المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل الثالث 3786 - عن عبد الله بن الزبير [رضي الله - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٨

[الطيبي]

الفصل: الفصل الثالث 3786 - عن عبد الله بن الزبير [رضي الله

الفصل الثالث

3786 -

عن عبد الله بن الزبير [رضي الله عنهما] قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم)) رواه أحمد، وأبو داود. [3786]

‌كتاب الجهاد

الفصل الأول

3787 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقا علي الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها)). قالوا: أفلا نبشر الناس؟. قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء

ــ

علي التقصير والتهاون في الأمور، ولكن يحمد علي التيقظ والحزم، وحاصل معنى الاستدراك: لا تكن عاجزا. وتقول: حسبي الله، ولكن كن متيقظا حازما فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن عبد الله: قوله ((قضى)) ليس قضى هنا بمعنى حكم أو فصل، بل بمعنى أوجب، وإنما يقال ذلك في أمر يعظم شأنه، كقوله تعالي:{وقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ} وليس علي القاضي أمر أشق ولا أخوف من التسوية بين الخصمين.

كتاب الجهاد

((المغرب)): جهده حمله فوق طاقته، والجهاد مصدر جاهدت العدو إذا قابلته في تحمل الجهد، إذا بذل كل منكما جهده أي طاقته في دفع صاحبه، ثم غلب في الإسلام علي قتال الكفار.

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قال: إن في الجنة)) ((شف)): لما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه، وهو المراد بالجلوس في أرضه التي ولد فيها في دخول المؤمن بالله ورسوله، المقيم للصلاة الصائم لرمضان في الجنة.

ص: 2622

والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلي الجنة، وفوقه عرش الرحن، ومنه تفجر أنهار الجنة)). رواه البخاري.

3788 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه.

ــ

ورأي صلى الله عليه وسلم استبشار الراوي بما سمعه لسقوط مشاق الجهاد عنهم وعدم امتيازه في نيل الجنة، استدرك النبي صلى الله عليه وسلم قوله الأول بقوله الثاني.

أقول: الجواب من الأسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخول الجنة بالإيمان والصوم والصلاة وإيجابها لهم بحسب الأجر علي سبيل الوعد، ولم يكتف بذلك بل زاد علي تلك البشارة البشارة الأخرى، وهو الفوز بدرجات الشهداء فضلا من الله تعالي وزيادة علي ذلك، ولم يقنع بهذا أيضا فبشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها وأوسطها. وفيه الحث علي ما يحصل به أقصى درجات الجنان وهي الفردوس الأعلي، من المجاهدة مع العدو والنفس والشيطان. وإليه الإشارة بقوله تعالي:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} .

فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين ما ورد في صفة أهل الجنة: ((مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها)). قلت: هو مطلق محمول علي هذا المقيد أو تفسير للمجاهدين بالعموم، والدرجات بحسب مراتبهم في الجهاد، فيكون الفردوس لمن جاهد حق جهاده. ((مح)): قال القاضي عياض: يحتمل أن تجري الدرجات علي ظاهره محسوسا كما جاء في أهل الغرف، أنهم يتراؤن كالكوكب الدري، وأن تجري علي المعنى. والمراد كثرة النعيم وعظم الإحسان مما لم يخطر علي قلب بشر.

قوله: ((أوسط الجنة)) النكتة في الجمع بين الأعلي والأوسط، أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي؛ فإن أوسط الشيء أفضله وخياره، وإنما كان كذلك؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعواز، والأوساط محمية محفوظة. قال الطائي:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفت

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((القانت بآيات الله)) ((نه)) القنوت في الحديث يرد بمعان متعددة: كالطاعة والخشوع والصلاة والصوم والدعاء، والعبادة والقيام وطول القيام والسكوت. أقول: يحتمل أن يراد بالقانت ها هنا القائم، فيكو نتعلق الباء به

ص: 2623

3789 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انتدب اله لمن خرج في سبيله

ــ

كتعلقه في قولك: قام بالأمر إذا جد فيه وتجلد له. فالمعنى القائم بما يجب عليه من استفراغ الجهد في معرفة كتاب الله، والامتثال بما أمر الله والانتهاء عما نهي الله، وأن يراد به طول القيام فيكون تابعا للقائم، أي المصلي الذي يطول قيامه في الصلاة وتكثر قراءته فيها، ويؤيد الوجه الثاني قوله:((لا يفتر من صيام ولا صلاة)).

فإن قلت: فبم شبهت حال المجاهد بحال الصائم؟ قلت: في نيل الثواب الجزيل بكل حرمة وسكون في كل حين وأوان؛ لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة من ساعاته آناء الليل وأطراف النهار من صيامه وصلاته، شبه المجاهد الذي لا يضيع لمحة من لمحاته من أجر وثواب، سواء كان قائما أو نائما يقاتل العدو أم لا، وبالصائم القائم الذي لا يفتر عما هو فيه، فهو من التشبيه الذي المشبه به مفروض غير محقق، وهو من قوله تعالي:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلَاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ (120) ولا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلَاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((انتدب الله)) ((نه)): أي أجابه إلي غفوانه، يقال: ندبته فانتدب، أي بغيته ودعوته فأجاب. ((تو)): وفي بعض طرقه ((تضمن الله)) وفي بعضها ((تكفل الله)) وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله: ((انتدب الله)) وكل ذلك صحاح.

أقول: أراد أن قوله: ((أن أرجعه)) متعلق بـ ((انتدب)) بحذف الجار علي تضمين ((تكفل)) أي تكفل الله بأن يرجعه فأرجعه حكاية قول الله تعالي. ولعل ((انتدب)) أشبه وأبلغ؛ لأنه مسبوق بدعوة الداعي مثل صورة خروج المجاهد في سبيل الله بالدعي الذي يدعو الله ويندبه لنصرته علي أعداء الدين وقهره أحزاب الشياطين ونيل أجوره والفوز بالغنيمة علي الاستعارة التمثيلية. وكان المجاهد في سبيل الله الذي لا غرض له في جهاده سوى التقرب إلي الله تعالي، والإيمان به والتصديق برسله فيما أخبروا به، أنه قربة إلي الله تعالي ووصلة ينال بها الدرجات العلي، تعرض بجهاده لطلب النصر والمغفرة، فأجابه الله تعالي إلي بغيته، ووعد له إحدى الحسنيين: إما السلامة والرجوع بالأجر والغنيمة، وإما الوصول إلي الجنة والفوز بمرتبة الشهادة. وقوله:((بما نال)) علي لفظ الماضي وأرد علي تحقق وعد الله تعالي وحصوله.

قوله: ((إلا إيمان بي)) بالرفع. ((مح)): ((إيمانا وتصديقا)) بالنصب في جميع نسخ مسلم علي أنه مفعول له، أي لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا إيمانا وتصديقا. أقول: علي رواية

ص: 2624

لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي؛ أن أرجعه بما نال من أجر وغنيمة، أو أدخله الجنة)) متفق عليه.

ــ

الرفع المستثنى منه أعم عام الفاعل، أي لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا إيمان وتصديق، وعلي رواية النصب المستثنى منه أعم عام المفعول له، أي لا يخرجه المخرج ولا يحركه المحرك لشيء من الأشياء إلا للإيمان والتصديق.

((شف)): قوله: ((لا يخرجه إلا إيمان بي)) فيه إضمار أي انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا لا يخرجه إلا إيمان بي. أقول: هذا أحد قولي المالكي، والآخر أن الضمير في ((سبيله)) راجع إلي ((من)) و ((سبيله)) نعت محذوف أي في سبيله المرضية، والنعت يحذف كثيرا إذا كان مفهوما، نحو قوله تعالي:{لَرَادُّكَ إلي مَعَادٍ} تحبه، ثم أضمر بعد ((سبيله)) قولا حكى به ما بعد ذلك لا موضع له من الإعراب، يعني أن الجملة الثانية استئنافية، كأن قائلا قال: وما ذاك بالانتداب وكيف انتدب؟ أجيب: قال: ((لا يخرجه)) لكن علي هذا التقدير لا يلتئم قوله: ((أن أرجعه)) بـ ((انتدب)). والأشبه أن يكون التفاتا؛ إذ لو قيل: ((إلا إيمان بي)) لكان مجرى علي الظاهر ولم يفتقر إلي الإضمار فعدل تفخيما لشأن المخرج ومزيدا لاختصاصه وقربه، والجار من ((أن أرجعه)) محذوف، أي أجاب الله دعاءه بأن قال: إما أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة.

((تو)): ويروى ((أو غنيمة)) وهو لفظ الكتاب، ويروى بالواو وهو أوجه الروايتين وأسدهما معنى. ((مح)): قالوا معناه أرجعه إلي مسكنه مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة معا إن غنموا. وقيل: إن ((أو)) هنا بمعنى الواو أي من أجر وغنيمة. ووقع بالواو في رواية أبي داود وكذا في صحيح مسلم في رواية يحيى بن يحيى. أقول: ((أو)) بمعنى الواو ورد في التنزيل منه قوله تعالي: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} كذا ذكره القتيبي.

وقوله: ((أو غنيمة)) عطف علي ((أجر)) و ((أو)) داخلة علي ((أن أرجعه)) فيكون صلة ((أن)) والتقدير أن الله تعالي أجاب الخارج في سبيله إما بأن يرجعه إلي مسكنه مع أجر بلا غنيمة أو أجر مع غنيمة، وإما أن يستشهد فيدخله الجنة.

((مح)): قال القاضي عياض: يحتمل أن يدخله عند موته كما قال تعالي في الشهداء: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، وأن يراد دخوله الجنة مع السابقين المقربين بلا حساب ولا عذاب، وتكون الشهادة مكفرة لذنوبه.

ص: 2625

3790 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه؛ ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل: ثم أحيى، ثم أقتل)) متفق عليه.

3791 -

وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها)). متفق عليه.

3792 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه.

3793 -

وعن سلمان الفارسي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رباط

ــ

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثم أحيى ثم أقتل)) ((ثم)) وإن دل علي التراخي في الزمان هنا، لكن الحمل علي التراخي في الرتبة هو الوجه؛ لأن المتمني حصول درجات بعد القتل، والإحياء لم يحصل قبل؛ ومن ثمة كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلي أن ينتهي إلي الفردوس الأعلي كما سبق.

انظر أيها المتأمل وتفكر في إيثاره صلى الله عليه وسلم صحبة أولئك الكملة علي هذه المراتب العلية؛ ليعلم فضلهم ومكانتهم عند الله تعالي. ومن ثمة كرر ((رجالا)) تعظيما وتفخيما وهم أشهر الناس، ولأمر ما خوطب حبيب الله صلوات الله عليه بالجلوس إليهم والصبر معهم في قوله تعالي:{واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ} وبالمفارقة عنهم بقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ} .

((مح)): فيه فضيلة الغزو والشهادة والخير وما لا يمكن في العادة من الخيرات. وفيه أن الجهاد من فروض الكفاية لا من العين. وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة علي المسلمين والرأفة، وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين، وأنه إذا تعارضت المصالح يؤثر أهمها.

الحديث الخامس إلي السابع عن سلمان: قوله: ((رباط يوم وليلة)) ((نه)): الرباط في الأصل الإقامة علي جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. والمرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثغر كل منهما معد لصاحبه. وسمي المقام في الثغور رباطا، ويكون الرباط مصدر رابطت أي

ص: 2626

يوم وليلة في سبيل الله، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) رواه مسلم.

3794 -

وعن أبي عبس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله؛ فتمسه النار)) رواه البخاري.

3795 -

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا)) رواه مسلم.

ــ

لازمت. قوله: ((وإن مات جرى عليه عمله)) الضمير في ((مات)) راجع إلي المرابط، وإن لم يجر له ذكر لدلالة الرباط عليه.

((مح)): هذه فضيلة مختصة بالمرابط لا يشاركه فيها غيره، وقد جاء صريحا في غير مسلم:((كل ميت يختم له علي عمله إلا المرابط، فإنه ينمي له عمله إلي يوم القيامة)).

((وأمن الفتان)) ضبطوه من وجهين: أحدهما بفتح الهمزة وكسر الميم. والثاني: ((أومن)) بضم الهمزة وإثبات الواو، و ((الفتان)) رواية الأكثر بضم الفاء جمع فاتن، ورواية الطبري بالفتح، وفي سنن أبي داود ((وفتنة القبر)). أقول: إذا روى بالفتح فالوجه ما قيل: إن المراد منه الذي يفتن المقبور بالسؤال فيعذبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيقيض له أعمى وأصم)) وإن روى بالضم فالأولي أن يحمل علي أنواع من الفتن بعد الإقبار من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب في القبر، وبعده من أهوال القيامة.

ومعنى ((جرى عليه عمله)) كقوله: جرى عليه القضاء، أي يقدر له من العمل بعد الموت، كما جرى منه قبل الممات. فجرى هنا بمعنى قدر ونحوه في المريض قوله صلى الله عليه وسلم:((إن العبد إذا كان علي طريقة حسنة من العبادة ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا)) ولما كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأجري عليه رزقه)) تلميحا إلي قوله: ((يرزقون)) أجرى مجراه في البناء للمفعول.

الحديث الثامن عن أبي عبس: قوله: ((فتمسه النار)) مسبب عن قوله: ((اغبرت)) والنفي منصب علي القبيلتين معا، وفائدته أن غير المذكور محال حصوله، فإذا كان مس الغبار قدميه دافعا لمس النار إياه، فكيف إذا سعى فيها واستفرغ جهده، وألقى النفس عليها بشراشره فقتل وقتل.

الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في النار أبدا)) ((مح)): قال القاضي: يحتمل أن هذا مختص بمن قتل كافرا في الجهاد، فيكون ذلك مكفرا لذنوبه حتى لا يعاقب

ص: 2627

3796 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير علي متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه

ــ

عليها،، وأن يكون عقابه بغير النار أو يعاقب في غير مكان عقاب الكفار، ولا يجتمعان في إدراكها. أقول: والأول هو الوجه، وهو من الكناية التلويحية، نفي الاجتماع فيلزم منه نفي المساواة بينهما فيلزم أن لا يدخل المجاهد النار أبدا، فإنه لو دخلها لساواه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الفصل الثاني:((ولا يجتمع علي عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) وفي رواية ((في منخري مسلم)). وقوله: ((أبدا)) بمعنى ((قط)) في الماضي، وعوض في المستقبل تنزيلا للمستقبل منزلة الماضي. ((الجوهري)): يقال: لا أفعله أبد الآباد وأبد الآبدين، كما يقال: دهر الداهرين وعوض العائضين، والمقام يقتضيه لأنه ترغيب في الجهاد وحث عليه، ونحوه قوله:((ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)).

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خير معاش الناس)) ((قض)): المعاش والتعيش، يقال: عاش الرجل معاشا ومعيشا وما يعاش به، فيقال له: معاش ومعيش كمعاب ومعيب ومحال ومحيل. وفي الحديث يصح تفسيره بهما و ((جل)) رفع بالابتداء علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي معاش رجل هذا شأنه من خير معاش الناس لهم. ((يطير علي متنه)) أي يسرع راكبا علي ظهره مستعار من طيران الطائر. و ((الهيعة)) الصيحة التي يفزع منها ويجبن، من هاع يهيع هيعا إذا جبن. و ((الفزعة)) ها هنا فسر بالاستغاثة من فزع إذا استغاث، وأصل الفزع شدة الخوف فيبتغي القتل والموت مظانه، أي لا يبالي ولا يحترز منه بل يطلبه حيث يظن أنه يكون)).

و ((مظان)) جمع مظنة وهي الموضع الذي يعهد فيه الشيء ويظن أنه فيه، ووحد الضمير في ((مظانه)) إما لأن الحاصل والمقصود منهما واحد، أو لأنه اكتفي بإعادة الضمير إلي الأقرب، كما اكتفي بها في قوله تعالي:{والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} ((أو رجل في غنيمة)) أي معاشة، والظرف متعلق به إن جعل مصدرا أو بمحذوف هو صفة لرجل، و ((غنيمة)) تصغير غنم وهو مؤنث سماعي؛ ولذلك صغرت بالتاء، و ((الشعفة)) رأس الجبل ((من هذه الشعف))، يريد به الجنس لا العهد، و ((اليقين)) الموت. سمي به لتحقق وقوعه.

أقول: قوله: ((يطير)) إما صفة بعد صفة أو حال من الضمير في ((ممسك)) و ((طار)) جواب ((كلما)) وهو مع جوابه حال من ضمير ((يطير)). وفيه تصوير حالة هذا الرجل وشدة اهتمامه بما

ص: 2628

الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين؛ ليس من الناس إلا في خير)) رواه مسلم.

ــ

هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وهو أنه عادته ودأبه ولا يهتم ولا يلتفت إلي غير ذلك. نحوه قول حاتم:

ولله صعلوك يساور همه ويمضي علي الأحداث والدهر مقدما

في طلبات لا يرى الخمص ترحة ولا شبعة إن نالها عد مغنما

إذا ما رأي يوما مكارم أعرضت تيمم كبراهن ثمت صمما

يرمي رمحه ونبله ومجنه وذا شطب غضب الضريبة مخذما

وأحناء سرج فاتر ولجامه عتاد أحيي هيجاء وطرفا مسوما

فذلك إن يهلك فحسن ثناؤه وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما

وعطف قوله: ((والموت)) علي ((القتل)) لما أريد به الأهوال والأفزاع في مواطن الحرب، كقول الحماسي:

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها

فتكون ((مظانه)) بدل اشتمال من الموت، كقوله تعالي:{واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انتَبَذَتْ} أي اذكر وقت انتباذها، فيكون مفعولا به علي الاتساع كقوله ويوم شهدنا، ومظان الموت في الحديث بمنزلة غمرات الموت في البيت. وذهب الشارحون إلي أنه منصوب علي الظرفية من قوله:((يبتغي)).

و ((هذه)) من قوله: ((من هذه الشعف)) و ((هذه الأودية)) للتحقير كما في قوله تعالي: {ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا} وقوله: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ومن ثمة صغر ((غنيمة)) وصفا لقناعة هذا الرجل بأنه سكن في أحقر مكان ويجتزئ بأدنى قوت، واعتزال الناس يكفهم شره عنهم، ويستكفي شرهم عنه، ويشتغل بعبادة ربه حتى يجيئه الموت. وعبر عن الموت باليقين ليكون نصب عينيه مزيدا للتسلي؛ فإن في ذكر هادم اللذات ما يعرضه عن أغراض الدنيا، ويشغله عن ملاذها بعبادة ربه حتى يحيه ألا ترى كيف سلي حبيبه صلوات الله عليه حين لقي ما لقي من

ص: 2629

3797 -

وعن زيد بن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من جهز غازيا في سبيل الله؛ فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله؛ فقد غزا)) متفق عليه.

3798 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمة نساء المجاهدين علي

ــ

أذى الكفار بقوله تعالي: {ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} .

((مح)): في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة علي الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعي وأكثر العلماء، أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن. ومذهب طوائف من الزهاد أن الاعتزال أفضل، واستدلوا بالحديث. وأجاب الجمهور بأنه محمول علي زمان الفتن والحروب، أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر علي أذاهم.

وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضي وحلق الذكر وغير ذلك.

أقول: وفي تخصيص ذكر المعاش تلميح، فإن العيش المتعارف بين أبناء الدهر هو استيفاء اللذات والانهماك في الشهوات، كما سميت البيداء المهلكة بالمفازة والمنجاة، واللديغ بالسليم، وتلميح إلي قوله صلى الله عليه وسلم:((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)). وفيه أن لا عيش ألذ وأمرأ وأشهي وأهنأ مما يجد العبد من طاعة ربه ويستروح إليها، حتى يرفع تكاليفها ومشاقها عنه، بل إذا فقدها كان أصعب عليه مما إذا وتر أهله وماله، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم:((أرحنا يا بلال)) وقوله: ((وجعل قرة عيني في الصلاة)) وتعريض بذم عيش الدنيا لما ورد: ((تعس عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة)) إلي قوله: ((طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله)) الحديث. وجماع معنى الحديث الحث علي مجاهدة أعداء الدين، وعلي مجاهدة النفس والشيطان والإعراض عن استيفاء اللذات العاجلة.

الحديث الحادي عشر عن زيد: قوله: ((ومن خلف غازيا)) ((قض)): يقال: خلفه في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم، أي من تولي أمر الغازي وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته، شاركه في الثواب؛ لأن فراغ الغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه مسبب من فعله.

الحديث الثاني عشر عن بريدة: قوله: ((فيخونه فيهم)) الضمير المفعول عائد إلي ((رجلا)) وفي ((فيهم)) إلي الأهل تعظيما وتفخيما لشأنهن، كقول الشاعر:

ص: 2630

القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم؛ إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟)). رواه مسلم.

3799 -

وعن أبي مسعود الأنصاري، قال جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)). رواه مسلم.

ــ

((وإن شئت حرمت النساء سواكم)) وإنهن ممن تجب مراعاتهن وتوقيرهن

وإلي هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كحرمة أمهاتهم)) والضمير في ((له)) يعود إلي ((رجلا)). والأظهر أن يكون بمنزلة اسم الإشارة كما في قول رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

يعني وقف الخائي لأجل ما فعل من سوء الخلافة للغازي في أهله.

وقوله: ((فما ظنكم؟)) فيه تهديد عظيم. ((مح)): معناه ما تظنون في رغبة المجاهد في أخذ حسناته، والاستكثار منها في ذلك المقام، أي لا يبقى منها شيء إلا أخذه. ((مظ)): أي ما ظنكم بالله مع هذه الخيانة؟ هل تشكون في هذه المجازاة أم لا؟ يعني إذا علمتم صدق ما أقول فاحذروا من الخيانة في نساء المجاهدين. ((تو)): أي فما ظنكم بمن أحله الله بهذه المنزلة، وخصه بهذه الفضيلة وبما يكون وراء ذلك من الكرامة.

أقول: الأقرب قول المظهر؛ فإن سياق الكلام جاء في حرمة نساء المجاهدين، وتوقير شأنهن وتنزيلهن منزلة الأمهات، وأن الخيانة معهن منافية للدين والمروءة، يعني ما تظنون في ارتكابكم هذه الجريمة العظيمة، هل تتركون مع تلك الخيانة أم ينتقم الله منكم؟ ويلزم من هذا تعظيم شأن المجاهدين.

الحديث الثالث عشر عن أبي مسعود: قوله: ((بناقة مخطومة)) ((نه)): خطام البعير أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان، فيجعل في أحد طرفيه حلقة ثم يشد به الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة ثم يقلد البعير ثم يثنى علي مخطمه. وأما الذي يجعل في الأنف دقيقا فهو الزمام ((مح)): يحتمل أن يكون المراد له اجر سبعمائة ناقة في غير سبيل الله، وأن يكون علي ظاهره، ويكون له في الجنة بها سبعمائة ناقة، كما جاء في خيل الجنة.

ص: 2631

3800 -

وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلي بني لحيان من هذيل. فقال: ((لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما)). رواه مسلم.

3801 -

وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)) رواه مسلم.

3802 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك)) متفق عليه.

ــ

الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد قوله: ((بعث بعثا)) البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثته فانبعث، وقد يسمى الجيش بعثا؛ لأنه ينبعث ثم يجمع. وقوله:((فقال: لينبعث)) أي أراد أن يبعث بعثا فقال: لينبعث. ((مح)): ((لحيان)) بكسر اللام وفتحها والكسر أفصح، يعني بعث جيشا إليهم ليغزوهم، فقال لهم: ليخرج من كل قبيلة نصف عددها. وكون الأجر بينهما محمول علي ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير.

الحديث الخامس عشر عن جابر: قوله: ((يقاتل عليه)) جملة مستأنفة بيانا للجملة الأولي، وعداه بـ ((علي)) لتضمينه معنى تظاهر، أي يظاهرون بالمقاتلة علي أعداء الدين، يعني أن هذا الدين لم يزل قائما بسبب مقاتلة هذه الطائقة. وما أظن هذه العصابة إلا الفئة المنصورة بالشام والمغرب. ((مح)): ورد في الحديث: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين علي الحق حتى تقوم الساعة)) قيل: هم أهل الشام وما وراء ذلك، وفيه معجزة ظاهرة؛ فإن هذا الوصف لم يزل بحمد الله تعالي من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلي الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله تعالي.

الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((والله أعلم بمن يكلم في سبيله)) جملة معترضة بين المستثنى منه، والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه، وتفخيم بشأن من يكلم في سبيل الله. ومعناه – والله أعلم – تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله.

ونظيره قوله تعالي: {قَالَتْ رَبِّ إني وضَعْتُهَا أُنثَى واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} قوله: {واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وضَعَتْ} معترض بين كلامي أم مريم تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها، ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور. ويجوز أن يكون تتميما للصيانة من الرياء والسمعة.

((مح)): هذا تنبيه علي الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا الفضل وإن كان ظاهرا في قتال الكفار، لكن يدخل فيه من

ص: 2632

3808 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلي الدنيا وله ما في الأرض من شيء، إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلي الدنيا. فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)) متفق عليه.

3804 -

وعن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية. قال: ((إنا قد سألنا عن ذلك. فقال: ((أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل

ــ

خرج في قتال البغاة وقطاع الطريق، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. قوله:((وجرحه يثعب دما)) ((تو)): ثعبت الماء فجرته فانثعب، إضاف الفعل إلي الجرح؛ لأنه السبب في فجر الدم و ((دما)) يكون مفعولا. ولو أراد به التمييز لكان من حقه أن يقول: ينبعث دما أو يثعب، علي بناء المجهول، ولم أجده رواية.

أقول: مجيئه متعديا نقل عن الجوهري. وظاهر كلام صاحب النهاية أنه لازم حيث فسره بقوله: ((يجري)) ولأنه جاء في حديث آخر: ((وجرحه تشخب دما)) والشخب السيلان وقد شخب يشخب، فحينئذ يكون من قوله تعالي:{وأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} فإن الظاهر أن يقال: إن الدمع تفيض من العين، فجعل العين فائضة مبالغة، كذلك الدم السائل من الجرح لا الجرح سائل. ((مح)): فيه دليل علي أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا بغيره، والحكمة فيه أنه يجيء يوم القيامة علي هيأته ليكون معه شاهدا.

الحديث السابع عشر والثامن عشر عن مسروق: قوله: (إنا قد سألنا عن ذلك فقال)) ((مح)): الحديث مرفوع؛ لقوله: ((إنا قد سألنا عن ذلك فقال)) يعني النبي صلى الله عليه وسلم (قض)): المسئول والمجيب هو الرسول صلوات الله عليه، وفي ((فقال)) ضمير له، ويدل عليه قرينة الحال؛ فإن ظاهر حال الصحابي أن يكون سؤاله واستكشافه من الرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تأويل آية هي من المتشابهات وما هو من أحوال المعاد؛ فإنه غيب صرف لا يمكن معرفته إلا بالوحي؛ ولكونه بهذه المثابة من التعين أضمر من غير أن يسبق ذكره.

وقوله: ((أرواحهم في أجواف طير خضر)) أي يخلق لأرواحهم بعد ما فارقت أبدانهم هياكل علي تلك الهيئة تتعلق بها، وتكون خلفا عن أبدانهم فيتوسلون بها إلي نيل ما يشتهون من اللذائذ الحسية. واطلاع الله عليهم واستفهامه عما يشتهونه مرة بعد أخرى مجاز عن مزيد تلطفه بهم، وتضاعف تفضله عليهم. وإنما قال:((اطلاعة)) ليدل علي أنه ليس من جنس اطلاعننا علي

ص: 2633

معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلي تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شيءنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركزا من أن يسألوا. قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأي أن ليس لهم حاجة تركوا)) رواه مسلم.

ــ

الأشياء وعداه بـ ((إلي)) وحقه أن يعدى بـ ((علي)) لتضمنه معنى الانتهاء. والمراد بقوله: (0فلما رأوا أنهم لم يتركوا)) إلي آخره، أنه لا يبقى لهم متمنى ولا مطلوب أصلا غير أن يرجعوا إلي الدنيا، فيستشهدوا ثإنيا؛ لما رأوا بسببه من الشرف والكرامة هذا.

وإن الحديث تمثيل لحالهم وما هم عليه من البهجة والسعادة، وشبه لطافتهم وبهاءهم وتمكنهم من التلذذ من أنواع المشتهيات والتبوء من الجنة حيث شاءوا، وقربهم من الله تعالي وانخراطهم في غمار الملأ الأعلي الذين هم حول عرش الرحمن، بما إذا كانوا في أجواب طير خضر تسرح إلي الجنة حيث شاء، وتأوي إلي قناديل معلقة بالعرش. وشبه حالهم في استجماع اللذائذ وحصول جميع المطالب، بحال من يبالغ ويشدد عيه ربه المتفضل المشفق عليه غاية التفضل والإشفاق، القادر علي جميع الأشياء، بأن يسأل منه مطلوبا ويكرر عليه مرة بعد أخرى، بحيث لا يرى بدا من السؤال فمل ير شيئا ليس له أن يسأله إلا أن يرد إلي الدنيا، فيقتل في سبيل اله مرة أخرى. والعلم عند الله تعالي.

((مح)): قال القاضي عياض: واختلفوا فيه قيل: ليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله أن يجعل الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أو جوف طير خضر، أو حيث شاء كان ذلك ووقع، ولم يبعد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام فغير مستحيل أن يصور جزء من الإنسان طائرا، أو يجعل في جوف طائر في قناديل تحت العرش. وقد اختلفوا في الروح فقال كثير من أرباب المعإني وعلم الباطن والمتكلمين: لا يعرف حقيقته ولا يصح وصفه وهو مما جهل العباد علمه. واستدلوا بقوله تعالي: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة. وقال آخرون: هو أجسام لطيفة مشابكة للجسم تحيى بحياته، وأجرى الله تعالي العادة بموت الجسم عند فراقه؛ ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم. قال الشيخ: هذا هو المختار.

وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح، وتنعيمها في صور

ص: 2634

3805 -

وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله، يكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟)) فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله:((نعم؛ وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك)) رواه مسلم

ــ

الحسان المرفهة وتعديبها في الصور الفبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب وهذا باطل مردود لإبطال ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشب والنشر والجنة والنار؛ ولهذا قال في حديث آخر:((حتى يرجعه الله إلي جسده يوم يبعث الأجسام))، وفيه بيان أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة وهي التي أهبط منها آدم، وينعم فيها المؤمنون في الآخرة.

وفيه أن مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، وأن الأرواح باقية لا تفنى فيتنعم المحسن ويعذب المسيء، وهو مذهب أهل السنة وبه نطق التنزيل والآثار، خلافا لطائقة من المبتدعة. قال الله تعالي:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} .

قوله: ((من أن يسألوا)) ((من)) زائدة لوقوعها في سياق النفي، و ((أن يسألوا)) بدل من ((ما)) أقيم مقام الفاعل في ((يتركوا)) يعني لن يترك سؤالهم.

الحديث التاسع عشر عن أبي قتادة: قوله: ((مقبل غير مدبر)) ((مح)): ((غير مدبر)) احتراز ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت. و ((المحتسب)) هو المخلص لله تعالي وإن قاتل عصبية أو لأخد غنيمة ونحو ذلك فليس له الثواب، أقول: ويجوز أن يكون ((غير مدبر)) تأكيدا علي منوال قولهم: أمس الدابر لا يعود؛ لأن الكر والفر في المبارزة محمود. وقوله: ((إلا الدين)) استثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا، أي الدين الذي لا ينوي أداؤه.

((تو)): أراد بـ ((الدين)) هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين؛ إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجإني والقاصب والخائن والسارق – انتهي كلامه. فإن قلت: كيف قال صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟)) وقد أحاط بسؤاله علما وأجاب بذلك الجواب؟. قلت: ليسأل ثإنيا ويجيبه بذلك الجواب ويعلق به إلا الدين استدراكا بعد إعلام جبريل عليه السلام إياه صلى الله عليه وسلم.

ص: 2635

3806 -

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين)) رواه مسلم.

3807 -

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يضحك الله تعالي إلي رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله علي القاتل فيستشهد)) متفق عليه.

3808 -

وعن سهل بن حنيف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء. وإن مات علي فراشه)) رواه مسلم.

3809 -

وعن أنس، أن الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر. أصابه سهم غرب، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. فقال:((يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلي)) رواه البخاري.

3810 -

وعنه، قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلي بدر، وجاء المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلي جنة عرضها السماوات

ــ

الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يضحك الله تعالي إلي رجلين)) عدى ((يضحك)) بـ ((إلي)) لتضمنه معنى الانبساط والإقبال، مأخوذ من قولهم: ضحكت إلي فلان إذا انبسطت إليه وتوجهت إليه بوجه طلق وأنت راض عنه. ((مح)): ويحتمل أن يراد ضحك ملائكة الله تعالي المتوجهين بقبض روحه كما يقال: قتل السلطان فلانا إذا أمر بقتله.

الحديث الثاني والعشرون والثالث والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سهم غرب)) أي لا يعرف راميه، وهو بفتح الراء وسكونها وبالإضافة والوصف. وقيل: بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره. قوله:((إنها جنان في الجنة)) هو ضمير مبهم يفسره ما بعده من الخبر كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء *، ويجوز أن يكون الضمير للشأن، و ((جنان)) مبتدأ والتنكير فيه للتعظيم. والمراد بالجنان الدرجات فيها؛ لما ورد ((في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها)).

الحديث الرابع والعشرون عن انس رضي الله عنه: قوله: ((إلي بدر)) ((بدر)) موضع يذكر

ص: 2636

والأرض)). قال عمير بن الحمام: بخ بخ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك علي قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) قال: فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل، رواه مسلم.

ــ

ويؤنث، وهو اسم ماء. وقال الشعبي: بئر بدر كانت لرجل يدعى بدرا، ومنه يوم بدر. قتل عمير هذا أول من قتل من الأنصار في الإسلام. قوله:((قوموا إلي جنة)) عداه بـ ((إلي)) لإرادة معنى المسارعة كما في قوله تعالي: {وسَارِعُوا إلي مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ووصف الجنة بالعرض مبالغة عرفا. وتخصيص العرض بها دون الطول دلالة علي أن العرض إذا كان كذلك فما بال الطول؟.

((تو)) ((بخ)) كلمة تقال عند المدح والرضي بالشيء، وكررت للمبالغة. وسبق إلي فهم الرجل من قوله صلى الله عليه وسلم:((ما يحملك علي قولك: بخ بخ؟)) أنه يوهم أن قوله ذلك صدر عنه من غير رؤية ونية، شبيها بقول: من سلك مسلك الهزل والمزاح، فنفي ذلك عن نفسه بقوله:((لا والله) أي ليس الأمر علي ما توهمت. وقوله: ((إلا رجاء)) أي ما قلت ذلك إلا رجاء.

أقول قوله: شبيها بقول من سلك مسلك المزاح. وقوله: ((ليس الأمر علي ما توهمت)). ليسا بمرضيين بل يحمل ((بخ بخ)) علي ما فسر في الفريبين من قوله: قال أبو بكر: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه وكذا في شرح مسلم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما قال:((قوموا إلي جنة)) أي سارعوا إليها وابذلوا مهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ولا تقاعسوا عنها. عظم عمير ذلك وفخمه بقوله:((بخ بخ)). فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك علي هذا التعظيم؟ أخوفا قلت هذا؟ فقال: لا بل رجاء. والفاء في قوله: ((فإنك)) جزاء شرط أي إذا كان الأمر علي ما قلت؛ فإن الله تعالي يجيبك إلي ما ترومه وترجوه. ((والقرن)) بفتح القاف والراء جعبة النشاب.

وقوله: ((لئن أنا حييت)) اللام موطئه للقسم، و ((إن)) شرطية و ((أنا)) فاعل فعل (*) مضمر يفسره ما بعده. و ((إنها لحياة)) جواب القسم، واكتفي به عن جواب الشرط. ويمكن أن يذهب إلي مذهب أصحاب المعإني، فيقال: إن الضمير المنفصل قدم للاختصاص، وهو علي منوال قوله تعالي:{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ} فكأنه وجد نفسه مختارة للحياة علي الشهادة فأنكر عليها ذلك الإنكار. وإنما قال ذلك استبطاء للانتداب بما ندب به من قوله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلي جنة)) أي سارعوا إليها، ومما ارتجز به عمير يومئذ قوله:

ص: 2637

3811 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: ((إن شهداء أمتي اذن لقليل: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)). رواه مسلم.

ــ

ركضا إلي إلي الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله علي الجهاد

وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد

أي اركض ركضا وأسرع إسراعا مثل ركض الخيل وإسراعه، وركضه خفف في القول كما حفف في الأكل مبادرة إلي ما انتدب إليه.

الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما تعدون الشهيد)) قال المالكي: العد يوافق الظن في المعنى والعمل، ويشهد له ما روي عن جبريل عليه السلام جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين. ((فما)) من قوله: ((فما تعدون)) استفهامية في موضع نصب مفعول ثان، و ((أهل بدر)) مفعول أول، وإجراء عد مجرى ظن معنى وعملا مما أغفله النحويون، ومن شواهده قول الشاعر:

فلا تعدد المولي شريكك في الغنى ولكن المولي شريكك في العدم

وقال الآخر:

لا تعدد المرء خلا قبل تجربة فرب ذي ملق في قلبه أحسن

((تو)): ((ما)) استفهامية ويسأل بكلمة ((ما)) عن جنس ذات الشيء ونوعه [وعن صفات جنس الشيء ونوعه] *، وقد يسأل بها عن الأشخاص الناطقي. ولما كانت حقيقة الاستفهام هاهنا السؤال عن الحالة التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، استفهم عنها بكلمة ((ما)) لتكون أدل علي وصفها وعلي المعنى المراد منها، ثم إنها مع ذلك تسد مسد ((من)) ولهذا أجابوا عنها بقولهم: من قتل في سبيل الله.

أقول: ((ما)) هنا سؤال عن وصف من له كرامة وقرب عن الله، قال الله تعالي:{والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} فيشتمل علي ما ذكره صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من قتل في سبيل الله)) إلي آخره. فلما لم يطابق جوابهم سؤاله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله: ((إن شهداء أمتي إذن لقليل)) وكان يكفي علي ظنهم أن يقولوا: من قتل في سبيل الله. فأطنبوا وأتوا في الخبر بالفاء؛ دلالة علي أن صلة الموصول علة للخبر فخصوا ما أريد العموم فيه.

((قض)): الشهيد فعيل من الشهود بمعنى المفعول؛ لأن الملائكة تحضره وتبشره بالفوز والكرامة، أو بمعنى فاعل؛ لأنه يلقى ربه ويحضر عنده كما قال تعالي: {والشُّهَدَاءُ عِندَ

ص: 2638

3812 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من غازية، أو سرية. تغزو، فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم. وما من غازية، أو سرية، تخفق وتصاب، إلا تم أجورهم)). رواه مسلم.

ــ

رَبِّهِمْ} أو من الشهادة فإنه بين صدقة في الإيمان والإخلاص في الطاعة ببذل النفس في سبيل الله، أو يكون تلو الرسل في الشهادة علي الأمم يوم القيامة. ومن مات بالطاعون أم بوجع في البطن ملحق بمن قتل في سبيل الله؛ لمشاركته إياه في بعض ما ينال من الكرامة بسبب ما كابده من الشدة، لا في جملة الأحكام والفضائل.

قال المالكي ((في)) من قوله: ((في الطاعون والبطن)) بمعنى بالباء الدالة علي السببية كقوله تعالي: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . أقول: ((في)) في مواقعها الأربعة ظرف لكن الأخيرتين علي المجاز، ولما كان الطاعون والبطن لقابليتهما وتمكينهما الموت فيهما جعلا ظرفا لهما، فكأنهما تمكنا منهما تمكن المظروف في الظرف، فجريا لذلك مجرى سببين؛ ولهذا السر ذهب أهل الأصول إلي أن قولهم: سال الوادي. من المجاز الذي العلاقة في السببية؛ لقابلية الوادي سيلان الماء فيه.

الحديث السادس والعشرون عن عبد الله: قوله: ((ما من غازية)) ((نه)): الغازية تإنيث الغازي، وهي هاهنا صفة لجماعة غازية، وقد غزا غزوا فهو غاز والغزوة المرة من الغزو، والاسم الغزاء وجمع الغازي غزاة. والسرية قطعة من الجيش، وإنما أتى صلى الله عليه وسلم بـ ((أو)) تنبيها علي إثبات الحكم المذكور في الكثير من الغزاة والقليل منهم. وإن كان هذا اللفظ من الراوي فلشكه في عبارة النبي صلى الله عليه وسلم. و ((الإخفاق)) أن يغزو فلا يغنم شيئا، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم تقض له، وأصله من الخفق وهو التحرك أي صارت الغنيمة خافقة غير ثابتة مستقرة.

((قض)): والمعنى أن من غزا الكفار فرجع سالما غانما، فقد تعجل واستوفي ثلثي أجره، وهما السلامة والغنيمة في الدنيا، وبقي له ثلث الأجر يناله في الآخرة؛ بسبب ما قصد بغزوه محاربة أعداء الله ونصرة دينه. ومن غزا فأصيب في نفسه بقتل أو جرح، ولم يصادف غنيمة فأجره باق بكماله، لم يستوف منه شيئا فيوفر عليه بتمامه في الآخرة.

أقول: ولفظ ((تعجلوا)) يستدعي أن يكون لكل غازي في غزائه ثواب فمن أصاب السلامة والغنيمة، استوفي ثلثي ثوابه في الدنيا بدل ما كان له في الآخرة، وإليه الإشارة بقوله:((تعجل)). ومن لم يغنم وقتل أتم أجره حيث لم يعجل بشيء. بقي قسمان: من سلم وأخفق

ص: 2639

3813 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه؛ مات علي شعبة من نفاق)). رواه مسلم.

3814 -

وعن أبي موسى، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال:((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). متفق عليه.

ــ

فقد تعجل بثلثه، وبقي له ثلثان في الآخرة. ومن رجع مجروحا يقسم علي هذا التقسيم بحسب جرحه، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.

الحديث السابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مات علي شعبة من نفاق)) ((مح)): قال عبد الله بن المبارك: نرى أن ذلك علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقد قال غيره: إنه عام. والمراد أن من فعل فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف؛ فإن ترك الجهاد إحدى شعب النفاق. وفيه أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعها، لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه علي من مات ولم ينوها، وقد اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها فأخرها بنية أن يفعلها ومات، أو أخر الحج كذلك. قيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج دون الصلاة.

الحديث الثامن والعشرون عن أبي موسى: قوله: ((والرجل يقاتل للذكر)) ((نه)): أي ليذكر بين الناس ويوصف بالشجاعة، والذكر الشرف والفخر والصيت. قوله:((ليرى مكانه)) ((شف)): هو من باب الإفعال، فإن قرئ معلوما ففاعله ضمير الرجل والمفعول الأول محذوف، أي يقاتل ذلك الرجل ليرى هو مكانه أن منزلته ومكانته من الشجاعة الناس، فالقرق علي هذا بين قوله:(يقاتل للذكر)) وبين هذا، أن الأول سمعة والثاني رياء، أي من الغزاة من سمع ومنهم من راءى، وإن قرئ مجهولا فالذي أقيم مقام الفاعل ضمير الرجل و ((مكانه)) نصب علي المفعول الثاني، أي قاتل ذلك الرجل ليبصر هو منزلته من الجنة، وتحقيقه أنه قاتل للجنة لا لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. ((مظ)): أي ليرى منزلته من الجنة، أي لتحصل له الجنة.

أقول: قوله: فالذي أقيم مقام الفاعل ضمير الرجل، و ((مكانه)) نصب علي المفعول الثاني غير صحيح، بل المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل، وكذا في نسخة صحيحة للبخاري وجامع الأصول مضبوط بالرفع، ايليرى الناس منزلته في سبيل الله، وأيضا لا فرق بين السمعة والرياء.

المغرب: يقال: فعل ذلك سمعة ليريه أي ليريه الناس من غير أن يكون قصد به التحقيق، وسمع بكذا شهره تسميعا، ومنه الحديث: ((من سمع الناس بعمله سمع الله به أسامع

ص: 2640

3815 -

وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال:((إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)). وفي رواية: ((إلا شركوكم في الأجر)). قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر)). رواه البخاري.

3816 -

ورواه مسلم عن جابر.

ــ

خلقه وحقره وصغره)) نوه الله لريائه وملأ به أسماع خلقه فيفتضح. ولعل الأظهر أن يراد بالذكر الصيت والسمعة، وبالرؤية علم الله، ونحوه قوله تعالي:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} يعني المجاهد منكم للغنيمة والذكر، والمجاهد الصابر الذي يستفرغ جهده في سبيل الله. ويجوز أن يراد بالرؤية رؤية المؤمنين في القيامة منزلته عند الله تعالي، كما سيجيء في الفصل الثالث في حديث فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة)) هكذا الحديث. فيكون الرجل قد سأل عن أحوال المجاهدين بأسرها ومقاتلتهم، إما للغنيمة أو للذكر والصيت والفخر رياء، أو ليحمده الله تعالي، فكنى صلى الله عليه وسلم عن الثالث بقوله:((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)) إحمادا عليه وشكرا لصنيعه، وإلا كان يكفيه في الجواب أن يقول:((من يقاتل ليرى مكانه)) والمكان ها هنا بمنزلة المكانة في قوله تعالي: {اعْمَلُوا عَلي مَكَانَتِكُمْ} .

((الكشاف)): المكانة تكون مصدرا، يقال: مكن مكانه إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان يقال: مكان ومكانة ومقام ومقامة، أي اعملوا علي تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا علي جهتكم وحالكم التي انتم عليها. و ((كلمة الله)) عبارة عن دين الحق؛ لأن الله تعالي دعا إليه وأمر الناس بالاعتصام به، كما قيل لعيسى كلمة الله. و ((هي)) فصل والخبر ((العليا)) فأفاد الاختصاص أي لم يقاتل لغرض من الأغراض إلا لإظهار الدين. والله أعلم.

الحديث التاسع والعشرون عن أنس: قوله: ((إلا شركوكم في الأجر)) يدل هذا علي أن القاعدين من الأضراء يشاركون المجاهدين في الأجر، ولا يدل علي استوائهما فيه، والدال علي نفي الاستواء قوله تعالي:{فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ عَلي القَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي

ص: 2641

3817 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد. فقال:((أحي والداك؟)). قال: نعم. قال: ((ففيهما فجاهد)). متفق عليه. وفي رواية: ((فارجع إلي والديك فأحسن صحبتهما)).

3818 -

وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يوم الفتح:((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)). متفق عليه.

ــ

علي الأضراء منهم، وقوله تعالي:{وفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلي القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ} أي علي غير الأضراء منهم، وفضل الله تعالي المجاهدين علي القاعدين الأضراء درجة وهي الغنيمة ونصرة دين الله في الدنيا، وفضل الله عليهم درجات في العقبى.

((مح)):: فيه فضيلة النية في الخير، وأن من نوى غزوا أو غيره من الطاعات، فعرض له عذر منعه، حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أثر من التأسف علي فوات ذلك، وتمنى كونه من الغزاة ونحوهم كان أكثر ثوابا.

الحديث الثلاثون عن عبد الله: قوله: ((ففيهما فجاهد)) فيهما متعلق بالأمر، قدم للاختصاص، الفاء الأولي جزاء شرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط أي إذا كان الأمر كما قلت، فاختص المجاهدة في خدمة الوالدين، نحوه قوله تعالي:{فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي إذا لم تخلصوا إلي العبادة في ارض فأخلصوها في غيرها، فحذف الشرط وعوض منه تقديم المفعول المفيد للاختصاص ضمنا.

وقوله: ((فجاهد) جيء به مشاكلة. ((حس)) *:هذا في جهاد التطوع لا يخرج إلا بإذن الوالدين إذا كانا مسلمين، فإن كان الجهاد فرضا متعينا فلا حاجة إلي إذنهما، وإن معناه عصاهما وخرج، وإن كانا كافرين فيخرج دون إذنهما فرضا كان الجهاد أو تطوعا. وكذلك لا يخرج إلي شيء من التطوعات الحج والعمرة والزيارة، ولا يصوم التطوع إذا كره الوالدان المسلمان أو أحدهما إلا بإذنهما.

الحديث الحادي والثلاثون عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ((خط)): كانت الهجرة علي معنيين: أحدهما: الهجرة من دار الكفر إلي دار الإسلام، فأمر من أسلم منهم بالهجرة عنهم ليسلم دينهم؛ وليزول أذى المشركين عنهم ولئلا يفتتنوا. والمعنى الثاني: الهجرة من مكة إلي المدينة، فإن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين يومئذ، فأوجبت الهجرة إلي النبي صلى الله عليه وسلم، علي كل من أسلم يومئذ في أي موضع كان؛ ليستعين النبي صلى الله عليه وسلم بهم إن حدث حادث؛ وليتفقهوا في الدين فيعلموا أقوامهم أمر الدين وأحكامه. فلما فتحت

ص: 2642

الفصل الثاني

3819 -

عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون علي الحق، ظاهرين علي من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)). رواه أبو داود. [3819]

ــ

مكة وأسلموا، استغنى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك إذ كان معظم خوف المؤمنين من أهل مكة، فلما أسلموا أمكن المسلمين أن يقروا في قعر دارهم، فقيل لهم: أقيموا في أوطانكم وقروا علي نية الجهاد.

أقول: تقتضي ((لكن)) مخالفة ما بعدها لما قبلها، فالمعنى أن مقارقة الأوطان لله ورسوله التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميزة لأهلها من سائر الناس امتيازا ظاهرا انقطعت، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالي، كطلب العلم والفرار بدينه من دار الكفر، أو مما لا يقام فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزيارة بين الله وحرم رسوله والمسجد الأقصى وغيرها، أو بسبب الجهاد في سبيل الله باقية مدى الدهر.

((مح)): معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، لكن حصوله بالجهاد والنية الصالحة. وفيه حث علي نية الخير وأنه يثاب عليها. ((وإذا استنفرتم)) معناه إذا طلبكم الإمام للخروج إلي الجهاد فاخرجوا. وهذا دليل علي أن الجهاد ليس فرض عين بل هو فرض كفاية، إذا فعله من يحصل بهم الكفاية سقط الخروج * عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا أجمعون. قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين، فيتعين عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية، وجب علي من يليهم تتميم الكفاية.

أقول: وقد خص الاستنفار بالجهاد، ويمكن أن يحمل علي العموم أيضا أي إذا استنفرتم إلي الجهاد فانفرا، وإذا استنفرتم إلي طلب العلم وشبهه فانفروا؛ قال تعالي:{فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} أي هلا نفروا حين استنفروا.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن عمران: قوله: ((ظاهرين علي من ناوأهم)) ((تو)): أي غالبين علي من عاداهم، والمناوأة المعاداة، والأصل فيه الهمز؛ لأنه من النوء وهو النهوض. وربما ترك همزه، وإنما استعمل ذلك في المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين ينهض إلي قتال صاحبه انتهي كلامه. وقد سبق في الفصل الأول أن تنزيل أمثال هذا الحديث علي الطائقة المنصورة من أهل الشام أولي وأحرى.

ص: 2643

3820 -

وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من لم يغز، ولم يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)). رواه أبو داود. [3820]

3821 -

وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم)). رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. [3821]

3822 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افشوا السلام، وأطعموا الطعام، واضربوا الهام؛ تورثوا الجنان)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3822]

ــ

قوله: ((يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) أي لا تنقطع تلك الطائفة المنصورة، بل تبقى إلي أن يقاتل آخرهم الدجال. أي إلي قيام الساعة؛ فإن خروج الدجال من أشراط الساعة. ويمكن أن يراد بالآخر عيسى بن مريم ومن تابعه؛ فإنه عليه السلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهزودتين، ((فيطلبه)) أي الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله.

الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((أو يخلف)) هو عطف علي ((يجهز)) وإنما لم يعد الجازم لئلا يتوهم استقلاله؛ وليؤذن بأن تجهيز الغازي وكونه خليفة للغازي في أهله ليس بمثابة الشخوص بنفسه إلي الغزو. وقوله: ((بقارعة)) أي بشدة من الشدائد. والباء في للتعدية، تقرعه أي تدقه؛ ولذلك سميت القيامة قارعة. وقوله:((بخير)) متعلق بـ ((يخلف)) حال من فاعله أتى به صيانة عما عسى أن ينوي الخيانة فيهم.

الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((وألسنتكم)) ((مظ)): أي جاهدوهم بها بأن بذموهم وتصيبوهم وتسبوا أصنامهم ودينهم الباطل، وبأن تخوفوهم بالقتل والأخذ وما أشبه ذلك. فإن قلت: هذا يخالف قوله تعالي: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قلت: كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا؛ لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالي، والنهي منصب علي الفعل المعلل، فإذا لم يؤد السب إلي سب الله تعلي يجوز.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أفشوا السلام)) ((قض)): إفشاء السلام إظهاره ورفع الصوت به، أو إشاعته بأن تسلم علي من تراه فرفته أو لم تعرفه. والمراد بضرب

ص: 2644

3823 -

وعن فضالة بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((كل ميت يختم علي عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلي يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3823]

3824 -

ورواه الدارمي عن عقبة بن عامر. [3824]

3825 -

وعن معاذ بن جبل، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ فقد وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب

ــ

الهام الجهاد، ولما كانت أفعالهم هذه تخلف عليهم الجنان فكأنهم ورثوها. أقول: الحديث من باب التكميل، كقوله تعالي:{أَشِدَّاءُ عَلي الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} و {أَذِلَّةٍ عَلي المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلي الكَافِرِينَ} فإن تخصيص ذكر الهام بالضرب يدل علي بطالتهم وتمكنهم من الضرب الشديد، قال: وأضرب هامة البطل المشيح مع مراعاة السجع، وتواطؤ القرائن علي حرف الروى.

الحديث الخامس عن فضالة: قوله: ((كل ميت يختم)) الحديث، مضى شرحه في الفصل الأول.

الحديث السادس عن معاذ: قوله: ((فواق ناقة)) هو قدر ما بين الحلبتين من الراحة تضم فاؤه وتفتح. ((فا)) هو في الأصل رجوع اللبن إلي الضرع بعد الحلب، سمي فواقا لأنه نزل من فوق. قوله:((كأغزر)) الكاف زائدة و ((ما)) مصدرية والوقت مقدر، يعني يكون حينئذ غزارة دمه أبلغ من سائر أوقاته، والضمير في ((فإنها)) راجع إلي النكبة وهي ما أصابه في سبيل الله من الحجارة.

((نه)): نكبت إصبعه أي نالته الحجارة، و ((النكبة)) ما يصيب الإنسان من الحوادث انتهي كلامه. وقد سبق بيان الجرح والنكبة، فأعاد الضمير إلي النكبة دلالة علي أن الحكم حكم النكبة إذا كان بهذه المثابة، فما ظنك بالجرح بالسنان والسيف، ونظيره قوله تعالي:{والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا} . و ((الخراج)) – بالضم – ما يخرج من البدن من القروح. و ((الطابع)) بالفتح الخاتم، والكسر لغة فيه، أي عليه علامة الشهداء وأمارتهم، ونسبة هذه

ص: 2645

نكبة؛ فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك. ومن خرج به خراج في سبيل الله؛ فإن عليه طابع الشهداء)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3825]

3826 -

وعن خريم بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق نفقة في سبيل الله؛ كتب له بسبعمائة ضعف)). رواه الترمذي، والنسائي. [3826]

3827 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله)). رواه الترمذي. [3827]

3828 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى تعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع علي عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)). رواه الترمذي. وزاد النسائي في أخرى: ((في منخري مسلم أبدا)). وفي أخرى: ((في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)). [3828]

ــ

القرينة مع القرينتين الأوليين؛ للترقي في المبالغة من الإثابة بآثار ما يصيب المجاهد في سبيل الله من العدو تارة ومن غيره أخرى وطورا من نفسه.

الحديث السابع والثامن عن أبي أمامة: قوله: ((ظل فسطاط)) ((فا)): الفسطاط هو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق. و ((الطروقة)) الناقة التي يطرق الفحل عليها أي يضربها. قوله: ((ومنحة خادم)) ((نه)): منحه اللبن أي يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها زمانا ويعيدها، وقد تقع المنحة علي الهبة مطلقا لا قرضا ولا عارية. أقول: فقوله: ((أو طروقة فحل)) عطف علي ((منحة خادم)) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أي منحة ناقة، وكان من الظاهر أن يقال: منحة فسطاط كما في القرينتين، فوضع الظل موضعها؛ لأن غاية منفعتها الاستظلال بها.

الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يجتمع الشح والإيمان)) الكشاف: ((الشح)) – بالضم والكسر – اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة علي المنع كما قال:

ص: 2646

3829 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)). رواه الترمذي. [3829]

ــ

يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا هم بالمعروف قالت له مهلا

وقد أضيف إلي النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه.

أقول: فإذن البخل أعم؛ لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة ولا ينعكس، وعليه ما ورد في شرح السنة: جاء رجل إلي ابن مسعود قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: اسمع الله يقول: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا يكاد أن يخرج من يدي شيء فقال ابن مسعود: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل وبئس السيء * البخل.

وقال ابن جبير: الشح إدخال الحرام ومنع الزكاة، فظهر من هذا أن البخل هو مطلق المنع، والشح المنع مع الظلم مطلقا من أكل مال الغير ومنع الزكاة، وهو معنى ** الكز في تفسير الكشاف. والكزازة الانقباض واليبس؛ لأن المنع إذا انضم إلي الكزازة والحرص حمل الإنسان علي رذائل الأخلاق، بخلاف المنع مطلقا، روينا عن مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم)).

واعلم أن حقيقة الإنسان علي ما أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي: عبارة عن روح ونفس وقلب. وإنما سمي القلب قلبا؛ لأنه تارة يميل إلي الروح ويتصف بصفتها فيتنور ويفلح، وأخرى إلي النفس فيصير مظلما، فإذا اتصف بصفة الروح تنور وكان مقرا للإيمان والعمل الصالح ففاز وأفلح. قال تعالي:{أُولَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} . وإذا اتصف بصفة النفس أظلم، وكان مقرا للشح الهالع فخاب وخسر ولم يفلح، قال تعالي:{ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} فأنى يجتمعان في قلب واحد.

الحديث العاشر عن ابن عباس: قوله: ((عين بكت من خشية الله)) كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه، كقوله تعالي:{إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} حيث حصر الخشية فيهم غير متجاوزة عنهم، فحصلت النسبة بين العينين: عين مجاهدة مع النفس والشيطان، وعين مجاهدة مع الكفار. والخوف والخشية مترادفان. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: الخوف سوط الله تعالي يسوق به عباده إلي المواظبة علي العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالي.

ص: 2647

3830 -

وعن أبي هريرة، قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)). رواه الترمذي. [3830]

3831 -

وعن عثمان [رضي الله عنه]، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)). رواه الترمذي، والنسائي. [3831]

ــ

الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من ماء)) صفة عيينة جيء بها مادحة؛ لأن التنكير فيها يدل علي نوع من ماء صاف تروق به الأعين وتبهج به الأنفس. و ((عذبة)) صفة أخرى مميزة للطعم الألذ، السائغ في المرئ، ومن ثم أعجب الرجل وتمنى الاعتزال عن الناس. ويجوز ان تكون ((لو)) امتناعية. وقوله:((فأقمت)) عطف علي ((اعتزلت)) وجواب لو محذوف، أي لكان خيرا لي. ((تو)) وجدنا في سائر النسخ ((فيه غيضة)) وليس ذلك بسديد ولم تشهد به رواية. ((قض)): في أكثر النسخ ((غيضة من ماء)) فإن صحت الرواية بها فالمعنى غيضة كائنة من ماء، وهي الأجمة من غاض الماء إذا نضب؛ فإنها مغيض ماء يجتمع فيه الشجر، والجمع غياض وأغياض.

قوله: ((ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟)) يؤذن أن اعتزال الرجل والاشتغال بعبادة الرب في ذلك الشعب؛ لا يوجب الغفران ولا إدخال الجنة وليس بذلك. والجواب أن المار بالشعب كان في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القاصدين للغزو، وقد وجب الغزو وكان اعتزاله للتطوع معصية لاستلزامه ترك الواجب، ولذلك تمم الخطاب بقوله:((ألا تحبون))؟ تعريضا بغيره ممن صحبه يومئذ. والله أعلم.

الحديث الثاني عشر عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((من المنازل)) فإن قلت: هو جمع محلي بلام الاستغراق، فيلزم أن تكون المرابطة أفضل من المجاهدة في المعركة، ومن انتظار الصلاة بعد الصلاة في المساجد، وقد قال فيه:((فذلكم الرباط فذلك الرباط)) وقد شرحناه ثمة. قلت: هذا في حق من فرض عليه المرابطة، وتعين بنصب الإمام علي ما سبق في الحديث السابق.

ص: 2648

3832 -

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)). رواه الترمذي. [3832]

3833 -

وعن عبد الله بن حبشي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: ((طول القيام)). قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل)). قيل: فأي الهجرة

ــ

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أول ثلاثة)) أضاف افعل إلي النكرة للاستغراق، وإن أول كل ثلاثة من الداخلين في الجنة هؤلاء الثلاثة. وأما تقديم أحد الثلاثة علي الآخرين، فليس في اللفظ إلا التنسيق عند علماء المعإني.

قوله: ((عفيف)) ((تو)): أي عفيف عما لا يحلن متعفف من السؤال. ((نه)): التعفف هو الكف عن الحرام والسؤال من الناس، أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال: عف يعف عفة فهو عفيف.

أقول علي ما ذهب إليه الشيخ التوربشتي: الصفة جيء بها تكميلا؛ لأن العفيف الذي تنزه عما لا يحل قد لا يكون متعففا عن السؤال، فاستدركه بقوله:((متعففا)). وعلي ما ذهب إليه صاحب النهاية من باب التتميم؛ لأن المتعفف علي تفسيره مبالغة لمعنى عفيف و ((أحسن عبادة الله)) أي أخلص عبادته من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)). ونصح العبد مواليه أن يقيم علي ما وجب عليه من الخدمة والأمانة والشفقة. وأطلق الشهادة وقيد العفة والعبادة؛ ليشعر بأن مطلق الشهادة أفضل منهما، فكيف إذا قرن بالإخلاص والنصيحة؟ والوجه أن الشهادة مستغنية عن التقيين؛ فإن من شروطها الإخلاص والنصيحة، والخصلتان مفتقرتان إليه فقيدهما وأطلقها وفيه دلالة علي فضلها وأنه أحرى بالتقديم، ودونها العفيف المتعفف إذا أريد بالعفيف الصابر المتنزه عما لا يليق به، والمتعفف تابع له علي سبيل المبالغة.

الحديث الرابع عشر عن عبد الله: قوله: ((أي الأعمال أفضل)) سبق بيان ذلك في أول الكتاب، ووجه الجميع بينه وبين ما يخالفه في الترتيب. ((وجهد المقل)) مجهوده؛ لأنه يكون بجهد ومشقة لقلة ماله. وإنما يجوز له الإنفاق إذا قدر علي الصبر، ولم يكن له عيال تضيع بإنفاقه.

ولا بد من قوله: ((من هجر ما حرم الله)((ومن جاهد المشركين)((ومن أهريق دمه)) من تقدير مضاف أي هجرة من هجر وجهاد من جاهد وقتل من أهريق، ولعل تغيير العبارة في قوله:((فأي القتل أشرف))؟ إنما كان لاهتمام هذه الخصلة؛ لأن معنى الشرف هو القدر والقيمة والرفعة. وذلك أن منزلة درجة الشهيد الذي نال من درجات الشهادة أقصاها وغايتها، هو

ص: 2649

أفضل؟ قال: ((من هجر ما حرم الله عليه)). قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: ((من جاهد المشركين بماله ونفسه)) قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: ((من أهريق دمه وعقر جواده. رواه أبو داود.

وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة)). قيل: فأي الصلا أفضل؟ قال: ((طول القنوت)). ثم اتفقا في الباقي. [3833]

3834 -

وعن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع علي رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من اقربائه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3834]

ــ

الفردوس الأعلي وهذا الشهيد هو الذي بذل نفسه وماله وجواده في سبيل الله. وقطع عقر الجواد كناية عن غاية شجاعته وبطالته، وأنه مما لا يطاق أن يظفر به إلا بعقر جواده.

الحديث الخامس عشر عن المقدام: قوله: ((في أول دفعة)) الجوهري: الدفعة من المطر وغيره بالضم مثل الدفقة وفتح المرة الواحدة. أي يغفر له في أول دفعة وصبة من دمه. قوله: ((ويأمن من الفزع الأكبر)) إشارة إلي قوله تعالي: {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ} . الكشاف: قيل: هي النفخة الأخيرة لقوله تعالي: {ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ} . وعن الحسن الانصراف إلي النار. وعن الضحاك حين يطبق علي النار. وقيل: حين ذبح الموت.

قوله: ((تاج الوقار)) ((نه)): التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجواهر، والوقار الحلم والرزانة، وقد وقر يقر وقارا انتهي كلامه. ثم الإضافة إذا كانت بمعنى ((من)) لا يكون التاج مما

ص: 2650

3835 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3835]

3836 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة)). رواه الترمذي والنسائي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [3836]

ــ

يتعارف بين الناس، وإذا كانت بمعنى اللام كان التاج هو المتعارف بينهم. ويؤيد الثاني قوله:((الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها)) وقوله: ((يشفع)) أي تقبل شفاعته.

الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بغير أثر)) ((مظ)): أي بغير علامة من جراحة أو تعب نفسإني أو بذل مال أو تهيئة أسباب المجاهدين، فإن لم تكن له هذه الآثار في الغزو يكن له ثلمة، أي نقصان يوم القيامة.

أقول: قوله: ((من جهاد)) صفة ((أثر)) وهي نكرة في سياق النفي فيعم في كل جهاد مع العدو والنفس والشيطان، وكذلك الأثر بحسب اختلاف المجاهدة، قال الله تعالي:{سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . و ((الثلمة)) ها هنا مستعارة للنقصان، وأصلها أن تستعمل في الجدار، ولما شبه الإسلام بالبناء في قوله:((بني الإسلام علي خمس)) جعل كل خلل فيه ونقصان ثلمة علي سبيل الترشيح، وهذا يدل أيضا علي العموم وينصره حديث أبي أمامة. وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله.

الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((القرصة)) القرص الأخذ بأطراف الأصابع. وأتى في قوله: ((لا يجد ألم القتل)) بأداة الحصر؛ دفعا لتوهم من يتصور أن ألمه يفضل علي ألمها، وذلك في شهيد، دون شهيد يتلذذ ببذل مهجته في سبيل الله طيبا به نفسه، كعمير ابن الحمام وإلقاء تمراته ولقائه الموت. وأنشد حبيب الأنصاري حين قتل:

ولست أبالي حين أقتل مسلما علي أي شق كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك علي أوصال شلو ممزع

الشلو: عضو من أعضاء الجسد، المزعة: القطعة من اللحم، والمزعة: الشحم. الأوصال: المفاصل.

ص: 2651

3837 -

وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((ليس شيء أحب إلي الله من قطرتين، وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم يراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالي)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3837]

3838 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تركب البحر إلا حاجا، أو معتمرا، أو غازيا في سبيل الله؛ فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا)). رواه أبو داود. [3838]

ــ

الحديث الثاني عشر عن أبي أمامة: قوله: ((قطرة دموع)) أي قطراتها، فلما أضيفت إلي الجمع أفردت؛ ثقة بفهم السامع مثل: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. وإنما أفرد الدم وجمع الدمع تنبيها علي تفضيل إهراق الدم في سبيل الله علي تقاطر الدموع بكاء. قوله: (وأثر في فريضة)) ((قض)): الأثر بفتحتين ما بقي من الشيء دالا عليه. والمراد بالأثرين آثار خطي الماشي في سبيل الله، والساعي في فريضة من فرائضه أو ما يبقى علي المجاهدين من أثر الجراحات، وعلي الساعي المتعب في أداء الفرائض والقيام بها والكد فيها، من علامة ما أصابه فيها، كاحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها وانفطار الأقدام من برد الماء الذي يتوضأ به. والله أعلم.

الحديث التاسع عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((لا تركب البحر)) ((قض)): يريد أن العاقل لا ينبغي أن يلقي نفسه إلي المهالك ويوقعها مواقع الأخطار، إلا لأمر ديني يتقرب به إلي الله تعالي ويحسن بذل النفس فيه وإيثاره علي الحياة. وقوله:((فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) يريد به تهويل شأن البحر وتعظيم الخطر في ركوبه؛ فإن راكبه متعرض للآفات والمهالك المتراكمة بعضها فوق بعض، لا يؤمن من الهلاك عليه ولا يرجى خلاصه، فإن أخطأته ورطة منها جذبته أخرى بمخالبها، فكأن الغرق رديف الحرق، والحرق خليف الغرق. الكشاف في قوله تعالي:{والْبَحْرِ المَسْجُورِ} : قيل: الموقد من قوله تعالي: {وإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ} . وعن علي رضي الله عنه أين موضع النار في كنانكم؟ قال: البحر، قال علي رضي الله عنه:((ما أراه إلا صادقة لقوله)): {والْبَحْرِ المَسْجُورِ} . والله أعلم.

ص: 2652

3839 -

وعن أم حرام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين)). رواه أبو داود. [3839]

3840 -

وعن أبي مالك الأشعري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من فصل في سبيل الله، فمات، أو قتل، أو وقصه فرسه أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات علي فراشه بأي حتف شاء الله؛ فإنه شهيد، وإن له الجنة)). رواه أبو داود. [3840]

ــ

الحديث العشرون عن أم حرام: قوله: ((المائد)) ((نه)): هو الذي يدار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج، يقال: ماد يميد إذا مال وتحرك. ((مظ)): يعني من ركبه وأصابه دوران فله أجر شهيد إن ركبه لطاعة، كالغزو والحج وتحصيل العلم والتجارة إن لم يكن له طريق سواه، ولم يتجر لطلب زيادة المال بل للقوت. أقول:((الذي يصيبه القيء)) ليست بصفة مخصصة بل هي مبينة.

الحديث الحادي والعشرون عن أبي مالك: قوله: ((من فصل)) هو من قوله تعالي: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} . الكشاف: فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه. وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا انتهي كلامه.

والمعنى من فصل عن بلده مجاهدا في سبيل الله أي قاصدا الغزو. ((مظ)): وقصه صرعه ودق عنقه، والوقص الدق والكسر ونحوهما. ((نه)): الهامة كل ذات سم يقتل والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور. وقد تقع الهوام علي ما يدب من الحيوان كالحشرات. والحتف الهلاك، ويقال: مات حتف أنفه إذا مات علي فراشه، كأنه سقط لأنفه فمات.

قوله: ((وإن له الجنة)) تقرير معنى حصول الشهادة بسبب المقاتلة في سبيل الله، وأن له بدله الجنة فهو تلميح إلي قوله تعالي:{إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} .

الحديث الثاني والعشرون عن عبد الله: قوله: ((قفلة)) هو المرة من القفول وهو الرجوع عن سفره. وفيه وجوه: أحدها: أن أجر المجاهد في انصرافه إلي أهله بعد غزوه كأجره في إقباله إلي الجهاد؛ لأن في قفوله إراحة للنفس واستعدادا بالقوة للعود وحفظا لأهله برجوعه إليهم.

ص: 2653

3841 -

وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((قفلة كغزوة)). رواه أبو داود. [3841]

3842 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي)) رواه أبو داود. [3842]

ــ

وثإنيا: أراد به التعقيب وهو رجوعه ثإنيا في الوجه الذي جاء منه منصرفا، وإن لم يلق عدوا ولم يشهد قتالا، وقد يفعل ذلك الجيش إذا انصرفوا من مغزاهم لأحد أمرين:

أحدهما: أن العدو إذا رآهم قد انصرفوا عنهم أمنوهم، وخرجوا من أمكنتهم. فإذا قفل الجيش إلي دار العدو، نالوا الفرصة منهم، فأغاروا عليهم. والآخر: أنهم إذا انصرفوا ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهو غارون، فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع علي أدراجهم، فإن كان للعدو طلب كانوا مستعدين للقائهم، وإلا فقد سلموا وأحرزوا ما معهم من الغنيمة. وثالثها: أن يكون صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم قفلوا لخوفهم أن يدهمهم من عدوهم من هو أكثر عددا منهم، فقفلوا ليستضيفوا إليهم عددا آخر من أصحابهم ثم يكروا علي عدوهم. ((تو)): والأول أقوم؛ لأن القفول إنما يستعمل في الرجوع عن الوجه الذي ذهب إليه لحاجة إلي حيث توجه منه.

أقول: التشبيه إنما يذهب إليه إما لإلحاق الناقص بالكامل أو لبيان المساواة. فالتنكير إما للتعظيم فيكون معناه رب قفلة تساوي غزوة لمصلحة ما، كما ذكر في الوجه الأول، بل يمكن أن تكون القفلة أرجخ من الغزوة إذا لم يكن في الغزو مصلحة للمسلمين، وفي القفلة مصلحة لهم كما ذكر في الوجه الثالث، ولا يبعد أن تستعار القفلة للكرة.

الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((أجره)) وأجر الغازي)) تقرر في علم البيان أن المعرفة إذا أعيدت كان الثاني عين الأول، فالمراد بالغازي الأول، هو الذي جعل له جعل، فمن شرط للغازي جعلا فله أجر بذل المال الذي جعله جعلا، وأجر غزاء المجعول له فإنه حصل بسببه كما قال صلى الله عليه وسلم:((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).

((حس)): فيه ترغيب للجاعل ورخصة للمجعول له. واختلفوا في جواز أخذ الجعل علي الجهاد فرخص فيه الزهري ومالك وأصحاب أبي حنيفة، ولم يجوزه قوم. وقال الشافعي: لا يجوز أن يغزو بجعل، فإن أخذه فعليه رده. ((قض)): وعلي هذا فتأويل الحديث أن يحمل الجاعل علي المجهز للغازي والمعين له ببذل ما يحتاج إليه، ويتمكن به من الغزو من غير استئجار وشرط.

ص: 2654

3743 -

وعن أبي أيوب، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((ستفتح عيكم الأمصار، وستكون جنود مجندة، يقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل البعث، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، من أكفيه بعث كذا ألا وذلك الأجير إلي آخر قطرة من دمه)) رواه أبو داود. [3843]

ــ

الحديث الرابع والعشرون عن أبي أيوب: قوله: ((ستفتح عليكم)) ((مظ)): يعني إذا بلغ الإسلام في كل ناحية، يحتاج الإمام إلي أن يرسل في كل ناحية جيشا؛ ليحارب من يلي تلك الناحية من الكفار؛ لئلا يغلب كفار تلك الناحية علي من في تلك الناحية من المسلمين. أقول: ذهب إلي أن كونهم جنودا مجندة بعد فتح البلاد لهم، والأوجه أن تكون الجنود مبعوثين لفتح البلاد نفسها، فيجب أن يضمن ((فتح)) معنى ((وقل وأطلع))؛ لتعديته بـ ((علي)) كقوله تعالي:{بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي أطلعكم ووفقكم. أخبر صلى الله عليه وسلم بأنهم سيوقفون فيطلعون علي فتح الأمصار لهم، وكذا أخبر بأنهم سيكونون جنودا مجندة، فحينئذ لا يفتقر أن يقال: إن البعث كان قبل الفتح، وذلك أصعب عليهم من أن يكون بعد الفتح. قوله:((جنود مجندة)) ((نه)): أي مجموعة كما يقال: ألوف مؤلفة وقناطر مقنطرة.

قوله: ((يقطع عليكم فيها بعوث)) أي يقدر عليكم في تلك الجنود جيوش، بمعنى تلزمون أن تخرجوا بعوثا تنبعث من كل قوم إلي الجهاد. ((فيتخلص)) أي يخرج منهم طالبا لخلاصه من أن يبعث، ثم يتصفح القبائل أي يتفحص عنها، ويتأمل فيها من أكفيه بعث كذا أي من يعطيني أو يشترط لي شيئا فأبتعث بدله وأكفيه البعث.

وقوله: ((يعرض عليهم)) بدل من قوله: ((يتصفح)) ويجوز أن تكون الجملة في محل النصب علي الحال من الضمير المرفوع في ((يتصفح)). وكذا ((من)) يجوز أن تكون حالا من المستتر في ((عارضا)) أي قائلا لهم من أكفيه. وقوله: ((ألا وذلك الأجير)) إشارة إلي ذلك الرجل الذي يكره البعث في سبيل الله، بل يرغب فيه للأغراض الدنيوية. و ((ذلك)) مبتدأ و ((الأجير)) خبره وهو معرفة يدل علي الحصر. وفي اسم الإشارة إشعار بأن ما بعده جدير بمن قبله؛ لاتصافه بالصفة المذكروة، كما في قوله تعالي:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} .

ثم في الحصر وجهان: أحدهما: أن يكون تخصيصا للصفة بالموصوف، أي ليس الأجير إلا هذا فيلزم منه أن يكون المجعول في الحديث السابق هذا الأجير، وهذا هو الذي وجهه

ص: 2655

3844 -

وعن يعلي بن أمية، قال: آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، فوجدت رجلا سميت له ثلاثة دنإنير فلما حضرت غنيمة، أردت أن أجري له سهمه، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له. فقال:((ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنإنيره التي تسمى)) رواه أبو داود. [3844]

3845 -

وعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أجر له)). رواه أبو داود. [3845]

3846 -

وعن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد فإن نومه

ــ

الشيخ التوربشتي حيث قال: أراد بقوله هذا من حضر القتال؛ رغبة فيما عقد عليه من المال لا رغبة في الجهاد، ولهذا سماه أجيرا.

وثإنيهما: أن يكون تخصيصا للموصوف بالصفة، أي ليس هذا الرجل غير الأجير وأن صفة الأجير إن تصورت وتحققت ما هي فذلك الرجل لا تتعداه تلك الحقيقة. وقد جاء الوجهات في قوله تعالي:{وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} ، وينصر الثاني معنى انتهاء الغاية في ((إلي)) أي هو الأجير من ابتداء بعثه وسعيه وبذل مهجته إلي أن يموت فينقطع دمه، فلا يسمى بغير الأجير البتة، ولا يقال له الغازي في حالة من تلك الحالات، فلا يلزم أن لا يسمى غيره أجيرا، وهذا الوجه يدل علي مذهب الشافعي كما دل الوجه الأول علي مذهب أبي حنيفة ويؤيد مذهب الشافعي الحديث اللاحق، والحديث السابق مؤول كما سبق،

الحديث الخامس والعشرون عن يعلي: قوله: ((آذن)) أي أعلم. قوله: ((ليس لي خادم)) صفة بـ ((شيخ)) أي ليس لي من يخدمني في الغزو ويعاونني. ((حس)): اختلفوا في الأجير للعمل وحفظ الدواب يحضر الوقعة، هل يسهم له؟ فقيل: لا سهم له قاتل أو لم يقاتل إنما له أجرة عمله. وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأحد قولي الشافعي. وقال مالك وأحمد: يسهم له وإن لم يقاتل، إذا كان مع الناس عند القتال. وقيل: يخير بين الأجرة والسهم.

الحديث السادس والعشرون عن معاذ: قوله: ((الغزو غزوان)) ((قض)): الغزو عزوان: غزو علي ما ينبغي، وغزو علي ما لا ينبغي، فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها

ص: 2656

ونبهه أجر كله. وأما من غزا فخرا، ورياء، وسمعة وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم برجع بالكفاف)). رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [3846]

ــ

وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين، وشرح كل واحد منهما مفصلا. قوله:((وأطاع الإمام)) أي في غزوه فأتى به علي نحو ما أمره. و ((أنفق الكريمة)) أي المختارة من ماله. وقيل: نفسه، و (ياسر الشريك)) أي ساهل الرفيق، واستعمل اليسر معه نفعا بالمعونة وكفاية للمؤنة.

((واجتنب الفساد)) أي لم يتجاوز المشروع في القتل والنهب والتخريب. ((فإن نومه ونبهه)) – أي يقظته – ((أجر كله)) أي ذو أجر وثواب. والمعنى أن من كان هذا شأنه كان جميع حالاته من الحركة والسكون، والاستراحة والانتباه مقتضية للأجر، جالبة للثواب، وأن من حاله علي خلاف ذلك لم يرجع بالكفاف، أي الثواب، مأخوذ من كفاف الشيء وهو خياره، أو من الرزق أي لم يرجع بخير أو ثواب يغنيه يوم القيامة.

أقول: قوله: ((أجر كله)) جملة ((كله)) مبتدأ و ((أجر)) خبره. ولا يصح أن يكون كله تأكيد لـ ((أجر)) علي ما لا يخفي. والمعنى كل من ذلك أجر. وهذا التركيب مشعر باهتمام حمل الأجر علي النوم، و ((النبه)) مبالغة في بيان كونهما سببين مستقلين غاية الاستقلال. ((مظ)):((لم يرجع بالكفاف)) أي لم يعد من الغزو رأسا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا عليه وزر بل وزره أكثر؛ لأنه لم يغز لله، وأفسد في الأرض يقال: دعني كفافا أي تكف عني وأكف عنك. أقول: الوجه ما قاله القاضي؛ لأن الكفاف علي هذا المعنى يقتضي أن يكون له ثواب أيضا وإثم، ويزيد إثمه علي ثوابه، كما قال عمر رضي الله عنه: وددت إني سلمت من الخلافة كفافا، لا علي ولا لي. والمرائي المفسد ليس له ثواب ألبتة.

قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: المرائي الذي لا يبتغي وجه الله بل يعمل فخرا ورياء وسمعة تبطل عبادته؛ لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس يقصد العبادة. ثم لا يقتصر علي إحباط عبادته حتى يقول: صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم. ((شف)): ولا بد في قوله: ((فأما من ابتغى وجه الله)) وفي قوله: ((وأما من غزا)) من إضمار مضاف تقديره، فأما غزو من ابتغى، وأما غزو من غزا فإنهما قسمان لمورد القسمة.

أقول: ولا يستتب علي هذا التقدير إجراء الخبر علي المبتدأ، فينبغي أن يقدر: الغزو غزوان غزو من ابتغى وجه الله، وغزو من لم يبتغ. فأما من ابتغى وجه الله فحكمه كذا، وأما من غزا فخرا فحكمه كذا. فيكون مع باب الجمع مع التفريق والتقسيم، كقوله تعالي: {يَوْمَ يَأْتِ

ص: 2657

3847 -

وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد. فقال يا عبد الله بن عمرو! إن قاتلت صابرا محتسبا؛ بعثك الله صابرا محتسبا. وإن قاتلت مرائيا مكاثرا؛ بعثك الله مرائيا مكاثرا. يا عبد الله بن عمرو! علي أي حال قاتلت، أو قتلت؛ بعثل الله علي تلك الحال)) رواه أبو داود. [3847]

ــ

لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلَاّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} الآيتين فحذف التفريق لدلالة التقسيم عليه.

هذا معنى قول القاضي: فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة عن ذكر القسمين.

وقوله: ((أطاع الإمام)) إلي آخره نتيجة الإخلاص وابتغاء وجه الله. وقوله: ((فخرا ورياء وسمعة)) مقابل لقوله: ((ابتغى وجه الله)) فيكون ما بعده نتيجة عنه.

الحديث السابع والعشرون عن عبد الله: فقوله: ((أخبرني عن الجهاد)) وهو مطلق يحتمل أنه سأل عن حقيقته وعن ثوابه وعن كونه مقبولا عند الله، أو غير مقبول. والجواب ينبئ أنه سأل عن الثالث. والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها، وقد يكون هذا في الأنفس والأموال، قال تعالي:{وتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ} . فالرجل يجاهد للغنيمة وإكثار المال ليباهي به؛ ولأن يكثر رجاله وأعوانه وأجناده ولإعلاء كلمة الله وإظهار دينه.

وأعاد ((صابرا محتسبا)) في الجزاء ليؤذن بالتكثير فيهما علي أنه له أجرا لا يقادر قدره، أي: بعثك الله صابرا كاملا فيه فيوقي أجرك بغير حساب. و ((محتسبا)) أي مخلصا متناهيا في إخلاصه راضيا مرضيا، ورضوان من الله أكبر، وفي عكسه قوله:((بعثك الله مرائيا مكاثرا)) ولترقية المعنى فيه وضع المظهر، وهو قوله:((الله) موضع الضمير، ونظيره قوله تعالي:{ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلي اللَّهِ مَتَابًا} .

((الكشاف)): من يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح؛ فإنه بذلك تائب إلي الله متابا مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب، والي الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل لهم ما يستوجبون. والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، فقوله:((مرضيا عنده إلي قوله: محصلا للثواب)) هو معنى التنكير في ((متابا)) المعاد في الجزاء بعد الشرط، وقوله:((الذي يعرف – إلي قوله – يحب التوابين)) هو معنى وقوع اسم الله الأعظم الجامع لجميع الصفات في هذا المقام)).

ص: 2658

3848 -

وعن عقبة بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أعجزتم إذا بعثت رجلا فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟)). رواه أبو داود. [3848]

وذكر حديث فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه)). في ((كتاب الإيمان)).

الفصل الثالث

3749 -

عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فمر رجل بغار فيه شيء من ماء وبقل، فحدث نفسه بأن يقيم فيه ويتخلي من الدنيا، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرإنية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله؛ خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف؛ خير من صلاته ستين سنة)). رواه أحمد. [3849]

3850 -

وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى)) رواه النسائي. [3850]

ــ

الحديث الثامن والعشرون عن عقبة: قوله: ((فلم يمض لأمري)) أي إذا أمرت أحدا أن يذهب إلي أمر فلم يذهب إليه فأقيموا مكانه غيره، أو إذا بعثته لأمر ولم يمض لإمضاء أمري وعصإني فاعزلوه.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((ولكني بعثت بالحنيفية السمحة)) ((لكن)) تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها كما تقرر، أي ما بعثت بالرهبإنية الشاقة بل بعثت بالحنيفية السمحة، فوضع قوله:((باليهودية ولا بالنصرإنية)) موضع قوله: ((الرهبإنية الشاقة)). ((مح)): الظاهر أن الغدوة والروحة غير مختصين بالغدو والرواح، بل كل لمحة وساعة هي في سبيل الله خير له من الدنيا وما فيها لو ملكها وتصور تنعمه فيها؛ لأنه زائل ونعيم الآخرة باق. وقيل: لو ملكها وأنفقها في أمور الآخرة. وبقية الحديث مضى شرحه في الفصل الثاني في حديث أبي هريرة.

الحديث الثاني عن عبادة: قوله: ((إلا عقالا)) والعقال حبل صغير تشد به ركبتي البعير لئلا

ص: 2659

3851 -

وعن أبي سعيد [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا؛ وجبت له الجنة)). فعجب لها أبو سعيد. فقال: أعدها علي يا رسول الله! فأعادها عليه، ثم قال:((وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)). قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)). رواه مسلم.

3852 -

وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)). فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى! أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. فرجع إلي أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلي العدو فضرب به حتى قتل. رواه مسلم.

ــ

ينفر، وهو مبالغة في قطع الطمع عن الغنيمة بل يكون خالصا لله تعالي غير مشوب بأغراض دنيوية، كقوله صلى الله عليه وسلم:((وإنما لامرئ ما نوى)).

الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((وأخرى)) صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ ((ويرفع الله)) خيره، أو منصوب علي إضمار فعل، أي ألا أبشرك ببشارة أخرى. وقوله:((يرفع الله)) صفة أو حال. وقيل: أي وخصلة أخرى. وينصر التقدير الأول قوله: ((فعجب لها)). وفي هذا الأسلوب تفخيم أمر الجهاد وتعظيم شأنه فإن قوله: ((من رشي بالله ربا وبالإسلام دينا)) مشتمل علي جميع ما أمر الله به ونهي عنه ومنه الجهاد. وكذا إبهامه بقوله: ((وأخرى)) وإبرازه في صورة البشارة ليسأل عنها فيجاب بما بجاب؛ لأن التبيين بعد الإبهام أوقع في النفس، وكذا تكراره ثلاث مرات. ونظير الحديث قوله تعالي:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلي تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ (12) وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} .

الحديث الرابع عن أبي موسى: قوله: ((تحت ظلال السيوف)) ((مح)): معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلي الجنة وسبب لدخولها. أقول: هو كناية تلويحية عن إعلاء كلمة الله ونصرة دينه؛ فإن ((تحت ظلال السيوف)) مشعر بكونها مشهرة غير مغمدة، ثم هو مشعر بكونها رافعة فوق رءوس المجاهدين كالمظلات. ثم هو علي التسايف والتضارب في المعارك. ثم هو علي إعلاء كلمة الله العليا، ونصرة دينه القويم الموجبة لأن يفتح لصاحبها أبواب الجنة كلها،

ص: 2660

3853 -

وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:((إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد؛ جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلي قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش؛ فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم. قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة، لئلا يزهدوا في الجنة، ولا ينكلوا عند الحرب. فقال الله تعالي: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالي: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} إلي آخر الآيات)) رواه أبو داود.

3854 -

وعن أي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المؤمنون في الدنيا علي ثلاثة أجزاء: الذي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس علي أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف علي طمع تركه لله عز وجل) رواه أحمد. [3854]

ــ

ويدعى أن يدخل من أي باب شاء، وهو أبلغ في الكرامة من أن يقال: الجنة تحت ظلال السيوف؛ ومن ثم سلم الرجل علي أصحابه تسليم توديع وكسر جفن سيفه ومضى.

الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ومقيلهم)) المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح وقت الظهيرة والنوم فيه، وهو هنا كناية عن التنعم والترفه؛ لأن المتفرفهين في الدنيا يعيشون فيها متنعمين. وقوله:((ولا تنكلوا)) يقال: نكل عن العمل ينكل إذا جبن وفتر. ((نه)): وفي حديث علي رضي الله عنه: ((غير نكل في قدم)) أي بغير جبن وإحجام في الإقدام.

الحديث السادس عن أبي سعيد: قوله: ((علي ثلاثة أجزاء)) الأجزاء إنما تقال فيما يقبل التجزئة من الأعيان، فجعل المؤمنين كنفس واحدة في التعاطف والتواد، كما جعلوا يدا واحدة في قوله صلى الله عليه وسلم:((وهم يد علي من سواهم)). و ((ثم)) في ((ثم لم يرتابوا)) كما في قوله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} للتراخي في الرتبة؛ لأن الثبات علي الاستقامة وعلي عدم الارتياب أشرف وابلغ من مجرد الإيمان والعمل الصالح. وكذا في قوله: ((ثم الذي إذا أشرف علي طمع)). والطمع هنا يراد به انبعاث هوى النفس إلي ما تشتهيه فتؤثره علي متابعة الحق فترك مثله منتهي غاية المجاهدة. قال تعالي: {وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهي النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} .

ص: 2661

3855 -

وعن عبد الرحمن بن أبي عميرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما من نفس مسلمة يقبضها ربها، تحب أن ترجع إليكم، وأن لها الدنيا وما فيها، غير الشهيد)). قال ابن أبي عميرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقتل في سبيل الله؛ أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر)). رواه النسائي. [3855]

3856 -

وعن حسناء بنت معاوية، قالت: حدثنا عمي، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: من في الجنة؟ قال: ((النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة)). رواه أبو داود. [3856]

3857 -

وعن علي، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، رضي الله عنهم أجمعين، كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال:((من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته؛ فله بكل درهم سبعمائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك؛ فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم)) ثم تلا هذه الآية: {واللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} . رواه ابن ماجه. [3857]

ــ

الحديث السابع عن عبد الرحمن: قوله: ((وأن لها الدنيا وما فيها)) يجوز أن يكون معطوفا علي ((أن ترجع)) وأن يكون حالا إن روى بكسر ((إن)). و ((غير الشهيد)) بدل من فاعل ((تحب)) والمراد بـ ((أهل الوبر)) سكان البوادي؛ لأن خباءهم من الوبر غالبا، وبـ ((أهل المدر)) سكان القرى والأمصار، واراد به الدنيا وما فيها كما سبق. فغلب العقلاء علي غيرهم كما في قوله تعالي:{رَبَّ العَالَمِينَ} في أحد وجهيه، وأسند المحبة إلي نفسه الزكية صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره لقوله صلى الله عليه وسلم:((ما أحب)) إلخ.

الحديث الثامن عن حسناء: قوله: ((والمولود في الجنة)) الظاهر أنه أراد جنس من هو قريب العهد من الولادة سواء من أولاد الكفار أو غيرهم. و ((الوئيد)) الموءود وهو الذي يدفن حيا من البنات، وقد سبق في باب القدر الخلاف في ذلك.

الحديث التاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((في وجهه ذلك)) أي في جهته وقصده. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ} المغرب: أي جهته التي أمر بها تعالي ورضيها.

ص: 2662

3858 -

وعن فضالة بن عبيد، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا)) ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوته، فما أدري اقلنسوة عمر أراد، أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال:((ورجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو، كأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن، أتاه سهم غرب فقتله؛ فهو في الدرجة الثانية. ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذلك في الدرجة الثالثة. ورجل مؤمن أسرف علي نفسه، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذاك في الدرجة الرابعة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [3858]

3859 -

وعن عتبة بن عبد السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القتلي ثلاثة: مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل)). قال النبي

ــ

الحديث العاشر عن فضالة: قوله: ((فصدق الله)) يعني أن الله تعالي وصف المجاهدين الذين قاتلوا لوجهه صابرين محتسبين، فيجزي هذا الرجل بفعله، وقاتل صابرا محتسبا فكأنه صدق الله تعالي بفعله. قال تعالي:{} وقوله: ((هكذا)) مصدر قوله: ((يرفع)) أي رفعا مثل رفع رأسي هكذا كما تشاهدون. وهذا القول كناية عن تناهي رفعة منزلته. وقوله: ((ضرب جلده بشوك طلح)) إما كناية عن كونه يقف شعره من الفزع والخوف، أو عن ارتعاد فرائصه وأليتيه. قال:

متى ما نلتقي فردين ترجف روانف أليتيك وتستطارا

و ((من الجبن)) بيان التشبيه. والفرق بين هذا وبين الأول – مع أن كلاهما جيد الإيمان – أن الأول صدق الله في إيمانه لما فيه من الشجاعة، وهذا بذل مهجته في سبيل الله ولم يصدق لما فيه من الجبن. والفرق بين الثاني والرابع أن الثاني جيد الإيمان غير مصدق بفعله، والرابع عكسه. فعلم من وقوعه في الدرجة الرابعة، أن الإيمان والإخلاص لا يوازيه شيء، ومبنى الأعمال علي الإخلاص.

الحديث الحادي عشر عن عتبة: قوله: ((مؤمن)) بين القتلي بقوله: ((مؤمن)) باعتبار ما يؤول إليه بقوله: ((يقتل)). وقوله: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم) ذكره في أثناء الحديث مرتين احتياطا؛ لئلا يلتبس

ص: 2663

صلى الله عليه وسلم فيه: ((فذلك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ومؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، إذا لقي الغدو قاتل حتى يقتل)) قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء. ومنافق جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل؛ فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق)) رواه الدارمي. [3859]

3860 -

وعن ابن عائذ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل، فلما وضع قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: لا تصل عليه يا رسول الله! فإنه رجل فاجر، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي الناس، فقال:((هل رآه أحد منكم علي عمل الإسلام؟)) فقال رجل: نعم، يا رسول الله! حرس ليلة في سبيل الله، فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثا عليه التراب، وقال:((أصحابك يظنون أنك من أهل النار، وأنا أشهد أنك من أهل الجنة)) وقال: ((يا عمر! إنك لا تسأل عن أعمال الناس؛ ولكن تسأل عن الفطرة)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3860]

ــ

نص النبي بروايته اهتماما بشأن المقول. وقوله: ((الشهيد)) يجوز أن يكون خبر ((ذلك)) و ((الممتحن)) صفة ((الشهيد)) و ((في خيمة الله)) خبر بعد خبر، وأن يكون الشهيد صفة ((ذلك)) وكذا ((الممتحن)) صفة لـ ((ذلك)) و ((في خيمة الله)) خبر. والممتحن المجرب من قولهم: امتحن فلان لأم كذا جرب له ودرب للنهوض به، فهو مضطلع غير وأن عنه. والمعنى أنه صابر علي الجهاد قوي علي احتمال مشاقه.

((فا)) ((ممصمصة)) أي مطهرة من دنس الخطايا من قولهم: مصمصت الإناء بالماء إذا رقرقته فيه وحركته حتى يطهر، ومنه مصمصة الفم وهو غسله بتحريك الماء فيه كالمضمضة. وقيل: هي بالصاد غير المعجمة بطرف اللسان وبالضاد بالفم كله. وإنما أنث لأنه في معنى الشهادة، أو أراد خصلة ممصمصة، فأقام الصفة مقام الموصوف.

الحديث الثاني عشر عن ابن عائذ: قوله: ((ولكن تسأل عن الفطرة)) أي عن الإسلام وأعمال الخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد علي الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه)). يعني أنت يا عمر! ومثلك لا يخبر في مثل هذا الموطن عن أعمال الشر للموتى، بل أخبر عن أعمال الخير

ص: 2664