المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب العمل في القضاء والخوف منه - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٨

[الطيبي]

الفصل: ‌(2) باب العمل في القضاء والخوف منه

(2) باب العمل في القضاء والخوف منه

الفصل الأول

3731 -

عن أبي بكرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)) متفق عليه.

3732 -

وعن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ؛ فله أجر واحد)) متفق عليه.

ــ

((غب)): الخيلاء الكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، ومنها يتأول لفظ الخيل لما قيل: إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة. انتهي كلامه. والنهي عن ركوب البراذين نهي عن التكبر، وعن أكل النقي ولبس الرقيق، عن التنعم والترف، والنهي عن الاحتجاب، نهي عن تقاعدهم من قضاء حوائج الناس، والاشتغال منهم بخويصة نفسه. والله اعلم.

باب العمل في القضاء والخوف منه

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((وهو غضبان)) ((مظ)): أي لا ينبغي للحاكم أن يحكم في حال الغضب؛ لأنه يمنعه من الاجتهاد والفكر، وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد والجوع والعطش والمرض، فإن حكم في هذه الأحوال نفذ حكمه مع الكراهة.

الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((فاجتهد)) عطف علي الشرط علي تأويل أراد أن يحكم فاجتهد. وقوله: ((فأصاب)) عطف علي ((فاجتهد)) و ((فله أجران)) جزاء الشرط. ((خط)): إنما يؤجر المخطئ علي اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر علي الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان جامعا لآلة الاجتهاد وعارفا بالأصول عالما بوجوه القياس. وأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف، ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:((القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار)). وهذا إنما هو في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه، ولا مدخل فيها للتأويل؛ فإن من أخطأ فيها غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردودا.

((مح)): اختلفوا في أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ ، وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالي، والآخر مخطئ، والأصح عند الشافعي وأصحابه الثاني؛ لأنه سمي مخطئا ولو كان مصيبا لم يسم مخطئا لأنه محمول علي من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه

ص: 2594

الفصل الثاني

3733 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل قاضيا بين الناس؛ فقد ذبح بغير سكين)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3733]

ــ

الاجتهاد، ومن ذهب إلي الأول قال: قد جعل للمخطئ أجرا، فلولا إصابته لم يكن له اجر، وقال أيضا: ومن ليس بأهل حكم فلا يحل له الحكم ولا ينفذ، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية فهو عاص في جميع أحكامه.

أقول: ومن ذهب إلي الأول لم يقل: إن كلا منهما مصيب من كل الوجوه، بل إن احدهما مصيب من وجه كونه آتيا بالعبادة، كما قال الخطابي، ومخطئ من وجه كونه لم يوافق الحكم الذي عند الله تعالي، ويؤيده حكاية ابن الأثير في الكامل في حكم داود وسليمان عليهما السلام في الحرث الذي نفشت فيه الغنم عن بعض العلماء، في الآية دليل علي أن كل مجتهد في الأحكام الفرعية مصيب؛ فإن داود أخطأ الحكم الذي عند الله تعالي، وأصابه سليمان فقال تعالي:{وكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا} يريد أن هذه الخاتمة كالتكميل لما سبق من توهم النقص في شأن نبي الله داود عليه السلام جيء بها جبرانا له بذلك.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فقد ذبح بغير سكين)) يحتمل وجوها:

الأول: ((قض)): يريد به القتل بغيره كالخنق والتفريق والإحراق والحبس عن الطعام والشراب؛ فإنه أصعب وأشد من القتل بالسكين؛ لما فيه من مزيد التعذيب وامتداد مدته.

الثاني: أن الذبح إنما يكون في العرف بالسكين، فعدل به إلي غيره ليعلم أن الذي أراد به ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه.

قال صاحب الجامع: وهو قريب من قوله:

تحية بينهم ضرب وجيع

جعل جنس الذبح نوعين: المتعارف وهو إزهاق الروح بآلة مخصوصة، وغير المتعارف وهو ما يخاف عليه من هلاك دينه. ((تو)): وشتان بين الذبحين؛ فإن الذبح بالسكين عناء ساعة، والآخر عناء عمر بله ما يعقبه من الندامة يوم القيامة.

ص: 2595

3734 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتغى القضاء وسأل؛ وكل إلي نفسه، ومن أكره عليه؛ أنزل الله عليه ملكا يسدده)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3734]

3735 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة؛ فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل

ــ

الثالث: ((شف)) *:يمكن أن يقال: المراد منه أن من جعل قاضيا فينبغي أن [يموث] ** جميع دواعيه الخبيثة وشهواته الرديئة، فهو مذبوح بغير سكين.

أقول: فعلي هذا القضاء مرغوب فيه ومحثوث عليه، وعلي الوجهين الأولين تحذير علي الحرص عليه، وتنبيه علي التوقي منه لما تضمن من الأخطار المردية والله أعلم. ((مظ))

:خطر القضاء كثير وضرره عظيم؛ لأنه قلما عدل القاضي بين الخصمين؛ لأن النفس مائلة إلي من تحبه أو تخدمه أو من له منصب يتوقع جاهه أو يخاف سلطته، وربما يميل إلي قبول الرشوة وهو الداء العضال.

الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من ابتغى القضاء وسأل)) إنما جمع بينهما إظهارا لحرصه؛ فإن النفس مائلة إلي حب الرياسة وطلب الترفع علي الناس، فمن منعها سلم من هذه الآفة، ومن اتبع هواها وسأل القضاء هلك، فلا سبيل إلي الشروع فيه إلا بالإكراه، وفي الإكراه قمع هوى النفس فحينئذ يسدد ويوفق لطريق الصواب. والي هذا نظر من قال: من جعل قاضيا فينبغي أن يموث جميع دواعيه الخبيثة وشهواته الرديئة.

الحديث الثالث عن بريدة: قوله: ((ورجل عرف الحق)) قرينه لقوله: ((فأما الذي في الجنة)) وترك أداة التفصيل فيها ظاهرا؛ لئلا يسلكها في مسلك واحد لبعد ما بينهما. وإنما قلنا: ظاهرا: لأن التقدير: فأما الذي في النار فرجل كذا، نحوه قوله تعالي:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَاّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} أي فأما الراسخون فيقولون، وهو من فصيح الكلام وبليغه.

والفاء في قوله: ((فرجل)) جواب ((أما)) وفي ((فقضى)) مسبب عن ((عرف)) والسبب والمسبب صفة ((رجل)) والفاء في ((فجار)) مثلها في ((فقضى)) لكن علي التعكيس، يعني عرفان الحق سبب لقضاء الحق، فعكس وجعله مسببا للجور كقوله تعالي:{وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب، وهو موجب للتصديق، وقوله:((فهو في النار)) خبر ((رجل)) وهو جواب ((أما)) المقدرة علي أن المبتدأ نكرة موصوفة، و ((علي جهل)) حال من فاعل ((قضى)) أي قضى للناس جاهلا.

ص: 2596

عرف الحق فجار في الحكم؛ فهو في النار، ورجل قضى للناس علي جهل، فهو في النار)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [3735]

3736 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره؛ فله الجنة. ومن غلب جوره عدله؛ فله النار)). رواه أبو داود. [3736]

ــ

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى يناله)) غاية الطلب و ((حتى)) للتدرج، فيفهم منه أنه بالغ في الطلب وبذل المجهود فيه ثم ناله، فمثل هذ موكول إلي نفسه فلا ينزل عليه ملك يسدده. وقال في الحديث السابق:((من ابتغى القضاء وسأل وكل إلي نفسه)) فكيف الجمع بينهما؟ ويمكن أن يقال: إن الطالب رجلان رجل مؤيد بتأييد الله محدث ملهم، كالصحابة ومن بعدهم من التابعين، فإذا طلبه بحقه فمثل هذا لا يكون موكلا إلي نفسه وهو يقضي بالحق. وهذا هو الذي غلب عدله جوره، ورجل ليس كذلك وهو الذي وكل إلي نفسه فيغلب جوره عدله. ((تو)): سبق إلي فهم بعض من لا يتحقق القول، أن المراد من الغلبة أن يزيد ما عدل فيه علي ما جار، وهذا باطل.

أقول: وفي تأويله وجوه أحدها: ((تو)): المراد من الغلبة في كلتا الصيغتين أن تمنعه إحداهما عن الأخرى فلا يجوز في حكمه ولا يعدل. وثإنيها: ((مظ)): من قوى عدله بحيث لا يدع أن يصدر منه جور. وثالثها: ((قض)): الإنسان خلق في بدء فطرته بحيث يقوى علي الخير والشر والعدل والجور، ثم إنه يعرض له دواع داخلة وأسباب خارجة، تتعارض وتتصارع فيجذبه هؤلاء مرة وهؤلاء أخرى، حتى يفضي التطارد بينهما إلي أن يغلب أحد الجزئين ويقهر الآخر فينقاد له بالكلية ويستقر ما يدعوه إليه، فالحاكم إن وفق له حتى غلب له أسباب العدل، وتمكن فيه دواعيه صار بشراشره مائلا إلي العدل، مشغوفا به متحاشيا عما ينافيه فنال به الجنة، وإن خذل بأن كان حاله علي خلاف ذلك، جار بين الناس ونال بشؤمه النار.

أقول: قد سبق أن الطالب رجلان: محدث ملهم وغير ذلك، فالملهم من غلب لمة الملكية علي لمة الشيطإنية، فإذا عن له حكم وقضى بين الناس يستمر علي ذلك ويجري قضاؤه علي المنهج. وهو المراد من قوله:((ثم غلب عدله جوره)) ((فثم)) فيه كما في قوله تعالي: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} المعنى ثم ثبتوا علي الإقرار ومقتضياته،

ص: 2597

3737 -

وعن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلي اليمن قال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟)). قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله؟)). قال: اجتهد رأي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي صدره، وقال:((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي به رسول الله)) رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [3737]

ــ

ومن لم يغلب ملكيته علي شيطإنيته، إذا عن له حكم وتميل نفسه إلي أحد الخصمين لغرض من الأغراض الفاسدة، ويضم إليه لمة الشيطان يوقعه في مهواة سحيق. والواو في ((ومن غلب)) إنيب مناب ((ثم)) وليس للانسحاب بل للتقرير، أي من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب جوره عدله – والله أعلم.

الحديث الخامس عن معاذ: قوله: ((أجتهد رأيي)) المبالغة قائمة في جوهر اللفظ وبنائه؛ لأن الافتعال للاعتمال والسعي وبذل الوسع ونسبته إلي الرأي أيضا ترقية للمعنى. ((غب)): الجهد والجهد الطاقة والمشقة، والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، يقال: جهدت رأيي واجتهدت أتعبته بالفكر.

((خط)): لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله علي غير أصل من كتاب أو سنة، بل أراد رد القضية إلي معنى الكتاب والسنة من طريق القياس. وفي هذا إثبات للحكم بالقياس.

((مظ)): أي إذا وجدت مشابهة بين المسألة التي أنا بصددها وبين المسألة التي جاء نص فيها من الكتاب والسنة، أحكم فيها بحكمها. مثاله: جاء النص بتحريم الربا في البر ولم يجئ نص في البطيخ. قاس الشافعي البطيخ علي البر لما وجد بينهما من علة المطعومية. وقاس أبو حنيفة الجص علي البر لما وجد بينهما من علة الكيلية، ((ولا آلو)) أي لا أقصر.

قوله: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله)) استصواب منه صلى الله عليه وسلم لرأيه في استعمال رأيه وهذا معنى قولهم: كل مجتهد مصيب. ولا ارتاب أن المجتهد إذا كدح في التحري وأتعب القريحة في الاستنباط استحق أجرا لذلك، هذا بالنظر إلي أصل الاجتهاد، فإذا نظر إلي الجزئيات فلا يخلو من أن يصيب في مسألة من المسائل أو يخطئ فيها، فإذا أصابت ثبت له

ص: 2598

3738 -

عن علي [رضي الله عنه]؛ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال:((إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، إذا تقاضى إليك رجلان؛ فلا تقض للاول حتى تسمع كلام الآخر، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)). قال: فما شككت في قضاء بعد. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3738]

وسنذكر حديث أم سلمة: ((إنما اقضي بينكم برأيي)) في باب: ((الأقضية والشهادات)) إن شاء الله تعالي.

ــ

أجران، أحدهما باعتبار أصل الرأي والآخر باعتبار الإصابة، وإذا أخطأ فله اجر واحد باعتبار الأصل، ولا شيء عليه باعتبار الخطأ.

الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ولا علم لي بالقضاء)) ((مظ)): لم يرد به نفي العلم مطلقا، وإنما أراد انه لم يجرب سماع المرافعة بين الخصماء، وكيفية دفع كلام كل واحد من الخصمين ومكرهما. أقول: السين في قوله: ((سيهدي قلبك)) كما في قوله تعالي: {إني ذَاهِبٌ إلي رَبِّي سَيَهْدِينِ} فإن السين فيهما صحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه. ولا شك أنه رضي الله عنه حين بعثه قاضيا كلن عالما بالكتاب والسنة كمعاذ رضي الله عنه.

وقوله: ((أنا حديث السن)) اعتذار من استعمال الفكر واجتهاد الرأي من قلة تجاربه؛ ولذلك أجاب بقوله: ((سيهدي قلبك)) أي يرشدك إلي طريق استنباط القياس بالرأي الذي محله قلبك، فيشرح صدرك ويثبت لسانك، فلا تقضي إلا بالحق، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:((فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) فإنك [لم] * تتمكن من الاستنباط وتمييز الحق من الباطل بسماع كلام أحد الخصمين. فقوله: ((إذا تقاضى إليك رجلان)) مقدمة للإرشاد وأنموذج منه.

((خط)): فيه دليل علي أن الحاكم لا يقضي علي غائب وذلك أنه صلى الله عليه وسلم إذا منعه من أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران، حتى يسمع كلام الآخر ففي الغائب أولي بالمنع. وذلك لإمكان أن يكون مع الغائب حجة تبطل دعوى الآخر وتدحض حجته. ((شف)): لعل مراد الخطابي بهذا الغائب عن مجلس الحكم فحسب، دون الغائب إلي مسافة القصر؛ فإن القضاء علي الغائب إلي مسافة القصر جائز عند الشافعي.

ص: 2599

الفصل الثالث

3739 -

عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من حاكم يحكم بين الناس، إلا جاء يوم القيامة وملك آخذ بقفاه، ثم يرفع رأسه إلي السماء، فإن قال: ألقه ألقاه في مهواة أربعين خريفا)) رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [3739]

3740 -

وعن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((ليأتين علي القاضي العدل يوم القيامة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط)) رواه أحمد. [3740]

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((ما من حاكم)) هو نكرة في سياق النفي، و ((من)) زائدة للاستغراق فيشمل العادل والظالم. وقوله:((وملك آخذ بقفاه ثم يرفع رأسه)) يدل علي كونه مقهورا في يده كمن رفع رأسه الغل مقحما، قال تعالي:{إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إلي الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} وقوله: ((فإن قال: ألقه)) الفاء فيه للتفصيل، و ((إن)) الشرطية تدل علي أن غيره لا يقال في حقه ذلك، بل يكون حكمه عكس ذلك، فيقال في حقه: أدخله الجنة. فعلي هذا يتفق هذا الحديث وحديث أبي أمامة في الفصل الثالث من باب الإمارة. وهو قوله: ((ما من رجل يلي عشرة فما فوق ذلك، إلا أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه، فكه بره أو أوبقه إثمه)).

قوله: ((أربعين)) مجرور المحل صفة ((مهواة)) أي مهواة عميق، فكنى عنه إذ لم يرد التحديد بل المبالغة في العمق. والمراد بالخريف السنة. ((نه)): الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء، ويريد به أربعين سنة، لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يوم القيامة)) قيل: هو الفاعل ((ليأتين)) و ((يتمنى)) حال من المجرور. والأوجه أن يكون حالا من الفاعل. والراجع محذوف أي يتمنى

ص: 2600

3741 -

وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وفي رواية:((فإذا جار وكله إلي نفسه)). [3740]

3742 -

وعن سعيد بن المسيب: أن مسلما ويهوديا اختصما إلي عمر، فرأي الحق لليهودي، فقضى له عمر به. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق، فضربه عمر بالدرة، وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة انه ليس قاض يقضي بالحق، إلا كان عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق؛ عرجا وتركاه. رواه مالك. [3742]

3743 -

وعن ابن موهب: أن عثمان بن عفان [رضي الله عنه]، قال لابن عمر: اقض بين الناس. قال: أوتعافيني؟ يا أمير المؤمنين! قال: وما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: لأتي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان قاضيا فقضى بالعدل؛ فبالحري أن ينقلب منه كفافا)). فما راجعه بعد ذلك. رواه الترمذي. [3743].

ــ

فيه. ويجوز أن يكون يوم القيامة منصوبا علي الظرف، أي ليأتين عليه يوم القيامة من البلاء ما يتمنى أنه لم يقض، فإذا الفاعل يتمنى بتقدير ((أن)) وقد عبر عن السبب بالمسبب؛ لأن البلاء سبب التمني. والتقيد بالعادل والثمرة تتميم لمعنى المبالغة مما نزل به البلاء.

الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((وكله)) الجوهري: وكله إلي نفسه وكلا ووكولا، وهذا الأمر موكول إلي رأيك، وفرس واكل، يتكل علي صاحبه في العدو، وواكلت فلانا موكلا إذا اتكلت عليه واتكل هو عليك.

الحديث الرابع عن سعيد: قوله: ((فضربه عمر بالدرة)) فإن قلت: لم ضربه وليس بمستحق به لأنه صدقه، وكيف يطابق جواب اليهودي:((والله إنا نجد في التوراة)) إلي آخره لقوله: ((وما يدريك))؟. قلت: لم يضربه ضربا مبرحا للتأديب بل لإصابته كما يجري بين الناس علي سبيل المطايبة. وتطبيق الجواب أن عمر رضي الله عنه لو مال عن الحق لقضى للمسلم علي اليهودي، فلم يكن مسددا فلما قضى له عرف بتشديده وثباته وعدم ميله من غير تغيير أنه موفق مسدد.

الحديث الخامس عن ابن موهب: قوله: ((أوتعافيني)) أي أترحم علي وتعافيني؟ وهو استعطاف علي سبيل الدعاء، و ((فقضى بالعدل)) عطف علي الشرط، وقوله:((فبالحري أن ينقلب))

ص: 2601