الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْوَدِيعَةِ
وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ، وَمَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ نَهَاهُ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الرِّبْحَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُضَارَبَةَ جَدِيدَةٌ، وَالْأُولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَلَوْ مَرَّ الْمُضَارِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا كُرْهًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَكُفَّ عَنْهُ ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْعَاشِرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْعُشْرَ فَصَالَحَهُ الْمُضَارِبُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ ضَمِنَ، وَاللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْوَدِيعَةِ]
ِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ، يُقَالُ: دَعْ هَذَا: أَيِ اتْرُكْهُ ; وَمِنْهُ الْمُوَادَعَةُ فِي الْحَرْبِ ; أَيْ أَنْ يَتْرُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْحَرْبَ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَيُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيُكْتَبُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» أَيْ تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ الْوَدَاعُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتْرُكُ صَاحِبَهُ وَيُفَارِقُهُ، أَوْ هِيَ مِنَ الْحِفْظِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ وَدَاعِ الْمُسَافِرِ:«أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ» ; أَيْ أَسَتَحْفِظُ اللَّهَ: أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ حِفْظَهُمَا، فَكَأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُتْرَكُ عِنْدَ الْمُودَعِ لِلْحِفْظِ، وَلِهَذَا لَا يُودَعُ عَادَةً إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُعْرَفُ بِالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ.
وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَانَةً لَا غَرَامَةً، قَالَ عليه الصلاة والسلام:«لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَيَجِبُ حِفْظُهَا عَلَى الْمُودَعِ إِذَا قَبِلَهَا ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْحِفْظَ بِالْعَقْدِ، وَالْوَدِيعَةُ تَارَةً تَكُونُ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَتَارَةً بِالدَّلَالَةِ، فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ أَوْدَعْتُكَ وَقَوْلُ الْآخَرِ قَبِلْتُ، وَلَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْحِفْظِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الْأَمَانَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِلْغَاصِبِ أَوْدَعْتُكَ الْمَغْصُوبَ بَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ; لَأَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَالِ أَمَانَةُ حُكْمٍ يَلْزَمُ صَاحِبَ الْمَالِ لَا غَيْرُ فَيَثْبُتُ بِهِ وَحْدَهُ ; فَأَمَّا وُجُوبُ الْحِفْظِ فَيَلْزَمُ الْمُودَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ، وَالدَّلَالَةُ إِذَا وَضَعَ عِنْدَهُ مَتَاعًا وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: هَذَا وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ وَسَكَتَ الْآخَرُ صَارَ مُودَعًا حَتَّى لَوْ غَابَ الْمَالِكُ ثُمَّ غَابَ الْآخَرُ فَضَاعَ ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ وَقَبُولٌ عُرْفًا.
قَالَ: (وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ) ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِهَا وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ.
قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ نَهَاهُ) ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَحْفَظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، وَذَلِكَ بِالْحِرْزِ وَالْيَدِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا، وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَمَّا الْحِرْزُ فَدَارُهُ وَمَنْزِلُهُ وَحَانُوتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهُ أَوْ إِجَارَةً أَوْ إِعَارَةً. وَأَمَّا الْيَدُ فَيَدُهُ وَزَوْجَتُهُ وَزَوْجُهَا وَأَمَتُهُ وَعَبْدُهُ وَأَجِيرُهُ الْخَاصُّ وَوَلَدُهُ الْكَبِيرُ إِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الرَّهْنِ ; وَلِأَنَّ الْمُودِعَ رَضِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُودَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لِمَعَاشِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ مَعَهُ فَيَتْرُكُهَا فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ لَوْ قَالَ لَا تَدْفَعْهَا إِلَى شَخْصٍ عَيَّنَهُ مِنْ عِيَالِهِ مِمَّنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ سِوَاهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ يَضْمَنُ ; لِأَنَّ مِنَ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ) ; لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِحِفْظِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْأَمَانَاتِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَا يُضَارِبَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ.
قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى) ; لِأَنَّ الْحِفْظَ تَعَيَّنَ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ; لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
قَالَ: (فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودِعِ عَلَيْهَا.
وَالْخَلْطُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ بِالْبِيضِ، وَالسُّودِ بِالسُّودِ. وَالثَّانِي خَلْطُ الْجِنْسِ بِغَيْرِهِ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِهِمَا. وَالثَّالِثُ خَلْطُ الْمَائِعِ بِجِنْسِهِ ; فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَيَضْمَنُهَا وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُودِعِ عَنْهَا، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً وَمَعْنًى ; وَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمَا إِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ عَيْنِ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْمَعْنَى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَجْعَلُ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: هُوَ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ فِي الرَّضَاعِ، وَخَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ إِذَابَةٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ، وَالْقِسْمَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا، فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُودِعُ الْخَالِطَ بَرِئَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ.
(وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي) فَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَلَوِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ.
وَلَوْ تَعَدَّى فِيهَا بِالرُّكُوبِ أَوِ اللُّبْسِ أَوِ الِاسْتِخْدَامِ أَوْ أَوْدَعَهَا ثُمَّ زَالَ التَّعَدِّي لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَوْدَعَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ (سم) فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ثُمَّ عَادَ اعْتَرَفَ ضَمِنَ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ مَا لَمْ يَنْهَهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَوْ أَوْدَعَا عِنْدَ رَجُلٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ نَصِيبَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْآخَرُ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ: (وَلَوْ تَعَدَّى فِيهَا بِالرُّكُوبِ أَوِ اللُّبْسِ أَوِ الِاسْتِخْدَامِ أَوْ أَوْدَعَهَا ثُمَّ زَالَ التَّعَدِّي لَمْ يَضْمَنْ) لِزَوَالِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَيَدُ الْأَمَانَةِ بَاقِيَةٌ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، لَكِنِ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ ثُمَّ زَالَ الْمُنَافِي فَعَادَ حُكْمُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
(وَلَوْ أَوْدَعَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ) خَاصَّةً. وَقَالَا: يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَالَفَ لِمَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِيَ تَعَدَّى حَيْثُ قَبَضَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي ; لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا فَيَكُونُ مُودَعًا مِلْكَهُ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَحِقَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّفْرِيطَ إِنَّمَا جَرَى مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ وَالْأَوَّلُ حَاضِرٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا غَابَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ فَيَضْمَنُ وَالثَّانِي لَمْ يَتْرُكْ.
قَالَ: (فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ثُمَّ عَادَ اعْتَرَفَ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ بِالطَّلَبِ ارْتَفَعَ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَصَارَ غَاصِبًا بَعْدَهُ، وَبِالِاعْتِرَافِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدِ الرَّدُّ إِلَى نَائِبِ الْمَالِكِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُخَالَفَةِ ثُمَّ الْمُوَافَقَةِ ; لِأَنَّ يَدَ الْوَدِيعَةِ لَمْ تَرْتَفِعْ فَوَجَدَ الرَّدَّ إِلَى يَدِ النَّائِبِ، وَلَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنُ. وَقَالَ زُفَرُ: يَضْمَنُ لِأَنَّهُ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْأَطْمَاعِ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِمَّنْ جَحَدَهَا عِنْدَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إِذَا جَحَدَهَا عِنْدَ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَحَدَهَا ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهَا دَعْهَا وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَهَلَكَتْ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهَا فَلَمْ يَأْخُذْهَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ أَخَذَهَا ثُمَّ أَوْدَعَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الرَّدُّ.
قَالَ: (وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ مَا لَمْ يَنْهَهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ، وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ وَالْأَبُ، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فِي الْبَحْرِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْعَطَبُ.
وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرِّضَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مَئُونَةِ الْحَمْلِ. قُلْنَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ضَرُورَةَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
قَالَ: (وَلَوْ أَوْدَعَا عِنْدَ رَجُلٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ نَصِيبَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْآخَرُ) وَقَالَا: يَدْفَعُ إِلَيْهِ نَصِيبَهُ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ عِنْدَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ
فَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْكُلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ، وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ وَحَفِظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسَمُ حَفِظَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ، وَلَوْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الدَّارِ ضَمِنَ، وَلَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى دَارِ مَالِكِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ ضَمِنَ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
حَتَّى كَانَ لَهُ أَخْذُهُ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَهُ أَنَّ نَصِيبَهُ فِي الْمَشَاعِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الدَّفْعَ يَقَعُ فِي الْمُعَيَّنِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَشَاعِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ الدَّفْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَلِرَبِّ الدَّيْنِ أَخْذُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُودِعِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ الْمَدْيُونُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِمَا عُرِفَ، وَلَا اعْتِبَارَ بِضَرَرِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بِصُنْعِهِ حَيْثُ أَوْدَعَهُ مَشَاعًا، وَغَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْخِلَافَ مُطْلَقًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَغَابَ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَخْذُ نَصِيبِهِ فَمِنَ الْمُودَعِ أَوْلَى.
قَالَ: (فَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْكُلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ) ; لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الدَّفْعِ وَتَجَاحَدَا فِي الْإِذْنِ فَيُضَمَّنُ بِالدَّفْعِ إِلَّا بِحُجَّةٍ.
قَالَ: (وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ وَحَفِظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسَمُ حَفِظَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ) وَقَالَا: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَهُ بِأَمْرِ الْآخَرِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْآخَرِ كَالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَهُ أَنَّ الدَّافِعَ أَوْدَعَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُودِعِ فَيُضَمَّنُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ رَضِيَ بِأَمَانَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ ; لِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ كَالتَّمْلِيكَاتِ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي وَعَدَمِ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهَا وَلَا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهَا دَائِمًا كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ دَلَالَةً، وَعَلَى هَذَا الْوَكِيلَانِ وَالْوَصِيَّانِ وَالْمُرْتَهِنَانِ وَالْعَدْلَانِ فِي الرَّهْنِ وَالْمُسْتَبْضِعَانِ.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ) لِعَدَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْحِرْزِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَارًا كَبِيرَةً مُتَبَاعِدَةَ الْأَطْرَافِ وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ عَوْرَةٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ.
قَالَ: (وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الدَّارِ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ الدُّورَ تَخْتَلِفُ فِي الْحِرْزِ فَكَانَ مُفِيدًا.
قَالَ: (وَلَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى دَارِ مَالِكِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا رَضِيَ بِدَفْعِهَا إِلَى دَارِهِ وَلَا إِلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ ظَاهِرًا إِذْ لَوْ رَضِيَ بِهِمْ لَمَا أَوْدَعَهَا، وَلَوْ وَضَعَ الثِّيَابَ فِي الْحَمَّامِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا