر جد فى طلبه حتى ظفر به فجعله في جوالق، وضرب حتى كسر، ثم رمى به في بئر وبه رمق حتى مات.

فهذا وأمثاله من سيرته خلاف سنن الهدى، وكان الفضل بن الربيع يمنع عائد الخليفة أن يسأل عن شىء يقتضى جوابا ويقول: اجعلوا عيادتكم دعاء، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير بالكرامة، وإن أردت السؤال عن حاله فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة، فإن المسألة توجب الجواب، وإن لم يجبك اشتد عليك وإن أجابك اشتد عليه. وكانت الخلفاء إذا عطست شمتت، فعطس هارون «2» الرشيد فشمته، فقال له الفضل: لا تعد، أتكلف أمير المؤمنين ردا وجوابا،

ص: 74

فجروا على ذلك فيما بعد. وهذا المأمون «1» عبد الله بن هارون الرشيد قد أثر في الإسلام أقبح أثر، وهو أنه عرّب كتب الفلسفة حتى كاد بها أهل الزيغ والإلحاد للإسلام وأهله، وحمل مع ذلك الناس كافة على القول بخلق القرآن، وامتحنهم فيه أشد محنة، وأكثر من شراء الأتراك وتغالى في أثمانهم، حتى كان يشترى المملوك منهم بمائتى ألف درهم، وافتدى به أخوه أبو إسحاق المعتصم «2» ، فاشتد على الناس فى امتحانهم بالقول بخلق القرآن، وانتهك أعراضهم وبرح بالضرب الشديد أبشارهم، وأخرج العرب- قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أقام الله بهم دين الإسلام- من الديوان، وأسقط عطاءهم فسقط فلم يفرض لهم بعده عطاء، وأقام بدلهم من الترك «3» ، وخلع لباس العرب وزيهم ولبس التاج وتزيا بزى العجم الذين بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، فزالت به وعلى يديه الدولة العربية، وتحكم منذ عهده وأيام دولته الأتراك الذين أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فغلبوا من بعده على الممالك، وسلطهم على ابنه جعفر المتوكل فقتلوه ثم قتلوا ابنه المستعين وتلاعبوا بدين الله وتغلبوا على الأطراف كلها، وفعل المتوكل جعفر بن المعتصم «4» فى خلافته من الانهماك في الترف المنهى عنه ما يقبح مثله من آحاد الرعية، وجهر بالسوء من القول في أمير المؤمنين على بن أبى طالب «5» رضى الله عنه، حتى قتله الله بيد أعوانه- وهو أنه كتب إلى الآفاق بأن لا يقبل علوى ضيعة ولا يركب فرسا

ص: 75

ولا يسافر إلى طرف من الأطراف، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، ومن كان بينه وبين واحد من الطالبين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه، ولم يطالبه ببينة، وقرئ هذا الكتاب على منبر مصر، فيالله هل سمع في أخبار الجائرين أهل العناد والشقاق بمثل ما أمر به هذا الجائر!! لا جرم أن الله أخذه ولم يمهله فكانت دولته ستة أشهر.

وما زالت أمور الإسلام تتلاشى والدولة تضعف إلى أن انتقل الملك والدولة فى آخر أيام المتقى إبراهيم بن جعفر المقتدر «1» ، وأول أيام خلافة المستكفى عبد الله ابن المكتفى «2» من بنى العباس إلى بنى بويه «3» الديلم، فلم يبق بيد بنى العباس من الخلافة إلا اسمها فقط من غير تصرف في ملك بحيث صار الخليفة منهم في يد الدولة البويهية ثم في الدولة السلجوقية إنما هو كان رئيس الإسلام إلا أنه لا ملك ولا حاكم تتحكم فيه الديلم، ومع الأتراك، منذ استولى معز الدولة أحمد بن بويه ببغداد في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة تحت الحكم إلى أن قتلوا عن آخرهم وسبى حريمهم وهدمت قصورهم، وهلكت رعاياهم على يد عبد الله هولاكو وكانوا هم السبب في ذلك كما قد ذكر في سيرة الناصر أحمد بن المستضىء، وقد ثبت في الصحيح من حديث معاوية رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» «4» .

ص: 76