الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3659 -
والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن محمد بن عبيد الله، عن أبيه. وقال: ذكر البخاري في التاريخ، عن محمد بن عبد الله، عن أبيه.
3660 -
وعن أبي موسى، أنه كان يقول: ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية دون الله. رواه النسائي.
كتاب الإمارة والقضاء
الفصل الأول
3661 -
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصإني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصإني؛ وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه)). متفق عليه.
ــ
شارب الخمر بربه تعالي بعد الموت مشابها بلقاء عابد الوثن الله تعالي، وليس كذلك، فهو من الشرط الذي يورده الواثق بأمره المدل بحجته.
الحديث التاسع عن أبي موسى: قوله: ((ما أبالي)) أي ما أبالي في تسويتي بين هذين الأمرين، وجعلهما منخرطين في سلك واحد مبالغة، وهو أبلغ مما مر في الحديث السابق من قوله:((لقي الله تعالي كعابد وثن)) لتصريح أداة التشبيه فيه وخلوه عنه هنا، و ((دون الله)) حال مؤكدة أي عبدتها متجاوزاً عن الله تعالي والله أعلم بالصواب.
كتاب الإمارة والقضاء
المغرب: الإمارة الإمرة وقد أمره إذا جعله أميراً.
الفصل الأول
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومن يطع الأمير فقد أطاعني)) ((خط)): كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة، ولا يدينون لغير رؤساء قبائلهم، فلما كان الإسلام وولي عليهم الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، وإنما قال لهم صلى الله عليه وسلم هذا القول؛ ليعلمهم أن طاعتهم مربوطة بطاعته، وليطاوعوا الأمراء الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يوليهم فلا يستعصوا عليهم.
قوله: ((ويتقى به)) بيان لقوله: ((يقاتل من ورائه)) والبيان مع المبين تفسير لقوله: ((وإنما الإمام جنة)) ((مح)): أي هو كالساتر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. ومعنى ((يقاتل من ورائه)) أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج، وسائر أهل الفساد وينصر عليهم. قوله:((وإن قال بغيره))
3662 -
وعن أم الحصين، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا)). رواه مسلم.
3663 -
وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) رواه البخاري.
ــ
((حس)): أي حكم، يقال:((قال الرجل)) إذا حكم، ومنه القيل وهو الملك الذي ينفذ قوله وحكمه. ((تو)):((قال بغيره)) أي أحبه وأخذ به إيثاراً له وميلاً إليه، وذلك مثل قولك: فلان يقول بالقدر ونحو ذلك، فالمعنى أنه يحبه ويؤثره. ((قض)):((قال بغيره)) أي أمر بما ليس فيه تقوى ولا عدل، بدليل أنه جعل قسيم ((فإن أمر بتقوى الله وعدل))، ويحتمل أن يكون المراد به القول المطلق أو أعم منه، وهو ما يراه ويؤثره من قولهم: فلان يقول بالقدر، أي إن رأي غير ذلك وآثره قولا كان أو فعلا؛ ليكون مقابلا لقسيمه بقطريه، وسد الطرق المخالفة المؤدية إلي هيج الفتن. قوله:((فإن عليه منه)) [كذا وجدنا ((منه)) بحرف الجر في الصحيحين وكتاب الحميدي وجامع الأصول ((تو)): ((منه)) أي عليه وزر من صنيعه ذلك، وقد وجدناه في أكثر نسخ المصابيح ((فإن عليه منة)). بتشديد النون مع ضم الميم وبتاء التإنيث آخره – علي أنها كلمة واحدة وهو تصحيف غير محتمل لوجه هاهنا، وإنما هو حرف الجر مع الضمير المتصل به. ((قض)): ((فإن عليه منه))] أي وزراً وثقلا، وهو في الأصل مشترك بين القوة والضعف.
أقول: قوله: ((فإن أمر بتقوى الله)) إلي آخره مرتب علي قوله: ((ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصإني)) وقوله: ((وإنما الإمام – إلي قوله – ويتقي به)) معترض بينما لتأكيد الأمر بطاعته سواء كان عادلا أو لم يكن؛ إيذاناً بأنه مفترض الطاعة لتلك الفوائد المذكورة. ((مح)): فيه حث علي السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم.
الحديث الثاني عن أم حصين: قوله: ((مجدع)) ((قض)): المجدع المقطوع الأنف، ((يقودكم)) يسوقكم بالأمر والنهي علي ما هو مقتضى كتاب الله وحكمه. وهذا وأمثال ذلك حث علي المداراة والموافقة والتحرز عما يثير الفتن، ويؤدي إلي اختلاف الكلمة.
الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وإن استعمل عليكم)) ((شف)): قيل: معناه وإن استعمله الإمام الأعظم علي القوم؛ لأن العبد الحبشي لا يكون هو الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش، وقيل: المراد به الإمام الأعظم علي سبيل الفرض والتقدير، وهو مبالغة في الأمر بطاعته والنهي عن شقاقه ومخالفته. ((خط)): قد يضرب المثل بما لا يكاد يصح في الوجود.
قوله: ((كأن رأسه زبيبة)) صفة أخرى لعبد أي يشبه رأسه بالزبيبة؛ إما لصغره وإما لأن شعر رأسه [مقططا] كالزبيبة تحقيراً لشأنه. ((شف)): أي اسمعوه وأطيعوه وإن كان حقيراً.
3664 -
وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السمع والطاعة علي المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). متفق عليه.
3665 -
وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة في معصية؛ إنما الطاعة في المعروف)). متفق عليه.
3666 -
وعن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلي أثرة علينا، وعلي أن لا ننازع الأمر أهله، وعلي أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية: وعلي أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. متفق عليه.
ــ
الحديث الرابع عن ابن عمر، قوله:((السمع والطاعة)) ((مظ)): يعني سماع كلام الحاكم وطاعته واجب علي كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط ألا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا تجوز طاعته، ولكن لا يجوز له محاربة الإمام.
الحديث الخامس والسادس عن عبادة: قوله: ((بايعنا)) عداه بعلي لتضمنه معنى عاهد، و ((علي)) في قوله:((علي أثرة)) ليست بصلة المبايعة، بل هي متعلقة بمقدر، أي بايعناه علي أن نصبر علي أثرة علينا.
قوله: ((وعلي أثرة علينا)) ((نه)): الأثرة – بفتح الهمزة والثاء – اسم من الإيثار، أي يستأثر عليكم فيفضل غيركم في إعطاء نصيبه من الفيء. ((مح)): الأثرة الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم. وقوله:((وعلي أن لا ننازع الأمر أهله)) كالبيان والتقرير للسابق؛ لأن معنى عدم المنازعة هو الصبر علي الأثرة. قوله: ((لا نخاف في الله لومة لائم)) إما حال من فاعل ((نقول)) أي غير خائفين أو استئناف.
قوله: ((إلا أن تروا)) حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرائن السابقة معنى ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم.
((قض)): أي عاهدناه بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء، وتارتي الضراء والسراء. وإنما عبر عن بصيغة المفاعلة للمبالغة أو للإيذان بأنه التزم لهم أيضاً بالأجر والثواب، والشفاعة يوم الحساب علي القيام بما التزموا. ((المنشط والمكره)) مفعلان من النشاط والكراهة
3667 -
وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي السمع والطاعة يقول لنا: ((فيما استطعتم)) متفق عليه.
3668 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت الامات ميتة جاهلية)) متفق عليه.
ــ
للمحل، أي فيما فيه نشاطهم وكراهتهم، أو الزمان أي في زمإني انشراح صدورهم وطيب قلوبهم وما يضاد ذلك.
قوله: ((كفراً بواحاً)) ((مح)): بواحاً بالواو في أكثر النسخ، وفي بعضها بالراء، يقال: باح الشيء إذا ظهر بواحا وبووحاً، والبواح صفة لمصدر محذوف تقديره أمراً بواحاً، وبراحاً بمعناه من الأرض البراح وهي الأرض البارزة. والمراد بالكفر هنا المعاصي، والمعنى لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتكم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقوموا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وتنازعهم فمحرم بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين.
وأجمع أهل السنة علي أن السلطان لا ينعزل بالفسق؛ لتهيج الفتن في عزله وإراقة الدماء وتفرق ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه، ولا تنعقد إمامة الفاسق ابتداء. وأجمعوا علي أن الإمامة لا تنعقد لكافر ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها، وكذا البدعة.
قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير في الشرع أو بدعة سقطت طاعته، ووجب علي المسلمين خلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك. ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، وإلا فيهاجر المسلم عن أرضه إلي غيرها ويفر بدينه.
وقوله: ((برهان)) مبتدأ و ((عندكم)) خبره و ((من الله)) متعلق بالظرف أو حال من المستتر في الظرف، أي برهان حاصل عندكم كائناً من الله، أي من دين الله. ((مح)): أي نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر في كل زمان ومكان الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحداً ولا نخافه ولا نلتفت إلي الأئمة.
الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((ما استطعتم)) ((مح)): في جميع نسخ مسلم ((فيما استطعت)) علي التكلم أي: قل: فيما استطعت تلقيناً لهم، وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته يلقنهم أن يقول أحدهم فيما استطعت؛ لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقه.
3669 -
وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات؛ مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية، فقتل؛ فقتلة جاهلية ومن خرج علي أمتي بسيفه، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني ولست منه)). رواه مسلم.
3670 -
وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم
ــ
الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة: قوله: ((ميتة جاهلية)) الميتة والقتلة بالكسر. الحالة التي يكون عليها الإنسان من الموت أو القتل، والمعنى أن من خرج عن طاعة الإمام وفارق جماعة الإسلام، وشذ عنهم وخالف إجماعهم ومات علي ذلك، فمات علي هيئة كان يموت عليها أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا لا يرجعون إلي طاعة أمير ولا يتبعون هدى إمام، بل كانوا مستنكفين عنها مستبدين في الأمور، لا يجتمعون في شيء ولا يتفقون علي رأي.
قوله: ((تحت راية عمية)) ((مح)): عمية بكسر العين وضمها، وكسر الميم وتشديدها وتشديد الياء لغتان مشهورتان وهي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قال أحمد بن حنبل والجمهور. وفي الغريبين قال إسحاق: هذا في تخارج القوم وقتل بعضهم بعضاً، وكان أصله من التعمية وهي التلبيس، ومعناه يقاتل بغير بصيرة وعلم تعصبياً كقتال الجاهلية، ولا يعرف المحق من المبطل، وإنما يغضب لعصبية لا لنصرة الدين، والعصبية إعانة قومه علي الظلم. أقول: قوله: ((تحت راية عمية)) كناية عن جماعة مجتمعين علي أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل، فيدعون الناس إليه ويقاتلون له.
وقوله: ((يغضب لعصبية)) حال إما مؤكدة إذا ذهب إلي أن هذا الأمر في نفسه باطل أو منتقلة إذا فرض أنهم علي الحق. وفيه أن من قاتل تعصباً لا لإظهار دينه ولا لإعلاء كلمة الله، وإن كان المغضوب له محقاً كان علي الباطل. وقوله:((فقتلة)) خبر مبتدأ محذوف والجملة مع الفاء جواب الشرط. وقوله: ((بسيفه)) يجوز أن يكون حالا أي خرج مشاهراً بسيفه، و ((يضرب)) حال متداخلة. ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله:((يضرب)) والجملة حال والتقديم للاهتمام وإظهار الحرص علي الأذى، ((ولا يتحاشى)) أي ولا يكترث بما يفعله، ولا يخاف وباله وعقوبته، والمراد بالأمة أمة الدعوة، فقوله:((برها وفاجرها)) يشتمل علي المؤمن والمعاهد والذمي. وقوله: ((ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده)) كالتفصيل له.
الحديث العاشر عن عوف: قوله: ((وتصلون عليهم)) ((شف)): الصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي تدعون لهم ويدعون لكم، يدل عليه قوله:((تلعنونهم ويلعنونكم)) وكذا في شرح مسلم. ((مظ)):
الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: ((لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)) رواه مسلم.
3671 -
وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ. ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)). قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ((لا؛ ما صلوا، لا؛ ما صلوا)) أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه. رواه مسلم.
ــ
أي يصلون عليكم إذا متم وتصلون عليهم إذا ماتوا عن الطوع والرغبة. أقول: ولعل هذا الوجه أولي أي تحبونهم ويحبونكم ما دمتم في قيد الحياة، فإذا جاء الموت يترحم بعضكم علي بعض ويذكر صاحبه بخير.
قوله: ((ما أقاموا فيكم الصلاة)) فيه إشعار بتعظيم أمر الصلاة وأن تركها موجب لنزع اليد من الطاعة، كالكفر علي ما سبق في حديث عبادة بن الصامت في قوله:((إلا أن تروا كفراً بواحاً)) الحديث، ولذلك كرره.
الحديث الحادي عشر عن أم سلمة: قوله: ((تعرفون وتنكرون)) ((قض)): تعرفون وتنكرون صفتان ((لأمراء)) والراجع فيهما محذوف، أي تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضها. يريد أن أفعالهم تكون بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، فمن قدر أن ينكر عليهم قبائح أفعالهم وسماجة حالهم وأنكر، فقد برئ من المداهنة والنفاق، ومن لم يقدر علي ذلك ولكن أنكر بقلبه وكره ذلك، فقد سلم من مشاركتهم في الوزر والوبال، ولكن من رضي بفعلهم بالقلب وتابعهم في العمل فهو الذي شاركهم في العصيان، واندرج معهم تحت اسم الطغيان. وحذف الخبر في قوله ((من رضي)) لدلالة الحال، وسياق الكلام علي أن حكم هذا القسم ضد ما أثبته لقسيميه، وإنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عماد الدين وعنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان حذراً من هيج الفتن واختلاف الكلمة، وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نكرهم، والمصابرة علي ما ينكرون منهم.
قوله: ((من كره بقلبه وأنكر بقلبه)) ((مظ)): هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهة بالقلب ولو كان كلاهما بالقلب لكانا منكرين؛ لأنه لا فرق بينهما بالنسبة إلي القلب. وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية:((من أنكر بلسانه فقد برئ، ومن أنكر بقلبه فقد سلم)).
3672 -
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون بعدي أثرة، وأموراً تنكرونها)) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: ((أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم)) متفق عليه.
3673 -
وعن وائل بن حجر، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما
ــ
أقول: وهذا التعليل غير مستقيم، وأول شي يدفعه ما في الحديث من قوله:((تنكرون)) لأن هذا الإنكار ليس إلا بالقلب لوقوعه قسيما لـ ((تعرفون))، ومعناه علي ما قال الشيخ التوربشتي والقاضي: أي ترون منهم من حسن السيرة ما تعرفون، وترون من سوء السريرة ما تنكرون أي تجهلونه؛ فإن المعروف ما يعرف بالشرع حسنه، والمنكر عكسه؛ ولأن قوله:((فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم)) تفصيل لـ ((تنكرون)) بشهادة الفاء في ((فمن أنكر)) ولن يكون المفصل مخالفاً للمجمل، ومعناه فمن أنكر ما لا يعرف حسنه في الشرع فقد برئ من النفاق، ومن لم ينكره حق الإنكار بل كرهه بقلبه فقد سلم، ولا بد لمن أنكره بقلبه حق الإنكار، أن يظهره بالمكافحة بلسانه بل يجاهده بيده وجميع جوارحه. وإذا قيد الإنكار بقلبه أفاد هذا المعنى، وإذا خص بلسانه لم يفده، ويدل علي أن الإنكار إذا لم يكن كما ينبغي سمي بالكراهة.
قول الشيخ التوربشتي: ومن كره ذلك بقلبه ومنعه الضعف عن إظهار ما يضمر من النكر فقد سلم. وحاشى لمكانة إمام أئمة الدنيا – أعني مسلما – أن يخرج من فيه كلام غير مستقيم لاسيما في تفسير الكلام النبوي، والرواية التي استدل بها المظهر في شرح السنة كذا، ويروي ((فمن أنكر بلسانه فقد برئ ومن كره بقلبه فقد سلم)) ولفظة ((يروى)) ونحوها إنما يستعمله أهل الحديث فيما ليس بقوي.
((مح)): في هذا الحديث معجزة ظاهرة لما أخبر به عن المستقبل، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وفيه أن من عجز عن إزالة المنكر وسكت لا يأثم إذا لم يرض به. وقوله:((ومن كره فقد سلم)) هذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولسانه، فليكرهه بقلبه ويسلم. والله أعلم.
الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أثرة)) أي سترون ما يستأثر به من أمور الدنيا فيفضل غيركم عليكم بلا استحقاق في الفيء. والمراد بالأمور أشياء أخر لا تستحسنونها. وسلوا الله حقكم أي لا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم، ولا تقاتلوهم لاستيفاء حقكم، بل وفروا إليهم حقهم من السمع والطاعة وحقوق الدين. واسألوا الله من فضله أن يوصل إليكم حقكم من الغنيمة والفيء ونحوهما، وكلوا إليه أمركم.
تأمرنا؟ قال: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)). رواه مسلم.
3674 -
وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يداً من طاعة؛ لقي الله يوم القيامة ولا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة؛ مات ميتة جاهلية)). رواه مسلم.
3675 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، فيكثرون)). قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((فوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) متفق عليه.
ــ
الحديث الثالث عشر عن وائل: قوله: ((فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) قدم الجار والمجرور علي عامله للاختصاص، أي ليس علي الأمراء إلا ما حمله الله عليهم من العدل والتسوية، فإذا لم يقيموا بذلك فعليهم الوزر والوبال، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة وأداء الحقوق، فإذا قمتم بما عليكم فالله تعالي يتفضل عليكم ويثيبكم به. وقوله:((يسألونا)) صفة ((أمراء)) وجزاء الشرط. قوله: ((فما تأمرنا)) علي تأويل الإعلام.
الحديث الرابع عشر عن عبد الله بن عمر: قوله: ((من طاعة)) أي طاعة كانت قليلة أو كثيرة. ولما كان وضع اليد كناية عن العهد وإنشاء البيعة لجري العادة علي وضع اليد علي اليد حال العاهدة، كنى عن النقض بخلع اليد ونزعها، يريد من نقض العهد وخلع نفسه عن بيعة الإمام، لقي الله تعالي آثماً لا عذر له.
الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تسوسهم)) أي تتولي أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية. والسياسية القيام علي الشيء بما يصلحه، وهو خبر كان، و ((كلما هلك)) إلي آخره حال من فاعله أي الأنبياء تترى تابع بعضهم بعضاً. وقوله:((وإنه لا نبي بعدي)) معطوف علي ((كانت بنو إسرائيل)) واسم ((إن)) ضمير الشأن، وإنما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني. يعني قصة بني إسرائيل كيت وكيت، وقصتنا كيت وكيت. والفاء في ((فما تأمرنا)) جواب شرط محذوف، أي إذا كثر بعدك الخلفاء فوقع التشاجر والتنازع بينهم فما تأمرنا نفعل.
والفاء في قوله: ((فالأول)) للتعقيب والتكرير للاستمرار، ولم يرد به في زمان واحد بل
3676 -
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما)). رواه مسلم.
3677 -
وعن عرفجة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف كائناً من كان)) رواه مسلم.
ــ
الحكم هذا عند تجدد كل زمان وتجدد بيعة. وقوله: ((أعطوهم حقهم)) كالبدل من قوله: ((فوا بيعة الأول)). وقوله: ((فإن الله سائلهم)) تعليل للأمر بإعطاء حقهم. وفيه اختصار أي فأعطوهم حقهم وإن لم يعطوكم حقكم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ويثيبكم بما لكم عليهم من الحق؛ لقوله في الحديث السابق: ((أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم)). وقوله: ((عما استرعاهم)) استرعيته الشيء فرعاه، وفي المثل: من استرعى الذئب فقد ظلم، والراعي الوالي، والرعية العامة.
الحديث السادس عشر عن أبي سعيد: قوله: ((فاقتلوا الآخر)) ((قض)): قيل: أراد بالقتل المقاتلة؛ لأنها تؤدي إليه من حيث أنه غايتها. وقيل: أراد إبطال بيعته وتوهين أمره من قولهم: قتلت الشراب إذا مزجته وكسرت ثورته بالماء.
ومنه قول حسبان رضي الله عنه:
إن التي ناولتني فرددتها قتلت قلت فهاتها لم تقتل
أقول: الأول من الوجهين يستدعي الثاني؛ لأن الآخر منهما خارج علي الأول باغ عليه فتجب المقاتلة معه حتى يفيء إلي أمر الله وإلا قتل، فهو مجاز باعتبار ما يؤول للحث علي دفعة وإبطال بيعته وتوهين أمره. ((مح)): قاتل أهل البغي غير ناقض عهده لهم إن عهد؛ لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربته.
واتفقوا علي أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا. قال إمام الحرمين في كتاب الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها للاثنين في صقع واحد، وإن بعد ما بينهما وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج من القواطع، وحكي المازري هذا. قال الشيخ محيي الدين: هو قول غير سديد مخالف لما عليه السلف والخلف، والظاهر إطلاق الحديث.
الحديث السابع عشر والثامن عشر عن عرفجة: قوله: ((هنات وهنات)) ((نه)): أي شرور وفساد، يقال: في فلان هنات أي خصال شر، ولا يقال في الخير، وواحدها هنة، وقد يجمع علي هنوات، وقيل: واحدها هت تإنيث هن، وهو كناية عن كل اسم جنس لا تريد أن تصرح به لشناعته.
3678 -
وعنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع علي رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه)) رواه مسلم.
3679 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر)) رواه مسلم.
3680 -
وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) متفق عليه.
ــ
قوله: ((كائناً من كان)) حال فيه معنى الشرط، أي ادفعوا من خرج علي الإمام بالسيف، وإن كان أشرف وأعلم، وترون أنه أحق وأولي، هذا المعنى أظهر في لفظة ((ما)) كما في المتن؛ لأنه مجرى حينئذ علي صفة ذوي العلم، كما في قوله تعالي:{ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا} أي عظيم القدرة علي الشأن.
الحديث الثامن عشر عن عرفجة: قوله: ((أن يشق عصاكم)) ((نه)): يقال: شق العصا أي فارق الجماعة. أقول: هذا تمثيل شبه اجتماع الناس واتفاقهم علي أمر واحد بالعصا إذا لم تشق، وافتراقهم من ذلك الأمر بشق العصا، ثم كنى به عنه فضرب مثلا للتفريق، يدل علي هذا التأويل قوله:((أمركم جميع علي رجل)) حيث أسند الجميع إلي ((الأمر)) إسناداً مجازياً؛ لأنه سبب اجتماع الناس.
الحديث التاسع عشر عن عبد الله: قوله: ((فأعطاه صفقة يده)) ((نه)): الصفقة المرة من التصفيق باليد؛ لأن المتعاهدين يضع أحدهما يده في يد الآخر كما يفعل المتبايعان، والمراد بثمرة القلب خالص العهد.
أقول: الفاء في ((فأعطاه)) كما هي في قوله تعالي: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} إذا كانت التوبة عين القتل؛ إذ الصفقة الحاصلة بين المتبايعين، وكذلك إعطاء ثمرة القلب التي هي خلاصة الإنسان ليست إلا عين المبايعة. فإذا اجتمع الظاهر والباطن مع صاحبه فوجب أن يقاتل مع من ينازعه، وجمع الضمير في ((فاضربوه)) بعد ما أفرد في ((فليطعه)) نظراً إلي لفظة ((من)) تارة ومعناها أخرى. وقوله:((عنق الآخر)) وضع موضع عنقه إيذاناً بأن كونه آخراً يستحق ضرب العنق تقريراً للمراد وتحقيقاً له.
الحديث العشرون عن عبد الرحمن: قوله: ((وكلت إليها)) أي فوضت إلي الإمارة، ولا شك
3681 -
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إنكم ستحرصون علي الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة)) رواه البخاري.
3682 -
وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟. قال: فضرب بيده علي منكبي، ثم قال:((يأ أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). وفي رواية. قال له: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرون علي اثنين، ولا تولين مال يتيم)). رواه مسلم.
ــ
أنها أمر شاق لا يقوم بها أحد بنفسه من غير معاونة من الله إلا أوقع نفسه في ورطة، خسر فيها دنياه وعقباه، وإذا كان كذلك لا يسألها اللبيب الحازم.
الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فنعم المرضعة)) ((مظ)): لفظة ((نعم وبئس)) إذا كان فاعلها مؤنثاً؛ جاز إلحاق تاء التإنيث وجاز تركها، فلم يلحقها هنا في ((نعم)) وألحقها في بئست. أقول: إنما لم يلحقها بـ ((نعم)) لأن المرضعة مستعارة للإمارة، وهي وإن كانت مؤنثة إلا أن تإنيثها غير حقيقي، وألحقها ببئس نظراً إلي كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. وفيه أن ما يناله الأمير من البأساء والضراء أبلغ وأشد مما يناله من النعماء والسراء. وإنما أتى بالتاء في ((المرضع والفاطم)) دلالة علي تصوير تينك الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام.
((قض)): شبه الولاية بالمرضعة وانقطاعها بالموت أو العزل بالفاطمة، أي نعمت المرضعة الولاية؛ فإنها تدر عليك المنافع واللذات العاجلة، وبئست الفاطمة المنية؛ فإنها تقطع عنك تلك اللذائذ والمنافع، وتبقى عليك الحسرة والتبعة، فلا ينبغي للعاقل أن يلم بلذة تتبعها حسرات.
الحديث الثاني والعشرون عن أبي ذر: قوله: ((وإنها أمانة)) تإنيث الضمير إما باعتبار الإمارة المستفادة من معنى قوله: ((ألا تستعملني)) أو باعتبار تإنيث الخبر. وقوله: ((إلا من أخذها)) استثناء منقطع أي خزي وندامة علي من أخذها بغير حقها ولم يؤد الذي عليه فيها، لكن من أخذها بحقها لم تكن خزياً ووبالا عليه.
((مح)): هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولاية لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائفها، والخزي والندامة في حق من لم يكن أهلا لها، أو كان أهلا ولم يعدل فيها فيخزيه الله يوم القيامة ويفضحه ويندم علي ما فرط، فأما من كان أهلا لها وعدل فيها فله فضل عظيم، تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث ((سبعة يظلهم الله في ظله)). قوله: صلى الله عليه وسلم: ((إن
3683 -
وعن أبي موسى، قال: دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي. فقال أحدهما: يا رسول الله! أمرنا علي بعض ما ولاك الله. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: ((إنا والله لا نولي علي هذا العمل أحداً سأله، ولا أحد حرص عليه)). وفي رواية قال: ((لا نستعمل علي عملنا من أراده)) متفق عليه.
3684 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه)). متفق عليه.
3685 -
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي علي الناس راع وهو مسئول عن رعيته،
ــ
المقسطين علي منابر من نور)) وغير ذلك، ولكثرة الخطر فيها حذر صلوات الله عليه منها؛ ولذلك امتنع العلماء منها خلائق من السلف، وصبروا علي الأذى حين امتنعوا.
الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خير الناس)) ثإني مفعولي ((تجدون)) والأول قوله ((أشدهم)) ولما قدم المفعول الثاني أضمر في الأول الراجع إليه، كقولك: علي التمرة مثلها زبداً، ويجوز أن يكون المفعول الأول ((خير الناس)) علي مذهب من يجتز زيادة ((من)) في الإثبات.
قوله: ((حتى يقع فيه)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون غاية ((تجدون)) أي تجدون خير الناس أشد كراهة حتى يقع فيه، فحينئذ لا يكون خيرهم. وثإنيهما: أنه غاية ((أشد)) أي يكرهه حتى يقع فيه، فحينئذ يعينه الله تعالي فلا يكرهه، والأول أوجه لقوله:((يقع فيه)).
الحديث الخامس والعشرون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ألا كلكم راع)) ((حس)): معنى الراعي هنا الحافظ المؤتمن علي ما يليه، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه بإخباره أنهم مسئولون عنه، فالرعاية حفظ الشيء وحسن التعهد فقد استوى هؤلاء في الاسم، ولكن معإنيهم مختلفة، وأما رعاية الإمام ولاية أمور الرعية، فالحياطة من ورائهم وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله، فالقيام عليه بالحق في النفقة وحسن العشرة، ورعاية المرأة في بيت زوجها، فحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمته وأضيافه، ورعاية الخادم، حفظ ما في يده في مال سيده والقيام بشغله.
أقول: قوله: ((ألا كلكم)) تشبيه مضمر الأداة أي كلكم مثل الراعي، وقوله:((وكلكم مسئول عن رعيته)) حال عمل فيه معنى التشبيه. وهذا مطرد في التفضيل، ووجه التشبيه حفظ الشيء وحسن التعهد لما استحفظ، وهو القدر المشترك في التفضيل.
والرجل راع علي أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية علي بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع علي مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)). متفق عليه.
3686 -
وعن معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم؛ إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه.
3687 -
وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة)). متفق عليه.
ــ
وفيه أن الراعي ليس بمطلوب لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فعلي السلطان حفظ الرعية فيما يتعين عليه من حفظ شرائعهم، والذب عنها لكل متصد لإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعإنيها، أو إهمال حدودهم، أو تصنيع حقوقهم وترك حماية من جار عليهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم، فينبغي أن لا يتصرف في الرعية إلا بإذن الله ورسوله، ولا يطلب أجره إلا من الله كالراعي. وهذا تمثيل لا يرى في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه؛ ولذلك أجمل أولا ثم فصله ثم أتى بحرف التنبيه مكرراً وبالفذلكة كالخاتمة.
والفاء في قوله: ((ألا فكلكم راع)) جواب شرط محذوف، والفذلكة هي التي يأتي بها المحاسب بعد التفصيل، ويقول: فذلك كذا وكذا ضبطاً للحساب وتوقياً من الزيادة والنقصان فيما فصله. والضمير في قوله: ((مسئولة عنهم)) راجع إلي ((بيت زوجها وولده)) وغلب العقلاء فيه علي غيرهم.
الحديث السادس والعشرون والسابع والعشرون عن معقل: قوله: ((فيموت)) الفاء فيه وفي قوله: ((فلم يحطها)) كاللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا} وقوله: ((وهو غاش)) حال قيد للفعل ومقصود بالذكر؛ لأن المعتبر من الفعل والحال هو الحال، يعني أن الله تعالي إنما ولاه واسترعاه علي عباده ليديم النصيحة لهم لا ليغشهم فيموت عليه، فلما قلب القضية استحق أن لا يجد رائحة الجنة.
((مح)): قال القاضي عياض: المعنى: من قلده الله تعالي شيئاً من أمر المسلمين واسترعاه
3688 -
وعن عائذ بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن شر الرعاء الحطمة)) رواه مسلم.
3689 -
وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به)) رواه مسلم.
ــ
عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم ودنياهم، فإذا خان فيما ائتمن عليه فلم ينصح فيما قلده إما بتضييع حقهم وما يلزمه من أمور دينهم ودنياهم أو غير ذلك، فقد غشهم.
وفي قوله: ((حرم الله عليه الجنة)) تأويلان: أحدهما: أنه محمول علي المستحل، والثاني: علي أنه محرم عليه دخولها مع الفائزين السابقين. وقوله: ((فيموت وهو غاش)) دليل علي أن التوبة قبل حالة الموت باقية. قوله: ((فلم يحطها)) ((نه)): يقال حاطه يحوطه حوطاً وحياطة إذا حفظه وصانه، وذب عنه وتوفر علي مصالحه.
الحديث الثامن والعشرون عن عائذ: قوله: ((إن شر الدعاء)) ((نه)): الرعاء بالكسر والمد جمع راع كتجار جمع تاجر. ((فا)): الحطمة هو الذي يعنف الإبل في السوق والإيراد والإصدار فيحطمها. ضربه مثلا لوالي السوء. أقول: لما استعار للوالي والسلطان لفظ الراعي أتبعه بما يلائم المستعار منه من صفة الحطم، فالحطمة ترشيح لاستعارة الراعي لهم. ((قض)): فالمراد بالحطمة الفظ القاسي الذي يظلم الرعية ولا يرحمهم، من الحطم وهو الكسر. وقيل: الأكول الحريص الذي يأكل ما يرى ويقضمه؛ فإن من هذا دأبه يكون دنئ النفس ظالماً بالطبع شديد الطمع فيما في أيدي الناس.
الحديث التاسع والعشرون عن عائشة رضي الله عنه: قوله: ((من أمر أمتي)) ((من)) بيان ((شيئاً)) كانت صفة قدمت فصارت حالا. وقوله: ((فاشقق عليه)) ((مح)): هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة علي الناس وأعظم الحث علي الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث في هذا المعنى.
أقول: وهو من أبلغ ما أظهر صلوات الله عليه من الرأفة والشفقة والمرحمة علي أمته، فنقول بلسان الحال: اللهم! هذا أوان أن ترحم علي أمة حبيبك وترأف بهم، وتنجيهم من الكرب العظيم الذي هم فيه، يا من لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا أنت رب العرش العظيم، لا إله إلا أنت رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم، ويرحم الله عبداً قال: آميناً.
3690 -
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله علي منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)). رواه مسلم.
ــ
الحديث الثلاثون عن عبد الله: قوله: ((إن المقسطين)) ((تو)): القسط بالكسر العدل، والأصل فيه النصيب، نقول منه: قسط الرجل إذا جار، وهو أن يأخذ قسط غيره، والمصدر القسوط. وأقسط إذا عدل، وهو أن يعطي نصيب غيره، ويحتمل أن الألف أدخل فيه لسلب المعنى، كما أدخل في كثير من الأفعال فيكون الإقساط إزالة القسوط.
قوله: ((علي منابر)) ((مح)): المنابر جمع منبر، سمى به لارتفاعه. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكونوا علي منابر حقيقة علي ظاهر الحديث، وأن يكون كناية عن المنازل الرفيعة. قال الشيخ: ويمكن أن يجمع بينهما؛ لأن من كان علي منابر فهو علي أعلي مرتبة، ويؤيده قوله:((عن يمين الرحمن)). ((تو)): المراد منه كرامتهم علي الله وقرب محلهم وعلو منزلتهم؛ وذلك لأن من شأن من عظم قدره في الناس، أن يبوأ عن يمين الملك، ثم إنه نزه ربه سبحانه عما سبق إلي فهم من لم يقدر الله حق قدره من مقابلة اليمين باليسار، وكشف عن حقيقة المراد بقوله:((وكلتا يديه يمين)) ((خط)): ليس فيما يضاف إلي الله تعالي من صفة اليدين شمال؛ لأن الشمال تدل علي النقص والضعف: وقوله: ((وكلتا يديه يمين)) هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها علي ما جاءت ولا نكيفها، وننتهي حيث انتهي بنا الكتاب والأخبار الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
أقول: - والله أعلم – قوله: ((عند الله)) خبر إن، أي المقسطين مقربون عند الله تعالي، و ((علي منابر)) يجوز أن يكون خبرا، بعد خبر أو حالا من الضمير المستقر في الظرف. و ((من نور)) صفة منابر مخصصة لبيان الحقيقة، ((وعن يمين الرحمن)) صفة أخرى لـ ((منابر)) مبينة للرتبة والمنزلة. ويجوز أن يكو حالا بعد حال علي التداخل. وقوله:((يمين الرحمن)) بعد قوله: ((عند الله)) تقييد بعد إطلاق وتخصيص بعد تعميم؛ لوضع الرحمن موضع ضمير ((الله))، وقد سبق أن اسم الله جامع لجميع صفات الجلال والإكرام. و ((الرحمن)) من صفة الإكرام، فدل اليمين علي أن الله تعالي يفيض عليهم حينئذ من جلائل نعمه وفضائل إحسانه ما لا يحصر فيكون قوله:((وكلتا يديه يمين)) تذييلا للكلام السابق، فعلي هذا اللام في ((المقسطين)) للتعريف كما في الرجل والفرس، ويجوز أن تكون موصولة، وتكون الظروف كلها متصلات بالصلة، وخبر ((إن)) قوله:((الذين يعدلون))، وقوله:((وكلتا يديه يمين)) متعرضة بين اسم ((إن)) وخبره صيانة لجلال الله وعظمته عما لا يليق به. قال أبو الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فإنيا
والتثنية في اليدين للاستيعاب، كما في قوله تعالي:{ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ} ولبيك وسعديك والخير كل بيديك.
((مح)): العرب تنسب الفعل الذي يحصل بالجهد والقوة إلي اليمين، وكذا الإحسان والإفضال إلها وضدهما إلي اليسار. وقالوا: اليمين مأخوذ من اليمن. ((قض)): ((وكلتا يديه)) دفع لتوهم من يتوهم أن له يميناً من جنس أيماننا التي يقابلها يسار، وأن من سبق إلي التقرب إليه حتى فاز بالوصول إلي مرتبة من المراتب الزلفي من الله، عاق غيره عن أن يفوز بمثله كالسابق إلي محل مجلس السلطان، بل جهاته وجوانبه التي يتقرب إليها العباد سواء.
قوله: ((الذين يعدلون)) ((مح)): معناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما يقلده من خلافة وإمارة أو قضاء أو حسبة، أو نظر علي يتيم أو صدقة أو وقف، فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك. قال:((وما ولوا)) بفتح الواو وضم اللام المخففة أي كانت لهم عليهم ولاية. ((مظ)): وليوا علي وزن علموا انقلبت ضمة الياء إلي اللام، وحذفت لالتقاء الساكنين. والمراد بقوله:((وما ولوا)) أي يعدلون فيما تحت أيديهم من أموال اليتامى مثل الجد؛ فإنه ولي الطفل، والوصي؛ فإنه حاكم في التصرف في أموال اليتامى.
أقول: قوله: ((الذين يعدلون)) يحتمل وجوهاً من الإعراب أن يكون خبراً لـ ((إن)) كما سبق، وأن يكون صفة ((للمقسطين)) علي تأويل ذوات لها الأقساط، كما يقال: شجاع باسل، وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتي؛ إذ قال: وقد فسر ((المقسطين)) في الحديث بما وصفهم به من قوله: ((الذين يعدلون)) إلي آخر الحديث. وأن يكون بدلا أو نصباً علي المدح أو رفعاً عليه، وأن يكون استئنافاً، كأنه قيل: من هؤلاء السادة المقربون، وقد فازوا بالقدح المعلي والمنحة الكبرى؟ فقيل: هم الذين يعدلون إلي آخره، فإذ جعل صفة فالتعريف في ((المقسطين)) يحتمل العهد المتعارف بين الناس من الحكام، وأن يكون للجنس، فبين بقوله:((الذين يعدلون)) أن المراد به الثاني.
ولما كان المراد به استغراق الجنس مشتملا علي التعدد قال: أولا ((في حكمهم)) ليدخل فيه من بيده أزمة حكم الشرع من الخلفاء والأمراء والقضاة وغيرهم. وثإنياً ((وأهليهم)) ليدخل فيه كل من تحت يده أحد من أهله وعياله ونحو ذلك، وثالثاً ((وما ولوا)) ليستوعب جميع من يتولي أمراً من الأمور فيدخل فيه نفسه أيضاً. ((شف)): فالرجل يعدل مع نفسه بأن لا يضيع وقته في غير ما أمر الله تعالي به بل يمتثل أوامر الله وينزجر عن نواهيه علي الدوام، كما هو دأب الأولياء المقربين، أو غالباً كما هو ديدن المؤمنين الصالحين. أقول: قسم الله تعالي عباده المصطفين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق، فالمقتصد من عدل ولم يتجاوز إلي حد الظلم علي نفسه، ولم يترق إلي مرتبة السابق الذي جمع بين العدل والإحسان.
3691 -
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله)) رواه البخاري.
3692 -
وعن أنس، قال: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير. رواه البخاري.
ــ
فإن قلت: إذا بين ((المقسطين)) بالذين جمعوا بين هذه الخصال فكيف حال من انفرد بخصلة من هذه الخصال، هل يترتب عليه تلك المراتب العلية والمنازل السنية؟ قلت: إذا سلك بالتعريف في ((الذين يعدلون)) الجنس من حيث هي هي، لا. وإذا سلك به الاستغراق كما ذهبنا إليه، نعم. ونحوه قولك: الرجل خير من المرأة، إذا أريد بالتعريف الحقيقة من حيث هي هي، فلا تدخل أفراد الجنس في هذا الحكم، وإن أريد به الاستغراق لزم أن يكون أدنى رجل خيراً من أشرف النساء. والله أعلم.
الحديث الحادي والثلاثون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((بطانة)) ((نه)): بطانة الرجل صاحب سره وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله. الكشاف في قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} : بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بحوائجه ثقة به، شبه ببطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري.
فإن قلت: البطانة في الحديث علي هذا المعنى قد تتصور في بعض الخلفاء ولكنها منافية لحال الأنبياء، وكيف لا؟ وقد نهي الله تعالي عامة المؤمنين عن ذلك في الآية السابقة. قلت: الوجه ما روى الأشرف عن بعضهم أن المراد بأحدهما الملك، وبالثاني الشيطان، ويؤيده قوله:((والمعصوم من عصمه الله)) فإنه بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأسلم)) في قوله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله! قال: وإياي، إلا أن الله تعالي أعانني، فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)).
الحديث الثاني والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بمنزلة صاحب الشرط)) ((تو)): هو جمع شرطة وشرطي، وهو الذي يتقدم بين يدي الأمير لتنفيذ أوامره، وهو الحاكم علي الشرط للأمور السياسية سموا بذلك؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، وكان قيس بن سعيد ابن عبادة الأنصاري سيد الخزرج وابن سيدها، أحد دهاة العرب وأهل الرأي ورئاسة الجيوش، وكان من ذوي النجدة والبسالة والكرم والسخاء، وكان مع ذلك جسيماً طويلا، وكان منتصباً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ ما يأمر به وما يريده.
3693 -
وعن أبي بكرة، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى. قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري.
الفصل الثاني
3694 -
عن الحارث الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بخمس: بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله. وإنه من خرج من الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع. ومن دعا بدعوى الجاهلية؛ فهو من جثي جهنم، وإن صام وصلي وزعم أنه مسلم)) رواه أحمد والترمذي. [3694]
ــ
الحديث الثالث والثلاثون عن أبي بكرة: قوله: ((ولو أمرهم امرأة)) ((حس)): لا تصلح المرأة أن تكون إماماً ولا قاضياً؛ لأن الإمام والقاضي محتاجان إلي الخروج للقيام بأمر المسلمين، والمرأة عورة لا تصلح لذلك؛ ولأن المرأة ناقصة والقضاء من كمال الولايات فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال. أقول:((لن يفلح قوم)) إخبار بنفي الفلاح في المستقبل عن أهل فارس علي سبيل التأكيد، وفيه إشعار بأن الفلاح للعرب، وأن الله تعالي سيجعل ملكهم مسخراً لهم فيكون معجزة.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن الحارث: قوله: ((بالجماعة)) المراد بهم الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من سلف الصحابة، أي آمركم بالتمسك بهديهم والانخراط في زمرتهم، والمراد بالسمع الإصغاء إلي الأوامر والنواهي وتفهمهما، وبالطاعة الامتثال بالأوامر والانزجار عن النواهي، وبالهجرة الانتقال من دار الكفر إلي دار الإسلام. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بها ترك المعاصي، والرجوع عنها إلي الطاعات، كما قال صلى الله عليه وسلم:((والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) والمراد بالجهاد الجهاد مع الكفار، ويحتمل أن يراد به الجهاد مع النفس بكفها عن شهواتها ومنعها عن لذاتها؛ فإن معاداة النفس مع الشخص أقوى وأضر من معاداة الكفرة معه. وقوله:((وإنه من خرج)) اسم ((إن)) ضمير الشأن، والجملة بعده تفسره كالتعليل للأمر بالتمسك بهدي الجماعة، والواو مثلها في قوله تعالي:{وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ} بعد قوله: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا} في الإخبار عن الجملتين وتفويض الترتيب بينهما إلي ذهن السامع.
3695 -
وعن زياد بن كسيب العدوي، قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق. فقال أبو بلال: انظروا إلي أميرنا يلبس ثياب الفساق. فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3695]
ــ
((ومن دعا بدعوى الجاهلية)) عطف علي الجملة التي وقعت مفسرة لضمير الشأن؛ للإيذان بأن التمسك بالجماعة وعدم الخروج عن زمرتهم من شأن المؤمنين، والخروج من زمرتهم من هجيري الجاهلية، كما قال صلوات الله عليه:((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) فعلي هذا ينبغي أن تفسر دعوى الجاهلية بسننها علي الإطلاق؛ لأنها تدعو إليها، وهو أحد وجهي ما قال القاضي، والوجه الآخر أن الدعوى تطلق علي الدعاء وهو النداء، والمعنى من نادى في الإسلام بنداء الجاهلية، وهو أن الرجل منهم إذا غلب عليه خصمه، نادى بأعلي صوته قومه يا آل فلان! فيبتدرون إلي نصره ظالما كان أو مظلوماً جهلاً منهم وعصبية. وحاصل هذا الوجه يرجع أيضاً إلي الوجه السابق، وينصره ما روى في شرح السنة في آخر هذا الحديث:((فادعوا المسلمين بما سماهم الله المسلمون المؤمنون عباد الله)).
قوله: ((قيد شبر)) ((قض)): أي قدره، يريد به أي قدر خالف وانحرف عن الجماعة وخرج عن وافقتهم. و ((الربق)) بالكسر حبل فيه عدة عرى يشد به إليهم الواحدة من تلك العرى ربقة، شبه ذمة الإسلام وعهده بالربقة التي تجعل في أعناق البهائم، من حيث أنه يقيده فيمنعه أن يتخطى حدود الله ويرتع مراتع حرماته. والمعنى أن من فارق الجماعة بترك السنة وارتكاب البدعة ولو بشيء يسير، نقض عهد الإسلام ونزع اليد عن الطاعة.
أقول: لما شبه صلوات الله عليه الإمام بالراعي، وسوء مراعاته الرعية بالحطمة في قوله صلى الله عليه وسلم:((إن شر الرعاء الحطمة)) ضرب في هذا الحديث مثلاً للرعية بـ ((البهم)) التي جمعها الربق في سلك واحد، فرشح الاستعارة بالقيد والشبر. وإنما قيل:((أن يراجع)) علي صيغة المفاعلة دون بـ ((رجع))، إما مبالغة وإما أن يكون الرجوع من الجماعة ومن الخارج عنهم.
قوله: ((من جثي جهنم)) ((فا)): واحدتها جثوة بضم الجيم أي من جماعات جهنم، وهي في الأصل ما جمع من تراب أو غيره فاستعير للجماعة.
الحديث الثاني عن زياد: قوله: ((ثياب الفساق)) يحتمل أن تكون ثياباً محرمة من الحرير والديباج؛ لأن الغالب منها أن تكن رقاقاً، وأن لا تكون محرمة لكن لما كان لبس الثياب الرقاق من دأب المتنعمين لا المتقشفين، نسبه إلي الفسق تغليظاً، والظاهر هذا؛ لأن أبا بكرة
3696 -
وعن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) رواه في ((شرح السنة)). [3696]
3697 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أمير عشرة، إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، حتى يفك عنه العدل أو يوبقه الجور)) رواه الدارمي. [3697]
ــ
رده بقوله: ((من أهان سلطان الله)) يعني تفسيقك إياه بسبب لبسه هذه الثياب التي يصون بها عزته ليس بحق؛ لأن المعنى من أهان من أعزه الله وألبسه خلع السلطنة، أهانه الله، و ((في الأرض)) متعلق بـ ((سلطان الله)) تعلقها في قوله تعالي:{إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} والإضافة في ((سلطان الله)) إضافة تشريف كبيت الله.
ويحكى عن جعفر الصادق رضي الله عنه: أنه دخل عليه سفيان الثوري، وعلي جعفر جبة خز دكناء، فقال يا بن رسول الله! هذا ليس من لباسك فحسر عن ردن جبته، فإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل والردن عن الردن، فقال: يا ثوري! لبسنا هذا الله وهذا لكم فما كان الله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه. ذكره صاحب جامع الأصول في كتاب مناقب الأبرار. والدكناء بالدال المهملة تإنيث الأدكن، وهو ثوب مغبر اللون.
الحديث الثالث عن النواس قوله: ((لمخلوق)) صفة ((طاعة)) و ((في معصية الخالق)) خبر ((لا))، وفيه معنى النهي، يعني لا ينبغي ولا يستقيم ذلك، وتخصيص ذكر المخلوق والخالق مشعر بعلية هذا الحم. ((حس)): اختلفوا فيما يأمر به الولاة من العقوبات، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: ما أمر به الولاة من ذلك غيرهم يسعهم أن يفعلوه فيما كانت ولايته إليهم. وقال محمد بن الحسن: لا يسع المأمور أن يفعله حتى يكون الذي يأمره عدلاً وحتى يشهد عدل سواه علي أن المأمور ذلك. الكشاف: عن أبي حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالي: {وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} ؟ قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالي: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللَّهِ والرَّسُولِ} ؟
أقول: يريد أن قوله: {وأَطِيعُوا الرَّسُولَ} عطف علي ((أطيعوا الله)) وكرر الفعل ليدل علي استقلال طاعة الرسول، ولم يؤت وأطيعوا في {أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} دلالة علي عدم استقلالهم، وعلله بقوله:{فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللَّهِ والرَّسُولِ} فكأنه قيل: إذا لم يكن أولوا الأمر مستقلين وشاهدتم منهم خلاف الحق، فردوه إلي الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو يوبقه)) أي يهلكه، وهو عطف
3698 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملاً)) رواه في ((شرح السنة)) ورواه أحمد، في روايته:((أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا علي شيء)). [3698]
ــ
علي ((يفك)) فيكون غاية قوله: ((يؤتى به يوم القيامة مغلولاً)) أي لم يزل مغلولا حتى يحله العدل أو يهلكه الظلم، أي لا يفك عن الغل إلا الهلاك، يعني يرى بعد الغل ما الغل في جنبه السلامة، كما قال تعالي:{وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلي يَوْمِ الدِّينِ} يعني ترى يوم الدين من العذاب ما اللعنة بالنسبة إليه سهلة يسيرة.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ويل للأمراء)) مبتدأ وخبر، كقوله:((سلام عليك)) وهو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب. ((قض)): العرفاء جمع عريف وهو القيم بأمر قبيلة أو محلة يلي أمرهم، ويتعرف منه الأمير أحوالهم، من عرف يعرف عرافة، مثل كتب يكتب كتابة إذا عمل ذلك، وعرف بالضم عرافة بالفتح إذا صار عريفاً، والمراد بالأمناء من ائتمنه الإمام علي الصدقات والخراج وسائر أموال المسلمين، ويدل عليه عطفه علي ((الأمراء والعرفاء)) وقوله:((وأنهم لم يلوا عملاً))، أو كل من ائتمنه غيره علي مال أو غيره.
أقول: قوله: ((ليتمنين أقوام)) كالتخصيص للعام والتقييد للمطلق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما عمم التهديد وبالغ في الوعيد، أراد أن يستدرك ويخرج من قام بها حق القيام، وتجنب فيها عن الظلم والحيف، واستحق به الثواب وصار ذا حظ مما وعد به ذو سلطان عادل. قال:((ليتمنين أقوام)) إلي آخره، أي ليتمنين طائفة من هؤلاء وذلك لينبه بالمفهوم علي أن طائفة أخرى حكمهم علي عكس ذلك، وهم علي منابر من نور عن يمين الرحمن، إنما لم يعكس ولم يصرح بمنطوق المدح للمقسطين، ليدل بالمفهوم علي ذم الجائرين؛ لأن المقام مقام التهديد والزجر عن طلب الرياسة؛ لأنها وإن كانت مهمة لا ينظم صلاح حال الناس ومعاشهم دونها، لكن أمرها خطير والقيام
3699 -
وعن غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العرافة حق ولابد للناس من عرفاء، ولكن العرفاء في النار)) رواه أبو داود. [3699]
3700 -
وعن كعب بن عجرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعيذك بالله من إمارة السفهاء)). قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمراء سيكونون من بعدي، من
ــ
بحقوقها عسير، فلا ينبغي للعاقل أن يقتحم عليها ويميل بطبعه إليها؛ فإن من زلت قدمه فيها عن متن الصواب قد يندفع إلي فتنة تؤدي به إلي عذاب عظيم. واللام في ((ليتمنين)) لام القسم، والتمني طلب ما لا يمكن حصوله. والمتمني قوله:((أن نواصيهم معلقة)) وأنهم لم يلوا، أو تمنوا يوم القيامة أنهم في الدنيا لم يلوا، وكانت نواصيهم معلقة بالثريا يعني: تمنوا أنه لم تحصل لهم تلك العزة والرياسة والترفع علي الناس بل كانوا أذلاء ورءوسهم معلقة بنواصيهم في أعال تتحرك وتجلجل، ينظر إليهم الناس ويشهدون مذلتهم وهوانهم، بدل تلك الرياسة والعزة والرفعة، وذلك أن التعليق بالناصية مثل للمذلة والهوان؛ فإن العرب إذا أرادوا إطلاق أسير جزوا ناصيته مذلة وهواناً، وأنشدوا:
إذا جزت نواصي آل بدر فأدوها، وأسرى في الوثاق
وهذا التمني هو المعني بالندامة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستحرصون علي الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة)).
الحديث السادس عن غالب: قوله ((إن العرافة حق)) ((تو)): قوله: ((حق)) وقع هاهنا موقع المصلحة، والأمر الذي تدعو إليه الضرورة في ترتيب البعوث والأجناد وما يلم به شعثهم من الأرزاق والأعطيات والإحاطة بعددهم لاستخراج السهمان ونحوه. وقوله:((ولكن العرفاء في النار)) أي فيما يقربهم إليها، ورد هذا القول مورد التحذير عن التبعات التي تتضمنها والآفات التي لا تؤمن فيها والفتن التي تتوقع منها، والأمر بالتيقظ وغير ذلك من البليات التي قلما يسلم منها الواقع فيها.
أقول: قوله: ((ولكن العرفاء في النار)) مظهر أقيم مقام المضمر ليشعر بأن العرافة علي خطر ومن باشرها علي شفا حفرة من النار، فهو كقوله تعالي:{إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فينبغي للعاقل أن يكون علي تيقظ وحزم وحذر منها لئلا تورطه في الفتنة وتؤدي به إلي عذاب النار، وهذا تلخيص كلام الشيخ.
الحديث السابع عن كعب: قوله: ((من إمارة السفهاء)) السفهاء: الخفاف الأحلام. ((نه)): السفه
دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم علي ظلمهم؛ فليسوا مني ولست منهم، ولن يردوا علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم علي ظلمهم؛ فأولئك مني وأنا منهم، وأولئك يردون علي الحوض)) رواه الترمذي، والنسائي. [3700]
ــ
في الأصل الخفة والطيش، وسفه فلان رأيه إذا كان مضطرباً لا استقامة له والسفيه الجاهل. أقول:((وما ذاك)) إشارة إلي معنى إمارة السفهاء، وهو فعلهم المستعاذ منه من الظلم والكذب وما يؤدي إليه جهلهم وطيشهم.
فإن قلت: كيف أجاب عن السؤال عن وصقهم بذواتهم؟ قلت: يحتمل أن تؤخذ الزبدة والخلاصة من الجواب فيعبر عنه كأنه لما قيل: ما ذلك الفعل المستعاذ به؟ فأجيب ما يرغب فيه سفهاء مثلهم، ويتجنب عنه الألباء وأرباب العقول من الكذب والظلم. ويحتمل أن يؤول قوله:((من إمارة السفهاء)) بقوله: ((بالأمراء السفهاء)). قوله: ((وما ذاك)) بمعنى ((من هم)) لإرادة الوصفية فيهم كقوله: ((سبحان ما سخركن لنا))، فيكون الجواب حينئذ من الأسلوب الحكيم حيث زاد في الجواب بقوله:((من دخل)) أي لا تسأل عنهم وعماهم فيه فحسب، بل سل عمن يتقرب إليهم ويتوصل بهم، فيصدقهم بكذبهم ويعينهم علي ظلمهم ما حالهم؟ فإن حال أولئك قد يتجاوز عن حد البيان ويتحاشى عن ذكره اللسان.
وقال سفيان: لا نخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال: صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض. وروي أن خياطاً سأل عالماً عن خياطته للحكام هل أنا داخل في قوله تعالي: {ولا تَرْكَنُوا إلي الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: لا، بل يدخل فيه من يبيعك الإبرة، قال ابن مسعود: من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده وتلا الآية.
قوله: ((فأولئك منى)) أدخل الفاء في الخبر ((من)) لتضمنه معنى الشرط وزاد فيه ((أولئك)) وكرره لمزيد تقرير العلة؛ لأن اسم الإشارة في هذا المقام مؤذن بأن ما يرد عقيبه جدير بمن قبله لا تصافه بالخصال المذكورة، كقوله تعالي:{أُوْلَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} بعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلي ما يتصل به استحماداً علي فعلهم من الاجتناب عنهم وعن تصديقهم ومعاونتهم.
3701 -
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)) رواه أحمدن والترمذي، والنسائي. وفي رواية أبي داود:((من لزم السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا)). [3701]
3702 -
وعن القدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب علي منكبيه، ثم قال:((أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا، ولا كاتبا، ولا عريفا)) رواه أبو داود. [3702]
3703 -
وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة صاحب مكس)) يعني: الذي يعشر الناس. رواه أحمد، وأبو داود، والدارمي. [3703]
ــ
الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جفا)) ((قض)): جفا الرجل إذا غلظ قلبه وقسا ولم يرق لبر وصلة رحم، وهو الغالب علي سكان البوادي لبعدهم عن أهل العلم وقلة اختلاطهم بالناس، فصارت طباعهم كطباع الوحوش، وأصل التركيب للنبو عن الشيء، وغفلة التابع للصيد إما لحرصه الملهي أو لتشبهه بالسبع وانجذابه عن الترحم والرقة، وافتنان المتقرب إلي السلطان مما لا يخفي؛ فإنه إن وافقه فيما يأتيه ويذره، فقد خاطر علي دينه، وإن خالفه فقد خاطر علي روحه.
((مظ)):يعني من التزم البادية ولم يحضر صلاة الجمعة ولا الجماعة ولا مجلس العلماء فقد ظلم نفسه، ومن اعتاد الاصطياد للهو والطرب يكون غافلا؛ لأن بعض الصحابة كانوا يصطادون، ومن دخل علي السلطان وداهنه وقع في الفتنة، وأما من لم يدلهن ونصحه وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فكان دخوله عليه أفضل.
الحديث التسع والعشر عن عقبة: قوله: ((صاحب مكس)) ((نه)): المكس الضريبة التي يأخذها الماكس. ((حسن)) وهو العشار أراد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا مكسا باسم العشر، وأما الساعي الذي يأخذ الصدقة، ومن يأخذ من أهل الذمة العشر الذي صولحوا عليه فهو محتسب ما لم يتعد فيأثم بالتعدي والظلم.
3704 -
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الناس إلي الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل. وإن أبغض الناس إلي الله يوم القيامة وأشدهم عذابا)). وفي رواية: ((وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3704]
3705 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3705]
3706 -
ورواه أحمد والنسائي عن طارق بن شهاب. [3706]
3707 -
وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره. وإن ذكر أعانه. وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)) رواه أبو داود، والنسائي. [3707]
ــ
الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((من قال كلمة حق)) أي جهاد من قال، يعني: من تكلم كلمة حق. وإنما قلنا: أن ((قال)) بمعنى تكلم؛ لأن كلمة ((حق)) ليست بجملة. ((خط)): إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان مترددا بين الرجاء والخوف لا يدري هل يغلب، أو يغلب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف.
((مظ)): وإنما كان أفضل؛ لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم فقد أوصل النفع إلي خلق كثير بخلاف قتل كافر. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: الأمر بالمعزوف مع السلاطين التعريف والوعظ. وإما المنع والقهر فليس ذلك لآحاد الرعية؛ لأن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر؛ ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشن في القول كقولك: يا ظالم! يا مت لا يخاف الله! وما يجري مجراه، فذلك إن كان يتعدى شره إلي غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا علي نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالأنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة؛ لعلهم بأن ذلك جهاد وشهادة.
الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وزير صدق)) أصله وزير صادق ثم
3708 -
وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)) رواه أبو داود. [3708]
3709 -
وعن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك إذا اتبعت عورات الناس أفسدتهم)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3709]
ــ
وزير صدق علي الوصف به؛ ذهابا إلي أنه نفس الصدق ومجسم عنه، ثم أضيف إليه لمزيد الاختصاص به، ولم يرد بالصدق الاختصاص بالقول فقط بل بالأفعال والأقوال. ((غب)): يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق، ويضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به، نحو قوله تعالي:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} {قَدَمَ صِدْقٍ} وعلي عكس ذلك وزير سوء.
الحديث الرابع عشر عن أبي أمامة: قوله: ((إذا ابتغى الريبة)) ((غب)): الريب أن يتوهم بالشيء أمرا، فينكشف عما يتوهمه فيه، والإرابة أن يتوهم فيه أمرا فلا ينكشف عما يتوهمه فيه، والارتياب يجري مجرى الإرابة، وريب الدهر صروفه، وإنما قيل ريب لما يتوهم فيه المكر، والريبة السم من الريب، قال تعالي:{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي يدل علي [دغل] * وقلة يقين منهم – انتهي كلامه. والريبة في الحديث من هذا؛ فإن الأمير إذا كان ذا دغل ودخل في قلبه من الرعية، ابتغى عيوبهم ويتهمهم بالمعايب فيتجسس أحوالهم ومفاسدهم؛ فإن الإنسان قلما سلم من عيب. قال:
ولست بمستبق أخا لا تلمه علي شعث أي الرجال المهذب
فلو عاملهم بكل ما قالوا وفعلوا لاشتدت عليهم الأحوال، بل ينبغي أن يستر عليهم عيوبهم ويعفو عنهم.
الحديث الخامس عشر عن معاوية: قوله: ((عورات الناس)) العورة الخلل، ومها أعور الفارس، إذا ظهر للقرن فيه موضوع ضربة وطعنة، وأعور المكان إذا ظهر موضوع خلل فيه. والأعور المختل العين، كنى في الحديث الأول عن العيوب بالريبة، وهنا بالعورة إيذانا بان عيوب الماس كعورات مستورات، فيحرم كشفها والريبة فيها كما يحرم كشف المخدرات عن سترها.
وإنما خص في هذا الحديث الخطاب بقوله: ((إنك)) وعم في الحديث السابق بقوله: ((إن الأمير)) لئلا يتوهم أن النهي مختص بالأمير بل لكل من يتأتى منه اتباع العورات من الأمير وغيره. ولو قلنا: إن المخاطب معاوية علي إرادة أنه سيصير أميرا فيكون معجزة، لكان وجها، وينصر هذا الوجه الحديث الخامس في الفصل الثالث.
3710 -
وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف انتم وأئمة من بعدي، يستأثرون بهذا الفيء؟)) قلت: أما والذي بعثك بالحق، أضع سيفي علي عاتقي، ثم اضرب به حتى ألقاك. قال:((أولا أدلك علي خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقإني)) رواه أبو داود. [3710]
الفصل الثالث
3711 -
عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((أتدرون من السابقون إلي ظل الله عز وجل يوم القيامة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم)). [3711]
ــ
الحديث السادس عشر عن أبي ذر: قوله: ((كيف أنتم))؟ كيف سؤال عن الحال وعامله محذوف، أي كيف تصنعون؟ فلما حذف الفعل أبرز الفاعل كقوله تعالي:{لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} والحال المسؤل عنه أتبصرون أم تقاتلون يدل عليه قوله: ((أضع سيفي)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تصبر حتى تلقإني))، وقوله:((وأئمة)) مفعول معه ((ويستأثرون)) جملة حالية والعامل هو المحذوف.
قوله: ((بهذا الفيء)) المغرب: الفيء بالهمز ما نيل من أهل الشرك بعد ما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار الإسلام. وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. والغنيمة ما نيل منهم عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمس وسائر ما بعد الخمس للغانمين خاصة. والنفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا علي سهمه – انتهي كلامه.
والفيء في الحديث يشملها إظهار لظلمهم واستئثارهم ما ليس من حقهم، ومن ثمة جاء باسم الإشارة لمزيد تصوير ظلمهم، وبينه قول المظهر: يعني يأخذون مال بيت المال، وما حصل من الغنيمة ويستخلصونه لأنفسهم ولا يعطونه لمستحقيه. و ((ثم)) في قوله:((ثم أضرب به)) لتراخي رتبة الضرب عن الوضع، وعبر عن كونه شهيدا بقوله:((حتى ألقاك)) ((حتى)) يحتمل أن تكون بمعنى كي وبمعنى الغاية، و ((أولا أدلك)) دخلت حرف العطف بين كلمة التنبيه المركبة من همزة الاستفهام و ((لا)) النافية، وجعلتها جملتين أي أتفعل هذا ولا أدلك علي خير من ذلك.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من السابقون؟)) ((من)) استفهامية علقت عمل الدراية وسدت بما بعده مسد مفعوليه. قوله: ((إذا أعطوا الحق)) ((غب)): أصل الحق المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه علي استقامة. والحق يقال علي أوجه
3712 -
وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أخاف علي أمتي: الاستسقاء بالأنواء، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر)). [3712]
ــ
لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة؛ ولذلك قيل في الله تعالي: هو الحق، ولما يوجد بحسب مقتضى الحكمة؛ ولهذا يقال: فعل الله تعالي كله حق، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، وللفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب كقولنا: فعلك حق وقولك حق. قال تعالي: {وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} ويقال: أحققت كذا أي أثبته حقا أو حكمت بكونه حقا.
أقول: يمكن أن ينزل هذا الحديث علي أكثر هذه المعإني: احدها علي الفعل الحق والقول الحق، والمراد ب ((السابقون)) العادلون من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم:((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل)) يعني إذا نصحهم ناصح واظهر كلمة الحق العادلة قبلوها وفعلوا مقتضاها من البذل للرعية ومن الحكم بالسوية.
وثإنيها: علي الواجب للإنسان من الأعطيات يعني إذا ثبت له حق ثابت إذا أعطى قبل، ثم بذل للمستحقين لينال درجة الأسخياء والأصفياء، الذين ينفقون أموالهم سرا وعلإنية يرجون تجارة لن تبور. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:((خذه فتموله وتصدق به)) الحديث.
وثالثها: علي ما يوجد بحسب مقتضى الحكمة، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم:((كلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها)) لأنه يعلمها ويعمل بها ويعلمها غيره، فعلمه بها هو القبول وتعليم الغير هو البذل، والعمل بها هو الحكم، ولعمري إن هذا الحديث من الكلمات التي هي ضالة كل حكيم، فالمراد بالسابقين علي الوجهين الاخيرين هم السابقون السابقون أولئك المقربون.
الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بالأنواء)) ((نه)): الأنواء هي ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، ويسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطرا، وينسبونه إليها فيقولون مطرنا بنوء كذا، وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب فالطالع بالشرق ينوء نواءا، أي ينهض ويطلع.
وقيل: أراد بالنوء الغروب، وهو من الأضداد، وإنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء؛ لأن العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل الله تعالي وأراد بقوله:((مطرنا بنوء كذا)) أي في وقت كذا وهو هذا النوء الفلإني. فإن ذلك جائز، أي أن الله تعالي قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات.
3713 -
وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستة أيام اعقل يا أبا ذر! ما يقال لك بعد)). فلما كان اليوم السابع. قال: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلإنيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين)). [3713]
ــ
أقول: ولعله إنما خاف من هذه الخصال الثلاث؛ لأن من اعتقد أن الأسباب مستقلة، وترك النظر إلي المسبب وقع في شرك الشرك، ومن كذب بالقدر وقال:((الأمر انف)) وقع حرف التعطيل، ومن افتتن بالسلطان الجائر تاه في تيه الضلال.
الحديث الثالث عن أبي ذر: قوله: ((اعقل)) مقول القول، و ((ستة أيام)) ظرف القول واعقل أي تفكر وتأمل واعمل بمقتضى ما أقول لك، وعليه قوله تعالي:{وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ومَا يَعْقِلُهَا إلَاّ العَالِمُونَ} ، وإنما فعل ذلك لينبه أن ما بعده معني به جدا يجب تلقيه بالقبول والقيام بحقه، ولعمري إن الكلمة الأولي لو أدى حقها، لكفي بها كلمة جامعة ونحوه قوله تعالي:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي تنزه عما يشغل سرك عن الحق وتبتل إليه بشرا شرك تبتيلا، وهذا هو التقوى الحقيقية التي لا غاية لها.
وقوله: ((وإذا أسأت فأحسن)) إشارة إلي أن الإنسان مجبول علي الشهوات ومقتضى البهيمة والسبعية والملكية، فإذا ثارت من تلك الرذائل رذيلة يطفئها بمقتضى الملكية، كما قال صلى الله عليه وسلم:((اتبع السيئة الحسنة تمحها)) وقوله: ((ولا تسألن أحدا شيئا)) انتهاء درجة التوكل وتفويض الأمور إلي الله تعالي.
وقوله: ((وإن سقط سوطك)) تتميم له. وقوله: ((ولا تقبض أمانة)) يدل علي ثقل تحملها وصعوبة أدائها؛ ولذلك مثل الله تعالي ماله علي المخلوقات، بقوله تعالي:{إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} .
قوله: ((ولا تقض بين اثنين)) إشارة إلي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين)) ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي أبا ذر عن قبض الأمانة، والحكم بين اثنين لضعفه عن القيام بهما، كما سبق في الفصل الأول أنه لما طلب الإمارة قال له صلى الله عليه وسلم:((يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم)).
3714 -
وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه فكه بره، أو أوبقه أثمه، أولهما ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة)). [3714]
3715 -
وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاوية! إن وليت أمرا فاتق الله واعدل)) قال: فما زالت اظن إني مبتلي بعمل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت. [3715]
ــ
الحديث الرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((أولها ملامة)) إشارة إلي أن من يتصدى للولاية فالغالب أن يكون غرا غير مجرب للأمور ينظر إلي ملاذها ظاهرا فيحرص في طلبها ويلومه أصدقاؤه، ثم إذا باشرها وتلحقه تبعاتها وما يؤل إليه من وخامة عاقبتها يندم، وفي الآخرة خزي ونكال، هذا علي رأي من قال: إن الجمل المتناسقة إذا أتى بقيد بعدها يختص بالأخير، وأما من قال: إنه مشترك بينهما تكون الندامة والملامة والخزي يوم القيامة. ويؤيد الأول قوله: ((أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه)) فان إتيانه مغلولا يده إلي عنقه هو الخزي والذل والهوان، يقال: خزي يخزى خزاية أي استحي، وخزي يخزى خزيا أي ذل وهان. وقوله:((أتاه الله)) أي أمر الله أو ملائكته.
وقوله: ((يده)) يحتمل أن يكون مرفوعا بمغلولا و ((إلي عنقه)) حالا، وعلي هذا يكون ((يوم القيامة)) متعلقا ب ((مغلولا)). ويحتمل أن يكون مبتدأ و ((إلي عنقه)) خبره والجملة إما مستأنفة أو حال بعد حال، وحينئذ ((يوم القيامة)) إما ظرف ل ((أتاه)) وهو الأوجه، أو ل ((مغلولا)) وإذا كانت مستأنفة كانت بيانا ل ((مغلولا)) ، والجملتان مستأنفتان مبينتان للجموع، كأن سائلا سال أولا عن كيفية هيئة المغلول، فأجيب: يده إلي عنقه، ثم سال ثإنيا فماذا يجري عليه بعد ذلك فأجيب: فكه بره.
فان قلت: آخر الشيء مقتضاه فلا يصح أن يتخلل بينه وبين ما هو آخره غيرهما، ولا شك أن الإمارة تنقضي في الدنيا فكيف يكون الخزي يوم القيامة آخره؟ قلت: نحن نعتبر صفة الإمارة مستمرة إلي يوم الدين علي سبيل المجاز.
الحديث الخامس عن معاوية: قوله: ((فما زلت)) الفاء فيه للتسبب، يعني تسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصول ظني، فان حمل ((إن)) في قوله صلى الله عليه وسلم:((إن وليت)) علي الجزم كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: ((إن يكن هذا من عند اله يمضه)) – وكان الملك أخبره بالقضية كان الظن بمعنى اليقين كما في قوله تعالي: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} فيكون معنى
3716 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصبيان)). [3716]
3717 -
وعن يحيى بن هشام، عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كما تكونون، كذلك يؤمر عليكم)). [3717]
3718 -
وعن ابن عمر [رضي الله عنه]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإذا عدل كان له الأجر، وعلي الرعية الشكر، وإذا جار، كان عليه الإصر وعلي الرعية الصبر)). [3718]
ــ
الغاية في ((حتى)) نقلا من علم اليقين إلي حق اليقين، وإن حمل علي الترديد فالظن مجرى علي معناه؛ لأن ترديد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا راجحا عند أمته، فمعنى الغاية في ((حتى)) النقل من الظن إلي علم اليقين.
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإمارة الصبيان)) حال أي تعوذوا من فتنة تنشأ من بعد السبعين من تاريخ الهجرة أو وفاته، والحال أن الصبيان يكونون أمراء ويدبرون أمر أمتي وهم أغيلمة من قريش، رآهم صلى الله عليه وسلم في منامه يلعبون علي منبره صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في تفسير قوله تعالي:{} أنه صلى الله عليه وسلم رأي في المنام أن ولد الحكم، يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة.
الحديث السابع عن يحيى: قوله: ((كما تكونون)) الكاف مرفوع المحل علي الابتداء، والخبر ((يؤمر)) ولذلك جيء به تاكيدا وتقريرا للتشبيه وفي معناه قوله:((أعمالكم عمالكم)) والحديث يوضحه الحديث الآتي لأبي الدرداء.
الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((السلطان ظل الله)) تشبيه، وقوله:((يأوي إليه كل مظلوم)) جملة مبينة لما شبه به السلطان بالظل، كما أن الناس يستروحون إلي برد الظل من حر الشمس، كذلك يستروحون إلي برد عدله من حر الظلم. وأضافه إلي الله تشريفا له كبيت الله وناقة الله، وإيذانا بأنه ظل ليس كسائر الظلال، بل له شان ومزيد اختصاص بالله لما جعل خليفة الله في أرضه، ينشر عدله وإحسانه في عباده، ولما كان هو في الدنيا ظل الله يأوي إليه كل ملهوف، يأوي هو في الآخرة إلي ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.
فإن قلت: دلت الإضافة وقوله: ((يأوي إليه كل مظلوم)) أن السلطان عادل، فكيف يستقيم
3719 -
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة، إمام عادل رفيق. وإن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، إمام جائر خرق)). [3719]
3720 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نظر إلي أخيه نظرة يخيفه، أخافه الله يوم القيامة)) روى الأحاديث الأربعة البيهقي في ((شعب الإيمان)) ، وفال في حديث يحيى هذا: منقطع، وروايته ضعيف. [3720]
ــ
علي هذا أن يقال: ((وإذا جار كان عليه الإصر))؟ قلت: قوله: ((السلطان ظل الله)) بيان لشأنه، وأنه مما ينبغي أن يكون كذلك، فإذا جار كأنه خرج عما من شأنه أن يكون ظل الله تعالي، وعليه قوله تعالي:{يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى} فرتب علي الحكم بالوصف المناسب ونهاه عما لا يناسب.
الحديث التاسع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((خرق)) صفة مشبهة من الخرق وهو ضد الرفق. وفي الحديث ((الرفق يمن والخرق شؤم)) ، وفيه أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه، وجعل الرفيق رديفا للعادل من باب التكميل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما وصفه بالعادل رأي أن الوصف بمجرد العدل غير واف؛ لأنه قد يكون العادل جافيا غليظ القلب فكمله بالرفيق. قال الشاعر:
حليم إذا ما الحلم زين لأهله مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه رأي أن الوصف بمجرد الحلم غير واف، فكمل بقوله: في عين العدو مهيب. وقال تعالي في حق الصحابة رضي الله عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلي المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلي الكَافِرِينَ} وجعل الجائر مردفا بالخرق من باب التتميم؛ لأن الثاني زاد مبالغة في معنى الأول؛ لأن الحفاء والغلظة نزيد في جوره وظلمه. قال امرؤ القيس:
حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان
فإن النار المشتعلة إذا لم يتصل بها دخان كانت أشد تقويا مما كان معها دخان.
الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((يخفيه)) يجوز أن يكون حالا من فاعل ((نظر)) وان يكون صفة للمصدر علي حذف الراجع، أي بها، وهذا الحديث كالاستطراد لمعنى قوله في
3721 -
وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك، وملك الملوك، قلوب الملوك في يدي، وإن العباد إذا أطاعوني، حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرحمة والرأفة. وإن العباد إن عصوني حولت قلوبهم بالسخطة والنقمة، فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء علي الملوك، ولكن أشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع كي أكفيكم ملوككم)) رواه أبو نعيم في ((الحلية)). [3721]
ــ
الحديث السابق: ((إمام جائر خرق)) كما مر شرحه، وذكر أخيه للاستعطاف، يعني أن الأخوة تقتضي الأمن لاسيما أخوة الإسلام، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
الحديث الحادي عشر عن أبي الدرداء: قوله: ((أنا الله)) علي أسلوب قوله: ((إما أبو النجم)) أي أنا المعروف المشهور بالوحدإنية أو المعبود و ((لا إله إلا أنا)) حال مؤكدة لمضمون هذه الجملة. و ((ملك الملوك)) بعد قوله: ((مالك الملوك)) من باب الترقي؛ فإن الملك أعظم من المالك وأقوى تصرفا منه؛ لأن المالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة، والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين.
وقيل: المالك أجمع وأوسع لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال إلا ملك الناس، والمعنى يملك جنس الملوك ويتصرف فيهم تصرف الملاك فيما يملكون. وقوله:((قلوب الملوك في يدي)) استئناف علي سبيل البيان، ويدل علي التصرف التام فيهم. وقوله:((إن العباد)) الواو فيه بمنزلة الفاء التفصيلية، وقد روي بالفاء.
وقوله: ((فساموهم)) من سامه خسفا إذا أولاه ظلما، واصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى عذبوهم سوء العذاب، وأذاقهم أشد النكال. قوله:((والنقمة)) الجوهري: نقمته إذا كرهته وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع النقمات، والنقم مثل كلمة وكلمات وكلم – انتهي كلامه. فالنقمة إذا حملت علي الكراهة تكون تقريرا لمعنى السخطة التي هي سبب للسوم، وإذا حملت علي المعاقبة تكون الفاء في ((فساموهم)) كما في قوله تعالي:{فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} و ((أكفيكم)) منصوب ب ((كي)) والمضاف من ((ملوككم)) محذوف أي شر ملوككم.