الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3508 -
وعن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما هذا من إخوان الكهان)) رواه مالك، والنسائي مرسلا. [3508]
3509 -
ورواه أبو داود عنه عن أبي هريرة متصلا.
(2) باب مالا يضمن من الجنايات
الفصل الأول
3510 -
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار)) متفق عليه.
ــ
إخوان الكهان)) إنما قال ذلك من اجل سجعه الذي سجعه ولم يعبه بمجرد السجع دون ما يضمن سجعه من الباطل، فإنه قال: كيف ندى من لا أكل ولا شرب ولا استهل ومثل ذلك يطل. وإنما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بإسجاع يروق السامعين، فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع. فأما إذا وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه، وكيف يذم؟ وقد جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا.
أقول: راعي في تأخير الاستهلال عن النطق مع الاتفاق في السجع الترقي؛ لأن نفي الاستهلال أبلغ من نفي النطق؛ لما يلزم من نفي الاستهلال نفي النطق من غير عكس، وليس كذلك القرينة السابقة.
باب مالا يضمن من الجنايات
المغرب: الجناية ما يجنيه من شر أي يحدثه، تسمية بالمصدر من جنى عليه شرا، وهو عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل. وأصله من جني الثمرة، وهو أخذه من الشجر.
الفصل الأول
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العجماء)) ((مظ)) *: العجماء البهيمة وسميت بها لعجمتها، وكل من لم يقدر علي الكلام فهو أعجمي، ومعنى الجبار الهدر، وإنما يكون جرحها هدرا إذا كانت منفلتة عابرة علي وجهها ليس لها قائد ولا سائق، وقد سبق معنى الحديث وتفاصيله.
3511 -
وعن يعلي بن أمية، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، وكان لي أجير، فقاتل إنسانا فعض احدهما يد الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض، فأندر ثنيه فسقط، فانطلق إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيه، وقال:((أيدع يده في فيك تقضمها كالفحل)) متفق عليه.
3512 -
وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) متفق عليه.
3513 -
وعن أبي هريرة، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)). قال: أريت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)). قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم.
ــ
الحديث الثاني والثالث والرابع عن يعلي: قوله: ((غزوت)) غزوت العدو قصدته للقتال غزوا. قوله ((مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) حال من الفاعل، و ((جيش العسرة)) حال من رسول الله، المعنى قصدت مصاحبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه مجهزا جيش العسرة. وفي حديث عثمان انه جهز جيش العسرة وهو جيش غزوة تبوك، سمى به؛ لأنه يذب الناس إلي الغزو في شدة القيظ، وكان وقت إيناع الثمرة وطيب الظلال، فعسر ذلك عليهم وشق، والعسر ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة. و ((فأهدر ثنيه)) أي أسقطها.
قوله: ((أيدع)) ((قض)): ((أيدع يده)) إلي آخره إشارة إلي علة الإهدار، وهو أن ما يدفع به الصائل المجتاز إذا تعين طريقا إلي دفعه مهدر؛ لأن الدافع مضطر إليه، ألجأه الصائل إلي دفعه به. فهو نتيجة فعله، ومسبب من جنايته، فكأنه الذي فعله وجنى به علي نفسه. والقضم الأكل بأطراف الأسنان، يقال: قضمت الناقة شعيرها بالكسر تقضمه قضما.
((حس)): وكذلك لو قصد رجل الفجور بأمره فدفعته عن نفسها فقضمته لا شيء عليها. رفع عمر رضي الله عنه جارية كانت تحتطب فاتبعها رجل فراودها عن نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر رضي الله عنه: هذا قتيل الله، والله لا يودي أبدا. وهو قول الشافعي. وكذا من قصد ماله ودمه وأهله فله دفع القاصد ومقاتليه، وينبغي أن يدفع بالأحسن فالأحسن، فان لم يمتنع إلا بالمقاتلة وقتله فدمه مهدر، وهل له أن يستسلم؟ نظرا إن أريد ماله فله ذلك، وإن أريد دمه ولا يمكنه دفعه إلا بالقتل، فقد ذهب قوم إلي أن له الاستسلام إلا أن يكون القاصد كافرا أو بهيمة. وذهب قوم إلي أن الواجب عليه الاستسلام.
3514 -
وعنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لو اطلع في بيتك أحد، ولم تأذن له، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه؛ ما كان عليك من جناح)) متفق عليه.
3515 -
وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه، فقال:((لو اعلم انك تنظرني لطعنت به في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) متفق عليه.
3516 -
وعن عبد الله بن مغفل، انه رأي رجلا يخذف، فقال: لا تخذف فان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الخذف، وقال:((إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو؛ ولكنها قد تكسر السن وتفقا العين)) متفق عليه.
ــ
قوله: ((فلا يعطه)) جواب للسؤال وجزاء الشرط محذوف، يدل عليه السؤال كما أن السؤال شرط جزائه محذوف، يعنى إن جاءه رجل بهذه الصفة أفأعطيه أم لا؟ قال: فلا تعطه يعنى إن كان كما وصفته فلا تعطه. وعلي هذا قوله: ((فأنت شهيد)). وأما ما جاء بلا فاء من قوله: ((قاتله، هو في النار)) فعلي الاستئناف بعد تقرير جواب الشرط، كأن قائلا سأل، قال: فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه؟ فأجيب قال كذا.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: وله: ((فخذفته)) ((مح)): هو بالخاء المعجمة،
أي رميته بها من بين أصبعيك. والفقأ بالهمز الشق والنخس، واختلفوا في أنه هل يجوز رميه قبل إنذاره؟ فيه وجهان، أصحهما: جوازه لظاهر هذا الحديث.
الحديث السادس عن سهل: قوله: ((مدرى)) ((نه)): المدرى والمدراة شيء يعمل من حديد أو خشب علي شكل سن من أسنان المشط وأطول منه، يسوى به الشعر الملبد، ويستعمله من لا مشط له. أقول: قوله: ((أعلم أنك تنظرني)) بعد قوله: ((اطلع)) يدل علي أن الاطلاع مع غير قصد النظر لا يترتب هذا الحكم عليه كالمار. و ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) معناه أن الاستئذان ما شرع ولا أمر به إلا حذرا من النظر إلي غير المحرم ولولاه لما شرع. ((نه)) *: فيه جواز رمي عين المتطلع بشيء خفيف، ولو فقئت لا ضمان عليه إذا نظر في بيت ليس فيه محرم له.
الحديث السابع عن عبد الله: قوله: ((لا ينكأ به)) ((نه)): يقال: نكيت في العدو وأنكى نكاية فأنا ناك إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، وقد يهمز يقال: نكأت القرحة إذا قشرتها. أقول: معنى الحديث أنه رأي رجلا يصيب بالخذف فنهاه؛ لأنه لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا بل هو شر كله.
3517 -
وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مر أحدكم في مسجدنا وفي سوقنا ومعه نبل فليمسك علي نصالها أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء)) متفق عليه.
3518 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يشير أحدكم علي أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه.
ــ
الحديث الثامن عن أبي موسى: قوله: ((في مسجدنا وفي سوقنا)) أي مسجد المسلمين وسوقهم، فأضاف إلي الضمير المفخم إيذانا بالشرف. و ((أمسك)) عدي ب ((علي)) مبالغة في المحافظة والقيض عليها. و ((أن يصيب)) مفعول لأجله علي حذف المضاف، أي كراهة أن يصيب كقوله تعالي:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} . أي كراهة أن تضلوا.
الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ينزع في يده)) ((تو)): أي يرمى به في يده كأنه يرفع يده كأنه يرفع يده فيحقق إشارته، ويروى بالغين المعجمة، ومعناه يغر به فيحمله علي تحقيق الضرب حين يشير به عند اللعب والهزل، ونزع الشيطان إغراؤه، ويحتمل أن يكون المعنى يطعن في يده من قولهم: نزعه بكلمة أي طعن فيه. الجوهري: نزغ في القوس نزعا. ((قض)): معناه أنه يرمى به كائنا في يده. أقول: فعلي هذا ((في يده)) حال من الضمير المجرور المقدر، وعلي تقدير الجوهري الظرف متعلق بالفعل علي منوال قول الشاعر:
يجرح في عراقيبها نصلي
أي يوقع نزعه في يد المشير فيستوفيه بما أمكن منه. ومنه قوله تعالي: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الكشاف: ((النَّازِعَاتِ)) أيدي الغزاة تنزع القسى بإغراق السهام.
والفاء في قوله: ((فيقع)) فصيحة أي ينزع يده فيقتله فيستوجب النار فيقع في حفرتها. وقوله: ((لعل الشيطان)) مفعول ((يدرى))، ويجوز أن يكون ((يدرى)) نازلا منزلة اللام، فينتفي الدراية عنه رأسا، ثم استأنف بقوله:((لعل)) وقوله: ((لا يشير)) خبر في معنى النهي. ((قض)): يريد به النهي عن الملاعبة بالسلاح، فلعل الشيطان يدخل بين المتلاعبين، فيصير الهزل جدا، واللعاب حرابا، فيضرب أحدهما الأخر فيقتله فيدخل النار بقتله.
3519 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلي أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يضعها وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه البخاري.
3520 -
وعن ابن عمر، وأبي هريرة [رضي الله عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((من حمل علينا السلاح فليس منا)) رواه البخاري. وزاد مسلم: ((ومن غشنا فليس منا)).
3521 -
وعن سلمة بن الأكوع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( (من سل علينا السيف فليس منا)) رواه مسلم،.
3522 -
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن هشام بن حكيم مر بالشام علي أناس من الأنباط، وقد أقيموا في الشمس وصب علي رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل يعذبون في الخراج. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) رواه مسلم.
ــ
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإن كان أخاه)) تتميم لمعنى الملاعبة وعدم القصد في الإشارة، فبدأ بمطلق الأخوة ثم قيده بالأخوة بالأب والأم؛ ليؤذن بأن اللعب المحض المعرى عن شائبة القصد إذا كان حكمه كذلك، فما ظنك بغيره؟
الحديث الحادي عشر عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: ((من حمل علينا)) وإنما جمع الضمير ليتناول الأمة أيضا ما سيأتي في الفصل الثالث في قوله: ((من سل السيف علي أمة محمد)). الجار والمجرور يجوز أن يتعلق بالفعل، و ((السلاح)) نصب علي نزع الخافض، يقال: حمل عليه في الحرب حمله، ويجوز أن يكون حالا و ((السلاح)) مفعول، يقال: حملت الشيء أحمله حملا أي حمل السلاح علينا لا لنا، والأول أوجه وأليق بباب ما لا يضمن من الجنايات؛ ولأن قوله:((فليس منا)) جزاء الشرط وعلي الثاني لا فائدة فيه؛ لأنه يعلم كل أحد أن عدو المسلمين ليس منهم.
الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن هشام: قوله: ((من الأنباط)) ((نه)):النبط والنبيط جبل معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. ((مح)): الأنباط فلاح الأعاجم. قوله: ((لسمعت)) اللام جواب القسم لما في ((أشهد)) من معناه.
3523 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك إ، طالت بك مدة أن ترى قوما، في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله)). وفي رواية: ((ويروحون في لعنة الله)) رواه مسلم.
3524 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهم كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
ــ
الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن ترى)) اسم ((يوشك)). قوله: ((يغدون ويروحون)) المراد بهما الدوام والاستمرار كما في قوله تعالي: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ} يعني هم أبدا في غضب الله وسخطه لا يرضي عنهم. وإن أريد بهما الوقتان المخصوصان، فالمعنى يصبحون يؤذون الناس ويروعونهم ولا يرحمون عليهم، فيغضب الله تعالي عليهم بذلك، ويمسون يتفكرون فيما لا يرضي عنهم الله تعالي من الإيذاء والروع.
الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من أهل النار)) صفة ((صنفان)) و ((لم أرهما)) خبر ((صنفان)) ونحو ((لم أرهما)) قوله في الحديث السابق: ((يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما)). وقوله: ((قوم معهم سياط)) وقوله: ((ونساء كاسيات عاريات)) بيان أو بدل لقوله: ((صنفان)) وما بعدهما صفات لهما. وذكر قوله: ((لا يدخلن الجنة)) صفة للنساء ولم يذكر للرجال مثلها اختصار أو إيجازا.
((مح)): هذا الحديث من المعجزات، وفيه ذم هذبن الصنفين. قيل: معناه كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها. وقيل: يسترن بعض بدنهن، فهن وإن كن كاسيات للثياب عاريات في الحقيقة. و ((مائلات)) قيل: عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، ((مميلات)) أي يعلمن غيرهن فعلن المذموم، وقيل: مائلا يمشين متبخترات، مميلات لأعناقهن. وقيل:((مائلات)) تمشطن مشطة الميلاء وهي مشطة البغاء، ((مميلات)) يمشطن غيرهن بتلك المشطة. ومعنى ((رءوسهن كأسنمة البخت)) أي يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها.
((قض)): قيل: المميلات اللاتي يملن قلوب الرجال ألي أنفسهن، أو يملن المقانع عن
3525 -
وعنه، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم علي صورته)) متفق عليه.
ــ
رءوسهن ليظهرن وجوههن ورءوسهن، والمائلات الزائغات عن العفاف واستعمال الطاعة، أو المائلات إلي الهوى والفجور، والمميلات غيرهن في مثل فعلهن من الزيغ والفجور.
قوله: ((لا يدخلن الجنة)) معناه أنهن لا يدخلنها ولا يجدن ريحها حين ما يدخلها ويجد ريحها العفائف المتورعات، لا أنهن لا يدخلن أبدا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر:((وإن زنى وإن سرق)) ثلاثا. والله أعلم. أقول: قوله: ((كاسيات عاريات)) أثبت لهن الكسوة ثم نفاها؛ لأن حقيقة الاكتساء ستر العورة، فإذا لم يتحقق الستر فكأنه لا اكتساء، ومنه قول الشاعر:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا
والله أعلم.
الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خلق آدم علي صورته)) فيه أقوال، والأول: أن الضمير راجع إلي آدم، وهو اختيار ابن الجوزي، وفيه وجوه، أحدهما: أنه خلق علي صورته التي كان عليها من مبدأ فطرته إلي منقرض عمره ولم تتفاوت قامته ولم تتغير هيئته، بخلاف سائر الناس؛ فإن كل واحد منهم يكون أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظاما وأعصابا عارية، ثم عظاما وأعصابا مكسوبة لحما، ثم حيوانا ماجنا في الرحم لا يأكل ولا يشرب، بل يتغذى من عرق كالنبات، ثم يكون مولودا رضيعا، ثم طفلا ثم مترعرعا، ثم مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا.
وثإنيها: أنه خلق علي صورة حال تختص به لا يشاركه نوع أخر من المخلوقات؛ فإنه يوصف مرة بالعلم وأخرى بالجهل، وتارة بالغواية والعصيان والإخراج من الجنان، ولحظة يتسم بسمة الاجتباء ويتوج بتاج الخلافة والاصطفاء، وبرهة يستعمل بتدبير الأرضين، وساعة يصعد بروحه إلي أعلي عليين، وطورا يشارك البهائم في مأكله ومشربه ومنكحه، وطورا يسابق الكروبيين في فكره وذكره وتسبيحه وتهليله.
وثالثهما: أنه تعالي اخترعها اختراعا عظيما في خلقها؛ إذ كل مخلوق قد تقدم أمثال له، فيخلقون علي صور أمثالهم المتقدمة، وإما آدم فاخترع خلقا جديدا عجيبا ملكي الروح حيوإني الجسم منتصب القامة، فلم يجد علي مثال له تقدم، وكأنه قال: ارتجل صورته اختراعا لا تشبيها بتقدم ولا محاذيا لخلق آخر، بل تولي القديم بنفسه خلق هذه الصورة إبداعا جديدا وخلقا عجيبا، لم يسبقه ما يشبهه بصفة ما. وتعظيم وجه الإنسان إما لأنه أشرف جزء من الإنسان إذ أكثر الحواس فيه؛ أو لأنه إذا عدم عدم الكل بخلاف بقية الأعضاء.
ــ
وفي هذا التأويل إضمار، كأنه قيل: هذا المضروب من أولاد آدم، فاجتنبوا ضرب العضو الأشراف منه احتراما له؛ لأنه يشبه وجه آدم. والثاني أن الضمير راجع إلي المضروب. قال الشيخ محي الدين: وهو رواية مسلم. ويحتمل أن يرجع إلي ((الوجه))
يعني فليجتنب الوجه؛ فإنه تعالي كرمه وشرفه بأحسن صورة، وجمع فيه المحاسن والحواس والإدراكات، والضرب في الوجه قد ينقصها ويشوه الحسن ويظهر الشين الفاحش ولا يمكن ستره، وخلق آدم عليه السلام علي تلك الصورة فلا تضربه تكريما لصورة آدم؛ فإنك إن ضربتها فقد أهنتها. ونظيره ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:((تسمون أولادكم محمدا فتلعنونهم)) أنكر اللعن إجلالا لاسمه، كما الضرب علي الوجه تعظيما لصورة آدم عليه السلام.
والثالث: أن الضمير راجع إلي الله تعالي، وهو اختيار الشيخ التوربشتي، قال: وإنما الوجه فيه أن يكون الضمير فيه راجعا إلي الله سبحانه وتعالي تشريفا وتكريما، وكالإضافة في بيت الله وناقة الله؛ لما صح من طرق هذا الحديث: فإن الله تعالي خلق آدم علي صورة الرحمن.
قال الشيخ محي الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت، ورواه بعضهم أن الله خلق آدم علي صورة الرحمن، وهو ليس بثابت عند أهل الحديث، كأن من رواه نقله بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك انتهي كلامه. وفي هذا القول وجوه: أولها أن يجري علي ظاهره وهو قول ابن قتيبة. ((مح)): قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة فيه، وقال: إن لله تعالي صورة لا كالصورة وهو ظاهر الفساد؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، وتعالي الله عن ذلك. وقالت المجسمة: جسم ليس كالأجسام؛ لما سمعوا من أهل السنة أنه تعالي شيء لا كالأشياء طردوا هذا الاستعمال. والفرق ظاهر، من ابن قتيبة في قوله:((صورة لا كالصورة))، مع أن ظاهر الحديث علي رأيه يقتضي خلق آدم علي صورته، فالصورتان علي رأيه سواء، فإذا قال: لا كالصورة ناقص. انتهي كلامه.
وثإنيها: قول القاضي: إن صحت هذه الرواية تعين أن يكون الضمير لله تعالي، ويكون المعنى أن الله تعالي خلق آدم علي صورة اجتباها وجعلها نتيجة من جملة مخلوقاته؛ إذ ما من موجود إلا وله مثال في صورته؛ ولذلك قيل: الإنسان عالم صغير، ثم إن مجمع محاسنه ومظهر لطائف الصنع فيه هو الوجه، فبالحري أنه يحافظ عليه، ويتجوز عما يشوهه فلا يناسب أن يجرح ويقبح. وإن لم يصح يحتمل ذلك.
وثالثها: قال بعضهم: إن الصورة بمعنى الأمر والشأن أي خلق آدم علي حاله وشأنه في كونه مسجودا للملائكة، مالكا للحيوانات في كونها مسخرة له، تحقيقا لقوله تعالي:{إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} تعظيما واحتراما لشانه، كقوله صلى الله عليه وسلم: الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) لأنه مخصوص بالتقبيل والاستلام تعظيما كيمين الملك في حق من يتقرب إليه. فإذن
الفصل الثاني
3526 -
عن أبي ذر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له، فرأي عورة أهله؛ فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه، ولو أنه حين أدخل بصره، فاستقبله رجل ففقأ عينه، ما غيرت عليه، وإن مر الرجل علي باب لا ستر له غير مغلق، فنظر؛ فلا خطيئة عليه، إنما الخطيئة علي أهل البيت)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3526]
3527 -
وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا. رواه الترمذي، وأبو داود. [3527]
3528 -
وعن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن يقد السير بين أصبعين. رواه أبو داود. [3528]
ــ
الإضافة فيه ليست كالإضافة في بيت الله وناقة الله للتشريف، بل الكلام وارد علي التمثيل والاستعارة.
وسئل سهل بن عبد الله عن عبد الله عن قوله تعالي: {إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قال: صورة الملك الذي تولاها فخلق آدم عليها وملكه من ملكه ما تولي، وسئل عن معنى ذلك فذكر ((خلق آدم علي صورته)). هذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا المقام. والله أعلم بالصواب.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((عورة أهله)) وهي ما يحاذ الاطلاع عليه وسميت عورة لاختلال تستر الناس بها وتحفظهم عنها، والعورة الخلل. قوله:((حدا)) يحتمل أن يراد به العقوبة المانعة عن إعادة الجإني، فالمعنى فقد أتى موجب حد حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما ذهب إليه الأشرف والمظهر، وان يراد به الحجز بين الموضوعين كالحمى، وإليه ينظر قوله تعالي:{ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . فقوله: ((لا يحل له)) صفة فارقة تخص الاحتمال الثاني بالمراد، يدل عليه إيقاع قوله:((إن مر الرجل علي باب لا ستر له)) مقابلا لقوله: ((من كشف سترا)) إلي آخره، وفيه أن أحد الأمرين واجب إما الستر وإما الغلق.
الحديث الثاني والثالث عن الحسن: قوله: ((أن يقد السير)) ((نه)): القد القطع طولا كالشق، ((والسير)) ما يقد من الجلد أي الجلد أي يقطع، وإنما نهي عنه لئلا يقعر الحديد يده، وهي شبيهة بهيئة أن يتعاطى السيف مسلولا.