المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب الكهانة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٩

[الطيبي]

الفصل: ‌(2) باب الكهانة

بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) رواه أبو داود. [4591]

(2) باب الكهانة

الفصل الأول

4592 -

عن معاوية بن الحكم، قال: قلت: يا رسول الله! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان. قال:((فلا تأتوا الكهان)) قال: قلت: كنا نتطير. قال: ((ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم)) قال: قلت: ومن رجال يخطون. قال: ((كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)) رواه مسلم.

ــ

ذلك على ما ينصف من نفسه فيذعن للحق ويقبله. فقوله: ((أحسنها الفأل)) إطماع له في الاستماع والقبول. وقوله: ((لا يرد المسلم)) تعريض بأن الكافر بخلافه. وإيراد الدعاء في صورة الحصر تصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من يعتقدها سفيها مشركا.

باب الكهانة

الكهانة مصدر كهن، والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار. وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما. فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن، ورئيا يلقى إليه الأخبار. ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله. وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما.

الفصل الأول

الحديث الأول عن معاوية: قوله: ((أمورا)) منصوب على شريطة التفسير، وفائدته التفخيم؛ لأن البيان بعد الإبهام أوقع في النفس. وقوله:((ذلك شيء يجده أحدكم)) نفي للتطير بالبرهان، وهو أبلغ [من أن لو] قال: لا تطيروا، كما قال:((فلا تأتوا الكهان)) يعن لا تطير؛ فإن الطيرة لا وجود لها، بل هي شيء يوجد في النفوس البشرية، وما يعتري الإنسان من قبل الظنون من غير أن يكون له فيه ضرر. وقوله:((فلا يصدنكم)) من باب ((لا أرينك ها هنا)) فإنه نفي ما يجد في النفس عن الصد. وفي الحقيقة المنهي هم المخاطبون عن التعرض له.

وقوله: ((ومنا رجال يخطون)) قد غير النسق في التفصيل؛ ليدل به على امتياز أولئك الرجال الذين خطوا من الأمور العامة. ومنه قول الحماسي:

ص: 2987

4593 -

وعن عائشة، قالت: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنهم ليسوا بشيء)). قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون إحيانا بالشيء يكون حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)) متفق عليه.

ــ

ومن الرجال أسنة مذروبة ومزندون شهودهم كالغائب

منهم ليوث ما ترام وبعضهم مما قمشت وضم حبل الحاطب

قال المرزوقي: أخرج المزندين الداخلين في القسمة على أسلوب آخر ذما لهم، كأنه لم يقنعهم ذلك التشبيه وتلك القسمة فاستأنفها على وجه آخر، يعني بينهما تفاوت عظيم وتباين شديد. وما يتعلق ببقية ألفاظ الحديث مضى بحثه في مستهل باب ((ما لا يجوز من العمل في الصلاة))، فمن أشكل عليه فليطلب هناك.

الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تلك الكلمة من الحق)) ((مح)): بالجيم والنون في جميع نسخ مسلم في بلادنا، أي الكلمة المسموعة من الجبن. وروى أيضا:((من الحق)) بالحاء والقاف. و ((يخطفها)) أي يسرقها من الملائكة بسرعة. وقوله: ((فيقرها)) بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء. و ((قر الدجاجة)) بفتح القاف. والدجاجة بالدال. قال أهل اللغة والغريب: القر ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه. تقول: قررته فيه أقره قرا، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته. يقال: قرت تقر قرا وقريرا. فإد رددته قلت: قرقرت قرقرة. ويروى كقر الزجاجة بالزاي يدل عليه ثبوت رواية البخاري: ((فيقرها في أذنه كما يقر القارورة)).

أقول: واختار الشيخ التوربشتي هذه الرواية، ورد الرواية الأولى وقال: ومن الناس من رواه ((قر الزجاجة)) بالزاي، وأراها أحوط الروايتين؛ لما في غير هذه الرواية ((قر القارورة)) يقال: قررت على رأسه دلوا من ماء أي صببت. وقر الحديث في أنه يقره كأنه صبه فيها. واستعمال قر الحديث في الأول شائع مستفيض في كلامهم، وأما استعماله على الوجه الذي فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور، لم نجد له شاهدا في كلامهم. وكل ذلك يدل عى أن الدجاجة بالدال تصحيف أو غلط من السامع.

أقول: لا ارتياب أن ((قر الدجاجة)) مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة، يصح أن يشبه ترديد كلام الجني في أذن الكاهن ترديد الجاجة صوتها في أذن صواحبها، كما تشاهد الديكة إذا وجدت حبة أو شيئا فتقر وتسمع صواحبها فيجتمعن عليها. وباب التشبيه باب واسع لا يفتقر إلا إلى

ص: 2988

4594 -

وعنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة تنزل في العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)). رواه البخاري.

4595 -

وعن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) رواه مسلم.

ــ

العلاقة، على أن الاختطاف ها هنا مستعار للكلام من خطب الطير، قال تعالى:{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فتكون الدجاجة أنسب من القارورة لحصول الترشيح في الاستعارة. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما ذكره ابن الصلاح في كتابه أن الأصل قر الدجاجة بالدال، فصحف إلى قر الزجاجة بالزاي. وقوله:((فيخلطون)) أي الأولياء جمع بعد الإفراد نظرا إلى الجنس.

الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((وهو السحاب)) يحتمل أن يكون من قول الراوي تفسير للعنان. فالسحاب مجاز من السماء كما أن السماء مجاز عن السحاب في قوله تعالى: {وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} في وجه.

وأصل ذلك أن الملائكة تسمع في السماء ما قضى الله تعالى في كل يوم من الحوادث في الدنيا، فيحدث بعضهم بعضا فيسترقه الشياطين فيلقيه إلى الكهنة، يشهد له حديث أبي هريرة في أول الفصل الثالث، وما روى أبو داود عن ابن مسعود قال:((إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. فيقولون: الحق الحق)). قوله: ((قضى في السماء)) يحتمل أن يكون حالا من ((الأمر)) أو صفة له على تأويل إرادة الجنس، كقوله:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

الحديث الرابع عن حفصة: قوله: ((من أتى عرافا)) ((مح)): العراف من جملة أنواع الكهان. قال الخطابي وغيره: العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما. وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه. ولا يحتاج معها إلى إعادة. ونظير هذا: الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب له فيها. كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات

ص: 2989

4596 -

وعن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال:((هل تدرون ماذا قال ربكم)) قالو: الله ورسوله أعلم. قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)). متفق عليه.

ــ

إذا أتى بها على وجهها الكامل، تربت عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني. ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث؛ فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم على من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة، فوجب تأويله.

الحديث الخامس عن زيد: قوله: ((على إثر سماء)) ((مح)): هو بكسر الهمزة وإسكان الثاء وفتحها جميعا لغتان مشهورتان، والسماء المطر. انتهى كلامه. وقوله:((كانت من الليل)) صفة ((سماء)) وأنث الراجع اعتبارا للفظ. وفي ((أصبح)) ضمير الشأن. و ((من)) للتبعيض، وهو مبتدأ وما بعده خبر له، والجملة خبر ((كانت)) مبينة للضمير. ويحتمل أن يكون اسمه ((مؤمن بي)) مبتدأ، و ((من عبادي)) خبره و ((من)) فيه بيانية، وفيه قلب من حيث المعنى كقوله:((عرضت الناقة على الحوض)).

فإن قلت: ما معنى قوله: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر))؟. قلت: فيه تأنيب وتعيير لهم، أي كونهم من عبادي مناف لكفران النعمة واختلافهم في ذلك، كقوله تعالى:{وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . الكشاف: قيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق المطر يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله؛ حيث تنسبونه إلى النجوم.

وقوله: ((فأما من قال)) إلى آخره تفصيل للمجمل، وهو قوله:((مؤمن بي وكافر)) ولا بد من تقدير فيه ليطابقه المفصل، فالتقدير: مؤمن بي وكافر بالكواكب، وكافر بي ومؤمن بالكواكب، فهو من باب الجمع مع التقسيم.

((مح)): اختلفوا في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين: أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان، وفيه وجهان: أحدهما: أنه من قال معتقدا بأن الكواكب فاعل مدبر منشئ للمطر كزعم أهل الجاهلية، فلا شك في كفره. وهو قول الشافعي والجماهير

ص: 2990

4597 -

وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث، فيقولون: يكوكب كذا وكذا)) رواه مسلم.

الفصل الثاني

4598 -

عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [4598]

ــ

وثانيهما: أنه من قال معتقدا بأنه من الله تعالى وبفضله، وأن النوء علامة له ومظنة لنزول الغيث فهذا لا يكفر؛ لأنه بقوله هذا كأنه قال: مطرنا في وقت كذا. والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه؛ لأنها كلمة موهمة مترددة بين الكفر والإيمان، فيساء الظن بصاحبها؛ ولأنها شعار الجاهلية. والقول الثاني: كفران لنعمة الله لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخرى:((أصبح من الناس شاكرا وكافرا)). وفي أخرى: ((ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين)). وأما معنى النوء فقد سبق في الباب السابق في الحديث الرابع من الفصل الأول.

الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بكوكب)) متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: ((ينزل الله الغيث)) أي ينزل الغيث بسبب كوكب شرطين وبطين مثلا؛ فإن كل منزل من منازل القمر مشتمل على كواكب شتى.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((من اقتبس علما)) نكر ((علما)) للتقليل؛ ومن ثمة ضم الاقتباس؛ لأنه فيه معنى القلة. و ((من النجوم)) صفة ((علما)) وفيه مبالغة، وفاعل ((زاج)) الشعبة، ذكرها باعتبار السحر. ((وزاد ما زاد)) جملة مستأنفة على سبيل التقرير والتأكيد، أي يزيد السحر ما يزيد الاقتباس، فوضع الماضي موضع المضارع للتحقيق.

((حس)): المنهي من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في المستقبل من الزمان. مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح ومجيء المطر، ووقوع الثلج وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار ونحوها، ويزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب

ص: 2991

4599 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأته حائضا، أو أتى امرأته في دبرها؛ فقد برئ مما أنزل على محمد)) رواه أحمد، وأبو داود. [4599]

الفصل الثالث

4600 -

عن أبي هريرة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان،

ــ

واجتماعها وافتراقها. وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره، كما قال الله تعالى:{إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}

فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نهى عنه؛ قال تعالى:{وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ} ، وقال تعالى:{وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . فأخبر الله تعالى أن النجوم طرق لمعرفة الأوقات والمسالك، ولولاها لم يهتد الناس إلى استقبال الكعبة. روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال:((تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق ثم أمسكوا)).

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حائضا)) حال مستقلة، ولهذا جاز حذف التاء، ولو كانت صفة لكانت التاء لازمة.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خضعانا)) ((نه)): الخضعان مصدر خضع يخضع خضوعا وخضعانا، وهو الانقياد والطاعة كالغفران والكفران، ويروى بالكسر كالوجدان. ويجوز أن يكون جمع خاضع.

أقول: قوله: ((خضعانا)) إذا كان جمعا كان حالا، وإذا كان مصدرا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع، أو مفعولا له؛ وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفا أرخى جناحيه مرتعدا. والضمير في ((كأنه)) راجع إلى قوله:((لقوله)) و ((كأنه)) حال منه. ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الوحي النازل عليه ((أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو [أشده]

ص: 2992

فإذا فرع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي

ــ

على فيفصم عني وقد وعيت ما قال)). والصفوان الحجر الأملس.

وقوله: ((فإذا فزع عن قلوبهم)) أي كشف عنهم الفزع وأزيل، وزوال الفزع هنا بعد سماعهم القول، كالفصم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سماع الوحي.

قوله: ((للذي قال)) أي قالوا الحق لأجل ما قاله الله تعالى، أي عبروا عن قول الله تعالى وما قضاه وقدره بلفظ ((الحق)). والمجيب الملائكة المقربون كجبريل وميكائيل وغيرهما على ما روينا عن ابن مسعود قال:((إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحق الحق)) أخرجه أبو داود.

وقوله: ((الحق)) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، تقديره: قال جبريل: قال الله تعالى: القول الحق. ويحتمل الرفع فالتقدير قال جبريل: قوله الحق. هكذا قدر صاحب الكشاف في سورة سبأ في قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ} بالرفع. والقول يجوز أن يراد به كلمة ((كن)) وأن يراد بالحق ما يقابل الباطل. فالمراد بـ ((كن)) مما هو من سببها من الحوادث اليومية، بأن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ} ، ويشفي سقيما ويسقم سليما، ويبتلي معافي ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا. فسبحان الذي {إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . وإنما كانت الكلمة حقا لا باطلا، لقوله تعالى:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي عبثا بل هو صواب وحكمة. ويجوز أن يراد به القول المسطور في اللوح المحفوظ.

والحق بمعنى الثابت أي قضى وقدر وحكم في الكائنات ما كان مقدرا في الأزل ثابتا في اللوح المحفوظ. ويؤيد الأول تأنيث الكناية في قوله: ((فسمعها [مسترقو] السمع)) والتصريح في ((فيستمع الكلمة))، وإنما عدلوا عن صريح القولن وهو التفصيل والتصريح بالمقضي من الشؤون والأمور إلى هذا القول المجمل الموجز؛ لأن قصدهم في ذلك إزالة الفزع عن قلوبهم بالكلية، يعني لا تفزعوا وهينوا على قلوبكم؛ فإن هذا القول هو ما عهدتموه كل يوم من قضاء الشؤون لا ما تظنونه من قيام الساعة.

قال الزجاج في تفسير الآية: إن جبريل لما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، ففزعت لذلك، فلما انكشف عنها الفزع، قالوا: ماذا قال ربكم؟.

ص: 2993

الكبير. فسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا، بعضه فوق بعض)) ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه ((فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيا الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)). رواه البخاري.

4601 -

وعن ابن عباس، قال: أخبرن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنهم بيناهم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم واستنار، فقال لهم

ــ

وقوله: ((مسترقو السمع)) مبتدأ و ((هكذا)) خبره وهو إشارة إلى ما صنعه بالأصابع من التحريف والتبديد، وركوب بعضها على بعض.

وقوله: ((بعضه فوق بعض)) توضيح أو بدل، وفيه معنى التشبيه أي: مسترقو السمع بعضهم راكب بعض مردفين، ركوب أصابعي هذه بعضها فوق بعض. وإفراد الضمير في بعضه والمرجوع إليه جمع لإرادة المذكور. وأنشد ابن جنى:

مثل الفراخ [نقفت] حواصله

وقال: أي حواصل المذكور. ومنه قوله تعالى: {وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} الضمير في ((منه)) جار مجرى اسم الإشارة. كأنه قيل: عن شيء من ذلك.

وقوله: ((ووصف سفيان بكفه)) أي بين كيفية ركوب بعضها فوق بعض بأصابعه، كقوله تعالى:{وتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ} . وقولك: ((وجهه يصف الجمال)). وقوله: ((فيسمع)) عطف على قوله: ((ومسترقو السمع)) وكلام الراوي معترض بينهما.

والساحر المنجم كما جاء في الحديث: ((والمنجم ساحر))؛ لأن الساحر لا يخبر [عن] الغيب. والشهاب يحتمل أن يكون منصوبا ومرفوعا يعني: الجني يسترق السمع قبل أن يلقيه إلى وليه أدرك الشهاب أو أدركه الشهاب. وقوله: ((فيقال)) أي يقول من صدق الكاهن للذي لامه عليه أليس ...... إلى آخره.

الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((رمى بنجم)) هو جواب ((بينا)) ولم يؤت بـ ((إذا)) كما يستفصحه الأصمعي، وأنشد:

ص: 2994

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم؛ ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا، فيخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون)) رواه مسلم.

4602 -

وعن قتادة، قال: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ

ــ

وبينا نحن نرقبه أتانا معلق وفضة وزناد راعى

و ((هم جلوس)) مبتدأ وخبر لأن ((بينا)) و ((بينما)) يستدعيان بينهما جملة اسمية. و ((بينا)) مع الجواب خبر ((أن)). وقوله صلى الله عليه وسلم لهم: ((ما كنتم تقولون)) ليس للاستعلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بذلك؛ ولذلك قالوا: الله ورسوله أعلم، بل لأن يحسوا عما كانوا يعتقدونه في الجاهلية، فيزيل عنهم ويقلعه عن سنخه.

قوله: ((ويرمون)) معطوف على ((يقذفون)) فعلى هذا رميهم بالشهاب بعد إلقائهم الكلمة إلى أوليائهم، وهو إحدى الحالتين اللتين ذكرتا في الحديث السابق. وهي قوله:((وربما ألقاها قبل أن يدركه)). وقوله: ((يقرفون فيه)) عداه بـ ((في)) على تضمين معنى الكذب.

قوله: ((هذه السماء الدنيا)) فإن قلت: ((الدنيا)) صفة ((للسماء)) و ((السماء)) صفة لاسم الإشارة، فكيف يصح وصف الوصف؟. قلت: إنما لا يصح حيث كانت الصفة مفهوما لا ذاتا، وأوصاف أسماء الإشارة ذوات فيصح وصفها.

الحديث الثالث عن قتادة. قوله: ((وأضاع نصيبه)) أي حفظه وهو الاشتغال بما يعنيه وينفعه في الدنيا والآخرة. وقوله: ((ما لا علم له به)) ليس نفيا لما يتعاناه المنجم من الأحكام منه، وإثباتا لغيره بل نفيه بالكلية، ويؤيده ما يتبعه من قوله:((وما عجز عن علمه الأنبياء)) إلى آخره.

ص: 2995

وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا يعلم. رواه البخاري تعليقا – وفي رواية رزين: - ((تكلف ما لا يعنيه وما لا علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة)).

ــ

واعلم أن الشيخ أبا القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري رحمه الله تعالى عقد بابا في كتابه المسمى بـ ((مفاتيح الحجج)) في إبطال مذهب المنجمين، وأطنب فيه وذكر أقوالهم وقال: وأقربها قول من قال: هذه الحوادث يحدثها الله تعالى ابتداء بقدرته واختياره، ولكن أجرى العادة بأنه إنما يخلقها عند كون هذه الكواكب في البروج المخصوصة، ويختلف باختلاف سيرها واتصالاتها ومطارح أشعتها على جهة العادة من الله تعالى، كما أجرى العادة بخلق الولد عقيب الوطء، وخلق الشبع عقيب الطعام. ثم قال: هذا في القدرة جائز لكن ليس عليه دليل ولا إلى القطع سبيل؛ لأن ما كان على جهة العادة يجب أن يكون الطريق فيه مستمرا، وأقل ما فيه أن يحصل التكرار، وعندهم لا يحصل وقت في العالم مكرر على وجه واحد؛ لأنه إذا كان في سنة الشمس مثلا في درجة من برج، فإذا عادت إليها في السنة الأخرى، فالكواكب لا يتفق كونها في بروجها، كما كانت في السنة الماضية، والأحكام تختلف بالقرائن والمقابلات، ونظر الكواكب بعضها إلى بعض، فلا يحصل شيء من ذلك مكررا.

واتفقوا على أنه لا سبيل إلى الوقوف على الأحكام، ولا يجوز القطع على البت لتعذر الإحاطة بها على التفصيل. ومما يدل على أنه لا حجة في قولهم، أنهم اختلفوا فيما بينهم في حكم [الريح] فلأهل هنذ وسند طريق يخالف طريق أرباب [الريح] الممتحن.

وفصل الشيخ في الاختلافات بينهم تفصيلا ثم قال: ومما يدل على فساد قولهم أن يقال أخبرونا عن مولودين ولدا في وقت واحد، أليس يجب تساويهما في كل وجه لا تميز بينهما في الصورة والقدر والمنظر، حتى لا يصيب أحدهما نكبة إلا أصاب الآخر، وحتى لا يفعل هذه شيئا إلا والآخر يفعل مثله، وليس في العالم اثنان هذا صفتهما. قالوا: من المحال أن يوجد مولودان في العالم في وقت واحد، ولا بد أن يتقدم أحدهما على الآخر فيقال: أمحال ذلك في العقل والتقدير أم في الوجود؟. فإن قالوا بالأول بان فساد قولهم: وإن قالوا بالثاني قيل: وما يؤمنكم منه.

فإن قالوا: ليس أمر الكسوفين يصدق؟. قلنا: ليس أمر الكسوفين من الأحكام، وإنما هو من طريق الحساب وذلك غير منكر، ويجوز أن يكون أمر سر الكواكب على ما قالوه. وقد ورد في الشريعة في أمر الكسوفين بأنه آية من آيات الله.

ص: 2996

4603 -

وعن الربيع مثله، وزاد: والله ما جعل الله في نجم حياة أحد، ولا رزقه، ولا موته؛ وإنما يفترون على الله الكذب ويتعللون بالنجوم.

4604 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس بابا من علم النجوم لغير ما ذكر الله؛ فقد اقتبس شعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر)) رواه رزين.

ــ

فإن قالوا: فما قولكم في المنجمين إنهم مخطئون في جميع ما يحكمون مكابرون للعقول؟ قلنا: إنا نقول: إنهم مخطئون في أصولهم عن شبه وقعت لهم، فلا يعرفون بطلان قولهم مكابرة للعقول ولا بالضرورة، بل جزموا على مقتضى قواعد بنوها على أصول فاسدة وقعت الشبهة لسلفهم في أصول قواعدهم، فربما يصيبون في تركيب الفروع على تلك الأصول، لمنزلتهم في الأحكام كمنزلة أصحاب الحدس والتخمين، وأصحاب الزوج والفرد، فربما يصيبون اتفاقا لا عن ضرورة وربما يخطئون. وكثيرا ما نجد من الفلاحين والملاحين يعتبرون نوع ما اعتادوا من توقع المطر وهبوب الرياح في أوقات راعوها بدلالات، ادعوا أنهم جربوها في السماء والهواء وغير ذلك، فيحصل بعض أحكامهم اتفاقا لا تحقيقا.

وقلت: ومنه ما روى بان جنى في المحتسب أن ابنة مغفر بن حمار البارقي شامت برقا فقالت: يا أبت! جاءتك السماء فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها عين جمل طريف، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت مليا ثم جاءته، فقالت: يا أبت! قد جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها. فقال: ارعي غنيماتك، فرعت مليا ثم جاءته فقالت: يا أبت جاءتك السماء بشيء قال: كيف ترينها؟ قالت: سطحت وابيضت. فقال: أدخلي غنيماتك فجادت السماء بشيء شطأ له الزرع، والشطأ فراخ الزرع. وصنف ابن دريد كتابا في هذا المعنى، وفيه هذه القصة. وروايته: كان أعرابي ضرير تقوده ابنته، وهي ترعى غنيمات له، فرأت سحابا، فقالت: يا أبت إلى آخرها. وفيه قال: أخبرنا أبو حاتم عن عبيدة قلت لأعرابي: ما أسح الغيث؟. فقال: ما ألحقته الجنوب ومرته الصبا ونتجته الشمال، ثم قال: أهلك والليل ما ترى إلا أنه قد أخذه المطر.

ص: 2997