الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ
الْمُضَارِبُ شَرِيكُ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا سُلِّمَ رَأْسُ الْمَالِ إِلَيْهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
[كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ]
ِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الضَّرْبِ، وَهُوَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] الْآيَةَ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ مُضَارَبَةً ; لِأَنَّ فَائِدَتَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ لَا تَحْصُلُ غَالِبًا إِلَّا بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ مُقَارَضَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُضَارَبَةَ لِمُوَافَقَتِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] أَيْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْآيَةِ وَبِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ مُضَارَبَةً، وَيَشْتَرِطُ عَلَى مُضَارِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَأَنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَجَازَهُ» ، وَبُعِثَ عليه الصلاة والسلام وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنْهُمُ الْغَنِيَّ الْغَبِيَّ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْفَقِيرَ الذَّكِيَّ الْعَارِفَ بِأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِيَّتِهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهَا.
وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ دَفَعْتُ هَذَا الْمَالَ إِلَيْكَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً أَوْ مُعَامَلَةً، أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ فِيهِ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ وَاعْمَلْ بِهَا بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ اسْتِحْسَانًا ; لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ صَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْعَمَلِ، وَالنِّصْفُ مَتَى ذُكِرَ عَقِيبَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يُرَادُ بِهِ النِّصْفُ مِنَ الرِّبْحِ عُرْفًا وَأَنَّهُ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ بِالنِّصْفِ كَانَ مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا عَمَلًا بِالْعُرْفِ.
وَشَرَائِطُهَا خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا بِالنَّقْدَيْنِ. الثَّانِي: إِعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، إِمَّا بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ، وَيَكُونُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمَضَارِبِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: إِعْلَامُ قَدْرِ الرِّبْحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ مِنَ الرِّبْحِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْهُمَا فَسَدَتْ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (الْمُضَارِبُ شَرِيكُ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ) ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ لَا يَكُونُ مُضَارَبَةً عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: (فَإِذَا سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إِلَيْهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ) ; لِأَنَّهُ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ (فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ) ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ
فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا، فَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ (ف) ، وَإِنْ شُرِطَ لِرَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ بِضَاعَةٌ، وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَإِذَا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مَشَاعًا، فَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ فَسَدَتْ، وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمُضَارِبِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ، وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فِيهِ بِأَمْرِهِ (فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا) ; لِأَنَّهُ مَلَكَ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ.
(فَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ) ; لِأَنَّ كُلَّ رِبْحٍ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَمَّا شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَالِ، ثُمَّ قَوْلُهُ مُضَارَبَةً شَرْطٌ لِرَدِّهِ فَيَكُونُ قَرْضًا (وَإِنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ بِضَاعَةٌ) هَذَا مَعْنَاهَا عُرْفًا وَشَرْعًا (وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ) ; لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا مَرَّ (وَإِذَا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا) لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ غَاصِبًا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ.
قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مَشَاعًا، فَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ فَسَدَتْ) لِمَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ، وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ الْجَهَالَةَ فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهَا لِاخْتِلَالِ الْمَقْصُودِ (وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاؤُهُ (وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ) ; لِأَنَّهَا فَسَدَتْ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ، وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَقَدْ سَلَّمَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يَرْبَحَ كَالصَّحِيحَةِ، وَالْمَالُ أَمَانَةٌ كَالصَّحِيحَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ.
قَالَ: (وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ " وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمُضَارِبِ) ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بِالْيَدِ، فَيَجِبُ أَنْ تَخْلُصَ يَدُهُ فِيهِ وَتَنْقَطِعَ عَنْهُ يَدُ رَبِّ الْمَالِ.
قَالَ: (وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ) ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ مَأْمُورٌ بِالتِّجَارَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ كُلُّ مَا هُوَ تِجَارَةٌ أَوْ مَا لَا بُدَّ لِلتِّجَارَةِ مِنْهُ: كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَاقِي مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيدَاعُ؛ وَلِأَنَّهَا دُونَ الْمُضَارَبَةِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ.
قَالَ: (وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَاحْتَاجَ إِلَى التَّنْصِيصِ أَوْ مُطْلَقِ التَّفْوِيضِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْبَلَدَ وَالسِّلْعَةَ وَالْمُعَامِلَ الَذِي عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا بَطَلَتْ بِمُضِيِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لَهُ الْإِقْرَاضُ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْبَلَدَ وَالسِّلْعَةَ وَالْمُعَامِلَ الَّذِي عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: لَا تُسْلِفْ مَالَنَا فِي الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهَا وِكَالَةٌ، وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَيَتَخَصَّصُ، وَلَوْ خَالَفَهُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَرِبْحُهُ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا فَأَخَذَ حُكْمَ الْغَصْبِ، ثُمَّ قِيلَ: يُضَمَّنُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْبَلَدِ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَشْتَرِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ إِلَى الْبَلَدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَإِذَا عَادَ زَالَ الضَّمَانُ وَصَارَ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَالْمُودَعِ إِذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ.
وَالْمُضَارَبَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، فَيَمْلِكُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالْحَطُّ بِالْعَيْبِ وَالِاحْتِيَالُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ التُّجَّارُ غَيْرَ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ وَالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، فَيَجُوزُ لَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقْرَاضُ وَالتَّبَرُّعَاتُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ.
وَالْخَاصَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَخُصَّهُ بِبَلَدٍ فَيَقُولَ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِالْبَصْرَةِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَخُصَّهُ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْ فُلَانٍ وَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ مَعَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَيْدٌ مُفِيدٌ لِجَوَازِ وُثُوقِهِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ.
الثَّالِثُ أَنْ يَخُصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الصَّرْفِ وَنَحْوِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِأَمْرِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهُ ; لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا جَازَ ; لِأَنَّ أَمَاكِنَ الْمِصْرِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي السَّفَرِ وَالنَّقْدِ وَالْأَمْنِ، وَلَوْ قَالَ: لَا تَعْمَلْ إِلَّا فِي سُوقٍ فَعَمِلَ فِي غَيْرِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً فِي الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَهْلِهَا فَاشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا جَازَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَكَانُ عُرْفًا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَهُمْ فَاشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ عُرْفًا. قَالَ:(وَإِنْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا بَطَلَتْ بِمُضِيِّهِ) ; لِأَنَّ التَّوْقِيتَ مُقَيَّدٌ وَهُوَ وَكِيلٌ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا وَقَّتَهُ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْبَلَدِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ فِي الْمَأْذُونِ. قَالَ: (وَلَا يَشْتَرِي مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّهُ يَعْتِقُ
فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهُ، وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ، فَإِنْ رَبِحَ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، فَدَفَعَ إِلَى آخَرَ بِالثُّلُثِ فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَالسُّدُسُ لِلْأَوَّلِ، وَالثُّلُثُ لِلثَّانِي، وَإِنْ دَفَعَ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي بِالنِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلثَّانِي الثُّلُثَيْنِ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَدْرَ السُّدُسِ مِنَ الرِّبْحِ، وَلَوْ قَالَ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَلِي نِصْفُهُ فَمَا شَرَطَهُ لِلثَّانِي فَهُوَ لَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
عَلَيْهِ فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ إِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ (فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهُ) مَعْنَاهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَيُضَمَّنُ الثَّمَنَ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إِذَا خَالَفَ.
قَالَ: (وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ) لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُفْسِدُ الْبَاقِيَ أَوْ يَعْتِقُ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ الثَّمَنَ ; لِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ) لِعَدَمِ الْمَانِعِ (فَإِنْ رَبِحَ عَتَقَ نَصِيبُهُ) ; لِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِالرِّبْحِ لَا بِصُنْعِهِ (وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ صَارَتْ مَحْبُوسَةً عِنْدَهُ فَيَسْعَى كَالْعَبْدِ الْمَوْرُوثِ إِذَا عَتَقَ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ يَسْعَى فِي نَصِيبِ الْبَاقِينَ.
قَالَ: (فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، فَدَفَعَ إِلَى آخَرَ بِالثُّلُثِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَالسُّدُسُ لِلْأَوَّلِ، وَالثُّلُثُ لِلثَّانِي) ; لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ النِّصْفَ بَقِيَ النِّصْفُ لِلْمُضَارِبِ، فَلَمَّا شَرَطَ الثُّلُثَ لِلثَّانِي انْصَرَفَ تَصَرُّفُهُ إِلَى نَصِيبِهِ فَيَبْقَى لَهُ السُّدُسُ وَيُطَيَّبُ لَهُ كَأَجِيرِ الْخَيَّاطِ.
(وَإِنْ دَفَعَ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي بِالنِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَهُ لِلثَّانِي فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ دَفَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلثَّانِي الثُّلُثَيْنِ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَدْرَ السُّدُسِ مِنَ الرِّبْحِ) ; لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِلثَّانِي ثُلْثَيِ الرِّبْحِ، وَبَعْضُهُ وَهُوَ النِّصْفُ مِلْكُهُ وَبَعْضُهُ وَهُوَ السُّدُسُ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً فِي عَقْدٍ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ، وَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ.
(وَلَوْ قَالَ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَلِي نِصْفُهُ، فَمَا شَرَطَهُ لِلثَّانِي فَهُوَ لَهُ) عَمَلًا بِالشَّرْطِ ; لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ (وَالْبَاقِي بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ)
وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ فَدَفَعَهُ الثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ بِالثُّلُثِ فَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلثَّالِثِ الثُّلُثُ، وَلِلثَّانِي السُّدُسُ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا رَزَقَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ; وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: مَا رَبِحْتَ أَوْ كَسَبْتَ أَوْ رُزِقْتَ أَوْ مَا كَانَ لَكَ فِيهِ مِنْ فَضْلٍ أَوْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ إِلَى مَا بَعْدَ مَا شَرَطَ لِلثَّانِي لِمَا بَيَّنَّا.
(وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ فَدَفَعَهُ الثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ بِالثُّلُثِ فَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلثَّالِثِ الثُّلُثُ، وَلِلثَّانِي السُّدُسُ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ) ; لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ النِّصْفَ لِلثَّانِي وَانْصَرَفَ إِلَى نَصِيبِهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ وَالْبَاقِي عَلَى مَا شَرَطَاهُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَإِذَا لَمْ يُؤْذَنُ لِلْمُضَارِبِ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً فَدَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً ضَمِنَ عِنْدَ زُفَرَ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، وَقَالَا: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَا يَتَقَرَّرُ مُضَارَبَةً إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَرْبَحْ لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَمَانَةٌ وَبَعْدَ الْعَمَلِ مُبَاضَعَةٌ وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ فَيُضَمَّنُ كَمَا إِذَا خَلَطَ بِمَالٍ آخَرَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَعِنْدَهُمَا يُضَمَّنُ الثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُ مُودِعِ الْمُودَعِ، وَالْأَشْهُرُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ هَهُنَا فَيُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ الْأَوَّلَ لِمَا بَيَّنَّا وَالثَّانِيَ لِإِبْطَالِهِ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَجِيرٌ فِيهِ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا يَكُونُ شَرِيكًا.
وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى رَجُلَيْنِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَقَالَ: اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا، أَوْ لَمْ يَقُلْ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ لِأَنَّ التِّجَارَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الرَّأْيِ، فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ ضَمِنَ النِّصْفَ، وَإِنْ عَمِلَ بِأَمْرِ الْآخَرِ لَمْ يُضَمَّنْ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ، وَمَا رَبِحَ نِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
1 -
فَصْلٌ وَنَفَقَةُ الْمُضَارِبِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا دَامَ فِي سَفَرِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى مِصْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ إِذَا كَانَ لَا يَبِيتُ بِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَبِيتُ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ، وَكَذَا لَا نَفَقَةَ لَهُ مَا دَامَ فِي مِصْرِهِ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا كَانَ فِي مِصْرِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَبِسًا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَفِي السَّفَرِ يَكُونُ مُحْتَبِسًا فِيهَا، وَإِذَا اتَّخَذَ مِصْرًا آخَرَ دَارًا أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَهُوَ كَمِصْرِهِ، وَنَفَقَتُهُ فِي الْحَاجَةِ الدَّارَّةِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ وَفِرَاشِ النَّوْمِ وَدَابَّةِ الرُّكُوبِ وَعَلَفِهَا وَمَنْ يَطْبُخُ لَهُ وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ، وَتَجِبُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مَعَهُ فِي الْمَالِ.
وَتُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
وَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ: بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ، وَبِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَبِرِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَحَاقِهِ مُرْتَدًّا، وَلَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْمُضَارِبِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَلَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ نَفَذَ، فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ جِنْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى اقْتِضَائِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى اقْتِضَائِهَا، وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ، فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوِ اسْتَدَانَ لِنَفَقَتِهِ رَجَعَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ ضَارَبَ لِرَجُلَيْنِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ بِضَاعَةً فَالْجَمِيعُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ; لِأَنَّ السَّفَرَ وَاقِعٌ لَهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً لَا نَفَقَةَ لِلْمُضَارِبِ ; لِأَنَّهُ أَجِيرٌ وَنَفَقَةُ الْأَجِيرِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ: (وَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ وَبِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَبِرِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَحَاقِهِ مُرْتَدًّا) ; لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا عَلَى مَا عُرِفَ (وَلَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْمُضَارِبِ) ; لِأَنَّ مِلْكَ رَبِّ الْمَالِ بَاقٍ، وَعِبَارَةَ الْمُرْتَدِّ مُعْتَبَرَةٌ.
قَالَ: (وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ) كَالْوَكِيلِ (فَلَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ نَفَذَ) لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ (فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ) ; لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا بِالْعَزْلِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ خِلَافَ جِنْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ جِنْسِهِ) ; لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا عَلِمَ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ إِذَا نَضَّ، وَإِنَّمَا يَنِضُّ بِالْبَيْعِ، فَإِذَا نَضَّ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَمَوْتُ أَحَدِهِمَا وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَالْعَزْلِ.
قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى اقْتِضَائِهَا) ; لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاقِدًا وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وَكَالَتِهِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى اقْتِضَائِهَا) ، لِأَنَّ الرِّبْحَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ فَكَانَ أَجِيرًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْعَمَلِ.
قَالَ: (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ) ; لِأَنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ (فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ) ; لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي الرِّبْحِ حَتَّى يُسْتَوْفَى رَأْسُ الْمَالِ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ إِلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلَاكُ إِلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِرَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ بِالرِّبْحِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَوْ فَسَخَا الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ لَمْ يَتَرَادَّا