الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح الموقظة
في علم مصطلح الحديث
للحافظ المحدث المؤرِّخ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي
(673 هـ - 748 هـ)
رحمه الله تعالى
الجزء الأول
الحديث الصحيح
تأليف الفقير إلى عفو ربه الغني: أبي المنذر: محمود بن محمد بن مصطفى المنياوي
عفا الله عنه
الطبعة الأولى
1432هـ - 2011م
المكتبة الشاملة
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1432 هـ - 2011 م
رقم الإيداع بالمكتبة الشاملة 4/ 2011
عمدة العبد التوكل على ربه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَعُدَّة المرء التقوى؛ لقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . وفي هذا التعقب والتعليل نظر؛ فالذهبي أهل لما ذكر فإنه من الأئمة المشهود لهم بالعلم، قال عنه (1) تلميذه الصفدي:«حافظ لا يجارى ولافظ لا يُبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر عللهُ وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم، لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات» . وقال عنه التاج السبكي: «إمام الوجود حفظاً، وذهب العصر معنى ولفظاً، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يُعبَّر عنها إخبار من حضرها» . وقال عنه السخاوي: «وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال» ، وقال عنه ابن كثير الدمشقي:«الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين، وخاتمة الحفاظ» ، وقال عنه جلال الدين السيوطي:«إن المحدثين عيال في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المِزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر» .
وأما تعليله فإنما يتجه للإطلاق وكلامهم على التقييد فلا معارضة.
وقوله: (آخِرُ المجتهدين) انتقده أيضا الشيخ الهلالي بأن فيها إيحاءً بغلق باب الاجتهاد، وفي تعقبه نظر كسابقه فليس فيما قال الناسخ ما يشير إلى قوله بغلق باب الاجتهاد بل مقصوده مدح الذهبي بأن آخر مجتهدي عصره، فالوصف بالأخروية كالوصف بالأولية وبالقدم نسبي.
توطئة:
(قال الشيخ عبد العزيز السعيد في شرحه للموقظة: [وهذا الكتاب: " كتاب الموقظة " للإمام الذهبي رحمه الله كتاب مختصر نافع مفيد، وتظهر أهميته في أن الإمام الذهبي رحمه الله له تعقبات وتعليقات على من سبقه، وهذه التعقبات والتعليقات صادرة عن إمام له نفس حديثي، ليس كغيره ممن سلف.
(1) - نقلا عن مقدمة السير (1/ 169)، رسالة: موقف الإمام الذهبي من الدولة العبيدية نسباً ومعتقداً للدكتور/ سعد بن موسى الموسى.
قوله: (الحديثُ الصحيح) أي لذاته لا لغيره؛ لأنه المقصود عند الإطلاق، وهاهنا بحث في دخول الحسن في الصحيح، وقد درج المصنف على جعلهما قسيمين، وسيأتي هذا البحث عند الكلام على الحسن في محله من الرسالة بمشيئة الله.
فائدة: الفرق بين قولهم: حديث صحيح، وإسناد صحيح
.
قال ابن الصلاح في مقدمته (ص/20): [قولهم: (هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد)
دون قولهم: (هذا حديث صحيح أو حديث حسن)؛ لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح لكونه شاذا أو معللا، غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه؛ لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر والله أعلم].
وناقش ابن حجر تقييد ابن الصلاح الأخير ووجهه فقال في النكت (1/ 474): [قلت: لا نسلم أن عدم العلة هو الأصل، إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح، فإذا كان قولهم: صحيح الإسناد يحتمل أن يكون مع وجود العلة لم يتحقق عدم العلة، فكيف يحكم له بالصحة. وقوله: إن المصنف المعتمد إذا اقتصر
…
الخ يوهم أن التفرقة التي فرقها أولاً مختصة بغير المعتمد وهو كلام ينبو عنه السمع، لأن المعتمد هو قول المعتمد وغير المعتمد لا يعتمد. والذي يظهر لي أن الصواب التفرقة بين من يفرق في وصفه الحديث بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرق.
فمن عرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معاً وتقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله أنه لا يصف الحديث دائماً وغالباً إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال في حقه ما قال المصنف آخراً والله أعلم.]
وكلام الحافظ مقيد بمن عرف حاله بالاستقراء ويحمل على الاستقراء التام، وأما الاستقراء الناقص أو من لم يعلم حاله فقد قال عنه ابن حجر: (فيحتمل أن
يقال في حقه ما قال المصنف آخرا) والأقرب أن نعتمد ما قاله عنه ابن الصلاح أولا من التفرقة بين الإطلاق والتقييد فإنه لا تلازم بين الإسناد والمتن إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شرائطهما ولا يصح المتن لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى، ويؤيد ذلك أيضا أننا خالفنا ابن الصلاح واعتبرنا أن العلة في الحديث هي الأصل.
قال طاهر الجزائري في توجيه النظر (1/ 509) موضحاً للقول الأول الذي ذكره ابن الصلاح: [وقال بعض العلماء الذي لا يشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله صحيح الإسناد إلا لأمر ما وعلى كل حال فالتقييد بالإسناد ليس صريحا في صحة المتن أو ضعفه ويشهد لعدم التلازم ما رواه النسائي من حديث أبي بكر بن خلاد عن محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة تسحروا فإن في السحور بركة قال هذا حديث منكر وإسناده حسن وقد أورد الحاكم في مستدركه غير حدث يحكم على إسناده بالصحة وعلى المتن بالوهاء لعلته أو شذوذه وقد فعل نحو لك كثير من المتقدمين وممن فعل ذلك من المتأخرين الحافظ المزي فإنه تكرر منه الحكم بصلاحية الإسناد ونكارة المتن].
قوله: (هو ما دَارَ)
أي ما يكون رواته في جميع الطبقات على ما وصف من العدالة والإتقان. وفي استعماله لهذه الكلمة نكتة لطيفة وهي أنه بذلك يبين شرطه في الصحيح وهو: ألا يوجد من بين رواته من ليس على ما وصف، وإيضاحه أن قوله دار من قولهم:(دَارَتِ) المسألة أي كلما تعلقت بمحلّ توقف ثبوت الحكم على غيره فينقل إليه ثم يتوقف على الأول وهكذا (1)، فلو انخرم تحقق الشرط في أحد الرواة لانقطع الدور.
وهناك نكتة أخرى من استعماله هذا اللفظ، وهي ما في هذا اللفظ من إشعار بالاتصال على النحو المذكور، بمعنى أنه إذا تحقق الشرط المذكور من صفات الرواة فلا بد من تحقق تمام الدور والاتصال ليحكم بصحة الحديث.
(1) - انظر المصباح المنير مادة (دار).
قوله: (على عَدْلً)
وفيه مسائل، والله نسأل السداد.
(تعريف العدالة:
التعريف المشهور المتداول للعدالة هو تعريف ابن حجر، ولذا فإننا سوف نبدأ بذكره ونتوقف معه، قال ابن حجر في شرح النخبة (ص/25):(والمراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة)
واعترض الصنعاني في " ثمرات النظر في علم الأثر " على هذا التعريف بعدة اعتراضات:
الاعتراض الأول: عدم الملازمة بينه وبين التعريف اللغوي للعدالة:
قال الصنعاني (ص/53: 55): [تفسير العدالة بما ذكره الحافظ تطابقت عليه كتب الأصول وإن حذف البعض قيد الابتداع إلا أنهم الكل اتفقوا أنها ملكة إلى آخره وهذا ليس معناها لغة ففي القاموس العدل ضد الجور وهو إن كان كلامه في هذه الألفاظ قليل الإفادة لأنه يقول والجور نقيض العدل فيدور، وفي النهاية العدل الذي لا يميل به الهوى، وهو وإن كان تفسيرا للعادل فقد أفاد المراد في غيرها. العدل: الاستقامة، وللمفسرين في قوله تعالى) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ)، أقوال في تفسيره قال الرازي بعد سرده للأقوال إنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو قريب من تفسيره بالاستقامة، وقد فسر الاستقامة الصحابة وهم أهل اللغة بعدم الرجوع إلى عبادة الأوثان وأنكر أبو بكر رضي الله عنه على من فسرها بعدم الإتيان بذنب وقال حملتم الأمر على أشده
…
].
الاعتراض الثاني: نقد العدالة بالملكة المذكورة:
وقال (ص/55: 58): [والحاصل أن تفسير العدالة بالملكة المذكورة ليس معناها لغة ولا أتى عن الشارع حرف واحد بما يفيدها والله تعالى قال في الشهود (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ)(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) وهو كالتفسير للعدل والمرضي من تسكن النفس إلى خبره ويرضى به القلب ولا يضطرب من خبره ويرتاب، ومنه) تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ)
…
فالعدل من اطمأن القلب إلى خبره وسكنت النفس إلى ما رواه، وأما القول بأنه من له هذه الملكة التي هي كيفية راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة
يمتنع بها عن اقتراف كل فرد من أفراد الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة تمرة والرذائل الجائزة كالبول في الطرقات وأكل غير السوقي فيه فهذا تشديد في العدالة لا يتم إلا في حق المعصومين وأفراد من خلص المؤمنين بل قد جاء في الأحاديث أن (كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون)(1) وأنه ما من نبي إلا عصى أو هم بمعصية فما ظنك عمن سواهم وحصول هذه الملكة في كل راو من رواة الحديث عزيز الحصول لا يكاد يقع ومن طالع تراجم الرواة علم ذلك وأنه ليس العدل إلا من قارب وسدد وغلب خيره شره
…
].
إلا أن الشيخ حاتم العوني في رسالته " خلاصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل " لم يرتضِ هذا الاعتراض حيث قال: [تعريف العدالة (على الإطلاق): ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة. وتعريف العدالة بتلك الملكة ليس عليه انتقاد في نظري؛ لأن تعريف العدالة بذلك ليس هو تعريف العدل، فمن كانت له تلك الملكة لا يلزم من اتصافه بها أن يكون معصوماً، فقد يخالف صاحب الملكة ملكته أحياناً، وقد يتجاوز ذو السجية سجيته، وكما قيل في بيان ذلك:((لكل جواد كبوة، ولكل سيفٍ نبوة)) وعليه: فإن لا أرى أن هناك فرقاً بين تعريف العدل بصاحب تلك الملكة وتعريفه بأنه: من كان الغالب عليه فعل الطاعات وترك المعاصي، أو بأنه: من غلب خيره شره.
ثم إن الملكات (والسجايا) تتفاوت في القوة والتمكن، فليس كل من كان الجود سجيته بلغ مبلغ حاتم الطائي، ولا كل من كانت التقوى والمروءة ملكةً له بلغ مبلغ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا هو مقتضى اعتقاد أهل السنة والجماعة بأن الإيمان يزيد وينقص، وأن أصحابه فيه متفاوتون
…
ثم قال: تعريف العدل: من كانت له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وهو: المسلم العاقل البالغ السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة].
وهذا التعقب على الاعتراض ليس بشيء؛ وذلك لأن من عََّرفَ العدالة بهذه الملكة، أو عرف العدل بمن له هذه الملكة، فقد قصد وجود ملزوم ذلك من ملازمة
(1) - رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم من حدث أنس، وحسنه الألباني.
التقوى والمروءة، بمعنى أنه لكي يصح وصف صاحب هذه الملكة بالعدالة فلابد من أن تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، فإن اختل هذا الحمل فقد اختل وجود العدالة، وعلى قدر هذا الاختلال يكون الاختلال في الوصف بالعدالة، والمقصود هنا بيان العدالة التامة المطلقة التي هي شرط الصحة لا مطلق الاتصاف، ومن هنا يظهر وجه اعتراض الصنعاني، بالإضافة إلى ما ذكره من عدم وجود علاقة بين المعنى اللغوي للعدالة وتفسيرها بهذه الملكة؛ وعليه فإني أتوقف في قبول هذا التعقب على اعتراض الصنعاني.
…
الاعتراض الثالث: قبولهم رواية فاسق التصريح:
قال الصنعاني (ص/95: 102): [الإشكال عليهم في قبول رواية الرافضي الساب للصحابة والناصبي الساب لعلي رضي الله عنه مع عدهم السب للصحابة من الكبائر كما صرح به في جمع الجوامع وفي الفصول فإذا قبلوا فاعل الكبيرة وليس إلا لظن صدقه مع أن مرتكب الكبيرة فاسق تصريح لا تأويل، وقد سبق في تفسير العدالة أنه لا بد من السلامة منه وقد نقل الإجماع على عدم قبول قول فاسق التصريح كما في الفصول وغيره واستدل له صاحب الفصول بقوله تعالى (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية، وأصاب في الاستدلال بها على ذلك لأنها نزلت في الوليد بن عقبة كما تطابق عليه أئمة التفسير وهو فاسق تصريح بشربه الخمر كما في صحيح مسلم، وذكره بشرب الخمر ابن عبد البر والذهبي
…
وإذا تتبعت ما سلف علمت أن الآية دلت على أنه يتوقف في خبر الفاسق تصريحا لا يرد بل يقتضي البحث عما أخبر به لا رد خبره (1).
فإن قلت قد وقع الإجماع على عدم قبول خبره ورده فيكف نافى الإجماع الآية قلت لا نسلم الإجماع كيف وهؤلاء أئمة الحديث رووا عن فساق التصريح الذين يسبون الشيخين ويسبون عليا وغيرهم وحينئذ فلا بد من تخصيص الكبائر في رسم العدالة بما عدا سب المسلم.
(1) والآية تدل على جواز قبول خبره إن تبين صدقه، ورده إن كان كاذبا، فلا تعارض بينها وبين اختيار أن مدار العدالة على مظنة الصدق وعدم الكذب.
ومن هنا تزداد بصيرة في أن رسم العدالة بذلك الرسم لا يتم في حق الرواة وأن المرجع ليس إلا في ظن الصدق فإن قلت قد أبطل الله تعالى شهادة القاذف فقال (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) والقذف كبيرة فيلحق به سائر الكبائر في عدم القبول لأخبار مرتكبها، قلت أما أولا فإنه قياس فاسد الوضع لمصادمته آية التبين.
وثانيا إنه لا قياس لكبيرة على كبيرة لعدم معرفة الوجه الجامع وإلا لزم إيجاب حد القذف في كل كبيرة بالقياس عليه.
فالحق أن القذف لعظم حرمة المؤمنات وهتك حجاب عفتهن كانت عقوبة القاذف شديدة في الدنيا بأمرين جلده ثمانين جلدة ثم إسقاطه عن قبول الشهادة ولو في حبة خردل فلا يحلق به غيره (1).
فإن قلت وكيف يعرف أن المخبر يفيد خبره الظن فإنه إنما يعرف ذلك من خالط المخبر قلت ما يعرف به عدالة المخبرين الذين لم يلقهم المخبر له يعرف صدق المخبرين فإن معرفة أحوال الرواة من تراجمهم يفيد ذلك].
الاعتراض الرابع: القصور في تعريف التقوى:
قال الصنعاني (ص/ 47): [في رسم الحافظ للتقوى قصورا فإنها اجتناب المحرمات والإتيان بالواجبات وقد اقتصر على الفصل الأول من فصلي رسمها ومنهم من فسرها بالاحتراز عما يذم شرعا وهو صحيح شامل للأمرين].
الاعتراض الخامس: العدالة والبدعة
(2):
قال الصنعاني (ص/24: 29): [قسم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى البدعة في النخبة إلى قسمين: إلى ما يكون بمكفر أو بمفسق، واختار في شرحها أن الأول لا يكون قادحا في الراوي إلا إذا كان ردا لأمر معلوم من الدين ضرورة أو عكسه أي إثباتا لأمر معلوم بالضرورة أنه ليس منه وإنما فسرنا العكس بهذا لأن ذكر الاعتقاد لا دخل له في كون الفعل بدعة فلا بد من حمله على إثبات أمر ليقابل
(1) - وهذه الآية في الشهادة، وقد فرق العلماء بين الشهادة والرواية من وجوه كثيرة، لعله يأتي بسطها في غير هذا الموضوع بإذن الله تعالى.
(2)
- سوف يأتي للمؤلف كلاماً عن البدعة في آخر رسالته، وسوف أتكلم عليها هناك - إن شاء الله - بأوسع من ذلك، فاللهم بلغ، وسدد، واعن يا كريم.
إنكار أمر فيكون إلماما بالأمرين اللذين هما مرجع البدعة ومنشؤها وهما النقص في الدين والزيادة فيه
…
وكان حق العبارة أن يقول أو إثبات غيره أي إثباتا لأمر في الدين معلوم بالضرورة أنه ليس منه قلت إلا أنه لا يخفى أنه من كان بهذه الصفة فهو كافر لرده ما علم من الدين ضرورة وإثباته ما ليس منه ضرورة وكلا الأمرين كفر وإنه تكذيب للشارع وتكذيبه في أي أمر علم من الدين ضرورة إثباته أو نفيه كفر فهذا ليس من محل النزاع إذ النزاع في مجرد الابتداع لا في الكافر الكفر الصريح فلا نزاع فيه وإذا كان من هو بهذه الصفة فقد جاوز رتبة الابتداع إلى أشر منه وأنه لا يرد من أهل ذلك القسم إلا هذا عرفت أنه لا يرد أحد من أهل هذا القسم وأن كل مبتدع مقبول وأما ما يكون ابتداعه بمفسق فقد اختاره لنفسه ونقله عن الجماهير أنه يقبل ما لم يكن داعية وحينئذ فرده لأجل كونه داعية إلى بدعته لا لأجل بدعته فتحصل من هذا أن كل مبتدع مقبول سواء كان بمكفر أو بمفسق واستثناؤه لمن رد ما علم فاثبت من الدين ضرورة أو زاد فيه ما ليس بضرورة ليس لأجل بدعته بل لرده وإثباته ما ليس من الدين ضرورة وكذا رد الداعية لأجل دعوته لا لأجل بدعته والكل ليس من محل النزاع، ثم لا يخفى أن الحافظ وأهل مذهبه لا يرون التكفير بالتأويل فكأنه قسم البدعة على رأي غيره
…
انتهى
ثم قال: مسألة قبول كافر التأويل وفاسقه:
وهذه هي مسألة قبول كافر التأويل وفاسقه وقد نقل صاحب العواصم إجماع الصحابة على قبول فساق التأويل من عشر طرق في كتبه الأربعة ونقل أدلة غير الإجماع واسعة إذا عرفت هذا فحق عبارة النخبة أن يقال ونقبل المبتدع مطلقا إلا الداعية]
ثم قال (ص/52 - 53): [قال في الزواجر وقد عد شيخ الإسلام الصلاح العلائي في قواعده والجلال البلقيني وغيرهما البدعة من الكبائر ولفظ الجلال البلقيني في تعداد الكبائر السادسة عشرة البدعة وهي المراد بترك السنة. إذا عرفت هذا فلا يخلو إما أن يقول قائل: المبتدع عدل وإن ابتداعه لا يخل بعدالته فهذا رجوع عن رسم العدالة بما ذكره فهذه الأحاديث وأقوال العلماء منادية على أن الابتداع من الكبائر وقد رسموا الكبيرة بما توعد عليه بخصوصه وهو صادق على
البدعة، ومن هنا ينقدح لك أن من حذف البدعة من رسم العدالة فلدخولها في لفظ الكبائر المذكورة في الرسم أو يقول إنها تخل بالعدالة فهذا يعود على شرطية العدالة في الراوي بالنقض].
المبتدع الداعية إلى بدعته:
قال (ص/103: 105): [سبقت الإشارة إلى أنهم قد استثنوا من المبتدعة الداعية فقالوا ولا يقبل خبره قال في التنقيح فإن قلت ما الفرق بين الداعية وغيره عندهم قلت ما أعلم أنهم ذكروا فيه شيئا ولكن نظرت فلم أجد غير وجهين: أحدهما أن الداعية شديد الرغبة في استمالة قلوب الناس إلى ما يدعوهم إليه فربما حمله عظيم ذلك على تدليس أو تأويل. الوجه الثاني أن الرواية عن الداعية تشتمل على مفسدة وهي إظهار أهليته للرواية وأنه من أهل الصدق والأمانة وذلك تغرير لمخالطته وفي مخالطة من هو كذلك للعامة مفسدة كبيرة قلت وهذا الوجه الآخر قد أشار إليه أبو الفتح القشيري نقله عنه الحافظ ابن حجر ثم قال في التنقيح والجواب عن الأول أنها تهمة ضعيفة لا تساوي الورع أي المانع الشرعي الذي يمنع ذلك المبتدع المتدين من الفسوق في الدين وارتكاب دناءة الكذب. الذي يتنزه عنه كثير من الفسقة المتمردين كيف والكاذب لا يخفى تزويره وعما قليل ينكشف تدليسه وتغريره ويفهمه النقاد وتتناوله ألسنة أهل الأحقاد وأهل المناصب الرفيعة يأنفون من ذلك فكيف إذا كانوا من أهل الجمع بين الصيانة والديانة. وقد احتجوا بقتادة لما قويت عندهم عدالة أمانته وهو داعية على أصولهم إلى بدعة الاعتزال. قال الإمام الذهبي في التذكرة كان يرى القدر ولم يكن يقنع حتى كان يصيح به صياحا. ثم قال صاحب التنقيح والجواب عن الثاني أنا نقول إما أن يقوم الدليل الشرعي على قبولهم أو لا إن لم يدل على وجوب قبولهم لم نقبلهم دعاة كانوا أو غير دعاة وإن دل على وجوب القبول لم يصلح ما أورده مانعا من امتثال الأمر ولا مسقطا انتهى
فعلمت من هذا كله قبول من لم يتهم بالكذب وعدم شرطية العدالة بالمعنى الذي أرادوه وهو أنه لا يرد من المبتدعة إلا من أجاز الكذب لنصرة مذهبه كالخطابية]
إخراج الشيخان لبعض المبتدعة:
وقال (ص/85: 93): [وفي البخاري من المبتدعة أمم لا يحصون وفي
غيره من الأمهات وناهيك أنه أخرج لعمران بن حطان الخارجي المادح لقاتل علي رضي الله عنه بالأبيات المشهورة السائرة وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي لعمران بن مسلم القصير قال يحيى القطان كان يرى القدر وهو مستقيم الحديث وأخرج الستة للفضل بن دكين وهو شيعي وأخرج الستة لأبي معاوية الضرير قال الحاكم احتجا به وقد اشتهر عنه الغلو قال الإمام الذهبي غلو التشيع وقد وثقه العجلي وأخرجوا أيضا لعدي بن ثابت وقد قال فيه ابن معين شيعي مفرط وقال الدارقطني رافضي غال وأخرج البخاري لإبراهيم بن طهمان وقد رموه بالإرجاء وأخرج البخاري لإسماعيل بن أبان وهو أحد شيوخه قال الجوزجاني كان مائلا عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث قال ابن عدي يعني ما عليه الكوفيون من التشيع قال الحافظ ابن حجر الجوزجاني كان ناصبيا منحرفا عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان والصواب موالاتهم جميعا ولا ينبغي لنا تسمع قول مبتدع في مبتدع انتهى.
وأخرج الشيخان لأيوب بن عايذ بن مدلج وثقة ابن معين وأبو حاتم والنسائي والعجلي وأبو داود وزاد أبو داود وكان مرجئا وقال البخاري وكان يرى الإرجاء إلا أنه صدوق وأخرج البخاري والترمذي والنسائي ليحيى بن صالح الوحاظي (1) الحمصي وثقه ابن معين وأبو اليمان قال إسحاق بن منصور كان مرجئا إذا عرفت هذا فهؤلاء جماعة بين مرجئ وقدري وشيعي وناصبي غال وخارجي أخرجت أحاديثهم في الصحيحين وغيرهما ووثقوا كما سمعت وهم قطرة من رجال الكتب الستة الذين لهم هذه البدع وحكموا بصحة أحاديثهم مع الابتداع الذي ليس وراءه وراء وهل وراء بدعة الخوارج من شيء فهو دليل ناهض على إجماعهم على أن عمدة قبول الرواية وعلتها حصول الظن بصدق الراوي وعدم تلوثه بالكذب ألا ترى قول مالك في جماعة لا عدالة لهم كانوا لئن يخروا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا فما لاحظ إلا ظنه بصدقهم وقول من قال في إسماعيل بن أبان كان مائلا عن الحق إلا أنه كان لا يكذب في الحديث.
(1) بالأصل: أبو حائطي، والتوصيب من كتب التراجم.
مناقشة غريبة:
وكذا توثيقهم لجميع من سمعت مع ذكرهم لعظائم بدعهم ما ذاك إلا لأن المدار على ظن الصدق لا غير وكفاك بقول الحافظ ابن حجر إنه لا أثر للتضعيف مع ظن الصدق والضبط وإذا عرفت هذا اتضح لك ما في رسم الصحيح والحسن من الاختلال حيث أخذوا عدالة الراوي شرطا فيهما وفسروا العدالة بما لا بدعة معه ووصلوا إلى محل التصحيح والتحسين فحكموا على أحاديث المبتدعة بهما وقد أطبقت على تلك الشريطة كتب أصول الحديث وكتب أصول الفقه حتى إنه لم يستدل ابن الحاجب في مختصر المنتهى ولا من تابعه كمؤلف نهاية السؤل وشرحها على شرطية العدالة في الراوي وإنما اشتغلا بتفسيرها كأن شرطيتها أمر قد علم من الدين ضرورة]
(ومما يؤيد ما قاله أيضاً إخراج الأئمة في دواوين السنة لبعض المبتدعة فيما يتعلق ببدعتهم، فقد روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: عن عدي بن ثابت عن زر قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمّي صلى الله عليه وسلم إليّ أنّ لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
وعدي بن ثابت: قال عنه الذهبي في الكاشف: ثقة، لكنه قاص الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة.
(
…
وللشيخ عبد الله السعد تحقيق لطيف حول مبحث العدالة، وعلاقتها بالبدعة، انقل عبارته لأهميتها قال: [فأما ما يتعلق بالعدالة: فالعدالة هي: " الاستقامة " وهذه الاستقامة مرجعها إلى الاعتقاد والأقوال والأعمال. فلا بد أن يكون الاعتقاد والأقوال والأعمال مستقيمة حتى يكون هذا الراوي مستقيماً وعدلاً. لكن أحياناً قد تتخلف بعض هذه الأشياء ومع ذلك لا يضر هذا الراوي فيما يتعلق بالحكم عليه من حيث الثقة وعدم ذلك.
فمثلاً المبتدع إذا لم تكن بدعته بدعة كبرى تخرجه من الملة. فهذا لا ينافي أن يحكم عليه بالثقة. وذلك أنه إذا كان صادقاً وكان حافظاً وضابطاً، فهذا لا يمنع من إطلاق الثقة عليه وإن كان هو ليس بعدل فيما يتعلق بالاعتقاد وذلك بسبب
بدعته لأن هذا ليس له علاقة في الحكم على الراوي من حيث الثقة وعدمها.
تلك الثقة التي تدعونا لقبول الإسناد وعدم رده. ولذلك أهل العلم وثقوا كثيراً من الرواة ممن وصف ببدعة وقبلوهم في مجال الرواية وصححوا أحاديثهم.
مثال ذلك: محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله، قال في صحيحه:" حدثنا عباد بن يعقوب الرواجني الثقة في حديثه، المتهم في دينه (1) " ففرق ما بين توثيقه في حديثه وما بين اعتقاده فقال: " المتهم في دينه " وذلك أنه متهم بالتشيع، ففي الحقيقة أن البدعة لا يرد بها الخبر مطلقاً على القول الصحيح، سواءً كان هذا الراوي روى فيما يؤيد بدعته أو فيما لا يؤيد بدعته. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال (2):
القول الأول: رد رواية المبتدع مطلقاً. وأن الراوي المبتدع لا يقبل في مجال الرواية، وبالتالي لا يصح خبره ولا يقبل.
وهذا القول يذهب إليه أحياناً " أبو حاتم بن حبان البستي " صاحب الصحيح وهناك أمثلة على تضعيفه لبعض الرواة الثقات من أجل بدعتهم. فمثلاً أنه ضعف " حريز بن عثمان الرحبي" وهو ثقة ثبت وإنما الذي دعاه إلى تضعيفه، هو ما يتعلق ببدعته ألا وهى بدعة النصب، فلذلك ذهب إلى تضعيفه مع أنه ثقة ثبت وممن يذهب إلى ذلك أبو إسحاق إبراهيم ابن يعقوب الجوزجاني وخاصة فيمن وصف بالتشيع، فكان يرد حديث من هو موصوف بذلك. إلا نفراً من الرواة ممن اشتهروا بالحفظ والضبط كأبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش مع أنه حاول أن يرد أحاديثهم، ثم قبلهم.
(1) - ولفظ ابن خزيمة: (المتهم في رأيه الثقة في حديثه).
(2)
- وقد وصل بها أبو بكر كافي قي رسالته منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها (من خلال الجامع الصحيح) والتي أعدها لنيل درجة الماجستير، من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة الجزائر، والتي طبعت بدار ابن حزم إلى خمسة أقوال، وزاد: تقبل رواية المبتدع إذا كان مرويه مما يشتمل على ما ترد به بدعته، وذلك لبعده حينئذ عن تهمة الكذب 'تقبل روايته إذا كانت بدعته صغرى، وإذا كانت كبرى فلا تقبل. ولعل الله عزوجل يمن بعرض أدلة هذه الأقوال بأوسع من ذلك عند محله من الموقظة.
القول الثاني: هو التفصيل: فإذا كان هذا الراوي روى حديثاً يؤيد بدعته فهنا لا يقبل، وأما إذا روى حديثاً لا يؤيد بدعته فيقبل ، وهذا التفصيل قال به إبراهيم بن إسحاق الجوزجاني كذلك، واختاره كثير من المتأخرين ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله.
القول الثالث: أن البدعة لا تؤثر على الراوي. إذا ثبت أنه حافظ ضابط وصادق ليس بكاذب، وهذا قول جمهور النقاد، جمهور المتقدمين وعلى رأسهم" الإمام علي ابن المديني ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان" وغيرهم، وعلى هذا المذهب البخاري ومسلم والترمذي والنسائي" وغيرهم من أهل العلم بالحديث.
ومن ذلك: أن مسلم بن الحجاج رحمه الله خرج من طريق عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال:" إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " وعدي بن ثابت" موصوف بأنه قاص الشيعة. ولا شك أن هذا الحديث قد يكون فيه تأييد لبدعته. وهو لا يدل على ذلك. ومع ذلك خرج الإمام مسلم هذا الحديث له من طريقه
…
فأقول إن القول الثالث هو القول الصحيح لأنه:
أولاً: قول المتقدمين من أهل العلم بالحديث.
ثانياً: أنه الذي جرى عليه العمل.
ثالثاً: أنه الذي يدل عليه الدليل وذلك أنا قد وثقنا هذا الراوي فيما يتعلق بضبطه وحفظه (1)، ولم نجد له حديثاً منكرا. فحكمنا على هذا الراوي أنه ثقة إذاً علينا أن نقبل روايته سواء كانت هذه الرواية تتعلق ببدعته أو لا وأما القول بأن الراوي إذا روى حديثاً يؤيد بدعته أنه يرد حديثه وإذا روى حديثا لا يؤيد بدعته فإنه يقبل حديثه، فهذا قول فيه تناقض وتدافع، وذلك لأنك قد حكمت عليه بأنه ثقة فيلزم من هذا قبولك لحديثه، وإما إذا رددت حديثه فيما يؤيد بدعته فهذا مصير منك إلى عدم القول بثقته، وإلى الشك في ثقته، وإلى إمكان كذبه وإتيانه بشيء
(1) - لاحظ أن العدالة الدينية هي الاستقامة في الدين، واما العدالة في الرواية فهي تتعلق بحفظ الرواة وضبطهم لما يرونه، وهي المقصودة هنا.
يؤيد بدعته، إذن لم تثبت لك ثقة هذا الراوي، وقد حكمت قبل ذلك بأنه ثقة فهذا القول ضعيف وليس بصحيح وهذا ما يتعلق بمسألة العدالة
…
].
وقال أبو بكر كافي في رسالته منهج "الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح"(ص/103: 106) بعد أن عرض الأقوال الخمسة التي وقف عليها في حكم الرواية عن أهل البدع: [بعد أن سردت أقوال الأئمة ومذاهبهم في الرواية عن أهل البدع والأهواء، فقد تبين أن مذاهبهم متباينة جداً. امتزجت فيها أقوال المحدثين بآراء علماء الكلام والأصول. فلا بد من استجلاء الموقف العملي للمحدثين من خلال مصنفاتهم، ومن هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله فكيف تعامل مع روايات أهل البدع في صحيحه؟
إذا تأملنا رجال البخاري رحمه الله نجد جملة كبيرة منهم قد رموا ببدع اعتقاية مختلفة وقد أورد الحافظ في " هدي الساري "(1) من رمي من رجال البخاري بطعن في الاعتقاد فبلغوا (69) راوياً، ومن خلال التتبع لهؤلاء الرواة يمكن أن نستخلص المعايير التي اعتمدها البخاري في الرواية عن أهل البدع ويمكن أن نجملها في النقاط التالية:
-
…
ليس فيهم من بدعتهم مكفرة.
-
…
أكثرهم لم يكن داعية إلى بدعته، أو كان داعية ثم تاب (2).
-
…
أكثر ما يروي لهم في المتابعات والشواهد.
-
…
أحياناً يروى لهم في الأصول لكن بمتابعة غيرهم لهم.
-
…
كثير منهم لم يصح ما رموا به.
إذن فالعبرة إنما هي صدق اللهجة، وإتقان الحفظ، وخاصة إذا انفرد المبتدع بشيء ليس عند غيره.
وما ذهب إليه البخاري هو مذهب كثير من المحدثين، ومن هؤلاء تلميذه وخريجه الإمام مسلم، فقد روى في صحيحه عن أهل البدع والأهواء المعروفين
(1) - هدي الساري (ص/483 - 484).
(2)
- انظر ترجمة: عمران بن حطان في هدي الساري ص404، وترجمة شبابة بن سوار في الهدي ص469، وترجمة: عبد الحميد بن عبدالرحمن الحماني في الهدي ص437.
بالصدق والإتقان، وخاصة إذا انضم إلى ذلك الورع والتقوى، وما ذهب إليه الشيخان هو رأي أكثر الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما توقف من توقف منهم في الرواية عن أهل البدع إما لأنه لم يتبين لهم صدقهم، أو أرادوا محاصرة البدعة وإخمادها حتى لا تفشوا، ولكن شاء الله تعالى أن تكثر البدع وتفشو، وتبناها كثير من العلماء والفقهاء والعباد فلم يكن من المصلحة ترك رواياتهم، لأن في تركها، اندراساً للعلم، تضييعاً للسنن. فكانت المصلحة الشرعية تقتضي قبولها ما داموا ملتزمين بالصدق والأمانة. قال الخطيب البغدادي - بعد أن ذكر أسماء كثير من الرواة احتج بهم وهم منسوبون إلى بدع اعتقادية مختلفة:". دون أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقارنة الصواب "(1).
وقال علي بن المديني: " لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب "(2).]
(وعليه فالأظهر، والمعمول به في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنن أن المبتدع، روايته مقبولة إذا كان معروفا بالصدق والأمانة، لم يظهر عليه ولم يكن من مذهبه استحلال الكذب، فهذا تقبل روايته كما خرج الشيخان لمثل هذه الطائفة، حتى وإن روى ما يؤيد بدعته، فإن الراجح والمعمول به قبول روايته أيضاً إن كان على النحو السابق؛ وعليه فالأنسب حذف قيد السلامة من البدع في رسم عدالة الرواة.
فإن قيل أن البدع تدخل في الكبائر قيل: بل إن جنس البدع أعظم جرما من جنس الكبائر لما فيها من افتئات واستدراك على الشرع بالزيادة والنقص، إلا أن هذا لا يمنع من أن تكون بعض البدع أخف من بعض الكبائر فالكلام على الجنس. حتى أنه وإن قيل إن البدع لا تقاس على الكبائر لما فيها من نوع شبهة تأويل لما بَعُد ذلك؛ وعليه فدخول البدع في حكم المعاصي لا يصح لما بينهما من الفروق، وقد أوضحت ذلك في بحث البدعة عند الكلام على أقسام البدع.
(1) - الكفاية ص153 - 154.
(2)
- المصدر نفسه ص157.
وإنما ذهبنا إلى قبول رواية المبتدعة للمصلحة في رواية السنة فقد انتشرت البدع من التشيع والنصب ونحوهما في عصر التابعين، وتابعيهم، ولو رددنا رواية المبتدعة لذهب جُلّ السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(تعريفات أخرى للعدالة:
تعريف الغزالي:
قال في المستصفى (ص/125): [والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه ، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب. ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي. ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا. وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأعراض الدنيوية ، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح؟ والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم ، فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا ، وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين ، وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول.]
تعريف ابن النجار الحنبلي:
قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (ص/272): [(وهي) أي العدالة في اللغة: التوسط في الأمر من غير زيادة ولا نقصان ، وهي في اصطلاح أهل الشرع (صفة) أي كيفية نفسانية ، وتسمى قبل رسوخها حالا (راسخة في النفس) أي نفس المتصف بها (تحمله) على ملازمة التقوى والمروءة ، وتحمله أيضا على (ترك الكبائر).]
تعريف ابن السمعاني:
قال ابن السمعاني: [لابد في العدل من أربع شرائط: المحافظة على فعل الطاعة، واجتناب المعصية، وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو
عرض، وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويُكسبُ الندم، وأن لا يعتقد من المذاهب ما يردُّهُ أصول الشرع] (1).
تعريف المرتضى الزيدي:
قال المرتضي في البحر الزخار (6/ 50): [العدالة هي ملازمة التقوى والمروءة].
تعريف ابن الحاجب:
قال ابن الحاجب: [هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر، وبعض الصغائر، وبعض المباح](2).
(ونختم بتعريف الإمام الشافعي الذي استحسنه الصنعاني حيث قال في ثمرات النظر (ص/72 - 73): [وقد قال الشافعي في العدالة قولا استحسنه كثير من العقلاء من بعده قال لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلا ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحا ولكن من ترك الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل انتهى (3). قلت: وهذا قوله حسن ويؤيده أن أهل اللغة فسروا العدل بنقيض الجور وليس الجور عبارة عن ملكة راسخة توجب إتيان كل معصية ولا الجائر لغة كل من يأتي معصية بل من غلب جوره على عدله]
(1) - نقلا عن رسالة: الأصل في الناس الجهالة لا العدالة للردادي، وعزاه لـ:"إرشاد الفحول"(1/ 264)، وانظر:"مقدمة ابن الصلاح"(105 - 106)، و"مذكرة أصول الفقه"(ص204).
(2)
- نقلا عن المنهج الحديث للسماحي - قسم الرواة (ص/55، 56).
(3)
- وروى عنه الخطيب بسنده في الكفاية (ص/90): عن البويطى قال: قال الشافعي لا اعلم أحدا أعطى طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام ولا عصى الله فلم يخلط بطاعة فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح.
ثم قال في نهاية رسالته (ص/151) مبينا أن العدالة التي تشترط في الراوي لقبول روايته ما هي إلا ظن صدقه وعدم كذبه: [لا يشترط في قبول الرواة إلا ظن صدق الراوي وضبطه ولا يرد إلا بكذبه وسوء حفظه ونحوهما وأن هذا شرط متفق عليه بين كل طائفة والخلاف في القدح، وما عداه قد أقمنا الأدلة على أنه لا قدح به في الرواية].
وقد روى الخطيب في الكفاية (ص/ 90) بعض الآثار مما يؤيد ذلك منها: وقال سمعت مالك بن أنس يقول سمعت الزهرى يقول سمعت سعيد بن المسيب يقول ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لا بد ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقد لاح لك مما سبق أن الصواب عدم اعتبار أن سب المسلم من القوادح في العدالة الخاصة بالرواية، وأيضا أنه لا يشترط الخلو من البدعة في رسم العدالة، وأن مدار العدالة على مظنة صدق الرواي.
شروط أخرى للعدالة:
…
وسوف نناقش الشروط الأخرى التي وضعها العلماء للعدالة، وبيان الموقف الصحيح منها، وقد بحث الشيخ أبو بكر كافي في رسالته " منهج الإمام البخاري" هذه الشروط، وإليك ملخص ما قاله مع بعض التصرف والزيادة حسبما يقتضي الحال (1)، والله الموفق.
أولاً: الإسلام:
لا تقبل رواية الكافر يهوديا كان، أو نصرانيا، أو غيرهما إجماعاً. وقد حكى الإجماع على ذلك الغزالي في المستصفى (2) والرازي في المحصول (3) وغيرهما.
(1) وانظر رسالته من (ص 75): (ص 97)
(2)
المستصفى من علم الأصول - دار الفكر - بيروت - ج1 ص156.
(3)
المحصول في علم أصول الفقه ج2 ص567.
قال الخطيب البغدادي: " ويجب أن يكون وقت الأداء مسلماً لأن الله تعالى قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وإن أعظم الفسق الكفر، فإن كان خبر الفاسق مردوداً (1) مع صحة اعتقاده فخبر الكافر بذلك أولى (2) فالإسلام إذا شرط عند الأداء والتبليغ وليس شرطاً عند التحمل فيصح تحمل الكافر " وقد ثبت روايات كثيرة لغير واحد من الصحابة كانوا حفظوها قبل إسلامهم وأدوها بعده " (3).
وأضرب أمثلة على ذلك من صحيح البخاري رحمه الله:
1) رواية محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي " (4)
قال الحافظ: واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة " (5).
2) حديث أبي سفيان بقصة هرقل (6) التي كانت قبل إسلامه فقد رواها البخاري في صحيحه كاملة في كتاب بدء الوحي ثم قطعها في مواضع كثيرة مستنبطاً منها في كل مرة حكماً فقهياً أو فائدة جديدة.
ثانياً: البلوغ:
هذا الشرط يتعلق بحالتين من حالات الراوي: حالة السماع والتحمل، ثم حالة الأداء والرواية.
ولقد تنازع العلماء والمحدثون قديماً في ذلك، فمنهم من اشترط سناً معيناً للتحمل، ومنهم من صحح سماع الصغير. وقد ذكر هذا الخلاف الخطيب البغدادي في الكفاية فقال: " قل من كان يكتب الحديث - على ما بلغنا - في عصر التابعين
(1) والآية لا تدل على أن خبر الفاسق مردود إلا إن حمل على الكاذب، وإنما مقصود الآية التوقف في خبر الفاسق حتى يتبين صدقه.
(2)
الكفاية في علم الرواية ص99.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
البخاري في كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً (4/ 1475)(3798).
(5)
فتح الباري ج2 ص290.
(6)
رجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب 6 حديث رقم (7)، ج1 ص42 - 44 مع الفتح.
وقريباً منه إلا من جاوز حد البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم، وسؤالهم. وقيل إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا
بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد.
وقال قوم: الحد في السماع خمس عشرة سنة، وقال غيرهم: ثلاث عشرة، وقال جمهور العلماء: يصح لمن سنه دون ذلك، وهذا هو عندنا الصواب " (1).
وقد ذهب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه إلى صحة سماع الصغير قبل البلوغ، وقد ترجم لهذه المسألة في كتاب العلم بقوله:"باب متى يصح سماع الصغير؟ " وأورد فيه حديثين:
أولهما: حديث ابن عباس قال:" أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر لك علي"(2).
وثانيهما: حديث محمود بن الربيع قال: " عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو "(3).
وقال العلامة العيني: " ومراده (أي بهذه الترجمة) الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطاً في التحمل "(4).
ومن المحدثين من قيده بخمس سنين. قال ابن الصلاح رحمه الله: " والتحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث من المتأخرين
…
والذي ينبغي في ذلك أن يعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب ورداً للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس. وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه وإن كان ابن خمس بل ابن
(1) الكفاية في علم الرواية ص73.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير حديث رقم (76) ج1 ص205.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير حديث رقم (77) ج1 ص207.
(4)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج2 ص68.
خمسين " (1).
وقال - الإمام الذهبي رحمه الله: " واصطلح المحدثون على جعلهم سماع ابن خمس سنين سماعاً، وما دونها حضوراً، واستأنسوا بأن محموداً عقل مجة، ولا دليل فيه (2)، والمعتبر إنما هو أهلية الفهم والتمييز "(3).
وما اختاره ابن الصلاح والذهبي - رحمهما الله - هو المختار إن شاء الله، وعليه يدل صنيع الإمام البخاري في صحيحه فقد أخرج أحاديث مجموعة من الصحابة ممن تحملوا في صباهم كابن عباس، ومحمود بن الربيع، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وعائشة، ونحوهم وهؤلاء سمعوا وهم دون البلوغ، وأخرج لمن دونهم في السن كالسبطين الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فالمحققون من أهل العلم على عدم اعتبار تحديد سن معين بل المعتبر عندهم هو العقل والتمييز (4).
ثالثاً: العقل:
وهو من شروط العدالة المجمع عليها، حكى الإجماع على ذلك الخطيب البغدادي وغيره من العلماء (5) قال رحمه الله:" وأما الأداء بالرواية فلا يكون صحيحاً يلزم العمل به إلا بعد البلوغ، ويجب أيضاً أن يكون الراوي في وقت أدائه عاقلاً مميزاً، والذي يدل على وجوب كونه بالغاً عاقلاً، ما أخبرنا القاضي أبو عمر والقاسم بن جعفر قال ثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، قال ثنا أبو داود قال ثنا موسى بن إسماعيل قال ثنا وهيب عن خالد عن أبي الضحى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى
(1) علوم الحديث ص117.
(2)
أي لا يلزم من عقل المجة عقل غيرها مما يسمعه فالمجة شئ حسي بسيط بخلاف تحمل الحديث فإنه مركب من ألفاظ ومعان ذات نسق معين، قد لا يستوعبها ولا يضبطها ذهن الطفل، الذي استوعب بعض الأشياء الحسية البسيطة كالمجة.
(3)
الموقظة " في علم مصطلح الحديث " - اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة - ص61.
(4)
فتح المغيث ج2 ص14 - 15.
(5)
انظر الكفاية ص99، وشروط الأئمة الخمسة ص53، وتدريب الراوي: ج1 ص300.
يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل " (1) ولأن حال الراوي إذا كان طفلاً أو مجنوناً
دون حال الفاسق من المسلمين. وذلك أن الفاسق يخاف ويرجو، ويجتنب ذنوباً، ويعتمد قربات، وكثير من الفساق يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعمد له ذنب كبير، وجرم غير مغفور، فإذا كان خبر الفاسق الذي هذه حاله غير مقبول فخبر الطفل والمجنون أولى بذلك، والأمة مع هذا مجتمعة على ما ذكرناه لا نعرف بينها خلاف فيه " (2).
رابعاً: السلامة من أسباب الفسق
(3):
الفسق هو ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة (4) وقد أفاض العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة، وكيفية التمييز بين الصغائر والكبائر وعددها، بل هناك من أفردها بالتصنيف (5) والذي يهمنا هنا هو ذكر مسألتين وقع فيهما النزاع ومحاولة معرفة الراجح فيهما.
المسألة الأولى:
ما حكم التائب من الكذب (6) في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب
(1) رواه أبو داود بنفس لفظ الخطيب من طريق علي رضي الله عنه في كتاب الحدود، باب
المجنون يسرق أو يصيب حداً ج4 ص560، رقم (4403) بإسناد حسن، وهو حديث صحيح بطرقه.
(2)
الكفاية ص99.
(3)
سبق أن تكلمنا على الفسق وعلاقته بالعدالة، وإنما نضيف هنا بعض المسائل التي لم نتكلم عليها هناك.
(4)
فتح المغيث ج1 ص315. وروي: " لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار" مرفوعا من حديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم وجميع أسانيدها واهية ساقطة. وانظر تفصيلها في: السلسة الضعيفة (رقم4810)، ولكنه صح من قول ابن عباس عند البيهقي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم. ولكن الإصرار يحتاج لضابط.
(5)
انظر: مدارج السالكين: ج1 ص321، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام: ج1 ص19، والكبائر للذهبي، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي، وهما خاصان بهذا الموضوع.
(6)
وينبغي التفريق بين ممن اتهم بالكذب وبين من اتصف فعلاً بالكذب، وإن كان كلاً من
الوصفين من أوصاف الجرح. لكن لا يخفى أن الكذاب قد تحقق فيه الوصف فعلاً أما المتهم بالكذب فلم يتحقق فيه هذا الوصف.
أكثر العلماء والمحدثين إلى أن التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل روايته. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك ورافع بن الأشرس، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، ويحي بن معين (1) ووجه عدم قبول روايته - وإن حسنت توبته - أن ذلك تغليظاً وجزراً بليغاً عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة. بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة (2) وألحقوا بالكاذب المتعمد من أخطأ وصمم على خطئه بعد أن يبين له ذلك ممن يثق بعلمه لمجرد عناد (3).
لكن ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى قبول رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة - أي كانوا كفاراً فأسلموا - وأجمعوا على قبول شهادتهم، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا، والله أعلم "(4).
وما ذهب إليه الإمام النووي رحمه الله مبني على القواعد الأصولية حيث استعمل القياس لإثبات هذا الحكم، وهو قياس التائب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافر إذا أسلم، ومثل له بقبول الأئمة لرواية الصحابة، وقد كانوا كفاراً ثم أسلموا. لكن هذا القياس معترض، بأن الصحابة قد عدلهم القرآن
(1) شروط الأئمة الخمسة للحازمي ص53، وفتح المغيث للسخاوي: ج1 ص365 - 369.
(2)
شرح صحيح مسلم ج1 ص70.
(3)
فتح المغيث: ج1 ص366.
(4)
شرح صحيح مسلم ج1 ص70.
الكريم وشهد بصدق إيمانهم وإسلامهم. وأما التائب من الكذب في حديث رسول الله. فأنى لنا أن نعرف صدق توبته، حتى نحكم بعدالته ونقبل روايته، كما أنه مبني
على انعدام الفارق بين الرواية والشهادة، والفارق موجود هنا.
وقد سبق إلى انتقاد النووي في هذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد قال - بعد أن ساق كلام النووي السابق -: " كنت أميل إليه، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصناً، ولا يحد قاذفه، وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف. والفرق بين الرواية والشهادة أن الرواية الكذب فيها أغلظ منه في الشهادة لأن متعلقها لازم لكل المكلفين، وفي كل الأعصار كما مر، مع خبر (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد) (1) "(2).
وعليه فالراجح عدم قبول رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم قيام الأدلة الكافية على ذلك - والله تعالى أعلم -.
المسألة الثانية:
التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق
. هذا الصنف من الرواة قبل المحدثون رواياتهم إلا خلافاً لبعض الأصوليين كالسمعاني والصيرفي (3). ولا عبرة بهذا الخلاف لأن المعتبر هو إجماع أهل الفن وهم هنا المحدثون ولم ينقل عنهم خلاف في ذلك. وأما ما قاله الحافظ البلقيني: " وما نقل عن الصيرفي يقرب منه ما قال ابن حزم: من أسقطنا حديثه لم نعد لقبوله أبداً، ومن احتججنا به لم نسقط روايته أبداً، وكذا ما قاله بن حبان في آخرين ".
في الواقع أن ما ذهب إليه ابن حزم لا علاقة له البتة بما يراه الصيرفي فابن حزم ذكر هذا بصدد الرد على من يقبل روايات الضعفاء في الرقاق والفضائل
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، عن المغيرة بن شعبة، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، حديث رقم (1291)، ج3 ص191 مع الفتح. ورواه مسلم في مقدمة صحيحه ج1 ص10 حديث رقم (4).
(2)
فتح الباقي شرح ألفية العراقي لزكريا الأنصاري ج1 ص335.
(3)
علوم الحديث ص104 - 105.
ويتجنبها في الأحكام والحلال والحرام، كما هو مذهب كثير من أئمة الحديث، فهو يرى أن الراوي إما أن يكون من العدالة والضبط بحيث تقبل أحاديثه جملة، أو
ينزل عن درجة القبول فترد أحاديثه جملة.
خامساً: السلامة من خوارم المروءة:
عرفت المروءة بتعاريف كثيرة، جلها يرجع إلى العادات الجارية بين الناس. فقال بعضهم:"المروءة كمال المرء كما أن الرجولة كمال الرجل ".
وقال بعضهم:"المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال الجميلة المستحقة للمدح شرعاً وعقلاً وعرفاً ".
وقال آخرون: " المروءة صون النفس عن الأدناس، ورفعها عما يشين عند الناس " وقيل: "سيرة المرء بسيرة أمثاله في زمانه ".
ومن أحسن تعاريفها " هي آداب نفسانية، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات "(1).
واشتراط العلماء للمروءة سببه: أن الإخلال بها إما يكون لخبل في العقل، أو لنقصان في الدين، أو لقلة حياء وكل ذلك رافع للثقة بقوله (2).
وقد جرى نزاع كبير واعتراض على من أدخل المروءة في شروط العدالة المتفق عليها (3).
ومما يجدر التنبيه إليه هنا - وهو أن اشتراط المروءة والقدح في الراوي الذي يتصف بما هو من خوارمها، إنما هو موكول للعالم الناقد مع إضافة أسباب أخرى قد فصلها الإمام الخطيب البغدادي حيث قال: " وقد قال الكثير من الناس: يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو التبذل والجلوس للتنزه في الطرقات، والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول على قوارع
(1) توجيه النظر إلى أصول الأثر ص28 - 29.
(2)
المرجع نفسه ص 29.
(3)
انظر هذه الاعتراضات والجواب عليها في: التقييد والإيضاح ص114 - 115 وفتح المغيث: ج1 ص316 - 317، وشرح العراقة لألفيته: ج1 ص300 - 303، وتدريب الراوي: ج1 ص305 - 306.
الطرقات، والبول قائماً، والانبساط إلى الخلق (1) في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنه ناقص القدر والمروءة، ورأوا أن فعل هذه الأمور يسقط العدالة ويوجب رد الشهادة (2).
قال الخطيب: والذي عندنا في هذا الباب رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم، والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك، والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته، بل يرى إعظام ذلك وتحريمه، والتنزه عنه قبل خبره، وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه عندها، وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته " (3).
فالأمر إذن موكول إلى الناقد، فإن أكثر الشخص من الأفعال المخلة بالمروءة وتكرر منه ذلك وأعلن به في الناس كان ذلك دليلاً على السفه وخفة العقل ورقة الدين، وهذا مما يسقط العدالة ويوجب رد الرواية.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الخطيب البغدادي رحمه الله من رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم - صنيع الأئمة النقاد ومنهم الإمام البخاري رحمه الله.
فهذا المنهال بن عمرو تركه شعبة، لما سمع في داره صوت الطنبور (4)، وفي رواية أخرى أنه سمع قراءة لحان، فكره السماع منه (5). قال ابن القطان:" هذا ليس بجرحه إلا أن يتجاوز إلى حد يحرم، ولم يصح ذلك عنه "(6).
(1) وردت في المطبوع (الخرق) ولعل الصواب ما أثبته.
(2)
((قال السخاوي في فتح المغيث (1/ 291): [وما أحسن قول الزنجابي في شرح الوجيز المروة يرجع في معرفتها إلى العرف فلا تتعلق بمجرد الشارع وأنت تعلم أن الأمور العرفية قلما تضبط بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان فكم من بلد جرت عادة أهله بمباشرة أمور لو باشرها غيرهم لعد خرما للمروءة. وفي الجملة رعاية مناهج الشرع وآدابه والاهتداء بالسلف والاقتداء بهم أمر واجب الرعاية قال الزركشي وكأنه يشير بذلك إلى انه ليس المراد سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدي بهم وهو كما قال]
(3)
الكفاية علم الرواية ص139.
(4)
المصدر نفسه ص140.
(5)
فتح المغيث: ج1 ص329.
(6)
المرجع نفسه ص330.
وقال السخاوي: " وجرحه بهذا تعسف ظاهر، وقد وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما كالنسائي وابن حبان، وقال الدارقطني: إنه صدوق "(1).
لذا نجد الإمام البخاري قد احتج به في صحيحه. روى له حديثين أحدهما: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين (2)، وثانيهما في تفسير سورة فصلت (3). وروى له تعليقاً من طريق شعبه نفسه (4) وفيه دليل على أن شعبة لم يترك الرواية عنه وذلك إما بما لعله سمعه منه قبل ذلك، أو لزوال المانع منه عنده.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الخطيب عن شعبة قال: " لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق فرأيته يلعب بالشطرنج فتركته فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه ".
قال الخطيب: " ألا ترى أن شعبة في الابتداء جعل لعبه بالشطرنج مما يجرحه، فتركه، ثم استبان له صدقه في الرواية، وسلامته من الكبائر، فكتب عنه نازلاً "(5).
قال السخاوي في "فتح المغيث"(2/ 6): (وما أحسن قول الزنجاني في شرح (الوجيز): " المروءة يرجع في معرفتها إلى العرف، فلا تتعلق بمجرد الشرع، وأنت تعلم أن الأمور العرفية قلما تضبط، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان، فكم من بلد جرت عادة أهله بمباشرة أمور لو باشرها غيرهم لعد خرما للمروءة. وفي الجملة رعاية مناهج الشرع وآدابه، والاهتداء بالسلف، والاقتداء بهم أمر واجب الرعاية ". قال الزركشي: " وكأنه يشير بذلك إلى أنه ليس المراد سيرة
(1) المرجع نفسه ص 330.
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب أحاديث الأنبياء، في قصة إبراهيم. حديث رقم (3371) ج6 ص470 مع الفتح.
(3)
أخرجه البخاري في: كتاب التفسير، سورة حم السجدة ج8 ص418 مع الفتح.
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، حديث رقم (5515)، ج9 ص558.
(5)
الكفاية ص139.
مطلق الناس، بل الذين يقتدى بهم "، وهو كما قال).
وسوف أبين بإذن الله في نهاية هذا المبحث الخاص بشروط العدالة الربط بين المرؤة والعدالة والكذب.
مسائل تتعلق بالعدالة:
هناك مسائل لها علاقة بشروط العدالة. ومرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً، وقد جرى إدراكها في كتب علوم الحديث، ويلاحظ أن آراء الأصوليين هي الغالبة في تلك المباحث. كما يغلب عليها طابع التنظير دون التمثيل بواقع المحدثين وسأختار فيما يلي بعض تلك المسائل، وأحاول دراستها وربطها بالواقع العملي. وهذه المسائل هي:
1) إذا روى الثقة حديثاً فسئل عنه فنفاه، فهل يقدح في عدالته؟
2) إذا كان المحدث يغشى السلطان، هل يقدح في عدالته؟
3) إذا كان المحدث يأخذ الأجرة على التحديث، فهل يقدح في عدالته؟
المسألة الأولى:
إذا روى الثقة حديثاً فسئل عنه فنفاه، فهل يقبل قوله؟ ثم هل يؤثر ذلك النفي في عدالة الفرع الراوي عنه أم لا
؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء على خمسة أقوال نوجزها فيما يلي (1):
1) إذا كان النافي جازماً، وجب رد حديث الفرع.
2) عكس الأول تماماً، وهو عدم رد المروي، ولا يكون واحد منهما مجروحاً، لاحتمال النسيان.
3) نفس القول السابق، إلا أنه يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل.
4) أنهما يتعارضان، ويرجح أحدهما على الآخر. هذه الأقوال الأربعة إذا كان الأصل جازماً بالرد.
5) أما إذا قال الأصل " لا أعرفه " أو " لا أذكره " مما يقتضي جواز أن
(1) للتفصيل ينظر: مقدمة ابن الصلاح (علوم الحديث) ص105 - 106، وفتح المغيث للسخاوي ج1 ص315، وتدريب الراوي: ج1 ص334 - 335.
يكون نسبه، فذلك لا يقتضي رد رواية الفرع عنه.
والظاهر قبول رواية الفرع، وأن ذلك لا يقدح في عدالته، ولا عدالة الأصل.
وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله في " صحيحه " حديث ابن عباس رضي الله عنه: " ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير "(1).
فهذا الحديث مما أنكره الأصل على الفرع، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه أيضاً عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس أنه سمعه يخبر عن ابن عباس قال:" ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. قال عمرو: فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره، وقال: لم أحدثك بهذا! قال عمر: قد أخبرتنيه قبل ذلك "(2).
وهذا يدل على أن البخاري ومسلماً يذهبان إلى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلاً، وأن ذلك لا يقدح في عدالة أصل الراوي ولا في عدالة الفرع الراوي عنه.
المسألة الثانية:
إذا كان المحدث يغشى السلطان، أو يتولى شيئاً من أعماله، فهل ذلك يقدح في عدالته أم لا
؟
قد قدح كثير من الورعين في بعض الرواة بسبب علاقتهم بالسلطان، وخاصة إذا كان سلطان جور. ولكن ذلك في واقع الأمر لا يقدح في العدالة، ولا يوجب رد الرواية. ما كان الراوي متصفاً بالصدق مجانباً للكذب، وقدح من قدح فيهم، إنما كان على سبيل الهجر والتأديب الشرعي كي يكفوا عن إعانة الظلمة - لا غير - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به. وكذا عاب
(1) أخرجه البخاري في كتاب الآذان، باب الذكر بعد الصلاة حديث رقم (841) ورقم (842) ج2 ص378 مع الفتح.
(2)
صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة حديث رقم (121) ج1 ص410.
جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا، فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك
التضعيف مع الصدق والضبط. والله الموفق " (1).
وهذا الذي قرره الحافظ هو الحق - إن شاء الله - ويشهد له صنيع الإمام البخاري رحمه الله فقد روى في "صحيحه" عن رجال كثيرين ضعفوا بسبب من هذه الأسباب، ولم ير ذلك قادحاً في عدالتهم وموجباً لرد رواياتهم.
ومن هؤلاء:
1 -
أحمد بن واقد الحراني:
قال ابن نمير: تركت حديثه لقول أهل بلده.
قال الميموني: قلت لأحمد: إن أهل حران يسيئون الثناء عليه فقال: أهل حران قل أن يرضوا عن إنسان، هو يغشى السلطان بسبب ضيعه له. فأفصح أحمد بالسبب الذي طعن فيه أهل حران من أجله، وهو غير قادح، وقد قال أبو حاتم: كان من أهل الصدق والإتقان. وقد روى عنه الإمام البخاري، في الصلاة والجهاد والمناقب أحاديث شورك فيها عن حماد بن زيد، كما روى عنه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن ماجة (2).
2 -
حميد بن أبي حميد الطويل:
مشهور من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم، وقال يحي بن يعلي المحاربي: طرح زائدة حديث حميد الطويل. قال الحافظ: " إنما تركه زائدة لدخوله في شيء من أمر الخلفاء "(3). فلم يعتبر الأئمة ذلك قادحاً في عدالته، فقد روى له البخاري وسائر الجماعة.
3 -
حميد بن هلال العدوي:
قال الحافظ فيه: "من كبار التابعين وثقة ابن معين، والعجلي والنسائي وآخرون وقال يحي القطان: كان ابن سيرين لا يرضاه. قلت: بين أبو حاتم الرازي: أن ذلك
(1) هدي الساري ص404.
(2)
المصدر نفسه ص406.
(3)
المصدر نفسه ص419.
بسبب أنه دخل في شيء من عمل السلطان، وقد احتج به الجماعة " (1).
4 -
خالد بن مهران الحذاء:
أحد الأثبات، وثقة أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد، وتكلم فيه شعبة وابن علية. إما لكونه دخل في شيء من عمل السلطان، أو كما قال حماد بن زيد، قدم خالد قدمة من الشام، فكأنما أنكرنا حفظه " (2). فلم يعتبر ذلك البخاري ولا غيره قادحاً فيه، فقد روى له هو وسائر الجماعة.
5 -
عاصم بن سليمان الأحول:
ثقة، حافظ. وثقة أحمد وابن معين، والعجلي وابن المديني وغيرهم، وتركه وهيب لأنه أنكر بعض سيرته. قال الحافظ:" كان يلي الحسبة بالكوفة قال ابن سعد "(3) ونجد الإمام البخاري قد وثقه وروى له في صحيحه ولم يلتفت إلى ما قيل فيه.
6 -
عبد الله بن ذكوان:
أبو الزناد المدني: أحد الأئمة الأثبات الفقهاء، ويقال إن مالكاً كرهه لأنه كان يعمل للسلطان (4) لكن نجد البخاري قد وثقه وروى له، وكذا سائر الجماعة.
7 -
مروان بن الحكم:
تكلم فيه من أجل الولاية، لكن لم ير الأئمة ذلك قادحاً في عدالته، فقد روى له البخاري أحاديثه التي رواها عنه سهل بن سعد الساعدي، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وقد اعتمد مالك رأيه وحديثه وكذا بقية الجماعة سوى مسلم (5).
المسألة الثالثة:
أخذ الأجرة على التحديث
.
في هذه المسألة قولان للعلماء: قول بالمنع، وآخر بالجواز.
(1) المصدر نفسه ص419.
(2)
المصدر نفسه ص420.
(3)
هدي الساري ص432.
(4)
المصدر نفسه ص433.
(5)
المصدر نفسه ص466.
القول الأول:
من أخذ على التحديث أجراً فلا تقبل روايته، وإليه ذهب الإمام أحمد وإسحاق
بن راهويه، وأبو حاتم الرازي، وحماد بن سلمة، وسليمان بن حرب وغيرهم (1).
القول الثاني:
قبول رواية من أخذ على التحديث أجراً، وممن ذهب إلى هذا القول: أبو نعيم الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم، وعلي بن عبد العزيز المكي البغوي، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وطاووس، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهشام بن عمار وغيرهم (2).
والظاهر أنه لا تعارض بين هذه الأقوال إذ المنع مرتب على ما يمكن أن يجر إليه أخذ العوض على التحديث من التكثر في الرواية المفضي إلى الكذب، والجواز محمول على من هو ثقة ثبت له عذر في أخذ العوض كأن يكون فقيراً، وله عيال يجب عليه مؤونتهم، وانقطاعه للتحديث يؤدي إلى ترك الكسب لهم، وإلى هذا نبّه الإمام السخاوي رحمه الله حيث قال:" قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كبير أحد، مثل ما قاما به: عفان، وأبو نعيم. يعني بقيامهما عدم الإجابة في المحنة، وبكلام الناس من أجل أنهما كانا يأخذان على التحديث. ووصف أحمد مع هذا عفان بالمتثبت. وقيل له: من تابع عفان على كذا؟ فقال: وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد، وأبا نعيم الحجة الثبت، وقال مرة أنه يزاحم به ابن عيينة، وهو على قلة روايته أثبت من وكيع، إلى غير ذلك من الروايات عنه، بل وعن أبي حاتم في توثيقه وإجلاله، فيمكن الجمع بين هذا، وإطلاقهما كما مضى أولاً، عدم الكتابة بأن ذلك في حق من لم يبلغ هذه المرتبة في الثقة والتثبت، والأخذ مختلف في الموضعين "(3).
(1) انظر: الكفاية ص184 - 186، وعلوم الحديث ص107.
(2)
انظر: الكفاية ص187 - 188، وعلوم الحديث ص107، وفتح المغيث: ج1 ص378.
(3)
فتح المغيث: ج1 ص378.
وواضح أن الإمام البخاري يذهب إلى هذا الرأي، فقد روى عن شيوخ يأخذون الأجرة على التحديث منهم:
1) أبو نعيم الفضل بن دكين (1).
2) عفان بن مسلم (2).
3) يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدروقي (3): الحافظ المتقن صاحب المسند. فقد روى النسائي عنه - في سننه - حديث يحي بن عتيق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. رفعه: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم (4)
…
"، وقال عقبه: إنه لم يكن يحدث به إلا بدينار، ومع ذلك روى له البخاري والجماعة.
4) هشام بن عمار (5): قال ابن عدي: سمعت قسطنطين يقول: حضرت مجلسه فقال له المستملي من ذكرت؟ فقال له: بعض مشايخنا، ثم نعس فقال له المستملي: لا تنتفعون به. فجمعوا له شيئاً فأعطوه فكان بعد ذلك يملي عليهم، بل قال الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سيار. إن هشاماً كان يأخذ على كل ورقتين درهمين ويشارط، لذلك قال ابن وارة: عزمت زماناً أن أمسك عن حديث هشام. لأنه كان يبيع الحديث، وقال صالح بن محمد (6): إنه كان لا يحدث ما لم
5)
(1) اسمه: عمرو بن حماد بن زهير بن درهم التميمي، أحد الأئمة، من شيوخ البخاري، مات سنة 218هـ ترجمته في: تهذيب التهذيب ج8 ص243. وتاريخ بغداد ج6 ص346، والعبر: ج1 ص377.
(2)
أحد الأعلام، قال العجلي: ثقة ثبت صاحب سنة. مات سنة 219هـ، ترجمته في: تاريخ بغداد: ج12 ص269، وتذكرة الحفاظ: ج1 ص379، وشذرات الذهب: ج2 ص47.
(3)
كان أحد الحفاظ المتقنين، صنف " المسند "، مات سنة 252هـ، ترجمته في: تذكرة الحفاظ: ج2 ص505.
(4)
أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الماء الدائم (1/ 49) حديث رقم (59).
(5)
هشام بن عمار بن نصير بن مسيرة الدمشقي، روى عن مالك وخلق، وروى عنه البخاري وغيره. مات سنة (245هـ). ترجمته في: تذكرة الحفاظ: ج2 ص451 - وشذرات الذهب: ج2 ص109.
(6)
صالح بن محمد بن عمر بن حبيب الأسدي مولاهم البغدادي المعروف بصالح جزرة، نزيل بخاري. قال الإدريسي: ما أعلم في عصره بالعراق ولا بخرسان مثله في الحفظ. مات سنة
(293هـ)، ترجمته في: تذكرة الحفاظ: ج2 ص641 وتاريخ بغداد: ج9 ص322.
6) يأخذ (1). ومع هذا كله لم ير الإمام البخاري ذلك قادحاً في عدالته فقد روى له في "صحيحه ". وكذا روى له أصحاب السنن.
الربط بين العدالة والمروءة والكذب:
بعد مناقشة شروط العدالة والكلام على المروءة يتأكد عندما مبدأ أن هذه الشروط التي تكلمنا عنها لإنها هي لحدوث ثقة واطمئنان في النفس لصدق الراوي، وأن إرتكاب بعض الكبائر كسب الصحابة والبدعة لا يقدح في هذا التلازم ولا يمنع من ترجيح جانب صدقهم وقبول روايتهم.
قال موفق الدين في "المغني"(10/ 149): (وقد روى أبو مسعود البدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت «. يعني من لم يستح صنع ما شاء. ولأن المروءة تمنع الكذب، وتزجر عنه، ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين. وقد روي عن أبي سفيان، أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته فقال: والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب، لكذبته. ولم يكن يومئذ ذا دين. ولأن الكذب دناءة، والمروءة تمنع من الدناءة. وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب، اعتبرت في العدالة كالدِّين).
قال الآمدي في "إحكام الأحكام"(2/ 77): (وأما بعض الصغائر فما يدل فعله على نقض الدين، وعدم الترفع عن الكذب وذلك كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة، واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث ونحوه. وأما بعض المباحات فيما يدل على نقص المروءة، ودناءة الهمة، كالأكل في السوق والبول في الشوارع وصحبة الأراذل، والإفراط في المزح. ونحو ذلك مما يدل على سرعة الإقدام على الكذب، وعدم الاكتراث به. ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب، فلا يكون موثوقا بقوله).
قال الشيخ مشهور في "المروءة"(ص/289): (المروءة تمنع من الكذب
(1) فتح المغيث: ج3 ص379.
كالعدالة؛ فيجب اعتبارها فيه. قال ابن قدامة: " وإذا كانت المروءة مانعة من
الكذب، اعتبرت في العدالة كالدِّين " فالكذب دناءة، والمروءة تمنع منه؛ فحقَّقَت ما من أجله أشترطت العدالة، وقياسا على اشتراط الإسلام فإنه يمنع من الكذب؛ فكذا المروءة).
تعريف العدالة:
يمكننا من خلال هذه الشروط التي سبق مناقشتها أن نعرف العدالة المعتبرة في الرواية بأنها: (غلبة خير الراوي على جوره بحيث يظن صدقه)، والعدل هو الراوي الذي غلب خيره على شره حتى ظن صدقه).
وغليه الخيريه هذه نتيجة تتبع حاله ومعرفة مدى تحقق شروط العدالة والمروءة فيه، وثمرة هذه الغلبة ترجح جانب صدقه على كذبه.
وقولنا: (يظن صدقه) يشمل أن يكون مسلما حال الآداء؛ لأن المسلم لا يكذب، فدينه يمنعه من الكذب، وأن يكون عاقلا مميزا حال التحمل والآداء.
وأيضا من لا مروءة له لا تحصل الثقة بكلامه؛ لأن من لا يستقبح القبيح ولا يترفع عن الدناءات لا يستقبح الكذب.
وقد لاح لك مما سبق الشروط المعتبرة وغير المعتبرة في عدالة الراوي، وبقيت لنا مسألتان نختم بهما هذا المبحث الخاص بالعدالة:
المسألة الأولى: هل الأصل في الراوي الجهالة أم العدالة؟
المسألة الثانية: بم تثبت العدالة؟
(وأما المسألة الأولى وهي:
هل الأصل في الراوي العدالة أم الجهالة
؟
عندنا ثلاث مسائل تكلم فيها العلماء وهي هل الأصل في المسلم العدالة؟ وهل الأصل في الشاهد العدالة؟ ومسألتنا هي هل الأصل في الرواي العدالة؟ وهذه المسائل بينها عموم وخصوص وقد تتداخل، وقد اختلف العلماء فيها على قولين بالإيجاب والسلب.
وسوف نركز كلامنا في الراوي، والذي أراه راجحا هو أن الأصل في الراوي الجهالة حتى تثبت عدالته ويغلب الظن صدقه في نقل كلام النبي صلى الله عليه
وسلم على النحو سالف الذكر، والدليل على ذلك أمور منها:
أولا - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
هذه الآية لا دلالة فيها على أحد القولين من أن الأصل في المخبر العدالة أم الجهالة، وإنما تدل بمنطوقها على التثبت والتوقف في خبر من تبين فسقه لنرى هل صدق في هذا الخبر أم لا، وتدل بمفهومها على قبول خبر من من لم يعرف بفسق، وأما من لم يتبين حاله هل هو فاسق أم عدل ماذا نفعل في خبره هل نتوقف فيه أم نقبله؟
قال الشنقيطي في "المذكرة"(ص/138): (ومدار هذا الخلاف على أن شرط القبول هل هو العلم بالعدالة أو هو عدم العلم بالفسق فمن قال لا يقبل مجهول العدالة قال المدار على علم العدالة والمجهول لم تعلم عدالته فلا يقبل ومن قال يقبل قال المدار على عدم العلم بالفسق وهذا لم يعلم منه فسق فيقبل).
والقول بقبول رواية مجهول العدالة هو قول الحنفية، وقد رده الألوسي الحنفي في "روح المعاني" (13/ 298):(واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وهاهنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت. وتعقب بأنا لا نسلم أنه هاهنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له).
وعليه فالأقوى أنه يلحق بالفاسق حكما ونتوقف في خبره حتى نتبين حاله؛ حماية لجناب السنة حتى لا يلحق بسنة النبي ما لم يقله، وفي ذلك من المفاسد في ناحية التعبد ما لا يخفى.
ثانيا - ما عليه الجمهور من رد رواية مجهول العين والحال، ولو كان الأصل في الراوي العدالة لما رُدَّ حديثه.
قال ابن الصلاح في "مقدمته"(ص/111): (المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعا، وروايته غير مقبولة عند الجماهير). ثم قال: (المجهول العين،
وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين، ومن روى عنه عدلان وعَيَّنَاه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة).
ثالثا - في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" ولو كانت كل الرواة عدول لما أوجب النبي التثبت من خبره، ولما حكم بإثم وتكذيب من يحدث بكل ما سمع.
رابعا - ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من التحري في الرواية وعدم الرواية عن الكذابين والضعفاء والمجروحين والمجهولين، وهذا مشهور عنهم وإليك طائفة من أقوالهم:
ساق الخطيب في "الكفاية"(ص/83): بسنده عن أبي إسحاق ، قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب فقال:» ما كنا لندع كتاب ربنا ، وسنة نبينا لقول امرأة ، لا تدري أحفظت أم لا «ثم قال:(وهكذا اشتهر الحديث عن علي بن أبي طالب أنه قال ما: حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استحلفته ، ومعلوم أنه كان يحدثه المسلمون ويستحلفهم ، مع ظهور إسلامهم ، وأنه لم يكن يستحلف فاسقا ويقبل خبره ، بل لعله ما كان يقبل خبر كثير ممن يستحلفهم ، مع ظهور إسلامهم وبذلهم له اليمين ، وكذلك غيره من الصحابة روي عنهم أنهم ردوا أخبارا رويت لهم ورواتها ظاهرهم الإسلام ، فلم يطعن عليهم في ذلك الفعل ، ولا خولفوا فيه ، فدل على أنه مذهب لجميعهم ، إذ لو كان فيهم من يذهب إلى خلافه لوجب بمستقر العادة نقل قوله إلينا ، ويدل على ذلك أيضا إجماع الأمة على أنه لا يكفي في عدالة الشهود على ما يقتضي الحدود إظهار الإسلام ، دون تأمل أحوال الشهود واختبارها ، وهذا يوجب اختبار حال المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحال الشهود بجميع الحقوق ، بل قد قال كثير من الناس: إنه يجب الاستظهار في البحث عن عدالة المخبر بأكثر مما يجب في عدالة الشاهد ، فثبت بما ذكرناه أن العدالة شيء زائد على ظهور الإسلام ، يحصل بتتبع الأفعال واختبار الأحوال والله أعلم).
- روى مسلم في "مقدمة صحيحه"(1/ 13) بسنده عن مجاهد أنه قال: "جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع!! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
- وروى بسنده عن محمد بن سيرين قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
- وروى عن ابن سيرين أيضا أنه قال لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
- وروى عن عبد الله بن المبارك قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
(وأما المسألة الثانية وهي:
بم تثبت العدالة
؟
تثبت عدالة الراوي بـ:
أولاً: بتنصيص المعدلين على عدالته.
ثانياً: بالاستفاضة والشهرة.
قال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 301 - 302): [(الثانية تثبت العدالة) للراوي (بتنصيص عالمين عليها) وعبارة ابن الصلاح معدلين وعدل عنه لما سيأتي أن التعديل إنما يقبل من عالم (أو بالاستفاضة) والشهرة (فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم) من أهل الحديث أو غيرهم (وشاع الثناء عليه بها كفى فيها) أي في عدالته ولا يحتاج مع ذلك إلى معدل ينص عليها (كمالك والسفيانين والأوزاعي والشافعي وأحمد) بن حنبل (وأشباههم) قال ابن الصلاح: هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه، وممن ذكره من أهل الحديث الخطيب ومثله بمن ذكر وضم إليهم الليث وشعبة وابن المبارك ووكيعا وابن معين وابن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره، وقد سئل ابن حنبل
عن إسحق بن راهويه، فقال: مثل إسحق يسأل عنه، وسئل ابن معين عن أبي عبيد فقال: مثلى يسأل عن أبي عبيد أبو عبيد يسأل عن الناس، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية إذا لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضى وكان أمرهما مشكلا ملتبسا ومجوزا فيهما العدالة وغيرها قال: والدليل على ذلك أن العلم بظهور سيرهما واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة].
ثالثاً: حمل العلم:
قال السيوطي في التدريب (1/ 302: 304): [(وتوسع) الحافظ أبو عمر (ابن عبد البر فيه فقال كل حامل علم معروف العناية به) فهو عدل (محمول) في أمره (أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه) ووافقه على ذلك ابن المواق من المتأخرين لقوله صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " رواه من طريق العقيلي من رواية معان بن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرفوعا (وقوله هذا غير مرضي) والحديث من الطريق الذي أورده مرسل أو معضل وإبراهيم هو الذي أرسله قال فيه ابن القطان لا نعرفه البتة ومعان أيضا ضعفه ابن معين وأبو حاتم وابن حبان وابن عدي والجوزجاني، نعم وثقة ابن المديني وأحمد وفي كتاب العلل للخلال أن أحمد سئل عن هذا الحديث فقيل له كأنه موضوع فقال لا هو صحيح فقيل له ممن سمعته فقال من غير واحد قيل من هم قال حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن ومعان لا بأس به انتهى قال ابن القطان وخفي على أحمد من أمره ما علمه غيره قال العراقي وقد ورد هذا الحديث متصلا من رواية علي وابن عمر وابن عمرو وجابر بن سمرة وأبي أمامة وأبي هريرة وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء وليس فيها شيء يقوي المرسل قال ابن عدي ورواه الثقات عن الوليد بن مسلم عن إبراهيم العذري ثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ثم على تقدير ثبوته إنما يصح الاستدلال به لو كان خبرا ولا يصح حمله على الخبر لوجود من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة فلم يبق له محمل إلا على الأمر ومعناه أنه أمر للثقات بحمل
العلم لأن العلم إنما يقبل عنهم والدليل على ذلك أن في بعض طرقه عند ابن أبي حاتم: " ليحمل هذا العلم " بلام الأمر وذكر ابن الصلاح في فوائد رحلته أن بعضهم ضبطه بضم الياء وفتح الميم مبنيا للمفعول ورفع العلم وفتح العين واللام من عدوله وآخره تاء فوقية فعولة بمعنى فاعل أي كامل في عدالته أي إن الخلف هو العدولة والمعنى إن هذا العلم يحمل أي يؤخذ عن كل خلف عدل فهو أمر بأخذ العلم عن العدول والمعروف في ضبطه فتح ياء يحمل مبنيا للفاعل ونصب العلم مفعوله والفاعل عدوله جمع عدل] (1).
وعلى كل حال فالحديث مختلف في ثبوته من ناحيتي الرواية والدراية، والراجح على فرض ثبوته من ناحية الرواية دلالته على عدالة المعروفين بحمل العلم المعتنين به.
قال ابن الوزير في تنقيح الأنظار (2/ 93 - مع التوضيح) عن رواية الأمر: [أنها معلولة بمخالفة جميع الرواة، إذ كلهم رواه بلفظ الخبر، فالوهم أبعد عن
(1) - وإلى نحو هذا المنحى ذهب الشيخ مقبل حيث قال في رسالته المقترح: [السؤال / 207 ما حال حديث: ((يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله))؟ الجواب: الذي يظهر أنه مرسل من مراسيل إبراهيم العذري، وجاء من طرق أخرى لا ترتقي إلى الحجية، وجاء عن الإمام أحمد أنه يقول: إنه صحيح، وقد خولف الإمام أحمد رحمه الله، ثم لو صح فهو على الأمر لا على الإخبار، بمعنى: ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. قال بهذا بعض أهل العلم. وقد استدل ابن عبد البر بهذا الحديث على أن حملة العلم أو المحدثين عدول، وهذا مخالف لما جاء في تراجم المحدثين، فمثلاً سليمان بن داود الشاذكوني أبو أيوب وكان حافظًا، جاء عنه أنه كان يشرب الخمر، وقال فيه الإمام البخاري: إنه أضعف من كل ضعيف. وكذلك محمد بن عمر الجعابي نقل عنه أنه كان لا يصلي، فالواقع يخالف ما قاله ابن عبد البر رحمه الله: أن حملة علم الحديث كلهم ثقات. وعندنا بحمد الله "ميزان الاعتدال "، والإمام الشافعي رحمه الله يقول: من روى عن البياضي بيض الله عيونه. ويقول أيضًا في حرام بن عثمان: الرواية عن حرام بن عثمان، حرام. وما أكثر المحدثين الذين يعتبرون من حملة الحديث ومن حفاظه الكبار، ومع ذلك فهم مضعّفون مثل: أحمد بن محمد بن سعيد الشهير بابن عقدة، فهو حافظ كبير أمثاله قليل في الحفظ من معاصريه، ومع هذا فهو ضعيف.]
الجماعة]. وعلى فرض ثبوتها، فتأول بما يوافق رواية الجماعة بأن يكون المراد بالأمر فيها الخبر فتكون من باب الإنشاء الذي أريد به الخبر جمعا بين روايات الحديث.
وقال الصنعاني في توضيح الأفكار (2/ 92) مرحجاً لاستدلال ابن عبد البر بالحديث على عدالة حملة العلم المعتنين به: [يتم به استدلاله وذلك لأن العام يعمل به على عمومه حتى يقوم دليل على تخصيصه، فمن كان حامل علم معروفا بالعناية به فهو عدل حتى يظهر قادح في عدالته].
قال المناوي في فيض القدير (6/ 396): [حديث يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر وهذا من أعلام نبوته ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرف شيئا من العلم بأن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئاً].
فتحصل من هذا أن الحديث لا يثبت من ناحية الإسناد، وعلى فرض ثبوته فالأقوى فيه أنه خبر وهو صادق فكل من حمل العلم فهو عدل، فإن ظهر فيه فسق أو نحوه فإن هذا دليل على أنه ليس من حملة العلم، وليس من العلماء الربانيين العاملين بعلمهم، وأنه كان من أدعيائه، وأن بركة العلم نزعت منه لفسقه وغلبة جوره على عدله.
(مسائل أخرى متعلقة بالعدالة
(1)):
المسألة الأولى: قبول تعديل العبد والمرأة:
قال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 321): [(يقبل تعديل العبد والمرأة العارفين) لقبول خبرهما وبذلك جزم الخطيب في الكفاية والرازي والقاضي أبو بكر بعد أن حكى عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم أنه لا يقبل في التعديل النساء لا في الرواية ولا في الشهادة واستدل الخطيب على القبول بسؤال النبي
(1) - وسيأتي - بمشيئة الله - مسائل أخرى في الجرح والتعديل وإنما اقتصرت هنا على هذه المسائل لتعلقها بمبحث العدالة.
صلى الله عليه وسلم بريرة عن عائشة في قصة الإفك قال بخلاف الصبي المراهق فلا يقبل تعديله إجماعا].
قلت وفي المسالة بالنسبة للمرأة قول ثالث وهو: وهو أن تقبل تزكيتهن لبعضهن لا للرجال، حيث بوب البخاري على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بريرة عن حال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وجوابها له باب:(تعديل النساء بعضهم بعضاً)، قال ابن حجر في الفتح:(5/ 273): [قال بن بطال: فيه حجة لأبي حنيفة في جواز تعديل النساء، وبه قال أبو يوسف، ووافق محمد الجمهور. قال الطحاوي: التزكية خبر وليست شهادة فلا مانع من القبول، وفي الترجمة الإشارة إلى قول ثالث وهو: أن تقبل تزكيتهن لبعضهن لا للرجال؛ لأن من منع ذلك اعتل بنقصان المرأة عن معرفة وجوه التزكية لا سيما في حق الرجال،
…
والجمهور على جواز قبولهن مع الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه].
والراجح قول الجمهور من قبول تزكية كل عدل مرضي من ذكر أو أنثى حر أو عبد.
قال الخطيب في الكفاية (ص/ 98): [فإذا ثبت أن خبر المرأة العدل مقبول وانه إجماع من السلف وجب أيضا قبول تعديلها للرجال حتى يكون تعديلهن الذي هو أخبار عن حال المخبر والشاهد بمثابة خبرهن في وجوب العمل به
…
ويجب أيضا قبول تزكية العبد المخبر دون الشاهد لأن خبر العدل مقبول وشهادته مردودة والذي يوجبه القياس وجوب قبول تزكية كل عدل ذكر وأنثى حر وعبد لشاهد ومخبر حتى تكون تزكيته مطابقة للظاهر من حاله والرجوع إلى قوله وانتفاء التهمة والظنة عنه إلا أن يرد توقيف أو إجماع أو ما يقوم مقام ذلك على تحريم العمل بتزكية بعض العدول المرضيين فيصار إلى ذلك ويترك القياس لأجله ومتى لم يثبت ذلك كان ما ذكرناه موجبا لتزكية كل عدل لكل شاهد ومخبر].
المسألة الثانية: هل يثبت التعديل بواحد:
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (2/ 120 - 121): [ولما كانت العدالة صفة للراوي لا تعرف بمجرد إيمانه، افتقرت إلى مُعَرِّف لها؛ فقال المصنف: قال - أي ابن الصلاح -: والصحيح أن التعديل يثبت بواحد ولو امرأة، على
الصحيح، واستدل ابن الصلاح لما جزم به بقوله: لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح راويه ولا تعديله بخلاف الشهادات انتهى.
قلت وفي المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يقبل في التزكية إلا رجلان في رواية وشهادة حكاه القاضي أبو بكر والباقلاني عن
أكثر الفقهاء من أهل المدينة، وغيرهم.
الثاني: أنه يكفي واحد فيهما، وهو اختيار القاضي أبي بكر فإنه قال: والذي يوجب القياس وجوب
قبول تزكية كل عدل مرضى ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا لشاهد ومخبر.
الثالث: التفصيل فيكفي في الرواية تزكية العدل، ولا بد من اثنين في الشهادة ورجحه الإمام فخر الدين والسيف الآمدي.
وأقربها به أوسطها لأن التزكية من باب الأخبار ولا يشترط العدد في قبول رواية العدل (1).] اهـ
(1) - فائدة: بيان الفرق بين الرواية والشهادة، وسوف أنقل هنا ما قاله السيوطي دون تعليق، واكتفي بالإشارة المجملة، لثبوت الخلاف في بعض تلك الفروق، وأن اختيار السيوطي قد يكون لقول مرجوح في بعض المسائل، وبعضها قد سبق مناقشته، وعرض الأقوال فيه، وبعضها سيأتي - بمشيئة الله -، وإنما أذكر كلامه هنا لمناسبته وأهميته، والله الموفق.
قال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 331: 334): [فائدة: من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية والشهادة، وقد خاض فيه المتأخرون وغاية ما فرقوا به: الاختلاف في بعض الأحكام؛ كاشتراط العدد وغيره، وذلك لا يوجب تخالفا في الحقيقة، قال القرافي: أقمت مدة أطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام المازري، فقال: الرواية هي الإخبار عن عام لا ترافع فيه إلى الحكام، وخلافه الشهادة.
وأما الأحكام التي يفترقان فيها فكثيرة لم أر من تعرض لجمعها وأنا أذكر منها ما تيسر:
الأول: العدد لا يشترط في الرواية بخلاف الشهادة، وقد ذكر ابن عبد السلام في مناسبة ذلك أمورا: أحدها: أن الغالب من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور. الثاني: أنه قد ينفرد بالحديث راو واحد فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة، بخلاف فوت حق واحد على شخص واحد. الثالث: أن بين كثير من المسلمين عداوات تحملهم على شهادة الزور، بخلاف الرواية عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: لا تشترط الذكورية فيها مطلقا، بخلاف الشهادة في بعض المواضع.
الثالث: لا تشترط الحرية فيها، بخلاف الشهادة مطلقا.
الرابع: لا يشترط فيها البلوغ في قول.
الخامس: تقبل شهادة المبتدع إلا الخطابية، ولو كان داعية، ولا تقبل رواية الداعية ولا غيره إن روى موافقه.
السادس: تقبل شهادة التائب من الكذب دون روايته.
السابع: من كذب في حديث واحد رد جميع حديثه السابق، بخلاف من تبين شهادته للزور في مرة لا ينقض ما شهد به قبل ذلك.
الثامن: لا تقبل شهادة من جرت شهادته إلى نفسه نفعا، أو دفعت عنه ضررا، وتقبل ممن روى ذلك.
التاسع: لا تقبل الشهادة لأصل وفرع، ورقيق بخلاف الرواية.
العاشر والحادي عشر والثاني عشر: الشهادة إنما تصح بدعوى سابقة وطلب لها وعند حاكم، بخلاف الرواية في الكل.
الثالث عشر: للعالم الحكم بعلمه في التعديل والتجريح قطعا مطلقا، بخلاف الشهادة فإن فيها ثلاثة أقوال أصحها: التفصيل بين حدود الله تعالى وغيرها.
الرابع عشر: يثبت الجرح والتعديل في الرواية بواحد دون الشهادة على الأصح.
الخامس عشر: الأصح في الرواية قبول الجرح والتعديل غير مفسر من العالم، ولا يقبل الجرح في الشهادة إلا مفسرا.
السادس عشر: يجوز أخذ الأجرة على الرواية بخلاف أداء الشهادة، إلا إذا احتاج إلى مركوب.
السابع عشر: الحكم بالشهادة تعديل، قال الغزالي: بل أقوى منه بالقول بخلاف عمل العالم أو فتياه بموافقة المروي على الأصح لاحتمال أن يكون ذلك الدليل آخر.
الثامن عشر: لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلا عند تعسر الأصل بموت، أو غيبة، أو نحوها، بخلاف الرواية.
التاسع عشر: إذا روى شيئا ثم رجع عنه سقط، ولا يعمل به، بخلاف الرجوع عن الشهادة بعد الحكم.
العشرون: إذا شهدا بموجب قتل، ثم رجعا وقالا: تعمدنا، لزمهما القصاص، ولو أشكلت حادثة على حاكم فتوقف فروى شخص خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها وقتل الحاكم به رجلا ثم رجع الرواي وقال: كذبت وتعمدت، ففي فتاوى البغوي: ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد إذا رجع، قال الرافعي: والذي ذكره القفال في الفتاوى: والإمام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة فإنها تتعلق بالحادثة والخبر لا يختص بها.
الحادي والعشرون: إذا شهد دون أربعة بالزنا حدوا للقذف في الأظهر، ولا تقبل شهادتهم قبل التوبة، وفي قبول روايتهم وجهان: المشهور منهما: القبول، ذكره الماوردي في الحاوي، ونقله عنه ابن الرفعة في الكفاية، والأسنوي في الألغاز].
كلام الصنعاني، والقول بالتفصيل الذي اختاره هو الراجح (1).
المسألة الثالثة: هل تُعد رواية العدل تعديلاً لمن روى عنه
(2)؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلا:
عزاه النووي في التقريب إلى الأكثرين من أهل الحديث وغيرهم، وصححه السيوطي في التدريب (1/ 314)، وعزاه ابن رجب في شرح علل الترمذي للشافعية، وأحمد في رواية، وقال: [ما ذكره الترمذي رحمه الله يتضمن مسائل من علم الحديث:
إحداها: إن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه؛ فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء، كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما، وكان شعبة يقول: ((لو لم
(1) - وانظر أيضاً في هذه المسألة: التقييد والإيضاح (1/ 142 - 143)، والرافع والتكميل (ص/ 111 - 112)، فتح المغيث (1/ 294)، والشذا الفياح (1/ 242)، وغيرهم.
(2)
- اختلفت عبارات العلماء حول صياغة هذه المسألة فبعضهم يقول: هل تعتبر رواية العدل تعديلاً لمن روى عنه، فكأنه لا يتكلم عن الضبط مطلقاً، وسار على ذلك النووي في التقريب، وتابعه السيوطي في التدريب. وأما ابن رجب فأحيانا يقول: رواية الثقة توثيق، وأحيانا يقول: تعديل. والذي أراه أن الذي يتكلم على هذه المسألة يتكلم على أصلها فقط، بمعنى: هل تنفع رواية أهل النقد والتحري هؤلاء الرواة أم لا؟ والذي ينبغي من الناحية العملية: مراعاة لفظ هذا الإمام، واصطلاحه، ثم الحكم بمقتضى ذلك من ناحية الحكم بالضبط مع العدالة أم الاكتفاء بالعدالة فقط، وأما في حالة عدم معرفة اصطلاحه فالذي ينبغي الاكتفاء بالحد الأدنى وهو العدالة فقط، بمعنى أن حديثه يصلح للاعتبار في المتابعات والشواهد فقط فلا يحكم له بصحة ولا حسن. والله الموفق.
أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير))، قال يحيى القطان:((إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت] إلا [عن خمسة أو نحو ذلك))].
أدلة القول الأول:
قالوا: يجوز رواية الثقة عن غير العدل، فلم تتضمن روايته عنه تعديله، وقد روينا عن الشعبي أنه قال: حدثنا الحرث، وأشهد بالله أنه كان كذابا. وروى الحاكم وغيره عن أحمد بن حنبل أنه رأى يحيى بن معين وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس فإذا اطلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه؟ فقال: يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان فيجعل بدل أبان ثابتا ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس، فأقول له: كذبت، إنما هي عن معمر عن أبان لا عن ثابت.
القول الثاني: هو تعديل:
حكاه ابن رجب في شرح العلل للحنفية، ولأحمد في رواية.
أدلة القول الثاني:
قالوا: لو علم فيه جرحا لذكره، ولو لم يذكره لكان غاشا في الدين، قال الصيرفي: وهذا خطأ؛ لأن الرواية تعريف له، والعدالة بالخبرة. وأجاب الخطيب: بأنه قد لا يعرف عدالته ولا جرحه. قال السماحي في الرواة (ص/64): [وقال ابن الحاجب: ورَد بأنه قد علم أنهم يروون عمن لو سئلوا عنه لم يعدلوه، فلا تدليس].
القول الثالث: التفصيل:
إن كان العدل الذي روى عنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته تعديلا، وإلا فلا. قال السيوطي في التدريب:[واختاره الأصوليون كالآمدي وابن الحاجب وغيرهما].
وقال ابن رجب في شرح العلل: [والمنصوص عن أحمد يدل على أنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن ثقة فروايته عن إنسان تعديل له، ومن لم يعرف منه ذلك فليس بتعديل، وصرح بذلك طائفة من المحققين من أصحابنا وأصحاب
الشافعي.
قال أحمد - في رواية الأثرم -: ((إذا روى الحديث عبد الرحمن ابن مهدي عن رجل فهو حجة، ثم قال: كان عبد الرحمن أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد ثم تشدد بعدها، وكان يروي عن جابر ثم تركه))، وقال في رواية أبي زرعة:((مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف فهو حجة))، وقال في رواية ابن هانئ:((ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة، كل من روى عنه مالك فهو ثقة))، وقال الميموني، سمعت أحمد غير مرة يقول:((كان مالك من أثبت الناس، ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولا سيما مديني)). قال الميموني: وقال لي يحيى بن معين: ((لا تريد أن تسأل عن رجال مالك، كل من حدث عنه ثقة إلا رجلاً أو رجلين))].
(والقول بالتفصيل هو الراجح:
قال السخاوي في فتح المغيث (1/ 315) بعد عرضه للقول الأول والثاني: [والثابت التفصيل، فإن علم أنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن الراوي تعديلا له وإلا فلا وهذا هو الصحيح عند الأصوليين، كالسيف الآمدي، وابن الحاجب، وغيرهما، بل وذهب إليه جمع من المحدثين وإليه ميل الشيخين وابن خزيمة في صحاحهم، والحاكم في مستدركه، ونحوه قول الشافعي رحمه الله فيما يتقوى به المرسل أن يكون المرسل إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه انتهى. وأما رواية غير العدل فلا يكون تعديلا باتفاق].
وقال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/ 475): [والصحيح التفصيل بين أن يكون من عادته أنه لا يروي إلا عن ثقة فيكون تعديلا [له] وإلا فلا].
وقال د. عبد الرحمن الزيد في رسالته: " فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً " حيث قال: [فالخلاصة: أن من روى عنه ولو واحد من أئمة النقل أهل النقد والتحري ممن لا يروي إلا عن الثقات ولم يُتَكلم فيه فإنه ينفعه ذلك].
فمن اشترط على نفسه عدم الرواية إلا عن الثقات أو العدول، فمن روى عنه
يكون ثقةً أو عدلاً عنده، مع ملاحظة شرطه هل هو على الإطلاق، أو في كتاب معين، وينبغي ملاحظة أن هذا التعديل أو التوثيق، كالتعديل أو التوثيق المجملين، الذين يقدم عليهما الجرح المفسر، وينبغي أيضاً لاعتبار قوله ملاحظة حاله في التزام شرطه، وأنه لم يضطرب فيه فإن ظهر أنه اضطرب فيه فلا يدل قوله على التوثيق أو التعديل.
فائدة: ذكر من كان لا يروي إلا عن الثقات:
قال السخاوي في فتح المغيث (1/ 316): [تتمة: من كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد وبقي بن مخلد وحريز بن عثمان وسليمان ابن حرب وشعبة والشعبي وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ويحيى بن سعيد القطان وذلك في شعبة على المشهور فإنه كان يتعنت في الرجال ولا يروى إلا عن ثبت وإلا فقد قال عاصم بن علي سمعت شعبة يقول لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم عن ثلاثة وفي نسخة ثلاثين وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر، وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك ولا عن من أجمع على ضعفه. وأما سفيان الثوري فكان يترخص مع سعة علمه وشدة ورعه ويروي عن الضعفاء حتى قال فيه صاحبه شعبة لا تحملوا عن الثوري إلا عن من تعرفون فإنه لا يبالي عمن حمل]
وقد طرح هذا الموضوع في ملتقى أهل الحديث، وأدلى كلٌّ بدلوه ونقلوا عن محمد خلف سلامة، في مقال له بِعنوان (الدرر المتناسقة فيمن قيل إنّه لا يروي إلاّ عن ثقة)، وقد قمت بترتيب ما ذكروه على حروف المعجم مع حذف المكرر، ودمج التعليقات والإحالات مع بعض الزيادات في الإحالات، والواقع أن هذا المجهود منهم طيب، وسعي مشكور، ويا ليت هذا المجهود يكون بداية لبحث هذه المسألة نظرياً، وتطبيقياً، على نطاق أوسع، لأهميتها في علم الجرح والتعديل، وخاصة في تعديل أو توثيق المجاهيل.
وإليك مثالين لبيان أهمية هذه المسألة، فقد صحح الشيخ الألباني إسناد حديثين اعتماداً على هذه القاعدة وهما:-
1 -
قال الشيخ الألباني في هامش صحيح ابن خزيمة (4/ 207) عن أثر ابن
عمر في قطع التلبية إذا دخل الحرم ويعاود إذا طاف بالبيت وإذا فرغ من الطواف بين الصفا والمروة: [إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات معروفون، غير محمد بن مهدي العطار، وأظنه محمد بن مهدي الزيلعي الذي ترجمه ابن أبي حاتم فقال: " روى عن أبي داود الطيالسي روى عنه أبو زرعة " وأبو زرعة لا يروي إلا عن ثقة كما هو معروف ويكفي في توثيقه أنه من شيوخ ابن خزيمة في هذا الصحيح وبعيد جدا أن يكون مثله غير صحيح والله أعلم].
2 -
وقال في ظلال الجنة (1/ 245):] إسناده صحيح: رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير محمد بن ثعلبة، وهو السدوسي البصري، روى عنه جمع من الحفاظ والثقات، ومنهم أبو زرعة الرازي وهو لا يروي إلا عن ثقة ولذلك قال الحافظ صدوق].
وإليك محصل ما وقفت عليه في هذه المسألة:
من كان من الحفاظ لا يروي إلا عن ثقة:
عرف عن جمع من الأئمة أنهم لا يروون إلا عن الثقات عندهم، منهم:
1 -
إبراهيم بن موسى بن يزيد التميمي الرازي.
2 -
إبراهيم بن يزيد النخعي.
3 -
أحمد بن حنبل: (فتح المغيث للسخاوي 1/ 343). وتعقب بعضهم وضع الإمام أحمد هنا، وكذا ابنه عبد الله؛ لأنهما كان يرويان عمن لم يجب في الفتنة، وليس عمن لم يكن فيه ضعف في الحديث.
4 -
إسماعيل بن أبي خالد: (تهذيب التهذيب 1/ 292).
5 -
أيوب ابن أبي تميمة السختياني (فتح الباري لابن رجب (4/ 132).
6 -
بقي بن مخلد الأندلسي: (تهذيب التهذيب 1/ 19و26و358)، فتح المغيث للسخاوي 1/ 343، وقال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/ 372): [وحكى الشيخ علاء الدين مغلطاي عن تاريخ قرطبة أن بقي بن مخلد قال " كل من رويت عنه فهو ثقة ".
7 -
بكير بن عبد الله الأشج.
8 -
حريز بن عثمان الرحبي: (شرح علل الترمذي لابن رجب 2/ 783، فتح
المغيث للسخاوي 1/ 343).
9 -
سعيد بن المسيّب.
10 -
سليمان بن حرب الأزدي: (شرح علل الترمذي لابن رجب 2/ 783، فتح المغيث للسخاوي 1/ 343).
11 -
شعبة بن الحجاج: (تهذيب التهذيب 1/ 5، فتح الباري 1/ 300، فتح المغيث للسخاوي 1/ 343 وذكر في فتح الباري: أنه لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم. 4/ 38و194).
12 -
عامر بن شراحيل الشعبي: (تهذيب التهذيب 5/ 67، وقال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/ 372): [وحكى الشيخ علاء الدين مغلطاي من تاريخ ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول " إذا حدث الشعبي عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه ".
13 -
عبد الرحمن بن مهدي: (سؤالات أبي داود ص339 و198 و341، فتح المغيث للسخاوي 1/ 343).
14 -
عبد الله بن أحمد بن حنبل: (قال ابن حجر في تعجيل المنفعة (1/ 18): [عبد الله كان لا يكتب إلا عن ثقة عند أبيه].
15 -
عفان بن مسلم الباهلي.
16 -
عمرو بن مرزوق البصري.
17 -
مالك بن أنس: (التمهيد 1/ 17و13/ 188، سير أعلام النبلاء 1/ 138).
18 -
محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح.
19 -
محمد بن سيرين: (التمهيد 8/ 301، فتاوى ابن تيمية 23/ 47).
20 -
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب: (تهذيب التهذيب 9/ 304و305).
21 -
محمد بن وضاح القرطبي: (تهذيب التهذيب 6/ 391).
22 -
محمد بن الوليد بن عامر.
23 -
مظفر بن مدرك الخراساني: (تقريب التهذيب 1/ 535).
24 -
منصور بن المعتمر: (تهذيب الكمال 28/ 549).
25 -
موسى بن هارون الحمّال.
26 -
الهيثم بن جميل.
27 -
يحيى بن أبي كثير الطائي: (الجرح والتعديل 9/ 141، سير أعلام النبلاء 6/ 28). 29 - أبو داود السجستاني صاحب السنن: (نصب الراية 1/ 199، تهذيب التهذيب 2/ 297، وقال المزي في تهذيب الكمال (31/ 509): [وقال أبو حاتم: إمام لا يحدث إلا عن ثقة]. وبعضهم تعقب هنا بأن أبا داود روى في سننه عن رجال ضعّفهم بنفسه وجرحهم!
28 -
يحيى بن سعيد القطان: (ثقات العجلي ص 472، سؤالات أبي داود ص 331و198، وقال المزي في تهذيب الكمال (31/ 340): [قال العجلي بصري ثقة نقي الحديث كان لا يحدث إلا عن ثقة].
29 -
أبو زرعة الرازي: (لسان الميزان2/ 416).
30 -
أبو مسلمة الخزاعي.
المسألة الرابعة: قول العدل حدثني الثقة:
من أبهم على التعديل للعلماء في قبول روايته أقوال:
القول الأول: عدم قبول هذا التعديل أو التوثيق:
عزاه الزركشي في البحر المحيط (6/ 174): لأبي بكر القفال الشاشي، والخطيب البغدادي، والصيرفي، والقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والماوردي، والروياني، وعزاه ابن النجار في شرح الكوكب المنير (ص/ 285) لبعض الأصحاب من الحنابلة، ولأكثر الشافعية. وهو ترجيح جماعة من العلماء منهم ابن الملقن في المقنع (1/ 254)، والسخاوي في فتح المغيث (1/ 313)، والأبناسي في الشذا الفياح (1/ 85 - 86) وغيرهم.
قال ابن الصلاح في مقدمته (ص/61): [لأنه قد يكون ثقة عنده، وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف. بل إضرابه عن تسميته مريب يوقع في القلوب فيه تردداً].
القول الثاني: قبول هذا التعديل:
قال ابن النجار: [وصححه ابن الصباغ. قال ابن مفلح: وكذا أبو المعالي ، واختار قبوله ; وأن الشافعي أشار إليه، وقبله المجد من أصحابنا، وإن لم يقبل
المرسل والمجهول. فقال: إذا قال العدل: حدثني الثقة، أو من لا أتهمه، أو رجل عدل، ونحو ذلك. فإنه يقبل، وإن رددنا المرسل والمجهول; لأن ذلك تعديل صريح عندنا انتهى. وكذا قال ابن قاضي الجبل. ونقل ابن الصلاح عن أبي حنيفة: أنه يقبل].
قال ابن الوزير في التنقيح (2/ 171، 172 - مع التوضيح): [ثم ذكروا مسألة وهي: توثيق من لم يعرف عينه، ولم يسم، مثل قول العالم الثقة: حدثني الثقة، أو جميع من رويت عنه ثقة، واختاروا أنه لا يقبل؛ لجواز أن يعرف فيه جرح لو بينه، وهذا ضعيف؛ فإن توثيق العدل لغيره يقتضي رجحان صدقه، وتجويز وجود الجارح لو عرف هذا المُعَدَّل لا يعارض هذا الظن الراجح حتى يصدر عن ثقة ولو كان التجويز يقدح مع تسميته لأن التسمية لا تمنع من وجود جرح عند غير المعدل. فإن قالوا: لما لم يعلم حكمنا بالظاهر حتى نعلم، فكذلك هنا لا فرق بينهما، إلا أن طريق البحث غير ممكنة عند الإبهام، وقد يمكن عند التسمية، فيكون الظن بعد البحث عن المعارض وعدم وجدانه أقوى. وهذا الفرق ركيك؛ لأنا لم نتعبد بأقوى الظنون في غير حال التعارض؛ ولأن الطلب المعارض في هذه الصورة لا يجب؛ ولأن التمكن من البحث قد يتعذر مع التسمية فيلزم طرح توثيق من الفرض أن قبوله واجب.
ويمكن نصرة القول الأول - وهو عدم قبول تزكية المبهم - بأن الخبر عن التوثيق كالخبر عن التصحيح والتحليل والتحريم يمكن اختلاف أهل الديانة والإنصاف فيه بخلاف الأخبار المحضة فلا يجوز للمجتهد التقليد في التوثيق المبهم على هذا وهو محل نظر والله أعلم].
القول الثالث: القبول بشروط:
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (2/ 172): [واعلم أن في المسألة قولا ثالثا، حكاه البرماوي، قال: وهو الصحيح المختار الذي قطع به إمام الحرمين، وجريت عليه في النظم، وحكاه ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين: أنه إن كان القائل بذلك من أئمة هذا الشأن العارف بما يشترط هو وخصومه في العدل، وقد ذكر في مقام الاحتجاج فيقبل].
القول الرابع: التفصيل:
قال الصنعاني: [وقول رابع: وهو التفصيل، فإن عرف من عادته إذا أطلق ذلك أنه يعني به معيناً، وهو معروف بأنه ثقة، فيقبل، وإلا فلا، حكاه البرماوي أيضا عن حكاية شارح اللمع عن صاحب الإرشاد، والثالث قد أشار إليه الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها].
وقد اجتهد العلماء في بيان المراد بالثقة عند الإمام الشافعي، والإمام مالك، وغيرهما، وقال الصنعاني في التوضيح (1/ 320) بعد عرضه لبعض هذه الاجتهادات:[ذكر هذا البرماوي في شرح ألفيته في أصول الفقه، ثم نقل أقوالا غير هذه فيما يريده الشافعي بالثقة. قلت: وكلها تخمين وتظنن]
…
وقال الشيخ مقبل في المقترح بعد ذكره لكلام الصنعاني هذا: [يعنى لا يوجد جزم؛ لأن هذه مسألة استقراء تصيب وتخطئ].
القول الخامس:
قال ابن الصلاح في مقدمته (ص/61): [فإن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه على ما اختاره بعض المحققين. وذكر (الخطيب الحافظ): أن العالم إذا قال: كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أسمه. ثم روى عن من لم يسمه فإنه يكون مزكيا له، غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه].
(والقول الراجح هو القول بعدم قبول هذا الثوثيق أو التعديل؛ لأن الأصل في الرواة الجهالة، فلا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين. ولما كان الخبر عن التوثيق والتعديل يختلف باختلاف المُعَدِّل، فقد يُظهر له المُعَدَّل ما يجعله يحكم له بالعدالة أو التوثيق، في حين أنه لو صرح به لأنكشف حاله؛ وعليه فتمسكاً بالأصل الأول في الرواة، وحماية لجناب السنة، نختار القول بعدم قبول هذا التعديل أو التوثيق للمجاهيل والمبهمين. والله أعلم.
المسألة الخامسة: قول الراوي: حدثني من لا أتهم
.
قال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 311 (: [لو قال نحو الشافعي أخبرني من لا أتهم فهو كقوله أخبرني الثقة وقال الإمام الذهبي ليس بتوثيق لأنه نفي للتهمة وليس فيه تعرض لإتقانه ولا لأنه حجة قال ابن السبكي وهذا صحيح غير أن هذا
إذا وقع من الشافعي على مسألة دينية فهي والتوثيق سواء في أصل الحجة وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي أما من ليس مثله فالأمر كما قال انتهى قال الزركشي والعجب من اقتصاره على نقله عن الذهبي مع أن طوائف من فحول أصحابنا صرحوا به منهم: السيرافي، والماوردي، والروياني].
المسألة السادسة: يقبل التعديل على الإجمال:
قال ابن الصلاح في مقدمته (ص/61): [التعديل مقبول من غير ذكر سببه، على المذهب الصحيح المشهور؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جدا
…
].
الشرط الثاني من شروط الحديث الصحيح: الإتقان
.
قوله: [هو ما دَارَ على عَدْل مُتْقِنٍ].
ومتقن: اسم فاعل من الإتقان، والإتقان هو الإحكام.
قال الزبيدي في تاج العروس (1/ 7985): [(أتقن الأمر) اتقانا (أحكمه) وهو في الاصطلاح معرفة الأدلة وضبط القواعد الكلية بجزئياتها].
قال الجرجاني في التعريفات (1/ 23): [الإتقان معرفة الأدلة بعللها وضبط القواعد الكلية بجزئياتها وقيل الإتقان معرفة الشيء بيقين].
والمقصود بالإتقان هنا إحكام الحفظ أو الضبط التام، لا المعنى الاصطلاحي للإتقان؛ إذ لو كان مقصوداً لاشترط في راوي الصحيح معرفة أصول الرواية والدراية، وسيأتي من كلام الذهبي عدم اشتراط ذلك.
مسائل:
الأولى:
قال الإمام الذهبي في الموقظة: [تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد، ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ والإتقان، فإن انضاف إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ، فهو حافظ]
.
والذي يظهر من عبارته هذه: أنه يجعل
مرتبة الحافظ أعلى من مرتبة الثقة
، وذلك بزيادة المعرفة والإكثار لشروطه من عدالة وضبط وإتقان.
قال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/ 53): [وسئل الشيخ أبو الفتح بن سيد الناس عن حد المحدث والحافظ؟ فأجاب بأن المحدث في عصرنا هو من اشتغل بالحديث رواية ودراية وكتابة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتبصر بذلك حتى حفظه واشتهر فيه ضبطه، فإن انبسط في ذلك وعرف أحوال من تقدم شيوخه وشيوخ شيوخهم طبقة طبقة بحيث تكون السلامة من الوهم في المشهورين غالبة، ويكون ما يعلمه من أحوال الرواة كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا حافظ].
وقال ابن حجر في النكت (1/ 268): [للحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً:
1 -
وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف.
2 -
والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم.
3 -
والمعرفة بالتجريح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون.
فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً.]
…
(ومن هنا تظهر النكتة التي من أجلها عبر الذهبي رحمه الله بلفظ: متقن، بدلاً من حافظ؛ فليس من شرط رواة الصحيح اشتراط المعرفة والإكثار مع الضبط والإتقان فيهم.
…
فائدة: هل يلزم من قول المحدثين عن راو أنه (حافظ) أن يكون ضابطاً
؟!
ذهب الشيخ طارق عوض الله في كتابه " النقد البناء لحديث أسماء " إلى أن: وصف الراوي بأنه (حافظ) لا يلزم منه أن يكون ضابطاً، وقال: بدلالة وصفهم لبعض الرواة بأنهم حفاظ وهم ضعفاء، ولأنهم ربما وصفوا الراوي بـ (الحفظ) مع اتهامهم له في عدالته وصدقه.
وهذا التقعيد والتعميم في إطراد هذه الملازمة العكسية خطأ فإن الأصل في وصف المحدثين للراوي بأنه (حافظ) هو أن يكون ضابطاً، نعم قد يقصدون أحياناً بقولهم (حافظ) كثرة محفوظاته من مرويات ومسموعات، وإن لم يكن ضابطاً متقناً لما حفظه، ولكنهم لابد وأن يبينون وجه الضعف فيه عطفا على
وصفه بالحافظ فيقولون مثلا: حافظ، وهو ضعيف، والكلام في الإطلاق لا التقييد.
فهناك فرق بين إطلاق (حافظ) دون تقييد، وبين إطلاقها مع التعقيب عليها!؛ فالأصل أن إطلاق المحدث على راو أنه (حافظ) أي تام الضبط، إلا أنهم قد يريدون بـ (الحافظ) المكثر من المحفوظات، وحينها ينبهون على ذلك، فيعقبون على (حافظ) بقولهم (وله أوهام) أو (وله مناكير) ونحو ذلك من الألفاظ.
قال الشيخ العوني في "شرح الموقظة"(ص/186): (الأصل فيمن وصف بالحافظ أن يكون قد جمع مع الحفظ العدالة، وهذا خلاف ما قرره بعض المتأخرين من أن الراوي إذا وصف بأنه حافظ لا يحتج بحديثه؛ لاحتمال أن يكون غير عدل، وهذا خطأ، بل الصحيح أن من لم نجد فيه إلا الوصف بأنه حافظ فإنه حجة؛ لأنهم لا يطلقون هذا الوصف (دون قيد) إلا إذا أرادوا أنه قد جمع العدالة والضبط، بل يريدون ذلك .. وزيادة كما بيَّن الإمام الذهبي هنا. لكن إذا قالوا:(حافظ، وهو ضعيف) فهو خارج عن التقرير السابق؛ لأنه لميُطلق عليه لفظ الحفظ. بل مثل هذا الحكم وهو التضعيف مع الوصف بالحفظ لا يكون غالبا إلا في حق من كان ضعفه شديد؛ لأنه سيكون مطعونا في عدالته. وهذا كما وقع في حق بعض الحفاظ الكبار كسليمان بن داود الشاذكوني، ومحمد بن يونس الكديمي، وأبي الفتح الأزدي).
وهذا هو الظاهر من كلام الذهبي في مقولته السابقة - (تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد، ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ والإتقان، فإن انضاف إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ، فهو حافظ) - ومن خلال منهجه في تذكرة الحفاظ، ويؤيد ذلك أن المعنى اللغوي لكلمة حافظ تدل على استظهار ما حفظه، قال ابن سيده:(الحفظ نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة)؛ فعلى هذا لا يصح أن يُقال على من أكثر من القراءة في الكتب أنه (حافظ)، ولا على من أكثر من السماع من شيخه!، وإنما تُقال لمن يستظهر العلوم في صدره!، ولابد من وجود علاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي.
المسألة الثانية:
فرَّق أبو هلال العسكري في معجم الفروق اللغوية بين الإتقان والإحكام
، فقال
: [الفرق بين الإتقان والإحكام: أن إتقان الشيء إصلاحه وأصله من التقن وهو التَّرنُوق (1) الذي يكون في المسيل أو البئر وهو الطين المختلط بالحمأة يؤخذ فيصلح به التأسيس وغيره فيسد خلله ويصلحه فيقال أتقنه إذا طلاه بالتقن ثم استعمل فيما يصح معرفته فيقال أتقنت كذا أي عرفته صحيحا كأنه لم يدع فيه خللا، والإحكام إيجاد الفعل محكما ولهذا قال الله تعالى " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه " أي خلقت محكمة (2) ولم يقل أتقنت لأنها لم تخلق وبها خلل ثم سد خللها. وحكى بعضهم أتقنت الباب إذا أصلحته قال أبو هلال رحمه الله تعالى: ولا يقال أحكمته إلا إذا ابتدأته محكما.]
ومن تمام حفظ الراوي أنه يؤدي الحديث كما سمعه؛ وعليه فكان الأنسب للإمام الذهبي التعبير بلفظ: مُحْكِم، بدلاً من: متقن، أو يعبر بلفظ ضابط كما استخدمه حيث قال:[فالمجُمْعُ على صِحَّتِه إذاً: المتصلُ السالمُ من الشذوذِ والعِلَّة، وأنْ يكون رُواتُه ذوي ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدليس].
والتعبير بالأخير المشهور المتداول هو الأولى، وضبط الشيء شدة الحفظ له لئلا يفلت منه شئ، وهو بمعنى الإتقان هنا.
المسألة الثالثة: الكلام على الضبط:
1 - تعريف الضبط:
أ - تعريفه لغة:
قال المناوي في التعاريف (1/ 469): [الضبط لغة الحزم وعرفا سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهم معناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل المجهود وهو الثبات عليه بمذاكرته إلى حين أدائه إلى غيره كذا ذكره ابن الكمال وفي المصباح
(1) - أي الطين الذي يرسب في مسايل المياه.
(2)
- معتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة كما شاء، غير مخلوق ولا مربوب، منه سبحانه وتعالى خرج وإليه يعود، وللرد على الجهمية القائلين بأن القرآن مخلوق مجال ليس هذا محله، وانظر المجلد الثاني عشر من فتاوى تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.
ضبطه حفظه حفظا بليغا ومنه ضبطت البلاد وغيرها قمت بأمرها قياما لا نقص فيه].
قال الزبيدي في تاج العروس (مادة ضبط): [ضَبَطَهُ يَضْبُطه ضَبْطاً وضَبَاطَةً بالفَتْحِ: حَفِظَهُ بالحَزْمِ فهو ضَابِطٌ أَي حازِمٌ. وقالَ اللَّيْثُ: ضَبْطُ الشَّيْءِ: لُزُومُه لا يُفارِقُه يُقَالُ ذلِكَ في كلِّ شيءٍ. وضَبْطُ الشَّيْءِ: حِفْظُه بالحَزْم. وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: ضَبَطَ الرَّجُلُ الشَّيءَ يَضْبُطُه ضَبْطاً إِذا أَخَذَه أَخْذاً شَديداً ورَجُلٌ ضَابِطٌ وضَبَنْطَى
…
].
ب - اصطلاحاً:
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (1/ 8): [الضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا. - أي في تعريف الحديث الصحيح -].
قال الشيخ السماحي في المنهج الحديث - قسم الرواة (ص/69) في تعريف الضبط اصطلاحاً: [أن يكون الراوي متيقظا (1)، غير مغفل (2)، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه من التبديل والتغيير إن حدث منه، ويشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعنى إن روى به].
قال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/ 102):] أن الضبط عبارة عن موافقة الثقات فيما يروونه].
قال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/ 105): [الضابط من الرواة هو الذي يقل خطؤه في الرواية وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده].
(1) - قال السماحي في شرح التعريف: أي في حال التحمل والأداء، فخرج من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه: كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح، ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث، وكذلك من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه.
(2)
- قال السماحي: والغفلة الذهول.
2 - أقسام الضبط:
قال الشيخ السماحي في المنهج الحديث قسم الرواة (ص/74: 77): [ينقسم الضبط باعتبار الحفظ والصيانة إلى ضبط صدر، وضبط كتاب، وباعتبار اللفظ والمعنى إلى ضبط لفظ، وضبط معنى، وباعتبار قوته وضعفه إلى مرتبة عليا، ووسطى، ودنيا:
1 -
ضبط صدر: قال ابن حجر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
قال الملا: (ضبط صدر) أي إتقان قلب وحفظ.
(ما سمعه) أي من الحديث ورواته.
(يتمكن) أي يقتدر.
(متى شاء) الأظهر إذا شاء أي حين أراد أن يحدث به
…
اهـ.
أما الكمال فعرفه عند الحنفية بأنه توجه الراوي بكليته إلى كله عند سماعه، ثم حفظه بتكريره، ثم الثبات عليه إلى أدائه. اهـ
…
فقوله: (توجه الراوي بكليته إلى كله عند سماعه) هو مثل قول المحدثين: (أن يكون الراوي متيقظاً غير مغفل). وقوله: (ثم حفظه بتكريره، ثم الثبات عليه إلى أدائه) مثل قول ابن حجر: (أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء). ولعل قوله (إلى كله) يريد إلى لفظه ومعناه.
2 -
ضبط كتاب: قال ابن حجر: وهو صيانته لديه، منذ سمعه فيه وصححه إلى أن يؤدي منه.
قال الملا: (صيانته لديه) أي حفظ الكتاب عنده من غير أن يعيره بحيث لا أمن من تغيير المستعير، فلا يضر وضعه أمانة عند غيره.
(منذ سمع فيه) أي من ابتداء زمان سماعه في ذلك الكتاب.
(وصححه) حتى لا يتطرق الخلل إليه.
(إلى أن يؤدي) أي الحديث.
(منه) أي من الكتاب
…
]. اهـ كلام الشيخ السماحي.
وأما الكلام على تقسيم الضبط إلى: ضبط لفظ، وضبط معنى، فسوف يأتي
الكلام عليه - بمشيئة الله - في محله من الموقظة.
وأما تقسيم الضبط باعتبار قوته وضعفه إلى: مرتبة عليا، ووسطى، ودنيا. فقال الشيخ السماحي عقب ذكره لقول الكمال في الضبط:(وَيُعْرَفُ بِالشُّهْرَةِ، وَبِمُوَافَقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ، أَوْ غَلَبَتِهَا، وَإِلَّا فَغَفْلَةٌ): فاعتبر الكمال الموافقة في اللفظ والمعنى، أو غلبة الموافقة، واعتبر عدم الموافقة أو غلبتها غفلة بقوله:(وإلا) أي وإن لم يعرف بالموافقة أو غلبتها (فغفلة)، فالموافقة التامة هي العليا، وغلبة الموافقة هي الوسطى والدنيا].
وقد قسمها الصنعاني بأوسع من ذلك حيث قال في توضيح الأفكار تعليقاً على عبارة ابن الوزير في التنقيح (1/ 9: 12): [(ولا بد من اشتراط الضبط؛ لأن من كثر خطؤه عند المحدثين استحق الترك) المعنى استحقاق كثير الخطأ الترك عند أئمة الحديث (وإن كان عدلا) إذا العدالة لا تنافي كثرة الخطأ في الرواية إذ مدرك ذلك عدم تمام الضبط ومدرك العدالة غيره وهذا في كثرة الخطأ وأما خفته فإنه يكون الراوي معه مقبولا ويصير حديثه حسنا كما قال الحافظ
…
(وكذلك) أي يستحق الترك (عند الأصوليين إذا كان خطؤه أكثر من صوابه، واختلفوا) أي الأصوليون لا أهل الحديث فإنه يعلم أنهم إذا تركوا من كثر خطؤه فتركهم من تساوي خطؤه وصوابه بالأولى، والفرق بين: كثيرا وأكثر ظاهر، فهذان قسمان، والثالث أشار إليه بقوله (إذا استويا فالأكثر منهم) أي الأصوليين (على رده) لعدم الظن بصدقه (لأنه لا يحصل الظن بصدقه) ولا يقبل إلا ما يظن صدقه وإلا كان تحكما وهذا ثالث الأقسام، ورابعها أن يخف ضبطه وهذا لم يذكره المصنف، وقد أشرنا إليه، وخامسها من صوابه أكثر من أخطائه، وهو مفهوم كلام المصنف حيث قال لأن من كثر خطؤه عند المحدثين واستحق الترك كما سلف وهذا يحتمل أنه الخفيف الضبط فهو مقبول عند المحدثين لكن حديثه حسن لا صحيح عندهم ويكون مقبولا عند الأصوليين
…
ثم قال: اعلم أنه يتصور هنا أربع صور:
الأولى: تام الضبط.
الثانية: من تساوى ضبطه وعدمه.
الثالثة: من كان ضبطه أكثر من عدمه.
الرابعة: من عدم ضبطه أكثر من ضبطه.
وينضاف إليها صورتان: الأولى: من قل غلطه. والثانية: من كثر غلطه.
الأولى من الأربع بشرط الصحيح، والخامسة شرط الحسن؛ فإن قلة الضبط هي خفته، والسادسة هي التي قال المصنف: إنه يستحق صاحبها الترك عند المحدثين، وأما من صوابه أكثر من خطائه وهي الصورة الثالثة فمفهوم كلام المصنف أن صاحبها مقبول عند الأصوليين ويحتمل أنها صورة خفة الضبط عند المحدثين فيكون مقبولا عندهم أيضا فأنا لم ترهم عينوا خفة الضبط برتبة يتميز بها عن غيره، وعلى هذا فقد قبل المحدثون أهل هذه الصفة في رجال الحسن فلا يتم قول المنصف إن في دعوى الفقيه عبد الله الإجماع نظرا لمخالفة المحدثين فإن الفقيه عبد الله ادعى الإجماع على قبول من صوابه أكثر من خطائه وهو فيما يظهر لنا خفيف الضبط فيتم دعواه الإجماع على قبوله من الفريقين لكنه شرط للحسن، والفقيه عبد الله إنما يتكلم على مجرد القبول، لا على ما هو شرط الصحيح؛ ويدل لذلك أن المحدثين جعلوا من القوادح في الراوي فحش غلطه، أي كثرته، وسوء حفظه، وهو عبارة عمن يكون غلطة أكثر من إصابته، هكذا ذكره الحافظ في النخبة وشرحها فالذي ذكر المحدثون أربع صور: تام الضبط، خفيفه، كثير الغلط، من غلطة أكثر من حفظه، فالأوليان مقبول من اتصف بهما
، والأخريان مردود من اتصف بهما].
3 - هل يقع الوهم في الكتاب كما يقع في الحفظ:
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (2/ 120):] واعلم أن قدمنا لك أنهم اختاروا في رسم الصحيح أن يكون راويه تام الضبط، كما قال في النخبة: عدل تام الضبط، وتبعه المصنف في مختصره كما قدمنا لفظه، وفي شرح النخبة: وقيد بالتمام إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك، قال ملا على: والمعنى أنه لا يكفي في الصحيح لذاته بمسمى الضبط على ما هو المعتبر في الحسن لذاته وكذا في الصحيح لغيره يكتفي بمجرد الضبط انتهى. ولا يخفي أن هذا في ضبط الصدر، قال ملا على: وأما ضبط الكتاب فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه النقصان،
ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره، وإن كان يختلف ضبط الكتاب باختلاف الكُتَّاب].
وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 304):] ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي في الأطراف: أن الوهم تارة يكون في الحفظ، وتارة يكون في القول، وتارة في الكتابة، قال: وقد روى مسلم حديث: " لا تسبوا أصحابي " عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر، وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية عن، الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ووهم عليهم في ذلك إنما رووه عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن أبي سعيد كذلك، رواه عنهم الناس كما رواه ابن ماجه عن أبي كريب أحد شيوخ مسلم فيه قال: والدليل على أن ذلك وقع منه في حال كتابته لا في حفظه أنه ذكر أولا حديث أبي معاوية ثم ثنى بحديث جرير وذكر المتن وبقية الإسناد ثم ثلث بحديث وكيع ثم ربع بحديث شعبة ولم يذكر المتن ولا بقية الإسناد عنهما بل قال عن الأعمش بإسناد جرير وأبي معاوية بمثل حديثهما فلولا أن إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد لما جمعهما في الحوالة عليهما].
والصحيح إمكان وقوع الوهم في الكتاب وهو قليل بالنسبة لوقوعه في ضبط الصدر، وترجم الذهي في كتابه "المغني في الضعفاء" لابن سعدون بذلك فقال:(مُحَمَّد بن سعدون الأندلسي لَقِي ابْن الْورْد، قَالَ ابْن الفرضي: ضَعِيف الْكتاب غير ضَابِط (1)).
4 - بمَّ يعرف ضبط الصدر
؟
قال ابن الصلاح في مقدمته (ص/61): [يعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر روايته بروايات الثقاة المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى - لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم].
وقال ابن أمير الحاج في التقرير والتحبير شرح تحرير ابن الهمام (2/ 242) عند الكلام على شرائط الراوي: [(وَمِنْهَا رُجْحَانُ ضَبْطِهِ عَلَى غَفْلَتِهِ لِيَحْصُلَ
(1) - انظر "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي (2/ 107).
الظَّنُّ) بِصِدْقِهِ إذْ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ وَالْحُجَّةُ هِيَ الْكَلَامُ الصِّدْقُ (وَيُعْرَفُ) رُجْحَانُ ضَبْطِهِ (بِالشُّهْرَةِ وَبِمُوَافَقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ) أَيْ بِالضَّبْطِ فِي رِوَايَتِهِمْ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى (أَوْ غَلَبَتِهَا) أَيْ الْمُوَافَقَةِ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يَعْرِفْ رُجْحَانَ ضَبْطِهِ بِذَلِكَ (فَغَفْلَةٌ)].
@ وللشيخ المأربي بحث جبد حول هذه المسألة فقال - حفظه الله - في "الجواهر السليمانبة شرح المنظومة البيقونية"(ص/61): (يعرف العلماء ذلك بأمور:
1 -
استفاضة ضبط الراوي بين الأئمة، وهذه الصورة هي أعلى الصور في هذا الباب.
2 -
تزكية بعض أئمة الجرح والتعديل للراوي بأنه يحفظ حديثه ويتقنه.
3 -
سَبْر روايات الراوي، ومقارنتها بروايات غيره من الثقات؛ لينظر هل يوافقهم أم يخالفهم؟ ويُحْكَم على حديثه بعد ذلك بما يستحق، كما قال ابن معين: قال لي إسماعيل بن علية يومًا: كيف حديثي؟ قلت: أنت مستقيم الحديث، فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ قلت له عارَضْنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة، فقال: الحمد لله. . . اهـ (1).
4 -
إذا نصُّوا على أن الراوي ثقة، وليس له كتاب، فهذا يدل على أنه يحفظ حديثه في صدره.
5 -
ومن ذلك قول الراوي عن نفسه:" ما كتبت سوداء في بيضاء " أو " ما يضُرُّني أن تُحْرَق كتبي" ونحو ذلك مما يدل على إتقانه لحديثه.
6 -
باختبار الراوي، وللاختبار صور، منها:
أ - أن يأتي إليه أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسأله عن بعض الأحاديث، فيحدثه بها على وجه ما، ثم يأتي إليه بعد زمن، فيسأله عن الأحاديث نفسها، فإن أتى بها كما سمعها منه في المرة الأولى؛ علم أن الرجل ضابط لحديثه، ومتقن له، أما إذا خَلَّط فيها، وقَدَّم وأَخَّر؛ عَرَفَ أنه ليس كذلك، وتكلم فيه على قدر خطئه
(1) - انظر " سؤالات ابن محرز "(2/ 39) اهـ نقلاً عن " الإرشادات "(ص 21) للشيخ طارق عوض الله - حفظه الله -.
ونوعه، فإن كانت هذه الأخطاء يسيرة عددا ونوعا؛ احتملوها له إذا كان مكثرا، وإلا طُعِن فيه.
ومسألة كثرة الخطأ وقلته مسألة نسبية، ترجع إلى كثرة حديث الراوي وقلته، فمن كان مكثرًا من أحاديثه الصحيحة، وأخطأ في أحاديث قليلة؛ احْتُمِل له ذلك الخطأ، كمن كان عنده عشرة آلاف حديث - مثلاً - وأخطأ في عشرين حديثًا منها، وهذا بخلاف من لم يكن عنده إلا حديث واحد - مثلا - وأخطأ فيه، فمثل هذا يكون متروكا، أو كمن عنده عشرة أحاديث، وأخطأ في خمسة منها؛ فهذا يطعن فيه مع أن الخطأ في عشرين حديثًا، أو خمسين حديثًا، لا يضر من كان مكثرًا، واسع العلم والحصيلة.
إلا أن النظر لا يقتصر على مسألة القلة والكثرة فقط، بل يُراعَى في ذلك أيضاً نوع الخطأ: فقد يكون الخطأ قليلاً، إلا أنه فاحش، فيذهب بحديث الراوي، كما جاء عن الدارقطني أنه قال في الربيع بن يحيى بن مقسم: حَدَّث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر، قال: جَمَع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بين الصلاتين، ثم قال: وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولاجمل، وهذا يُسقط مائة ألف حديث " وقال أبو حاتم في "العلل ":" هذا باطل عن الثوري " اهـ (1).
ب - وهناك صورة أخرى لاختبار الرواة لمعرفة ضبطهم، وهي أن يُدْخِل الإمام منهم في حديث الراوي ما ليس منه، ثم يقرأ عليه ذلك كله، موهمًا أن الجميع حديثه، فإن أقره وقبله، مع ما أُدخل فيه؛ طعن في ضبطه، وإن ميز حديثه من غيره؛ علم أن الرجل ضابط، ومثال ذلك: ما حصل من يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي (2) ولعل لذلك صلة بالتلقين الآتي في الصورة الثالثة.
ج - ومن صور الاختبار - أيضًا - أن يلقن الإمام منهم الراوي بقصد اختباره شيئا في السند أو في المتن، لينظر هل سيعرف ويميز؛ فيرد ما لُقِّنَه، أو لا يميز؛ فيقبل ما أُدخل عليه، فإن ميز؛ فهو ضابط، وإلا فغير ضابط.
ومن قبول التلقين: أن يسأل الإمامُ أحدَ الرواة عن مجموعة من الأحاديث،
(1) - انظر: " تهذيب التهذيب "(2/ 227).
(2)
- انظر " تاريخ بغداد "(3/ 353) ترجمة أبي نعيم.
أي هل حدثك فلان بكذا وكذا، وليس ذلك من حديثه، فإن أجابه بنعَم؛ عَرف ضعفه وغفلته، ويُعبِّر علماء الجرح والتعديل عن الراوي الضعيف في مثل ذلك بقولهم:" فلان يُجيب عن كل ما يُسْأل عنه " والله أعلم.
د - إغراب إمام من الأئمة على الراوي بالحديث، فيقلب سنده، أو متنه، أو يركب سند حديث على متن حديث آخر، أو العكس، ليعرف ضبط الراوي من عدمه أو قلته، ويحكم عليه بما يستحق حسب حِذْقه، وفطنته، وضبطه، أو غفلته، وعدم فهمه، وهذا يفعله الشيوخ مع تلاميذهم لمعرفة نباهتهم وتيقظهم، والعكس، كما جرى من حماد بن سلمة مع ثابت البناني (1).
7 -
وكذلك يُعرف الضبط بالمذاكرة، كما قال أبوزرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: ومايدريك؟ قال: ذاكرتُه، فأخذت عليه الأبواب " اهـ (2).
8 -
بالنظر في كتاب الراوي: فيُعرف اختلاطه - مثلاً - وذلك إذا كانت رواية القدماء عنه مستقيمة، ورواية الأحداث عنه مضطربة، فَيُعْلَم من ذلك اختلاطه بأخرة.
بل يُعلم من خلال النظر في الكتاب: هل هو مدلِّس أم لا؟ فإن كانت رواياته التي صرح فيها بالسماع عن الثقات مستقيمة، والتي يعنعن فيها مضطربة، وكذا التي قد يُظهر فيها واسطة ضعيفة، عُلم بذلك تدليسه، فمن خلال النظر في الكتاب يُعلم ضبط الراوي وعدمه، والله أعلم).
5 - بم يعرف ضبط الكتاب
؟
وقال الشيخ المأربي (ص/65): (يُعْرف ذلك بعدة أمور:
1 -
التنصيص من إمام على أن فلانًا صحيح الكتاب، أو أن كتابه هو الحَكَم بين المحدثين، أو أن كتابه كثير العجم والتنقيط، ونحو ذلك مما يدل على ضبطه لكتابه.
2 -
أن يصرح الراوي الثقة بضبطه كتابه، كأن يقول: إذاكان كتابي معي
(1) - انظر " الجرح والتعديل "(2/ 449).
(2)
- انظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/85).
فلا أبالي أن يكون فلان من الأئمة عن يميني، والآخر عن شمالي.
3 -
التنصيص على أن أصل الراوي الذي يُحدِّث منه مُقَابلٌ على أصل شيخه، أو على نسخة معتمدة منه.
4 -
أن يوافق حديثُهُ الذي يرويه من كتابه حديثَ الثقات، فإن هذا يدل على ضبطه لكتابه، وقد يكون عنده ضبط صدر، وقد لايكون.
5 -
التنصيص على أنه لم يكن يُعير كتابه، ولايُخْرِج أصله من عنده؛ لأن فاعل ذلك قد ينسى المعار إليه، وقد يعيره للمأمون وغير المأمون؛ فيؤدي ذلك إلى إدخال شئ في كتابه، وهو ليس من حديثه، وقد لا يميز ذلك، لاسيما إذا لم يكن عنده حفظ وإتقان لحديثه، فيسقط حديثه).
المسألة الرابعة:
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (1/ 8): [(ولم يشترط) الخطابي في رسم الصحيح (الضبط) كما اشترط غيره من أئمة الحديث، قال السيوطي في شرح ألفيته: قال الحافظ ابن حجر: قول الخطابي (وعدلت نقلته) مغن عن التصريح باشتراط الضبط؛ لأن المعدل من عدله النقاد أي وثقوه، وإنما يوثقون من اجتمع فيه العدالة والضبط بخلاف من عرفه بلفظ العدل فيحتاج إلى زيادة قيد الضبط فلا اعتراض عليه].
ولا يخفى ما فيه من تكلف، فظاهر قوله:(وعدلت نقلته) أي شهدوا له بالعدالة، وأما الضبط فهو شرط زائد على ذلك وليس في عبارة الإمام الخطابي ما يشير إلى اشتراطه، وظاهر كلام الحافظ التسوية بين قولهم:(وعدلت نقلته)، و:(وثقت نقلته)، والله أعلم.
المسألة الخامسة:
قال الإمام الذهبي في الموقظة: [تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد، ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ والإتقان]. فظاهر هذه العبارة أن الثقة عنده من جمع مع العدالة الضبط والإتقان؛ وعليه فقد تعقب البعض الذهبي بأنه قد أسهب في عبارة التعريف، وكان الأخصر أن يقول: هو ما دار على ثقة.
قال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 63): [كان الأخضر أن يقول - أي
النووي في التقريب -: بنقل الثقة؛ لأنه من جمع العدالة، والضبط، والتعاريف تصان عن الإسهاب].
وهذا التعقب ليس بشيء، فقد آثر الذهبي التطويل، وعدل عن الاختصار؛ زيادةً في البيان، ودفعاً للتوهم، فقد بين رحمه الله أن الثقة عند المتأخرين يطلق على من لم يُجْرَح، مع ارتفاع الجهالةِ عنه، قال الإمام الذهبي في الموقظة:[وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين، إطلاقُ اسم (الثقة) على من لم يُجْرَح، مع ارتفاع الجهالةِ عنه. وهذا يُسمَّى: مستوراً، ويُسمىَّ: محلهُّ الصدق، ويقال فيه: شيخ].
وقد أشار طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/ 181) إلى هذا التعقب على التعريف، وأجاب عنه بنحو ذلك فقال:[فأورد عليه بأن الاختصار يقتضي أن يقال: بنقل ثقة عن مثله؛ فإن الثقة هو الجامع بين وصف العدالة والضبط، وأجيب عن ذلك: بأن الثقة قد يطلق على من كان مقبولا، وإن لم يكن تام الضبط، والمعتبر في حد الصحيح إنما هو تام الضبط، ولذا فسروا الضابط في تعريفه بتام الضبط].
قوله: (واتَّصَل سَنَدُه).
فيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الاتصال:
أ - لغة:
قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: [وَصَلَ الشيءَ بالشيءِ وَصْلاً وصُلَةً بالكسر والضم ووصَّلَهُ: لأَمّهُ ووصِلَكَ اللهُ بالكسرِ لُغَةٌ والشيءَ وإليه وُصولاً ووُصْلَةً وصِلَةً: بَلَغَهُ وانتهى إليه. وأوْصَلَهُ واتَّصَلَ: لم يَنْقَطِعْ
…
].
…
ب ـ اصطلاحاً:
قال الحافظ في شرح النخبة (ص/25): [المتصل: ما سلم إسناده من سقوط فيه، بحيث يكون كل من رجاله سمع ذلك المروي من شيخه].
تنبيه:
قال طاهر الجزائري في توجيه النظر (1/ 174): [تنبيه: لا يقال المتصل في
حال الإطلاق إلا في المرفوع والموقوف، وأما في حال التقييد فيسوغ أن يقال في المقطوع، وهو واقع في كلامهم يقولون: هذا متصل إلى سعيد بن المسيب، أو إلى الزهري، أو إلى مالك] (1).
المسألة الثانية: معنى السند:
أ- لغة:
قال الجوهري في "الصحاح": [السَنَدُ: ما قابلك من الجبلِ وعلا عن السفح. وفلان سَنَدٌ، أي معتمَدٌ. وسَنَدْتُ إلى الشئ أسند سنودا، واستندت بمعنى. وأَسْنَدْتُ غيري. والإسنادُ في الحديث: رفْعُه إلى قائله].
ب ـ اصطلاحاً:
قال السخاوي في فتح المغيث (1/ 16): [المتصل الإسناد: أي السالم إسناده، الذي هو كما قال شيخنا في شرح النخبة: الطريق الموصلة إلى المتن، مع قوله في موضع آخر منه: إنه حكاية طريق المتن، وهو أشبه فذاك تعريف السند].
قال ابن جماعة في المنهل الروي (1/ 29): [وأما السند فهو الإخبار عن طريق المتن، وهو مأخوذ إما من السند وهو ما ارتفع وعلا عن سفح الجبل لأن المسند يرفعه إلى قائله، أو من قولهم فلان سند أي معتمد، فسمي الإخبار عن طريق المتن سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه. وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله والمحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء واحد].
قال الصنعاني في توضيح الأفكار: (1/ 8): [السند هو الإخبار عن طريق المتن من قولهم (فلان سند) أي معتمد سمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعه عليه وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله وقد يستعمل كل منهما في مكان الآخر فقوله (ما اتصل سنده) احتراز عن المتقطع وهو الذي لم يتصل سنده بأقسامه ويأتي بيان أقسامه في كلام المصنف].
المسألة الثالثة: بمَّ يعرف اتصال السند؟
قال الفهري في السنن الأبين (ص/ 41 - 42: ([اعلم أن البيِّن اتصاله من الحديث ما قال فيه ناقلوه: سمعت فلانا، أو حدثنا، أو أنبانا، أو نبأنا، أو أخبرنا
(1) - وسوف يأتي بإذن الله ذكر الخلاف في هذه المسألة في باب المتصل في محله من الرسالة.
، أو خبرنا، أو قرأ علينا، أو قرأنا، أو سمعنا عليه، أو قال لنا، أو حكى لنا، أو ذكر لنا، أو شافهنا، أو عرض علينا، أو عرضنا عليه، أو ناولنا، أو كتب لنا إذا كتب له ذلك الشيء بعينه وكان يعرف خط الكاتب إليه، وفي اعتماده على إخبار الموصل الثقة بأنه خطه وكتابه وإلغاء الواسطة نظر الأصح إلغاؤها والأخلص اعتبارها وتبيين الحالة كما وقعت أو ما أشبه ذلك من العبارات المثبتة للاتصال النافية للانفصال فهذه كلها لا إشكال في اتصالها لغة وعرفا إذا كان الطريق كله بهذه الصفة وإن خالف بعضهم في بعضها.
وهذا الذي قلناه قبل أن يشيع اختصاص بعض هذه الألفاظ بالإجازة المعينة أو المطلقة على ما هو المعلوم من تفاصيل مذاهب المحدثين في ذلك ومن تخصيص بعض هذه الألفاظ ببعض الصور تمييزا لأنواع التحمل وتحرزا من الراوي تظهر به نزاهته على ما هو مفسر في مواضعه.
ويتلو ذلك ما شاع في استعمال المسندين وذاع في عرف المحدثين عند طلب الاختصار من إبراز عن في معرض الاتصال وهو الذي قصدناه].
وقال المليباري في رسالته علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد: [وأما العنصر الثاني - أي اتصال السند - فيعرف بما يلي:
1 -
تصريح كل من سلسلة الإسناد بما يدل على سماعه للحديث من مصدره الذي روى عنه ذلك الحديث، كقوله ك (سمعت فلاناً) أو (سمعنا فلاناً) أو (حدثني فلان) أو (حدثنا) أو (قرأت عليه) أو (حدثني قراءة عليه) أو (حدثنا قراءة عليه) أو (أخبرني) أو (أخبرنا) أو (أنبأني) أو (أنبأنا) أو (قال لي) أو (قال لنا)، أو نحو ذلك من العبارات الدالة على أن الراوي قد لقي من فوقه، وأنه سمع منه ذلك الحديث.
2 -
عنعنة الراوي، إذا لم يكن مدلساً، أو مرسلاً، فتفيد عنعنته الاتصال، وأما إن كان الراوي المعنعن مدلساً، فعنعنته تحمل على الانقطاع لقوة احتمال تدليسه في الإسناد بإسقاط شيخه الذي سمع منه هذا الحديث.
وكذا الأمر إذا اختلف العلماء في سماع الراوي ممن فوقه عموماً، ولم يتبين الراجح في ذلك، فإن الحكم على الإسناد باتصاله حينئذ متوقف على ما يزول به
احتمال الانقطاع، من القرائن
…
].
قوله: (واتَّصَل سَنَدُه؛ فإن كان مُرسَلاً ففي الاحتجاج به اختلاف)
.
ظاهر هذه العبارة أنه يرى أن المرسل لم يتحقق فيه شرط اتصال السند، وأن العلماء من المحدثين والفقهاء مختلفون في الاحتجاج به، وسوف يأتي من كلامه أن المرسل منه: الصحيح، والحسن، والضعيف، والمطروح، والموضوع.
وسوف يأتي الكلام على تعريف المرسل، والخلاف في الاحتجاج به، ومسائل كثيرة متعلقة به في محله من الرسالة - إن شاء الله -.
قوله: (وزاد أهلُ الحديث: سلامتَهُ من الشذوذِ والعِلَّة. وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها).
فيه مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الشاذ:
وسيأتي بمشيئة الله تعالى الكلام عليه تفصيلياً في محله من الرسالة.
المسألة الثانية:
قال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/ 102): [هلا اكتفى - أي ابن الصلاح - بقوله " الضابط " عن قوله " ولا يكون شاذا "؛ لأن الضبط عبارة عن موافقة الثقات فيما يروونه فإن خالفهم لم يكن ضابطا، وهذا معنى الشاذ؟ فالجواب عن ذلك: أن مخالفة الثقات على قسمين: غالبة، ونادرة، فمتى خالف الثقات فيما رواه غالبا لم يكن حافظا، ومتى خالفهم نادرا ولو في حديث واحد كانت مخالفته شذوذا، فاحتاج المصنف أن يذكر في حد الصحيح السلامة من الشذوذ، وكون الراوي ضابطا.
فإن قيل: هلا اكتفى بذكر السلامة من الشذوذ عن اشتراط الضبط في الراوي؛ لأن الشاذ هو الفرد المخالف، وإخلال الضبط يوجد لمخالفة الثقات غالبا، فحيث جعلنا الشذوذ يمنع من الحكم على الحديث بالصحة، وهو المخالفة في فرد واحد فبطريق أولى أن يمنع من خالف ففي أفراد كثيرة غالبة على رواية الثقات، وهو الذي قيل إنه يحصل به اختلال الضبط؟ فالجواب أنه أراد أن ينص عليها حتى يعلم ذلك بطريق
المنطوق].
ومما يوضح ضررة التنصيص على اشتراط الضبط في الحديث الصحيح وعدم الاكتفاء بنفي الشذوذ أنه ليس كل مخالفة تكون شاذة، فقد تكون الزيادة في المتن بيانية، وفي السند من المزيد في متصل الأسانيد، فالاقتصار على اشتراط الخلو من الشذوذ دون الضبط يفتح المجال للاختلاف في شروط الحديث الصحيح تبعا للاختلاف في حقيقة الشاذ وضوابط رد الزيادات أو قبولها، بخلاف التنصيص على ضبط الراوي فهو محل اتفاق بين العلماء.
أضف إلى أنه قد يفهم من اشتراط نفي الشذوذ دون التصريح باشتراط الضبط أنه يشترط في الحديث الصحيح أن يكون له طرق سالمة من المخالفة، فلا يشمل الأحاديث الغريبة.
المسألة الثالثة: الكلام على العلة
(1):
1 - معنى العلة:
أ - لغة:
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة مادة (عل): [(عل) العين واللام أصول ثلاثة صحيحة: أحدها تكرُّرٌ أو تكرير، والآخر عائق يعوق، والثالث ضَعف في الشَّيء.
فالأوَّل العَلَل، وهي الشَّرْبة الثانية. ويقال عَلَلٌ بعد نَهَل. والفعل يَعُلُّون عَلاًّ وعَلَلاً، والإبل نفسها تَعُلّ عَلَلا. قال:
عافَتا الماءَ فلم نُعْطِنْهُما
…
...
…
إنَّما يُعْطِن من يرجو العَلَلْ
وفي الحديث: " إذا عَلَّهُ ففيه القَود "، أي إذا كرَّر عليه الضَّربَ. وأصله في المشْرَب. قال الأخطل:
(1) - الإمام الذهبي رحمه الله لم يفرد الكلام على الحديث المُعل، ولكنه ذكره مساوياً بينه وبين المضطرب، وحقيقة الأمر أن المضطرب داخل في قسم العلل، ولذا فإنني رأيت أنه من الفائدة هنا الكلام على الحديث المُعل بشيء من التفصيل؛ وذلك لأن العلة هي دعامة هذا العلم، وقد أهمل الكثيرون إعمالها من الناحية العملية، أو أنهم تبنوا فيه قولاً جانبه الصواب، ولذا فإنني رأيت أن أدون هنا شتات ما تفرق - مما وقفت عليه - حول هذا الموضوع، والله المستعان.
إذا ما نديمي عَلَّنِي ثمَّ عَلَّني
…
...
…
ثلاثَ زُجاجاتٍ لهنَّ هديرُ
ويقال أعلَّ القومُ، إذا شربت إبلُهم عَلَلا. قال ابنُ الأعرابيّ: في المثل: "ما زيارتُك إيّانا إلَاّ سَوْمَ عالَّة" أي مثل الإبل التي تَعُلّ. و"عَرَض عليه سَوْم عالّة". وإنّما قيل هذا لأنها إذا كرَّرَ عليها الشُّرْب كان أقلَّ لشُربها الثاني.
ومن هذا الباب العُلَالة، وهي بقيّة اللَّبن. وبقيّةُ كلِّ شيء عُلالة، حتى يقالُ لبقيّة جَري الفرس عُلالة.
قال:
إلاّ عُلالة أو بُدَاهةَ
…
...
…
قارحٍ نهدِ الجُزارَه
وهذا كلُّه من القياس الأول؛ لأنَّ تلك البقيَّة يُعاد عليها بالحلب. ولذلك يقولون: عالَلْتُ النّاقة، إذا حَلبتها ثم رفَقت بها ساعةً لتُفِيق، ثم حلبتها، فتلك المُعَالّة والعِلَال. واسم اللَّبن العُلالة. ويقال إنَّ عُلالَة السَّير أن تظنَّ الناقةَ قد ونت فتضربَها تستحثُّها في السَّير. يقال ناقةٌ كريمة العُلالة. وربما قالوا للرّجُل يُمدح بالسَّخاء: هو كريم العُلالة، والمعنى أنَّه يكرِّر العطاءَ على باقي حالِه. قال:
فإلَاّ تكنْ عُقبي فإنَّ عُلَالةً
…
على الجهد من ولد الزّناد هَضومُ
وقال منظور بن مَرثد في تعالِّ النّاقة في السَّير:
وقد تعاللتُ ذَمِيل العَنْسِ
…
...
…
بالسَّوط في ديمومةٍ كالتُّرْسِ
…
والأصل الآخَر: العائق يعوق. قال الخليل: العِلّة حدَثٌ يَشغَلُ صاحبَه عن وجهه. ويقال اعتلَّه عن كذا، أي اعتاقه. قال: فاعتلَّهُ الدّهرُ وللدّهرِ علَلْ.
والأصل الثالث: العِلّةُ: المرض، وصاحبُها مُعتلّ. قال ابنُ الأعرابيّ: عَلّ المريض يَعِلُّ عِلّة فهو عليل. ورجل عُلَلَة، أي كثير العِلَل.
ومن هذا الباب وهو باب الضَّعف: العَلُّ من الرِّجال: المُسِنّ الذي تَضاءل وصغُر جسمُه. قال المتَنَخِّل:
ليس بعلٍّ كبيرٍ لا حَرَاكَ به
…
...
…
لكن أُثيلةُ صافي اللَّوْن مقتَبَلُ
قال: وكلُّ مسِنٍّ من الحيوان عَلٌّ. قال ابنُ الأعرابيّ: العَلّ: الضعيف من كِبرَ أو مرض. قال الخليل: العَلُّ: القُرَاد الكبير. ولعلّه أن يكون ذهب إلى أنّه الذي أتت عليه مُدّةٌ طويلةٌ فصار كالمُسِنّ].
ب - اصطلاحاً:
قال هشام بن عبد العزيز الحلاف في رسالته (التعريف بعلم العلل): [تبين لي من خلال النظر في كتب العلل واستعمال الأئمة لها وتعاريفهم إياها أن مصطلح العلة يُستعمل عندهم باستعمالين: عام وخاص.
العلة بالمعنى الخاص:
فأما العلة بمعناها الخاص فهي سبب خفي يقدح في صحة الحديث.
وأول من وجدته قد أبان عن هذا المعنى بوضوح هو أبو عبد الله الحاكم، حيث قال في معرفة علوم الحديث _ في النوع السابع والعشرين منه _:(وإنما يُعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير معلولاً)(1).
وهذا هو معنى قول عبد الرحمن بن مهدي: (لئن أعرف علة حديث عندي أحب إلي من أكتب عشرين حديثاً ليس عندي).
ثم جاء بعده ابنُ الصلاح _ وقد حررَّ كلامَ الحاكم السابق _ فقال في مقدمته: (وهي (أي العلة) عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه، فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها) (2).
قال ابن حجر: (فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع _ مثلاً _ معلولاً، ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً، وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك. وفي هذا رد على من زعم أن
(1) - وعقب د. همام عبد الرحيم سعيد في مقدمته لشرح علل الترمذي على كلام الحاكم بقوله: [وهذا من الحاكم محاولة أولى لتحديد مفهوم عام للعلة، ولا يمكن أن نسميه حداً بما يحمله الحد من الضوابط، كما يلاحظ في كلام الحاكم قصر العلة على ما لا مدخل للجرح والتعديل فيه، وهو مخالف لمنهج كتب العلل التي احتوت على علل سببها جرح الراوي].
(2)
- وعقب د. همام على كلام ابن الصلاح فقال: [وفي هذا التعريف دور لأنه أدخل العلة في تعريف المعلول إلى جانب أنه ذكر علة الإسناد ولم يشمل هذا التعريف علة المتن التي لا تقل أهمية عن علة الإسناد].
المعلول يشمل كل مردود).
وقال ابن حجر _ أيضاً _: (وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيداً في تعريف المعلول، فقرأت في المقنع للشيخ سراج الدين ابن الملقن قال: ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث أن المعلول: أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه، أو تختلف جهتهما كأن يروي الخراساني مثلاً عن المغربي ولا يُنقل أن أحدهما رحل عن بلده. قلت (أي ابن حجر): وهو تعريف ظاهر الفساد، لأن هذا لا خفاء فيه، وهو بتعريف مدرك السقوط في الإسناد أولى).
وكل من جاء بعد ابن الصلاح _ ممن عرف الحديث المعلول _ هو على ما قاله ابن الصلاح، وعندهم أن الحديث المعلول يُشترط فيه شرطين:
الأول: أن تكون العلة في الحديث خفية غامضة.
الثاني: أن تكون العلة قادحة في صحة الحديث.
ولذا قال الإمام الذهبي في الموقظة: (فإن كانت العلة غير مؤثرة، بأن يرويه الثبت على وجه، ويخالفه واه، فليس بمعلول. وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل فلم يصب، لأن الحكم للثبت).
وقال ابن حجر معقباً على تعريف ابن الصلاح للحديث المعلول: (وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود).
قلت: ولاشك في خطأ قصر تعريف الحديث المعلول على ما ذكره ابن الصلاح، لأنني وجدت الأئمة المتقدمين قد أطلقوا العلة بمعنى أعم مما سبق _كما سيأتي _، وقد اقرّ بهذا ابن الصلاح كما سنورد كلامه بعد قليل. وإنما أراد الحاكم في تعريفه للحديث المعلول بيان أدق صوره وأغمض أنواعه _ وعلى هذا المعنى وردت عبارات للأئمة ذكروا فيها صعوبة هذا العلم وغموضه ودقته _ ولذلك أورد الحاكم بعد تعريفه السابق قول عبد الرحمن بن مهدي:(لئن أعرف علة حديث عندي أحب إلي من أكتب عشرين حديثاً ليس عندي)] (1).
(1) - وقال د. هشام بعد أن ذكر تعريفي الحاكم، وابن الصلاح للعلة وتعقبهما بما سبق نقله عنه: [وأما الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي (ت 804هـ) فقد عرف العلة بقوله: العلة عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث فأثرت فيه، أي قدحت في صحته. ويلاحظ على هذا التعريف: تكرار الألفاظ فيه، وقوله: طرأت يشعر بأن الحديث كان في أصله صحيحا، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد تدخل العلة على الحديث الصحيح، وقد يكون الحديث من أصله معلولا، كأن يظهر بعد البحث أن الحديث لا أصل له، وإنما أدخل على الثقة فرواه.
وقد نقل برهان الدين البقاعي (ت 855هـ) في نكتة على ألفية العراقي كلاما آخر للعراقي جاء فيه: والمعلل خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح.
وأما الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) فقد ذكر في تعريف المعلل أثناء كلامه على أنواع الضعيف فقال: ثم الوهم إن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق فهو المعلل. ولا يصلح هذا لأن يكون حدا للعلة إذ هو بيان لطرق الكشف عن العلة.
وما نختاره من هذه التعاريف هو ما نقله البقاعي عن العراقي: والمعلل خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح. وهو تعريف جامع مانع. وفيما يلي بيان لعناصر هذا التعريف يوضح أسباب اختياره:
(أ) في قوله: خبر، ذكر لعلة السند، وعلة المتن؛ لأن الخبر يشمل السند والمتن.
(ب) وفي قوله: ظاهرة السلامة، بيان أن العلة تكون في الحديث الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من
…
حيث الظاهر.
(ج) قوله: اطلع فيه بعد التفتيش، دليل على خفاء القادح، وعلى إمعان النظر، ولا يكون ذلك إلا من الناقد الفهم العارف.
(د) وقوله: على قادح، تعميم لأسباب العلل لتشمل: العلل التي مدارها الحرج، وتلك الناشئة عن أوهام الثقات، وما يلتبس عليهم ضبطه من الأخبار؛ وبذلك يكون هذا التعريف مطابقا لواقع كتب العلل التي اشتملت على أحاديث كثيرة أعلت بجرح راو من رواتها].
ثم قال هشام الحلاف:
[العلة بالمعنى العام:
والناظر في كلام أئمة الحديث _ والمتقدمين منهم خاصة _ يجدهم يطلقون العلة في الحديث بمعنى أعم مما تقدم فالعلة عندهم هي كل سبب يقدح في صحة الحديث سواء كان غامضاً أو ظاهراً، وكل اختلاف في الحديث سواء كان قادحاً أو غير قادح.
قال ابن الصلاح بعد أن عرف العلة بالمعنى الخاص: (ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له
من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل. ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح. وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث. ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول!، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ!. والله أعلم).
قال ابن حجر متعقباً كلام ابن الصلاح السابق: (مراده بذلك أن ما حققه من تعريف المعلول قد يقع في كلامهم ما يخالفه، وطريق التوفيق بين ما حققه المصنف وبين ما يقع في كلامهم أن اسم العلة إذا أُطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمى الحديث معلولاً اصطلاحاً. إذ المعلول ما علته قادحة خفية، والعلة أعم من أن تكون قادحة أو غير قادحة، خفية أو واضحة. ولهذا قال الحاكم: " وإنما يعل الحديث من أوجه ليس فيها للجرح مدخل).
قلت: وقول ابن حجر: (أن اسم العلة إذا أُطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمى الحديث معلولاً اصطلاحاً) بعيد، وإلا فماذا يسمى حينئذ؟! (1)
وكلام ابن الصلاح صحيح، والأمثلة كثيرة جداً على ما ذكره ابن الصلاح من وجود أنواع من الجرح في كتب العلل. وقد يذكرون الحديث في كتب العلل لا لوجود جرح في أحد رواتها! وإنما من أجل عدم سماع راو من آخر، كما في علل ابن أبي حاتم:(138).
بل وجدت ابن أبي حاتم أورد في كتابه العلل أحاديث لأغراض أخرى!
(1) - يسميه معلول لغة، وههنا قد تحاكم كلٌّ إلى اصطلاحه، ومن المعلوم أن ابن حجر يشترط قيد القدح في العلة الاصطلاحية، وعليه فما هو ليس بقادح لا يسمى علة اصطلاحية عنده، والكاتب قد حاكم ابن حجر إلى اصطلاحه في إدخال العلل غير القادحة في مسمى العلل بالمعنى العام، وأرى أن الخلاف لفظي فمن أطلق العلة على غير القادح كالخليلي قسم الصحيح إلى معلول، وغير معلول، ومن لم يقبل هذا الإطلاق فالعلة عنده قادحة فقط، وسيأتي مزيد بحث حول اشتراط القدح في العلة بمشيئة الله.
فأورد أحاديث من أجل الاستفهام عن أحد الرواة الواردين في الإسناد من هو؟!: (295، 660، 693، 1108 وغيره).
أو للسؤال عن نسب راو: (1718، 2593).
أو لأجل تعيين مبهم: (2740).
بل أعجب من هذا إدخاله حديثاً من أجل ما أشكل فيه من جهة العقيدة وما المراد به!: (2118).
أو لأجل استنباط حكم فقهي قد يكون غريباً: (1217)!!
ولذا قال الصنعاني بعد أن ذكر تعريف ابن الصلاح: (وكأن هذا تعريف أغلبي للعلة، وإلا فإنه سيأتي أنهم قد يعلون بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة، ويعلون بما لا يؤثر في صحة الحديث).
وقد حاول السخاوي أن يخرج وجود العلل التي ليست بخفية في كتب العلل فقال: (ولكن ذلك منهم (أي من أصحاب كتب العلل الذين يذكرون ما ليس بخفي) بالنسبة للذي قبله قليل، على أنه يُحتمل أيضاً أن التعليل بذلك من الخفي، لخفاء وجود طريق آخر ينجبر بها ما في هذا من ضعف، فكأن المعلل أشار إلى تفرده)].
وإليك بعض النقول مما يؤيد وجود العلة بالمعنى العام عند بعض المحدثين:
قال ابن حجر في النكت (1/ 235): [من العلل ما يجري على أصول الفقهاء وهي العلل القادحة. وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة فكثيرة. منها: أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي حديثاً فيرويه عدل ضابط غير مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر، فإن مثل هذا يسمى على عندهم لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه، ولكنها غير قادحة لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معاً من هذا جملة كثيرة].
قال الشيخ مقبل في غارة الفصل على المعتدين على كتب العلل: [الأصل في العلة أنها سبب خفي يوجب ضعف الحديث لا يطلع عليها إلا جهابذة الحديث ونقاده.
ولكنهم قد يُعِلُّون بما علته ظاهرة كأن يكون في السند كذاب، أو ضعيف،
أو مجهول، أو غير ذلك من أسباب الضعف، كما ستراه إن شاء الله في هذا الفصل.
وما قرأنا في كتب المصطلح في تعريف العلة أنها سبب خفي .. إلخ؛ لا ينفي أنهم قد يُعِلُّون بما علته ظاهرة، ويكون التعريف أغلبي لا كلي. والله أعلم. ثم أخذ يسوق بعض الأمثلة على ذلك
…
].
2 - فوائد:
الأولى: علاقة المعنى اللغوي للعلة بالمعنى الاصطلاحي:
قال د. همام عبد الرحيم سعيد في مقدمته لشرح علل الترمذي (1/ 20) بعد أن نقل عن ابن فارس وغيره معنى العلة لغة: [ولما كان من معاني عل في أصل اللغة الشربة الثانية كما ذكر ابن فارس في معنى هذه المادة فيكون هذا الاستعمال لا غبار عليه لا في اللغة ولا في الاصطلاح وتكون العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي أن العلة ناشئة عن إعادة النظر في الحديث مرة بعد مرة، وكما يقال معلول بهذا المعنى فإنه يقال معل لما دخل على الحديث من العلة بمعنى المرض وأما استعمال معلل فلا تمنعه القواعد إذا كان مشتقا من علله بمعنى ألهاه به وشغله ويكون معنى الحديث المعلل هو الحديث الذي عاقته العلة وشغلته فلم يعد صالحا للعمل به].
وقال هشام الحلاف: [هناك علاقة بين المعنيين تظهر لنا فيما يلي:
فعلاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الأول وهو التكرار ظاهرة، لأن الحديث المعلول لا يتبين فيه سبب الضعف إلا بعد تكرار النظر فيه، لأنه _كما سبق _ فيه خفاء، ولذا لا بد من تكرار النظر في الحديث حتى تتبين سلامته من العلل الخفية.
وأما علاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الثاني وهو العائق يعوق، فإن الحديث المعلول عاقته العلة عن تصحيحه والعمل به.
وأما علاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الثالث وهو المرض فهي علاقة ظاهرة أيضاً، وذلك أن العلة إذا طرأت في الحديث أوجبت ضعفه.
والظاهر مما سبق إيراده أن أقرب هذه المعاني إلى اصطلاح المحدثين هو المعنى الثالث. إلا أن للمعنيين الآخرين علاقة بالعلة عند المحدثين، فالمعنى اللغوي الأول يدخل في وسيلة تحصيل العلة، والمعنى الثاني هو نتيجة وثمرة وجود العلة].
الثانية: ما هو القياس في الحديث الذي طرأت عليه العلة
؟
قال هشام الحلاف: [القياس في الحديث الذي طرأت عليه علة (بمعنى المرض) أن يسمى (مُعَلّ) لأنه اسم مفعول من الفعل أعلّ. إلا أن المحدثين استعملوا (معلول)، وممن استعملها منهم:
1_
البخاري في قصته المشهورة مع مسلم لما سأله عن علة حديث كفارة المجلس، وانظر مثالاً آخر في: علل الترمذي (1/ 206).
2_
والترمذي في سننه: (1/ 163)(3/ 427).
3_
وأبوداود في رسالته لأهل مكة (34).
4_
وابن خزيمة كما في السنن الكبرى للبيهقي (3/ 198).
5_
والعقيلي في ضعفائه (1/ 252)(2/ 83، 139)(3،81).
6_
وابن حبان في صحيحه (3/ 408)(4/ 483)(5/ 180،342)(6/ 428)(8/ 302).
7_
والحاكم في معرفة علوم الحديث (59، 115).
8_
وأبونعيم في مستخرجه على صحيح مسلم: (1/ 48).
9_
والخليلي في الإرشاد (1/ 157،322، 378)(2/ 809).
10_
وابن عبدالبر في التمهيد (16/ 237).
11_
والبيهقي في سننه الكبرى (1/ 197)(4/ 143)(10/ 257).
وقد اختلف أهل اللغة في جواز هذا الاستعمال:
فذهب بعضهم إلى منعه، وممن منعه من أهل اللغة: _ ابن سيده (ت 458هـ) صاحب المحكم حيث قال: (والعلة: المرض. علّ يعِل واعتل، وأعله الله، ورجل عليل. وحروف العلة والاعتلال: الألف والياء والواو، سميت بذلك للينها وموتها. واستعمل أبو إسحاق لفظة المعلول في المتقارب من العروض
…
).
ثم قال: (والمتكلمون يستعملون لفظة المعلول في هذا كثيراً، وبالجملة فلست منها على ثقة ولا ثلج، لأن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل. اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم: مجنون ومسلول من أنه جاء على جَنَنتُه وسَلَلته، وإن لم يُستعملا في الكلام استغني عنهما بأفعلت، قال: وإذا قالوا:
جُن وسُلَّ فإنما يقولون جعل فيه الجنون والسل كما قالوا: حُزِن وفُسِل).
_وقال الحريري (ت 516هـ) _ كما في درة الغواص في أوهام الخواص _: (ويقولون للعليل: هو معلول، فيخطئون فيه، لأن المعلول هو الذي سقي العَلَل وهو الشرب الثاني، والفعل منه علَلْتُه، فأما المفعول من العلة فهو مُعَلَّ، وقد أعلّه الله تعالى).
_ وقال الفيروزأبادي: (العلة _ بالكسر _: المرض، علّ يَعِلّ، واعتل وأعله الله تعالى فهو مُعَلّ وعليل، ولا تقل: معلول، والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج).
وتبعهم بعضُ المحدثين في تخطئة من يقول (معلول):
_قال ابن الصلاح في معرفة أنواع علم الحديث _ المشهور بمقدمة ابن الصلاح _: (النوع الثامن عشر: الحديث المعلل، ويسميه أهل الحديث المعلول، وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس: (العلة والمعلول) مرذول عند أهل العربية واللغة).
وتبعه النووي والعراقي والأبنوسي والسيوطي.
وذهب بعض أهل اللغة إلى جواز استعمال (معلول) في اللغة:
قال الزركشي: (والصواب أنه يجوز أن يُقال: علّه فهو معلول، من العلة والاعتلال، إلا أنه قليل. ومنهم من نص على أنه فعل ثلاثي وهو ابن القوطية في كتاب الأفعال، فقال: (علّ الإنسان علة مرض، والشيء أصابته العلة) انتهى. وكذلك قاله قطرب في كتاب فعلت وأفعلت، وكذلك الليلي، وقال أحمد صاحب الصحاح:(علّ الشيء فهو معلول من العلة).
ويشهد لهذه العلة قولهم: عليل، كما يقولون قتيل وجريح. وظهر بما ذكرناه أن قول المصنف (مرذول) أجود من قول النووي في اختصاره (لحن) لأن اللحن ساقط غير معتبر البتة بخلاف المرذول).
وقال العراقي: (واعترض عليه (أي على ابن الصلاح) بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللغة، منهم: قطرب فيما حكاه اللبلي، والجوهري في الصحاح، والمطرزي في المغرب).
وقال البلقيني: (فائدة: لا يُقال ليست مرذولة، حكاها صاحب الصحاح والمطرزي وقطرب، ولم يترددوا، وتبعهم غير واحد. لأنا نقول: المستعمل عند المحدثين والفقهاء والأصوليين إنما يقصدون به أن غيره أعله، لا أنه عُلّ بنفسه. والذي ذكره الجوهري: (عُلّ الشيء فهو معلول، وما ذكره في أول المادة من أن علّه الثلاثي يتعدى فذاك في السقي (أي بمعنى سقاه)، وحينئذ فصواب الاستعمال: المعلل إذا كان من أُعلّ).
والذي يظهر لي هو جواز استعمال (معلول) في وصف الحديث الذي طرأت عليه العلة، وذلك لأمور:
الأول: أنه قد أجاز هذا الاستعمال بعض كبار أئمة اللغة كقطرب والجوهري والمطرزي وابن القوطية وغيرهم، ولذا لم يجزم ابن سيده بخطأ هذا الاستعمال.
ولذا قال السخاوي: (إلا أن مما يساعد صنيع المحدثين ومن أشير إليهم استعمال الزجاج اللغوي له، وقول صاحب الصحاح: علّ الشيء فهو معلول يعني من العلة، ونص جماعة كابن القوطية في الأفعال على أنه ثلاثي
…
).
الثاني: أن له مخرجاً لغوياً.
قال الفيومي في المصباح المنير: (العلة: المرض الشاغل، والجمع عِلل مثل سدرة وسدر، وأعله الله فهو معلول، قيل: من النوادر التي جاءت على غير قياس، وليس كذلك فإنه من تداخل اللغتين، والأصل أعله الله فهو معلول، أو من علّه فيكون على القياس، وجاء معل على القياس لكنه قليل الاستعمال).
الثالث: أن المحدثين استعملوا (معلول) والذي هو اسم مفعول لـ (علّ) بمعنى التكرار استعملوه اسماً مفعولاً لـ (أعلّ) بمعنى المرض _ والتي لا يصح عند أهل اللغة استعمال معلول منها _.
ولعل هذا جائز نظراً لأن أصل الكلمتين واحد، ولوجود علاقة بين معنى الكلمتين، فإن معنى الكلمة الأولى وهو التكرار هو وسيلة لكشف العلة المأخوذ تعريفها من المعنى الثالث وهو المرض.
فائدة: أيهما أولى استعمال معلول أو معلل
؟
استعمال (معلول) أولى من استعمال بعض المحدثين (كابن الصلاح ومن جاء بعده) لـ (معلل)، إذ أن (معلل) اسم مفعول لـ (عَلَّلَ) وهو بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، وهذا لا يناسب المعنى الذي أراده المحدثون إلا بتجوز. ولذا انتقد هذا الاستعمال بعض المحدثين، وممن انتقده: الزركشي حيث قال: (وأما قول المحدثين: علله فلان بكذا، فهو غير موجود في اللغة، وإنما هو مشهور عندهم بمعنى ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصبي بالطعام. لكن استعمال المحدثين له في هذا المعنى على سبيل الاستعارة).
وقال العراقي: (والأحسن أن يقال فيه: معل بلام واحدة، لا معلل، فإن الذي بلامين يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، من تعليل الصبي بالطعام، وأما بلام واحدة فهو الأكثر في كلام أهل اللغة، وفي عبارة أهل الحديث أيضاً، لأن أكثر عبارات أهل الحديث في الفعل أن يقولوا: أعله فلان بكذا، وقياسه معل، وتقدم قول صاحب المحكم أن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل، وقال الجوهري: لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة). وتبعهما على ذلك السخاوي وزكريا الأنصاري والصنعاني وطاهر الجزائري. ولولا خشية الإطالة لذكرت كلامهم].
3 - أسباب العلة:
…
قال د. همام في مقدمة شرح علل الترمذي (1/ 90: 118): [المبحث الأول في أسباب العلة من خلال كتاب ابن رجب: تمهيد:
لقد حاولت من خلال استقراء شرح علل الترمذي لابن رجب وغيره من كتب العلل أن أحدد أهم الأسباب التي تؤدي إلى حدوث العلة إذ الكلام عن هذه الأسباب منظما مجتمعا لم يقع لي في كتاب من الكتب التي تعرضت للعلل ومع أن كتاب ابن رجب هو كتاب العلل الوحيد الذي تكلم على العلل كعلم له قواعده وأقسامه إلا أنه لم يفصل أسباب العلل في مبحث مستقل وإنما عرض لها في مواضع متفرقة ولعل دراستنا هذه هي بداية المحاولة في هذا الترتيب النظري لعلم العلل.
وفيما يلي عرض لهذه الأسباب والكلام عليها مع ذكر كلام ابن رجب في كل
منها.
السبب العام:
هو الذي يقف وراء الكثير من هذه العلل إلا أنه الضعف البشري الذي لا يسلم منه مخلوق ولا عصمة إلا لله ولكتابه ولرسوله (1) وما وراء ذلك ناس يصيبون ويخطئون ويتذكرون وينسون وينشطون ويغفلون على ما بينهم من تفاوت في ذلك بين مكثر ومقل، ودخول الوهم والخطأ على الصحابة والتابعين والأئمة المتقدمين شيء معروف عند العامة والخاصة وقد أشار الترمذي في علله آخر الجامع إلى هذا في القسم الرابع من الرواة عنده وهم الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط في حديثهم وهؤلاء هم الطبقة العليا من الرواة فهو لم يصفهم بالضبط التام الكامل بل قال وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة فالضبط التام الكامل هو ضبط نسبي يدخل فيه الوهم والخطأ القليل النادر وهذا احتراز ينبغي أن يدخل صراحة في شرط رجال الصحيح وإن كان قد تناوله تعريف الحديث الصحيح بصورة غير مباشرة عند ذكرهم سلامة الحديث من الشذوذ والعلة القادحة.
وقد تناول ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي هذا القسم الرابع الذي ذكره الترمذي بالشرح وذكر أقوال العلماء في أخطاء الثقات وأوهامهم فقال: وذكر الترمذي ههنا حكم القسم الرابع وهم الحفاظ المتقنون الذين يقل خطؤهم وذكر أنه لم يسلم من الخطأ كبير أحد من الأئمة على حفظهم.
وقال ابن معين: من لم يخطئ في الحديث فهو كذاب.
وقال أيضا: لست أعجب ممن يحدث فيخطئ إنما أعجب ممن يحدث فيصيب.
وقال ابن المبارك: ومن يسلم من الوهم، وقد وهمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم وقد جمع بعضهم جزءا في ذلك. ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله تزوج النبي ميمونة وهو محرم
…
(1) - وإجماع الأمة لقوله صلى الله عليه وسبم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
وأما أوهام كبار أئمة الحديث فقد ذكر ابن رجب أقوالا فيها:
قال أحمد: كان مالك من أثبت الناس وكان يخطئ.
وقال البرذعي شهدت أبا زرعة وذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه وأطنب في مدحه وقال: وهم في غير شيء ثم ذكر عدة أسماء صحفها، وهذه الأسماء ورد النص بها في كتاب البرذعي، وهي: قول ابن مهدي شهاب بن شريفة وإنما هو شهاب بن شرنقة، وقال عن هشام عن الحجاج عن عائذ بن بطة، وإنما هو ابن نضلة. وقال: قيس بن جبير وإنما هو قيس بن حبتر (وزن جعفر) التميمي
…
ونختم هذا السبب العام الذي لا يكاد يخرج من تأثيره أحد من الحفاظ بما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وهو نص يؤكد وقوع بعض الأوهام في روايات الحفاظ ويكشف عن القدر من الخطأ الذي يبقى معه الحافظ الضابط الإمام على رتبته في الإمامة والضبط: (أنا) أبي أخبرنا سليمان بن أحمد الدمشقي قال قلت لعبد الرحمن بن مهدي اكتب عمن يغلط في عشرة قال نعم قيل له يغلط في عشرين قال نعم قلت فثلاثين قال نعم قلت فخمسين قال نعم.
وهكذا فإنه يمكننا أن نرجع قسما لا بأس به من علل الحديث لأخطاء مثل هؤلاء الجهابذة ويعتبر كشف هذه العلل من أعلى مراتب هذا العلم وذلك لخفائها واستتارها بمنزلتهم في الحفظ والضبط
…
السبب الثاني:
هو ما اتصف به بعض رواة الآثار من خفة الضبط، وكثرة الوهم مع بقاء عدالتهم وهؤلاء هم الذين ذكرهم الترمذي في علله (آخر الجامع) بقوله: أهل صدق وحفظ ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيرا.
وعلى أسلوب ابن رجب في توليد الموضوعات من الكلمات فقد شرح عبارة الترمذي وحشد لها عيون الشواهد من كلام أرباب هذه الصنعة فقال: (وهم أيضا أهل صدق وحفظ ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيرا ولكن ليس هو الغالب عليهم وهذا هو القسم الذي ذكره الترمذي ههنا وذكر عن يحيى بن سعيد أنه ترك حديث هذه الطبقة. وعن ابن المبارك وابن مهدي ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم وهو أيضا رأي سفيان وأكثر أهل الحديث والمصنفين منهم في السنن والصحاح كمسلم
بن الحجاج وغيره فإنه ذكر في مقدمة كتابه أنه لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث أو عند أكثرهم ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط. وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والإتقان وأنهم على ضربين:
أحدهما من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد ولا تخليط فاحش.
والثاني من هو دونهم في الحفظ والإتقان وشملهم اسم الصدق والستر وتعاطى العلم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم).
من كل هذا نعلم أن حديث هؤلاء الذين كثر غلطهم مقبول عند جماهير علماء الحديث ولا يعني قبول حديثهم أن يؤخذ دونما تمييز بين الصواب والخطأ بل استطاع النقاد أن يحصوا ما لهم من أوهام ويسجلوا شوارد أخبارهم شواذها فكان نصيب كتب العلل من هذه الأوهام كبيرا وكثيرا ما نقرأ الحديث في هذه الكتب ثم تذكر علته ويقال بعد ذلك أخطأ فيه شريك وهم فيه عطاء الخراساني وهكذا.
وقد ذكر ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي عددا من هؤلاء الثقات الذين يكثر الخطأ في حديثهم مع ترجمة قصيرة لكل منهم فأنار سبيل سالك هذا الدرب بمعرفتهم وأتاح لدارسي الكتاب فرصة كشف كثير من العلل، فذكر من هذا الصنف محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وعبد الرحمن بن حرملة المدني، وشريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة، وأبا بكر بن عياش المقرئ الكوفي، والربيع بن صبيح ومبارك بن فضالة، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عجلان، وحماد بن سلمة وغيرهم
…
السبب الثالث: الاختلاط أو الآفة العقلية:
وقد تكلم ابن رجب عن هذا السبب أثناء الكلام عن اختلاط المشاهير من الثقات
…
مفهوم الاختلاط:
والاختلاط آفه عقلية تورث فسادا في الإدراك وتصيب الإنسان في آخر عمره أو تعرض له بسبب حادث ما كفقد عزيز أو ضياع مال ومن تصيبه هذه الآفة لكبر سنة يقال فيه: اختلط بأخرة.
ورغم أن كثيرا من الناس يختلطون إلا أن الاختلاط إذا أطلق انصرف إلى فئة
قليلة منهم وهي فئة المحدثين وذلك لما في اختلاط المحدث من أثر على روايته لا سيما وأنه الثقة العدل المحتج به.
الكشف عن الاختلاط:
والكشف عن الاختلاط يلقي على الناقد رجل العلل مهمة عسيرة وشاقة إلى جانب أنها دقيقة وخطيرة فهي لا تقتصر على متابعة المحدث في فترة دون فترة أو مكان دون آخر أو عن شيخ دون سواه بل تمتد مهمة رجل العلل حتى وفاة الرجل موضع النقد والعلة ولمعرفة طريقة النقاد في الكشف عن الاختلاط وتحديد زمنه يحسن بنا أن نستشهد بما ذكره البرذعي في مسائله لأبي زرعة الرازي قال: قلت لأبي زرعة: قرة بن حبيب تغير؟ فقال: نعم كنا أنكرناه بأخرة غير أنه كان لا يحدث إلا من كتابه ولا يحدث حتى يحضر ابنه ثم تبسم فقلت لم تبسمت قال أتيته ذات يوم وأبو حاتم فقرعنا عليه الباب واستأذنا عليه فدنا من الباب ليفتح لنا فإذا ابنته قد لحقت وقالت يا أبت إن هؤلاء أصحاب الحديث ولا آمن أن يغلطوك أو أن يدخلوا عليك ما ليس من حديثك فلا تخرج إليهم حتى يجيء أخي تعني علي بن قرة فقال لها أنا أحفظ فلا أمكنهم ذاك فقالت لست أدعك تخرج إليهم فإني لا آمنهم عليك فما زال قرة يجتهد ويحتج عليها في الخروج وهي تمنعه وتحتج عليه في ترك الخروج إلى أن يجيء علي بن قرة حتى غلبت عليه ولم تدعه. قال أبو زرعة فانصرفنا وقعدنا حتى وافى ابنه علي. قال أبو زرعة فجعلت أعجب من صرامتها وصياتنها أباها
…
وأحيانا كان الناقد يدخل على المختلط يخضعه لاختبار دقيق فيقلب عليه الأسانيد والمتون ويلقنه ما ليس من روايته فإن لم يتنبه الشيخ لما يراد به فإنه يتأكد اختلاطه ويحذر الناس من الرواية عنه؛ روى أبو محمد الرامهرمزي من طريق يحيى بن سعيد قال: قدمت الكوفة وبها ابن عجلان وبها من يطلب الحديث مليح بن وكيع وحفص بن غياث وعبد الله بن إدريس ويوسف بن خالد التيمي قلنا نأتي ابن عجلان نقلب على هذا الشيخ ننظر فهمه قال فقلبوا فجعلوا ما كان عن سعيد عن أبيه وما كان عن أبيه عن سعيد ثم جئنا إليه لكن ابن إدريس تورع وجلس بالباب وقال لا أستحل وجلست معه ودخل حفص ويوسف بن خالد ومليح فسألوه
فمر فيها فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ فقال أعد العرض فعرض عليه فقال ما سألتموني عن أبي فقد حدثني به سعيد وما سألتموني عن سعيد فقد حدثني به أبي.
ولكن بصيرة الناقد ويقظة المجتمع ليس لهما تلك القدرة التي تحدد ساعات بدء الاختلاط إذ الاختلاط حالة عقلية تبدأ خفية ثم يتعاظم أمرها بالتدريج وبين الخفاء والظهور يكون المختلط قد روى أحاديث تناقلها الثقات عن الثقات وما دورا أنهم أخذوها عن الثقة ولكن في اختلاطه، وهكذا تدخل العلة من هذا الطريق الذي هو طريق الاختلاط ولكن رجال هذا العلم بما لديهم من وسائل الدراية يقفون بالمرصاد لتمييز الصحيح من السقيم
…
وقد ذكر ابن رجب طائفة من مشاهير المختلطين وفصل أحوالهم وما يتعلق باختلاطهم وهم عطاء بن السائب الثقفي وحصين بن عبد الرحمن السلمي وسعيد بن إياس الجريري وسعيد بن أبي عروبة وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وأبان بن صمعة وسفيان بن عيينة وأبو قلابة الرقاشي ومحمد بن الفضل السدوسي
…
ذكر ضابط التمييز بين السماع قبل الاختلاط وبعده:
وقد فصل ابن رجب في هذا الأمر وجمع أقوال العلماء التي تصلح ضابطا للتمييز بين الرواية عنه قبل الاختلاط وبعده ونرى مثل هذا في كلامه على اختلاط عطاء بن السائب فقال: وقد اختلفوا في ضابط من سمع منه قديما ومن سمع منه بأخرة - فمنهم من قال من سمع منه بالكوفة فسماعه صحيح ومن سمع منه بالبصرة فسماعه ضعيف - ومنهم من قال دخل عطاء البصرة مرتين فمن سمع منه في المرة الأولى فسماعه صحيح ومنهم الحمادان والدستوائي ومن سمع منه في المقدمة الثانية فسماعه ضعيف منهم وهيب وإسماعيل بن علية - ومنهم من قال إن حدث عطاء عن رجل واحد فحديثه جيد وإن حدث عن جماعة فحديثه ضعيف وهو ضابط التمييز عند شعبة بالنسبة لروايات عطاء - ومنهم من قال حديث شعبة وسفيان عنه صحيح لأنه قبل الاختلاط.
السبب الرابع: خفة الضبط بالأسباب العارضة:
ونقصد بالأسباب العارضة أمورا تعرض للمحدث تؤثر في ضبطه دون أن
تؤثر في إدراكه وبهذا نميز هذه الأمور العارضة عن الاختلاط ولا أرى ضمها إلى الاختلاط كما فعل السخاوي في كتابه فتح المغيث وهذه العوارض تعتري المحدث الذي يعتمد على كتابه في الرواية فإذا ضاع الكتاب أو احترق أو أضر الراوي أو لم يصطحب كتابه معه إذا رحل في كل هذه الحالات يختل ضبط الراوي ويكون سبب خفة الضبط هذا العارض الذي اعترض المحدث
…
ولكن ضبط الكتاب لا يغني وبالتالي يقع المحذور في حالة بعد الكتاب أو فقده وفقد آلة النظر في الكتاب ومن هنا دخلت العلة في أحاديث بعض الثقات فكان لا بد من دخول الناقد رجل العلل في دائرة أحاديث هؤلاء الثقات لتمييز سقيمها ومعلولها من صحيحها ومستقيمها.
وممن خف ضبطه لبعده عن كتبه معمر بن راشد
…
ومن الحفاظ من خف ضبطه لضياع كتبه فدخلت الأوهام على حديثه فمنهم علي بن مسهر القرشي الكوفي قاضي الموصل ولي قضاءها للمهدي (سنة 166هـ) وكان ثقة صالح الكتاب قبل ذهاب كتبه.
ومن أسباب خفة الضبط - وبالتالي دخول الوهم والعلل- الانشغال عن العلم حفظا وكتابة وضبطا وقد ذكر هذا السبب في علل من تولوا القضاء كشريك بن عبد الله النخعي وحفص بن غياث
…
ومن الثقات من فقد بصره وكان يعتمد على كتبه فخف ضبطه ووهم فيما حدث به بعد ذلك وهؤلاء كثيرون منهم عبد الرزاق بن همام
…
وقد ذكر ابن رجب ضابطا لرواية الضرير والأمي فقال وهذا يرجع إلى أصل وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث فإنه لا تجوز الرواية عنهما ولا تلقينهما ولا القراءة عليها من كتاب وقد نص على ذلك أحمد -في رواية عبد الله- في الضرير والأمي لا يجوز أن يحدثا إلا بما حفظا وقال كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشيء الذي نرى أنه لا يحفظه يقول في كتابي كذا وكذا، ولقد أخذ على يزيد بن هارون أنه لما أضر كانت جاريته تحفظه من كتاب فيتلقن.
قال ابن رجب: وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام حافظ متقن يحدث من حفظه فهذا لا كلام فيه وحافظ نسي فلقن حتى ذكر أو تذكر حديثه من كتاب فرجع
إليه حفظه الذي كان نسيه وهذا أيضا حكمه حكم الحافظ ومن لا يحفظ وإنما يعتمد على مجرد التلقين فهذا الذي منع أحمد ويحيى من الأخذ عنه.
السبب الخامس: قصر الصحبة للشيخ وقلة الممارسة لحديثه:
أعطى المحدثون طول ملازمة الشيخ وممارسة حديثه أهمية كبيرة فرجحوا - من أجل ذلك - أسانيد كثيرة على أخرى وأعانتهم معرفتهم بالصحبة والممارسة على تمييز كثير من الأوهام والعلل، واهتمام النقاد بهذا الأمر جعلهم يتابعون الرواة عن شيخ ما فيقسمونهم فئات بين الأطول صحبة والأقصر والأقل ممارسة والأكثر وممن اعتنى اعتناء فائقا باختيار أكثر رجاله من بين الأوثق والأطول صحبة الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه الصحيح وفي هذا يقول الإمام ابن رجب - في شرحه لعلل الترمذي - وأما البخاري فشرطه أشد من ذلك وهو أنه لا يخرج إلا للثقة الضابط ولمن ندر وهمه ونذكر لذلك مثالا وهو أن أصحاب الزهري خمس طبقات: الطبقة الأولى جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري والعلم بحديثه والضبط له كمالك وابن عيينة وعبيد الله بن عمر ومعمر ويونس وعقيل وشعيب وغيرهم وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري. الطبقة الثانية أهل حفظ وإتقان ولكن لم تطل صحبتهم للزهري وإنما صحبوه مدة يسيرة ولم يمارسوا حديثه وهم في إتقانه دون الأولى كالأوزاعي والليث وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري. الطبقة الثالثة لازموا الزهري وصحبوه ولكن تكلم في حفظهم كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق. الطبقة الرابعة قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة ومع ذلك تكلم فيهم مثل إسحاق بن أبي فروة وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم. الطبقة الخامسة قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي وعبد القدوس بن حبيب. ورجال البخاري - كما دل عليه الاستقراء - هم في معظمهم من الطبقة الأولى طبقات الثقات ذات الصحبة والممارسة؛ وهكذا نرى أن درجة الثقة وحدها لا تكفي لقبول الحديث بل لا بد من معرفة سياق السند ومعرفة ممارسة كل رجل من رجاله لحديث شيخه ومعرفة هذه الممارسة تجعل نظرة المحدث تختلف - عما قبل المعرفة - وهو يرى حديث الأوزاعي عن الزهري وحديث معمر عن الزهري فمما لا شك فيه أن الأوزاعي
أكبر وأجل ولكن إسناد معمر أصح وأدق إذ أن معمر عن الزهري من الطبقة الأولى والأوزاعي عن الزهري من الطبقة الثانية لقصر صحبته وقلة ممارسته؛ ومن أجل هذه الممارسة كان بعض المحدثين لا يرضى أن يسمع الحديث من الشيخ مرة واحدة قال حماد بن زيد ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة واحدة يعاود صاحبه مرارا.
وتظهر هذه الممارسة في عبارات القوم وهم يقولون ليس هذا الحديث من حديث فلان أو يقولون هذا الحديث أشبه بفلان إلى غير ذلك من العبارات التي تدل على خبرة واسعة بعلاقة الرواة بعضهم ببعض.
والجدير بالذكر أن هذه الممارسة قد ترفع الراوي من رتبة الصدوق إلى رتبة الثقة أو إلى رتبة أوثق الناس في هذا الشيخ ومثاله حماد بن سلمة فقد اتفق النقاد أنه أوثق الناس في ثابت بالرغم من أن حمادا بشكل عام كثير الوهم والخطأ
…
وهذا كله في مجال تقديم إسناد على آخر إذ يتقدم الأفهم والأكثر ممارسة على غيره. (1)
السبب السادس: اختصار الحديث أو روايته بالمعنى:
رأى الجمهور على أن الرواية بالمعنى جائزة وقد دلل ابن رجب على جوازها بأقوال بعض الصحابة والتابعين وعلماء الحديث المتقدمين وبأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها وقد قيد العلماء هذا الجواز فاشترطوا فيمن يروي الحديث بالمعنى أن يكون عارفا بمواقع الألفاظ بصيرا بدلالاتها حتى لا يحيل الحلال حراما أو يضع الدليل في غير مكانه وفي شرح علل الترمذي تفصيل لهذا الموضوع وعرض لأقوال العلماء فيه وأن الرواية بالمعنى إن لم يلتزم راويها بشرطها الذي يضمن عدم الإحالة فإن هذه الرواية تكون سببا في دخول العلة على الحديث
…
السبب السابع: تدليس الثقات:
وقد يكون سبب العلة تدليسا أدركه النقاد فكشفوا فيه عن انقطاع في الإسناد أو
رواية عن ضعيف غير اسمه أو كنيته وغالبا ما تكون العلة في حديث الأعمش أو
(1) - لاحظ الفرق بين هذه المسألة، ومسألة انفراد الثقة بما لم يرو غيره، وسيأتي الكلام عنها بمشيئة الله.
هشيم بن بشير أو إسحاق بن أبي فروة أو ابن جريح ناشئة عن التدليس ..
السبب الثامن: الرواية عن المجروحين والضعفاء:
وقد تضمنت كتب العلل أحاديث ذكر أن علتها جرح الراوي فكان هذا الجرح سببا في العلة وقد سبق وأن اشترطنا لدخول هذا الفرع في العلل أن يكون من الخفاء بحيث يغيب عن بعض الثقات الأعلام (1) كأن يروي مالك عن عبد الكريم أبي أمية والشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى
…
وينبغي التنبيه إلى أن الأغلب في العلل أوهام الثقات حتى الرواية عن المجروحين كثيرا ما ترتبط بالثقة الذي روى الحديث.
وفي جعل الجرح سببا من أسباب العلة يقول ابن الصلاح: ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح.].
4 - معرفة العلة ووسائل الكشف عنها:
قال د. همام في مقدمة شرح علل الترمذي (1/ 119: 136) [المبحث الثاني معرفة العلل والكشف عنها من خلال كتاب ابن رجب: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معرفة العلة.
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن العلة.
المطلب الأول: معرفة العلة:
ذكر ابن رجب في شرح علل الترمذي أن مجال العلة - في الأغلب والأكثر - حديث الثقات وذلك لأن رواية الثقة للحديث تكسبه في الأصل صفة الصحة الظاهرة والسلامة التي تجعله مقبولا محتجا به ولكن ليس عجيبا أن يفاجئنا رجل العلل بما لديه من الوسائل العلمية والمعرفة الحديثية بكشف ما يقدح في هذه السلامة الظاهرة وإذا بالحديث بعد الصحة معلولا وبعد القبول والاحتجاج به شاذا
(1) - وهذا لأنه تكلم عن المعنى الخاص للعلة فقط.
لا يستند عليه ولا يحتج به وإذا كان الأمر كذلك فهل لنا أن نتعرف على وسائل النقاد وجوانب معرفتهم الحديثية التي مكنتهم من ارتياد هذا المجال
…
ومن كل هذا نستفيد أن الكشف عن العلة يحتاج إلى علم غزير بالأسانيد والطرق وأساليب التعبير كما يحتاج إلى مزيد فهم ومعرفة وحدة ذكاء وسرعة بديهة وإن شئت فقل هو فن القلة من الناس وحتى هؤلاء القلة فإنهم متفاوتون في القدرة عليه.
يقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه ومعوجه ومستقيمه فمنهم من يظن ومنهم من يقف بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث وذوقهم حلاوة عبارة الرسول التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس فمن الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة ومنها ما وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة يدركها البصير من أهل هذه الصناعة.
ويقول ابن الصلاح في هذا ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي أو بمخالفته غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن.
أما الخطيب البغدادي فإنه يقول السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم من الإتقان.
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن العلة:
إن كتب العلل تحمل بين طياتها صورة كاملة شاملة لما ينبغي أن يكون عليه رجل هذا الفن وأنه إن كان حصر جوانب هذه المعرفة لا يمكن في مبحث صغير فإن ذكر أهم هذه الجوانب يسير ومعقول وفيما يلي بعض هذه الجوانب.
1 -
معرفة المدارس الحديثية ونشأتها ورجالها ومذاهبها العقدية والفقهية وأثرها وتأثيرها في غيرها وما تميزت به عن غيرها، فقد نشأت للحديث مدارس في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام ومصر واليمن.
وبهذه المعرفة يعالج الباحث أسانيد كثيرة فيكشف عن علتها فإذا كان الحديث كوفيا احتمل التدليس أو الرفض إن كان بصريا احتمل النصب وتأثير الإرجاء والاعتزال في إسناده فإذا روى المدنيون عن الكوفيين فإنها تختلف الاحتمالات عما
إذا روى المدنيون عن البصريين ولذلك نجد الحاكم يقول بعد ذكره علة حديث: والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا. أما حديث الشام عن المدارس الأخرى فأكثره ضعيف
…
2 -
معرفة من دار عليهم الإسناد وأوثق الناس فيهم وتمييز أصح الأسانيد وأضعفها وممن اهتم بهذا وأرسى قواعده علي بن المديني فنراه يقول: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة فلأهل المدينة ابن شهاب ولأهل مكة عمرو بن دينار ولأهل البصرة قتادة بن دعامة السدوسي ويحيى بن أبي كثير ولأهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي وسليمان بن مهران، ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ممن صنف فلأهل المدينة مالك بن أنس ومحمد بن إسحاق من أهل مكة عبد العزيز بن جريح وسفيان بن عيينة ثم انتهى علم هؤلاء الثلاثة من أهل البصرة وعلم الاثني عشر إلى ستة
…
وهكذا يمضي علي بن المديني في تأصيل هذه الخبرة الإسنادية وتفريعها. ومع ذكر الراوي فإنه يذكر أصحابه ويبين أوثقهم فيه وأكثرهم في الرواية عنه وهذا جزء هام من علم العلل
…
...
3 -
معرفة الأبواب ورجل العلل الحافظ العارف الفهم لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جمع الأحاديث في الأبواب وأحاديثه كما سبق وأن قلت إنها مرتبة على الأسانيد فهي أيضا مرتبة على الأبواب باب الطهارة الصلاة الزكاة وهكذا والعملية النقدية عنده هي عرض ما يسمعه على أبوابه وأصوله وبعد هذا العرض يذكر نتيجة من النتائج الكثيرة عنده معروف منكر مشهور غريب شاذ لا أصل له
…
وروي عن علي بن المديني أنه قال الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.
4 -
معرفة المتشابه من الأسماء والكنى والألقاب:
وكتب العلل مليئة بهذا النوع كمعرفة عامة أو تطبيقية تخدم موضوع العلة ومثال ذلك ما ذكره عبد الله بن أحمد رحمه الله في العلل قال حدثني أبي قال حدثنا هشيم قال زعم لي بعضهم قال كتب الحجاج أن يؤخذ إبراهيم بن يزيد إلى عامله فلما أتاه الكتاب قال فكتب إليه إن قبلنا إبراهيم بن يزيد التيمي وإبراهيم بن يزيد النخعي فأيهما نأخذ قال فكتب أن يأخذهما جميعا هذه القصة ظاهرها أنها طرفة ومقصدها ذكر اثنين من الرواة اجتمعا في الاسم والعصر والرتبة ومن لا
يميز بينهما قد يخلط في حديثهما وقد يقول قائل ما داما ثقتين فما الضرر من هذا الخلط والجواب على ذلك أن لكل من الرجلين إسناده ولكل منهما رجاله والخلط بينهما لا يقتصر عليهما بل يتعداهما إلى بقية رجال الإسناد. وإن الباحث ليدهش وهو يجد أن أربعة عشر رجلا من الثقات يحملون اسم إبراهيم بن يزيد مما يجعل معرفة هذا الجانب ضرورية لرجل العلل حتى لا تشتبه عليه الأمور. وكما تتشابه الأسماء تتشابه الكنى ولا بد من معرفتها من قبل صاحب هذا الشأن
…
وإلى جانب التشابه في الكنى نجد الكثير من الكنى التي لم تشتهر أصحابها بها فاستغلها المدلسون ستارا لتدليسهم ولكن المعرفة الواسعة التي يتمتع بها الناقد تقف لكل ذلك بالمرصاد.
5 -
معرفة مواطن الرواة:
قال الحاكم أبو عبد الله وهو علم قد زلق فيه جماعة من كبار العلماء بما يشتبه عليهم فيه وقد يثبت هذه المعرفة في كتب العلل لارتباطها وعلاقتها الوثيقة به ففي علل أحمد ابن أبي حسن قرشي مكي هشام بن حجير مكي ضعيف الحديث ومحمد بن أبي إسماعيل شيخ كوفي ثقة وعبد الله بن سعيد بن أبي هند شيخ مديني موثق وإبراهيم بن ميسرة طائفي سكن مكة وهكذا إذ القصد هو التمثيل على هذه المعرفة لا الإحاطة بما كتب عليها فهو كثير.
6 -
معرفة الوفيات والولادات:
وعن طريق هذه المعرفة - مضافا إليها غيرها - يتأكد الناقد من السماع والمعاصرة أو ينفيهما وتجد هذه المعرفة مبثوثة في كتب العلل يقول ابن المديني مات أيوب سنة إحدى وثلاثين في الطاعون ومات يونس سنة تسع وثلاثين ومات إبراهيم النخعي سنة خمس وتسعين وقتل ابن جبير سنة خمس وتسعين وفيها مات الحجاج وهكذا. ومعرفة الولادات جانب آخر يحدد اللقاء وفترته بين الراوين فعندما يأتي حديث يرويه عبد الجبار بن وائل عن أبيه نجد النقاد يقولون عبد الجبار لم يدرك أباه ولد بعد وفاة أبيه.
7 -
معرفة من أرسل ومن دلس ومن اختلط:
وقد اعتنت كتب العلل اعتناء كبيرا بهذه المعرفة وكثيرا ما تجد فيها علل
الإرسال والتدليس والاختلاط كما نجد تحديدات دقيقة للاختلاط وتفاوت المراسيل وما دلس من الأسانيد.
8 -
معرفة أهل البدع والأهواء:
وقد سبق وأن ذكرت أن هذه المعرفة جزء من معرفة المدارس الحديثية ولكنها هنا تهتم بالرواة كأفراد كل على حدة وقد يكون الغالب على مدرسة ما التشيع ولكن فيها الناصبي والخارجين والمعتزلي وغير ذلك. وعلى صفحات كتب العلل نجد كلاما كثيرا حول هذا الجانب مثل يونس بن عباد كان خبيث الرأي كان يزيد بن عبد الرحمن شيخا فقيرا مرجئيا.
هذه بعض جوانب المعرفة التي لا بد منها للمشتغل بالعلل وتركت غيرها لأن الموضوع لا يتسع لعلوم الحديث إذ ظهر لي بعد البحث والاستقصاء أن أكثر علوم الحديث استمد من علم العلل وأن أقدم المحاولات في هذا الميدان هي كتب ابن المديني وأحمد الترمذي وأبي زرعة وأبي حاتم وهي كتب شاملة تطبيقية. وقد قصدت من ذكر هذه الجوانب التمثيل لا الحصر ولعل أبرز ثمرات هذا الموضوع القناعة التامة بأن علم العلل عماده المعرفة المستفيضة أفقيا وعموديا وهو ما يعبر عنه بعلم الرواية والدراية ومن تتوافر له هذه المعرفة تنكشف له العلاقات بين الروايات فيصبح مجال الحديث سندا ومتنا بمتناول بصيرته وعند التعليل يستفيد من كل هذه الجوانب فجزى الله علماءنا عن أمتهم خير الجزاء فلقد والله حملوا الأمانة التي لا تحملها الجبال الراسيات].
5 - خطوات معرفة العلل:
قال هشام الحلاف: [لما كانت العلة سبباً خفياً غامضاً كان لابد من وجود طرق ترشد إلى وجودها، ووسائل تعين على الوقوف عليها، ومن خلال كلام العلماء في هذا العلم وممارستي له تبين لي أنه لا بد من عدة خطوات حتى يمكن معرفة سلامة الحديث من العلة أو وجودها فيه. وإليك هذه الخطوات:
أولاً: جمع طرق الحديث:
وقد كان المحدثون يهتمون بذلك ويؤكدون عليه:
قال أحمد: (الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه
بعضاً).
وقال علي بن المديني: (الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه).
وقال عبد الله بن المبارك: (إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض).
ولهذا قال يحيى بن معين: (اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة).
وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه).
وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من مائة وجه ما وقعنا على الصواب).
وقال أبو حاتم الرازي: (لو لم يُكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه).
وكان بعض الحفاظ يقول: (إن لم يكن الحديث عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم).
وللمحدثين في ذلك الأخبار الكثيرة، ومن ذلك:
قال ابن حبان: (سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له: سمعتها من أحد؟ قال: نعم، حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة، فقال: والله لا حدثتك. فقال: إنما هو درهم وانحدر إلى البصرة وأسمع من التبوذكي، فقال: شأنك. فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب من أحد؟! قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً وأنت الثامن عشر!. فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافه، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه).
ثانياً: الموازنة بين الطرق:
وفي هذه الخطوة يتم المقارنة بين طرق الحديث بعد جمعها، فإن اتفقت الطرق ولم يوجد بينها اختلاف علمنا حينئذ سلامة الحديث من العلة.
قال ابن حجر: (السبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف
(أي ابن الصلاح) عن الخطيب: أن يُجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف).
قلت: وإن وجد اختلاف بين هذه الطرق (كالاختلاف بين الوصل والإرسال والوقف والرفع ونحوه) فلابد حينئذ من تحديد الراوي الذي اختلف عليه ومعرفة الأوجه التي رويت عنه، ثم يكون الترجيح بين هذه الطرق بقرائن كثيرة لا يمكن حصرها.
قال العلائي: (ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده، والله أعلم).
وقال ابن الصلاح: (ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه).
وهناك أحاديث ليس فيها اختلاف في طرقها، وإنما تدرك علتها بأمور أخرى: قال ابن رجب: (حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك. وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى أهله، إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم).]
6 - أقسام العلة وأنواعها:
قال هشام الحلاف: [أقسام العلة وأنواعها.
يمكن تقسيم العلة بعدة اعتبارات:
أ_ تقسيم العلة بحسب تأثيرها: فالعلة بحسب تأثيرها على قسمين:
1_
علة قادحة: وهي العلة التي يُضعّف الحديث من أجلها.
2_
وعلة غير قادحة: وهي العلة التي لا يُضعف بها الحديث.
ب_ تقسيم العلة بحسب محلها: فالعلة بحسب محلها على قسمين أيضاً:
1_
علة في الإسناد: وهي العلة التي تقع في إسناد الحديث.
2_
علة في المتن: وهي العلة التي تقع في متن الحديث.
وسيأتي أمثلة للتقسيمين السابقين في التقسيم الثالث.
ج_ تقسيم العلة بحسب تأثيرها ومحلها معاً: من خلال التقسيمين السابقين يمكن لنا ظهور هذا التقسيم الثالث، وهذا التقسيم هو الذي ذكره ابن حجر في نكته على ابن الصلاح فإنه قال: (إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن. وكذا القول في المتن سواء. فالأقسام على هذا ستة:
_ فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة. وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة.
_ ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن: ما مثّل به المصنف من إبدال راو ثقة براو ثقة، وهو بقسم المقلوب أليق.
_ فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتبين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة.
_ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما: ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن رد الجمع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها.
_ ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد: ما يرويه
راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي فيعلل الإسناد.
_ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد: ما ذكره المصنف (أي ابن الصلاح) من أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس وهي قوله (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها) فإن أصل الحديث في الصحيحين، فلفظ البخاري (كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين)، ولفظ مسلم في رواية له نفي الجهر، وفي رواية أخرى نفي القراءة). انتهى ما ذكره الحافظ ابن حجر باختصار يسير.
د_ تقسيم العلة بحسب صورها: وقد قسمها أبو عبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث (113) إلى عشرة أقسام، ولم يذكر تعريفاً لكل نوع وإنما اكتفى ببيان أمثلة لكل نوع.
وجاء السيوطي بعده في تدريب الراوي (1/ 258) وذكر هذه الأنواع باختصار معرفاً لكل نوع منها، فقال: (وقد قسم الحاكم في علوم الحديث أجناس المعلل إلى عشرة، ونحن نلخصها هنا بأمثلتها.
أحدها: أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه. كحديث موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك. فروى أن مسلما جاء إلى البخاري وسأله عنه فقال هذا حديث مليح إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله وهذا أولى لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل.
الثاني: أن يكون الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات الحفاظ، ويسند من وجه ظاهره الصحة.
كحديث قبيصة بن عقبة عن سفيان عن خالد الحذاء وعاصم عن أبي قلابة عن أنس مرفوعاً أرحم أمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر الحديث. قال فلو صح إسناده لأخرج في الصحيح، إنما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة مرسلاً.
الثالث: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين. كحديث موسى بن عقبة عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة. قال هذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شرط الصحيح، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا، وإنما الحديث محفوظ عن رواية أبي بردة عن الأغر المزني.
الرابع: أن يكون محفوظاً عن صحابي فيروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته بل ولا يكون معروفا من جهته. كحديث زهير بن محمد عن عثمان بن سليمان عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. قال أخرج العسكري وغيره هذا الحديث في الوحدان وهو معلول، أبو عثمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه، وعثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، وإنما هو عثمان بن أبي سليمان.
الخامس: أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه رجل دل عليه طريق أخرى محفوظة. كحديث يونس عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن رجل من الأنصار أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرمى بنجم فاستنار الحديث. قال وعلته أن يونس مع جلالته قصر به، وإنما هو عن ابن عباس حدثني رجال، هكذا رواه ابن عيينة وشعيب وصالح والأوزاعي وغيرهم عن الزهري.
السادس: أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد. كحديث علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله مالك أفصحنا؟ الحديث. قال وعلته ما أسند عن علي بن خشرم حدثنا علي بن الحسين بن واقد بلغني أن عمر فذكره.
السابع: الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله. كحديث الزهري عن سفيان الثوري عن حجاج بن فرافصة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم. قال وعلته ما أسند عن محمد بن كثير حدثنا سفيان عن حجاج عن رجل عن أبي سلمة فذكره.
الثامن: أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه لكنه لم يسمع منه
أحاديث معينة فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلتها أنه لم يسمعها منه. كحديث يحيى ابن أبي كثير عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال أفطر عندكم الصائمون الحديث. قال فيحيى رأى أنسا وظهر من غير وجه أنه لم يسمع منه هذا الحديث، ثم اسند عن يحيى قال حدثت عن أنس فذكره.
التاسع: أن تكون طريقه معروفة يروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم. كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي عن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد الله دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم الحديث. قال أخذ فيه المنذر طريق الجادة، وإنما هو من حديث عبد العزيز حدثنا عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي.
العاشر: أن يروي الحديث مرفوعاً من وجه وموقوفاً من وجه. كحديث أبي فروة يزيد بن محمد حدثنا أبى عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا من ضحك في صلاته يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. قال وعلته ما أسند وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان قال سئل جابر فذكره.
قال الحاكم وبقيت أجناس لم نذكرها وإنما جعلنا هذه مثالا لأحاديث كثيرة.]
المسألة الثالثة:
قوله: (وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها)
.
1 -
قوله: (وفيه نظر) ظاهر هذه العبارة أن الضمير يعود لاشتراط نفي الشذوذ والعلة في الحديث الصحيح، وأن اشتراطهما فيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء دون المحدثين، وعبارة شيخه ابن دقيق العيد في الاقتراح صريحة في ذلك حيث قال: [الصحيح: ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التَّيقُظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قُرِّر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً. وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذاً ولا معلَّلاً. وفي هذين الشرطين نَظَرٌ على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً من العلل (التي) يعلِّل بها المحدثون الحديث لا
تجري على أصول الفقهاء].
(وبعد فالذي يظهر أنه هاهنا ثلاث وجوه للتعقب على الإمام الذهبي في هذه العبارة:
الوجه الأول: قد تعقب البعض هنا بأنهما أطلقا الخلاف في اشتراط خلو الحديث من الشذوذ والعلة، ولكنهما لم يفصلا بعد ذلك إلا في الكلام على العلة دون الشذوذ.
قال الصنعاني في توضيح الأفكار (1/ 14): [كلام الشيخ تقي الدين تنظير على شرطي السلامة من الشذوذ من العلة ولم يبين وجه النظر إلا في اشتراط السلامة من العلة دون الشذوذ؛ فالعلة قاصرة عن المدعى].
والصحيح أنه لا وجه للتعقب عليهما من هذه الناحية؛ وذلك لأن كلام الإمام الذهبي، وشيخه ابن دقيق العيد صريح في أن الفقهاء لا يشترطون خلو الحديث من الشذوذ مطلقاً، ولكنهم يتفقون مع المحدثين في اشتراط خلو الحديث من بعض العلل، وهي القادحة فقط، ولذا فقد لزم ذلك منهما التنبيه على موضع الاتفاق وهو بعض العلل، وأما الشذوذ فكلامهما في أول عبارتهما صريح في عدم اشتراط الفقهاء لخلو الحديث الصحيح منه، ولذلك لم يحتاجا لإعادة التنبيه اكتفاءً بما سبق من كلامهم.
ومما يؤكد مذهب الفقهاء في الشاذ ما نقله الصنعاني في التوضيح (1/ 378) عن ابن حجر حيث قال: [قال الحافظ ابن حجر إنه يمكن بأن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في رسم الصحيح إنما يقوله المحدثون وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك فأهل الحديث يشترطون أن لا يكون الحديث شاذا ويقولون إن من أرسل عن الثقات فإن كان أرجح ممن وصل من الثقات قُدِّمَ والعكس
…
].
الوجه الثاني: ظاهر عبارة الإمام الذهبي أن المحدثين يشترطون في الحديث الصحيح خلوه من الشذوذ، وهذا متعارض مع ما قاله ابن حجر، قال السيوطي في التدريب (1/ 65): [قيل لم يفصح - أي ابن كثير - بمراده من الشذوذ هنا وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال أحدها مخالفة الثقة لأرجح منه والثاني
تفرد الثقة مطلقا والثالث تفرد الراوي مطلقا ورد الأخيرين فالظاهر أنه أراد هنا الأول، قال شيخ الإسلام: وهو مشكل لأن الإسناد إذا كان متصلا ورواته كلهم عدولا ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ثم إذا انتفى كونه معلولا فما المانع من الحكم بصحته فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عددا لا يستلزم الضعف بل يكون من باب صحيح وأصح. قال: ولم يرو مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرهما فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل جابر من طرق وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن وفي اشتراط ركوبه وقد رجح البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها مع تخريج الأمرين ورجح أيضا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك ومن ذلك أن مسلما أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر (1) وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر ويونس وعمرو ابن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب وغيرهم عن الزهري فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح ورجح جمع من الحفاظ روايتهم على رواية مالك ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم وأمثلة ذلك كثيرة. ثم قال: فإن قيل يلزم أن يسمى الحديث صحيحا ولا يعمل به قلت لا مانع من ذلك ليس كل صحيح يعمل به بدليل المنسوخ قال وعلى تقدير التسليم إن المخالف المرجوح لا يسمى صحيحا ففي جعل انتفائه شرطا في الحكم للحديث بالصحة نظر بل إذا وجدت الشروط المذكورة أولا حكم للحديث بالصحة ما لم يظهر بعد ذلك أن فيه شذوذا لأن الأصل عدم الشذوذ وكون ذلك أصلا مأخوذ من عدالة الراوي وضبطه فإذا ثبت عدالته وضبطه كان الأصل أنه حفظ ما روي حتى يتبين خلافه].
وسوف يأتي - بمشيئة الله - الكلام على الشاذ في موضعه من الرسالة، وإنما الغرض هنا التنبيه. والله أعلم.،
(1) - أي بعد ركعتي الوتر.
الوجه الثالث: ظاهر عبارة الإمام الذهبي أن المحدثين يشترطون في الحديث الصحيح خلوه من العلة مطلقاً، بمعنى أنهم يعللون الحديث بمطلق العلة، مع أنه قد قال في الموقظة:(فإن كانت العلة غير مؤثرة، بأن يرويه الثبت على وجه، ويخالفه واه، فليس بمعلول. وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل فلم يصب، لأن الحكم للثبت) فهذا صريح منه في أن بعض العلل غير مؤثرة وأن الحديث مع وجود مثل هذه العلل ليس بمعلول.
وقال ابن حجر في النكت (1/ 236): [ويحتمل إنه - أي ابن الصلاح - إنما لم يقيد العلة بالقدح في نفس الحد ليكون الحد جامعاً للحديث الصحيح المتفق على قبوله عند الجميع، لأن بعض المحدثين يرد الحديث بكل علة سواء كانت قادحة أو غير قادحة]. فقوله: (بعض المحدثين) صريح في بيان أن البعض الآخر من المحدثين لا يشترطون خلو الحديث الصحيح إلا من العلة القادحة.
وقد أطلق الخليلي أيضاً العلة على غير القادح وقسم الصحيح إلى معلول، وغير معلول حيث قال في الإرشاد (1/ 157 وما بعدها): [اعلموا رحمكم الله أن الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقسام كثيرة: صحيح متفق عليه، وصحيح معلول، وصحيح مختلف فيه، وشواذ، وأفراد، وما أخطأ فيه إمام، وما أخطأ فيه سيئ الحفظ يضعف من أجله، وموضوع وضعه من لا دين له
…
فأما الحديث الصحيح المعلول فالعلة تقع للأحاديث من أنحاء شتى لا يمكن حصرها فمنها أن يروي الثقات حديثا مرسلا وينفرد به ثقة مسندا فالمسند صحيح وحجة ولا تضره علة الإرسال ومثاله حديث رواه أصحاب مالك في الموطأ عن مالك قال بلغنا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للملوك طعامه وشرابه ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ورواه إبراهيم بن طهمان الخراساني والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني عن مالك عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
فقد صار الحديث بتبيين الإسناد صحيحا يعتمد عليه وهذا من الصحيح المبين بحجة ظهرت وكان مالك رحمه الله يرسل أحاديث لا يبين إسنادها وإذا استقصى عليه من يتجاسر أن يسأله ربما أجابه إلى الإسناد
…
إلى آخر ما ذكر من أمثلة]. وراجع هنا أيضاً ما سبق ذكره
في تعريف العلة بالمعنى العام.
ملاحظة: مناقشة كلام الشيخ المليباري في التلازم بين العلة وبين القدح في الصحة:
قال المليباري في رسالته " الحديث المعلول قواعد وضوابط " تحت عنوان: التلازم بين العلة وبين القدح في الصحة: [ما ينبغي ذكره هنا أنه يمكن أن نستخلص مما سبق أن العلة كلها قادحة، لأنها دالة على وهم الراوي وخطئه، ويكون الخطأ قادحا في صحة ما وقع فيه الخطأ، وقد يكون ذلك في الإسناد أو في المتن أو في كليهما، ولا تخرج العلة عن أن تكون قادحة، ولهذا جاء تعريف العلة متضمنا ذلك حين قالوا: ''إن العلة عبارة عن سبب غامض يقدح في صحة الحديث''.
وعلى الرغم من اتفاق المتأخرين على ذكر القدح في تعريف العلة كقيد وشرط، فإنهم في الوقت ذاته يقسمونها إلى قادحة وغير قادحة!! ولعل هذا التقسيم لخلفيتهم العلمية المزدوجة، التي لا تتفق مع منهج المحدثين في نقد الحديث، كما سيتضح لنا من المثال الآتي.
روى مخلد ويعلى بن عبيد عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم حديثا في خيار البَيِّعين (1). يقول النقاد: هذا وهم من مخلد ويعلى إذ أضافا الحديث إلى عمرو بن دينار، وهو لم يحدث به، والصواب: أن هذا الحديث إنما رواه عبد الله بن دينار، وليس عمرو بن دينار. وهذه العلة في الإسناد غير قادحة في صحة المتن، لأنه صح عن سفيان من طرق أخرى.
وبهذا وغيره قالوا: العلة قد تكون غير قادحة، أي لا تقدح في صحة المتن، والواقع أن ذلك لا ينفي كون تلك العلة قادحة، إذ لا يختلف اثنان على عدم صحة روايتهما، وأن العلة هنا أصبحت قادحة في صحة الحديث عن عمرو بن دينار، وإن كان المتن صحيحا. كما أن الاضطراب حول اسم الصحابي الذي روى الحديث، أو راويه الثقة لا يعدونه علة قادحة أيضا، لأنه أيا كان هذا الراوي
(1) - رواه النسائي في 7/ 250 من طريق مخلد به، والطبراني في الكبير 12/ 448 من طريق يعلى بن عبيد به.
فالحديث لا يخرج من رواية الثقة، سواء أكان هو هذا الثقة أم ذاك الثقة، أو هذا الصحابي أو ذاك الصحابي، بخلاف الاضطراب الذي يكون حول الراوي الثقة والضعيف؛ فإنه يضر حينئذ في صحة الحديث.
وهذا أيضا لا ينفي كون العلة قادحة لتأثيرها في ثبوت الراوي الثقة بعينه، ويكون السؤال مطروحا: من صاحب هذا الحديث؟ فهذا النوع من الاضطراب أصبح علة قادحة، وإن لم تقدح في صحة الحديث عموما
…
والواقع هو أن العلة كلها قادحة تقدح في صحة ما وقعت فيه العلة، قد يكون ذلك في الإسناد أو فيما يخص راويا من رواته، أو في المتن، أو زيادة كلمة فيه، أو تغيير سياقه أو في الحديث سندا ومتنا، أعني بذلك أن القدحية قد تكون نسبية أو مطلقة، لأن العلة عند نقاد الحديث عبارة عن خطأ الراوي. والله أعلم].
لاحظ أن نظر المقسمين للعلة إلى قادحة وغير قادحة إنما هو بالنظر إلى الطريق الصحيح، فالعلة والمخالفة هنا لم تقدح في صحة هذا الحديث من هذه الطريق الصحيحة، وأما كلام المليباري في هذا المبحث فإنما هو بالنظر لعموم الطرق فمطلق العلة قادح سواء كان ذلك في الطريق الصحيح أو الطريق الخطأ، فأصبح الخلاف بينهما لفظي فالمليباري بمقتضى كلامه لا ينكر أن العلة القادحة في الطريق الخطأ تكون غير قادحة في الطريق الصحيح.
قوله: (فالمجُمْعُ على صِحَّتِه إذاً: المتصلُ السالمُ من الشذوذِ والعِلَّة، وأنْ يكون رُواتُه ذوي ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدليس)
. فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قوله: (المجُمْعُ على صِحَّتِه) أي بين المحدثين والفقهاء، قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: [الصحيح: ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التَّيقُظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قُرِّر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً. وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذاً ولا معلَّلاً. وفي هذين الشرطين نَظَرٌ على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً من العلل (التي) يعلِّل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء. وبمقتضى ذلك حُدَّ الحديث
الصحيح، بأَنه: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معلّلاً.
ولو قيل في هذا الحدِّ: الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسناً، لأَنَّ من لا يشترط بعض هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف. ومن شَرْطِ الحدِّ أن يكون جامعاً مانعاً].
…
(ولابد هنا من التنبيه على
بعض الشروط الأخرى التي ذكرها العلماء في الحديث الصحيح
والتي منها الشروط الثبوتية والسلبية، والتي تجعل الحد غير جامع ولا مانع. وإليك هذه الشروط وتوجيهات العلماء لها.
1 - اشتراط نفي النكارة:
قال ابن حجر في النكت (1/ 237): [إنما لم يشترط نفي النكارة - أي ابن الصلاح -، لأن المنكر على قسميه عند من يخرج الشاذ هو أشد ضعفاً من الشاذ. فنسبة الشاذ من المنكر نسبه الحسن من الصحيح فكما يلزم من انتفاء الحسن عن الإسناد انتفاء الصحة.
كذا يلزم من انتفاء الشذوذ عنه انتفاء النكارة. ولم يتفطن الشيخ تاج الدين التبريزي لهذا وزاد في حد الصحيح، أن لا يكون شاذاً ولا منكراً].
2 - عدم شموله للصحيح لغيره:
قال السيوطي في التدريب (1/ 67 - 68): [أورد على هذا التعريف ما سيأتي إن الحسن إذا روى من غير وجه ارتقى من درجة الحسن إلى منزلة الصحة وهو غير داخل في هذا الحد وكذا ما اعتضد بتلقي العلماء له بالقبول قال بعضهم يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح قال ابن عبد البر في الاستذكار لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر هو الطهور ماؤه وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده لكن الحديث عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول وقال في التمهيد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم الدينار أربعة وعشرون قيراطا قال وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني تعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم، وقال نحوه ابن فورك وزاد بأن مثل
ذلك بحديث في الرقة ربع العشر وفي مائتي درهم خمسة دراهم وقال أبو الحسن ابن الحصار في تقريب المدارك على موطأ مالك قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به وأجيب عن ذلك بأن المراد بالحد الصحيح لذاته لا لغيره وما أورد من قبيل الثاني].
وهذا الجواب سبق التنبيه عليه في صدر شرح تعريف الحديث الصحيح، حيث قلت: أي لذاته لا لغيره؛ لأنه المقصود عند الإطلاق.
3 - اشتراط أن يكون راويه مشهورا بالطلب:
قال السيوطي في التدريب (1/ 69 - 70): [بقي للصحيح شروط مختلف فيها منها ما ذكره الحاكم من علوم الحديث أن يكون راويه مشهورا بالطلب وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة بل قدر زائد على ذلك، قال عبد الله بن عون: لا يؤخذ العلم إلا على من شهد له بالطلب، وعن مالك نحوه، وفي مقدمة مسلم عن أبي الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله، قال شيخ الإسلام: والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك كما يستغنى بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام، قال شيخ الإسلام: ويمكن أن يقال اشتراط الضبط يغني عن ذلك إذ المقصود بالشهرة بالطلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روي (1)].
4 - اشتراط الفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة:
وقال أيضاً في نفس الموضع: [ومنها ما ذكره السمعاني في القواطع أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وإنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة قال شيخ الإسلام هذا يؤخذ من اشتراط انتفاء كونه معلولا لأن الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذكر من الفهم والمذاكرة وغيرهما].
(1) الأولى أن نفسر الشهرة المقصودة هنا بأن يكون ثقة أي عدل ضابط، فنزيد شرط العدلة مع الضبط وذلك لأن حال الرواة ترك الرواسة عن غير العدل، وإن رووا عنه فمقصودهم تمييز حديثه.
5 - اشتراط علمه بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى:
وقال أيضاً: [ومنها أن بعضهم اشترط علمه بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى وهو شرط لا بد منه لكنه داخل في الضبط].
6 - اشتراط فقه الراوي:
وقال أيضاً: [ومنها أن أبا حنيفة اشترط فقه الراوي قال شيخ الإسلام والظاهر أن ذلك إنما يشترط عند المخالفة أو عند التفرد بما تعم به البلوى].
وعزو هذا الشرط للإمام أبي حنيفة فيه نظر، كما أن عزوه بهذا الإطلاق للأحناف فيه أيضاً نظر، وإنما هو عندهم مقيد بمخالفة القياس؛ قال الزركشي في البحر المحيط (6/ 212 - 213):[ولا يشترط أن يكون - أي الراوي - فقيها عند الأكثرين سواء خالفت روايته القياس أم لا. وشرط عيسى بن أبان فقه الراوي لتقديم الخبر على القياس ، ولهذا رد حديث المصراة ، وتابعه أكثر متأخري الحنفية ، ومنهم الدبوسي ، وأما الكرخي وأتباعه فلم يشترطوا ذلك ، بل قبلوا خبر كل عدل إذا لم يكن مخالفا للكتاب أو السنة المشهورة ، ويقدم على القياس. قال أبو اليسر منهم: وإليه مال أكثر العلماء. قال صاحب " التحقيق ": وقد عمل أصحابنا بحديث أبي هريرة: {إذا أكل أو شرب ناسيا} ، وإن كان مخالفا للقياس ، حتى قال أبو حنيفة: لولا الرواية لقلت بالقياس ، وقد ثبت عن أبي حنيفة أنه قال: ما جاءنا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين. واحتج أبو حنيفة في مواضع كثيرة على تقدير الحيض وغيره بمذهب أنس بن مالك مقلدا له ، فما ظنك بأبي هريرة مع أنه أفقه من أنس. قال: ولم ينقل عن أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي ، فثبت أنه قول محدث. اهـ].
…
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)(1) صريح في رد هذا الشرط كما قال السخاوي في فتح المغيث (2).
…
(1) - رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وصححه الألباني، والأرناوؤط.
(2)
- فتح المغيث (1/ 293).
7 - اشتراط ثبوت السماع:
قال السيوطي (1/ 70): [ومنها اشتراط البخاري ثبوت السماع لكل راو من شيخه ولم يكتف بإمكان اللقاء والمعاصرة كما سيأتي وقيل إن ذلك لم يذهب أحد إلى أنه شرط الصحيح بل للأصحية]
والكلام على شرط البخاري سيأتي - إن شاء الله - في محله من الرسالة.
8 - اشتراط العدد:
قال ابن حجر في النكت: (1/ 238: 247): في مبحث " اشتراط العدد لقبول الحديث لم يصرح به أحد من المحدثين ": [1 - قوله - أي العراقي -: " وكأن البيهقي رآه في كلام أبي محمد الجويني فنبه على أنه لا يعرف عن أهل الحديث ".
يعني اشتراط العدد في الحديث المقبول بأن يرويه عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ انتهى.
وهذا إن كان الشيخ أراد بأنه لا يعرف التصريح به من أحد أهل الحديث فصحيح، وإلا فذلك موجود في كلام الحاكم أبي عبد الله الحافظ في المدخل. وقد نقله عنه الحازمي لما ذكر أن الحديث الصحيح ينقسم أقساماً وأعلاماً شرط البخاري ومسلم، وهي الدرجة الأولى من الصحيح، وهو أن يرويه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صحابي زائل عنه اسم الجهالة. بأن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين، حافظ متقن، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته. (وله رواة ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة)(1).
وقال في كتاب علوم الحديث له ((وصفة الحديث الصحيح أن يرويه)) ثم ساق نحو ذلك لكن لم يتعرض لعدد معين فيمن بعد التابعين.
(1) - قال د. ربيع: وما بين القوسين لم يذكر فيما نقله عنه الحازمي، وقد راجعت المدخل ص7 فلم أجده فيه وهو موجود في معرفة علوم الحديث فظنه الحافظ في المدخل وليس كذلك.
وقد فهم الحافظ أبو بكر الحازمي من كلام الحاكم أن ادعى أن الشيخين لا يخرجان الحديث إذا انفرد به أحد الرواة فنقض عليه بغرائب الصحيحين.
والظاهر أن الحاكم لم يرد ذلك وإنما أراد كل راو في الكتابين من الصحابة فمن بعدهم يشترط أن يكون له راويان في الجملة، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه عنه، إلا أن قوله في آخر الكلام. ثم يتداوله أهل الحديث كالشهادة على الشهادة.
إن أراد به تشبيه الرواية بالشهادة من كل وجه فيقوى اعتراض الحازمي وإن أراد به تشبيهها بها في الاتصال والمشافهة، فقد ينتقض عليه بالإجازة والحاكم قائل بصحتها. وأظنه إنما أراد بهذا التشبيه أصل الاتصال (والإجازة عند المحدثين لها حكم الاتصال) والله أعلم.
ولا شك أن الاعتراض عليه في علوم الحديث أشد من الاعتراض عليه بما في المدخل، لأنه جعل في المدخل هذا شرطاً لأحاديث الصحيحين.
وفي العلوم جعله شرطاً للصحيح في الجملة. وقد جزم أبو حفص الميانجي بزيادة على ما فهمه الحازمي من كلام الحاكم.
" زعم الميانجي أن الشيخين يشترطان العدد في صحة الحديث في كتابيهما: " فقال في (كتاب ما لا يسع المحدث جهله) إن شرط الشيخين في صحيحهما ـ أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما، وذلك ما رواه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اثنان فصاعداً وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر، وأن يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة". فهذا الذي قاله الميانجي مستغن بحكايته عن الرد عليه فإنهما لم يشترطا ذلك ولا واحد منهما.
وكم في الصحيحين من حديث لم يروه إلا صحابي واحد، وكم فيهما من حديث لم يروه إلا تابعي واحد. وقد صرح مسلم في صحيحه ببعض ذلك. وإنما حكيت كلام الميانجي هنا، لأتعقبه لئلا يغتر به.
" اشتراط ابن علية وغيره العدد في صحة الحديث: "
وأما اشتراط العدد في الحديث الصحيح، فقد قال به قديماً إبراهيم بن إسماعيل بن علية وغيره.
وعقد الشافعي في ((الرسالة)) باباً محكماً لوجوب العمل بخبر الواحد، وخبر الواحد عندهم هو: ما لم يبلغ درجة المشهور سواء رواه شخص واحد أو أكثر. ورأيت في بعض تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة. وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة ـ أيضاً ـ فيما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد ((أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر. أو عضده موافقة ظاهر الكتاب، أو ظاهر خبر آخر. أو يكون منتشراً بين الصحابة، أو عمل به بعضهم)).
وأطلق الأستاذ أبو منصور التميمي عنه أنه اشترط الاثنين عن الاثنين والحق عنه التفصيل الذي حكيناه.
واحتج على ذلك:
1 -
بقصة ذي اليدين وكون النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ توقف في خبره حتى تابعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما.
2 -
وقصة أبي بكر رضي الله عنه حين توقف في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في ميراث الجدة حتى تابعه محمد بن مسلمة.
3 -
وقصة عمر رضي الله عنه في توقفه في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير ذلك.
4 -
وقول على بن أبي طالب رضي الله عنه ((كنت إذا حدثني رجل استحلفته فإن حلف لي صدقته)).
والجواب: عن ذلك كله واضح.
أما قصة ذي اليدين: فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إنما توقف فيه للريبة الظاهرة، لأنه أخبر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن فعل نفسه وكان ثم جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم ولم يذكره أحد منهم سواء، فكان موجب التوقف قوياً. وقد قبل خبر غيره على انفراده عند انتفاء الريبة في جملة من الوقائع.
وأما قصة المغيرة رضي الله عنه فإن أبا بكر الصديق ـ رضي الله
عنه ـ إنما توقف فيه، لأنه أمر مشهور فأراد أن يثبت فيه، وقد قبل أبو بكر رضي الله عنه حديث عائشة رضي الله عنها وحدها في القدر الذي كفن فهي رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما عمر رضي الله عنه فإن أبا موسى رضي الله عنه أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه، فأراد عمر رضي الله عنه الاستثبات في خبره لهذه القرينة.
وقد قبل عمر رضي الله عنه حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وحده في أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أخذ الجزية من مجوس هجر.
وحديثه وحده رضي الله عنه في النهي عن الفرار من الطاعون وعن دخول البلد التي وقع بها.
وحديث الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم من دية زوجها. وعدة أخبار من أخبار الآحاد في عدة من الوقائع.
وأما صنيع علي رضي الله عنه في الاستحلاف فقد أنكر البخاري صحته وعلى تقدير ثبوته، فهو مذهب تفرد به والحامل له على ذلك المبالغة في الاحتياط، والله أعلم.].
المسألة الثانية: قوله: [وعدمِ تدليس]
زاد الإمام الذهبي هذا القيد، ولم أراه لغيره، ولم يذكره شيخه في الاقتراح، ولم يلتزمه فقد ذكر في الأسانيد التي وصفها بأنها أعلى مراتب المجمع عليه كما سيأتي رواة قد وصفوا بالتدليس، إلا أن يكون مقصوده اشتراط التصريح بالسماع ليتحقق شرط عدم التدليس عند الرواة الموصوفين بالتدليس، إلا أن هذا المقصود فيه نظر وسيأتي - إن شاء الله - بيان هذا النظر عن الكلام على الاتصال.
وهذا القيد داخل في اشتراط العدالة، والاتصال، ولذا فلعل الصواب حذف هذا القيد والاستغناء عنه من الحد. وسوف يأتي الكلام تفصيلياً بمشيئة الله على التدليس وأنواعه في محله من الرسالة.
أنه لا تلازم بين صحة الإسناد وصحة المتن، وعليه فكان الأحرى بالإمام الذهبي أن يقيد إطلاق عبارته بالأسانيد، وألا يخالف نص عبارة شيخه في الاقتراح حيث قال: [وقد اختلف أئمة الحديث في أَصحِّ الأسانيد:
…
].
قال ابن حجر في النكت (1/ 247 - 248): (قوله - أي ابن الصلاح -: ((ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق. على أن جماعة من أئمة الحديث خاضوا غمرة ذلك)). (انتهى). إما الإسناد فهو كما قال قد صرح جماعة من أئمة الحديث بأن إسناد كذا أًصح الأسانيد.
وأما الحديث فلا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال: حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق، لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول. أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول. فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الحكم على الإسناد خاصة. وليس الخوض فيه يمتنع، لأن الرواة قد ضبطوا، وعرفت أحوالهم وتفاريق مراتبهم، فأمكن الاطلاع على الترجيح بينهم.
وسبب الاختلاف في ذلك إنما هو من جهة أن كل من رجح إسناداً كانت أوصاف رجال ذلك الإسناد عنده أقوى من غيره بحسب اطلاعه، فاختلفت أقوالهم، لاختلاف اجتهادهم.].
وقال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/ 501): [ولما كان لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن كذلك قصر الأئمة الحكم على الإسناد فقط ولا يحفظ عن أحد منهم أنه قال إن الأحاديث المروية بإسناد كذا من الأسانيد التي حكم لها بأنها أصح من غيرها هي أصح الأحاديث].
الإشكال الثاني:
وهو جزمه هنا بأن ما ذكر هو أعلى مراتب الصحيح المجمع عليه، مخالفاً لشيخه الذي قد ذكر هذه الأسانيد كمذاهب في المسألة، ولم يجزم بشيء منها.
قال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/ 500 - 501): [وقد اختلف في أصح الأسانيد فقال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع
عن ابن عمر
…
والمختار أنه لا يحكم لإسناد بأنه أصح الأسانيد كلها إذ لا يمكن أن يحكم لكل راو ذكر فيه بأنه قد حاز أعلى صفات القبول من العدالة والضبط ونحوهما عل وجه لا يوازيه فيه أحد من الرواة الموجودين في عصره ولذلك اضطربت أقوال من خاض في ذلك إذ ليس لديهم دليل مقنع واكثر الأقوال المذكورة في ذلك متكافئة يعسر ترجيح بعضها على بعض في الأكثر فالحكم حينئذ على إسناد معين بأنه أصح الأسانيد على الإطلاق مع عدم اتفاقهم فيه ترجيح بلا مرجح.
قال بعض الحفاظ ومع ذلك يمكن للناظر المتقن ترجيح بعضها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجح وإتقانه وإن لم يتهيأ ذلك على الإطلاق فلا يخلو النظر فيه من فائدة لأن مجموع ما نقل عن الأئمة من ذلك يفيد ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية على ما لم يقع له حكم من أحدهم وهذا حيث لم يكن مانع؛ ولذلك قال أبو بكر البرديجي: أجمع أهل النقل صحة أحاديث الزهري عن سالم عن أبيه وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من رواية مالك وابن عيينة ومعمر ما لم يختلفوا فإذا اختلفوا توقف فيها
…
فإن كان ولا بد من الحكم فينبغي تقييد كل ترجمة بصحابيها أو بالبلدة التي منها أصحاب تلك الترجمة بأن يقال أصح أسانيد فلان كذا وأصح أسانيد أهل بلدة كذا وكذا فإنه أقل انتشارا وأقرب إلى الحصر بخلاف الأول فإنه في أمر واسع شديد الانتشار والحاكم فيه على خطر من الخطأ والخطأ فيه أكثر من الخطأ في مثل قولهم ليس في الرواة من اسمه كذا سوى فلان.
وعلى ذلك يقال أصح أسانيد ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر وأصح أسانيد ابن مسعود سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وأصح أسانيد أنس بن مالك مالك عن الزهري ولهما من الرواة جماعة فأثبت أصحاب ثابت حماد بن زيد وقيل حماد بن سلمة وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل هشام الدستوائي.
وأصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وأصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة وأثبت أسانيد المصريين الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر وأصح أسانيد الكوفيين يحيى