الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَعَتِ الْمِحْنَةُ بِهِ زَمَانَ بِشْرٍ الْمَرِّيسِيِّ (1) فِي حضرة المأمون وابن أبي داود (2) وغيرهما.
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها (أن يناصب)(3) هَذِهِ الْمُنَاصَبَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُشْرَبٍ حُبَّهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمِثَالِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمْ مِنْ أَهْلِ (البدع)(4) لَمْ يَقُومُوا بِبِدْعَتِهِمْ قِيَامَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، بَلِ اسْتَتَرُوا بِهَا جِدًّا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا جِهَارًا، كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَدُّ فِي الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ بِسَبَبِ (عَدَمِ)(5) شُهْرَتِهِمْ بِمَا انْتَحَلُوهُ.
فَهَذَا الْوَجْهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أولى الوجوه بالصواب،/ وبالله التوفيق.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّ هَذَا الْإِشْرَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ، أَمْ لَا يَخْتَصُّ؟ وَذَلِكَ (أَنَّهُ)(6) / يُمْكِنُ أَنَّ (تكون)(7) بَعْضَ الْبِدَعِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُشْرِبَ قَلْبَ/ صَاحِبِهَا جِدًّا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَجَارَى بِصَاحِبِهَا كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَبِدْعَةُ الْخَوَارِجِ مَثَلًا فِي طَرَفِ الْإِشْرَابِ كَبِدْعَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ الْمُلْتَزِمِينَ (للظاهر)(8) فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ (يَتَجَارَى)(9) ذَلِكَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ فَيَكُونُ مِنْ أهلها من (أشربت قلبه، ومنهم من لم تشرب قلبه ذلك الإشراب، وهذا الثاني هو الأظهر،
(1) تقدمت ترجمته (ص40).
(2)
هو أحمد بن فرج بن حريز الجهمي، رأس فتنة القول بخلق القرآن، مات سنة 240هـ. انظر: تاريخ بغداد (4 141)، والسير (11 169).
(3)
زيادة من (غ) و (ر).
(4)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "البدعة".
(5)
ساقط من (غ) و (ر).
(6)
في (غ) و (ر): "إنما".
(7)
زيادة من (غ) و (ر).
(8)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الظاهر".
(9)
في (غ) و (ر): "يجري".
والله أعلم، ويتبيّن بأمثلة،/ أحدها: بدعة القدر فإن مِنْ أَهْلِهَا مَنْ) (1) تَجَارَتْ بِهِ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (2)، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ بِسَبَبِ الْقَوْلِ بِهِ سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (3)، وقوله تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *} (4) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا النَّحْوِ كَجُمْلَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْفَارِسِيِّ النحوي (5) وابن جني (6).
والثاني: بِدْعَةُ (الظَّاهِرِيَّةِ)(7)، فَإِنَّهَا تَجَارَتْ بِقَوْمٍ حَتَّى قَالُوا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (8) قاعد، قَاعِدٌ (قَاعِدٌ)(9)، وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ وَتَقَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ (تبلغ)(10) بِقَوْمٍ آخَرِينَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ في الفروع وأشباهه (11).
(1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(2)
قال عمرو بن عبيد ـ كما في تاريخ بغداد (12 170) سير أعلام النبلاء (6 104) ـ: "إن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة"، وهذا يبيِّن أن سبب إنكاره لسورة تبت وما في معناه هو إنكار القدر.
(3)
سورة المسد: الآية (1).
(4)
سورة المدثر: الآية (11).
(5)
هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي المشهور، تتلمذ على الزجاج، ومن تلاميذه أبو الفتح ابن جني، وكان الفارسي معتزلياً، توفي سنة 377هـ. انظر: تاريخ بغداد (7 275)، والسير (16 379).
(6)
هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، أخذ عن الفارسي النحوي اللغة والاعتزال، توفي سنة 392هـ. انظر: تاريخ بغداد (11 311)، والسير (17 17).
(7)
في (م) و (غ) و (ر): "الظاهر".
(8)
سورة طه: الآية (5).
(9)
زيادة من (غ) و (ر).
(10)
في سائر النسخ ما عدا (غ): "يبلغ".
(11)
بدعة الظاهرية عند الشاطبي قسمان؛ الأول: الظاهرية في نصوص الصفات أي الذين يجرون نصوص الصفات على ظاهرها، ويعتقدون معناها المعروف في لغة العرب دون تأويلٍ لها، وهذا مذهب السلف.
القسم الثاني: ظاهرية الفقهاء كداود الظاهري وابن حزم، فجعل الشاطبي كلا القسمين من أهل البدع، وجعل القسم الأول ـ وهو مذهب السلف في الصفات ـ من أهل الإغراق في البدعة، ولا شك في خطأ الشاطبي في مسلكه هذا حيث ذهب في تفسير مذهب السلف في نصوص الصفات إلى تفسيره بمذهب المفوضة الذين يفوضون المعاني، وقد فصّل هذه المسألة الباحث: ناصر الفهد، في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" ص30 وص55، فليراجع لأهميته.
والثالث: بِدْعَةُ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا عَلَى الهيئة الاجتماعية، فإنها بلغت (ببعض أصحابها) (1) إِلَى أَنْ كَانَ (التَّرْكُ) (2) لَهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ؛ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ خَلِيلٍ حِكَايَةً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْعَابِدِ (3): أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ/ وَأَهْلِ الوجاهة فيها ـ وكان موصوفاً بشدة السطوة وَبَسْطِ الْيَدِ ـ نَزَلَ فِي جِوَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وصلى (خلفه)(4) فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ لَا يَدْعُو فِي أُخْرَيَاتِ الصَّلَوَاتِ تَصْمِيمًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ ـ يَعْنِي مَذْهَبَ مَالِكٍ ـ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي مَذْهَبِهِ/ وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ مُحَافِظًا عَلَيْهِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْهُ تَرْكَ/ الدُّعَاءِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فَأَبَى، وَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَرْكِهِ فِي أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي صَلَّى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْعَتَمَةَ فِي الْمَسْجِدِ، (فَلَمَّا انْقَضَتْ) (5) وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى دَارِهِ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ: قَدْ قُلْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ يَدْعُو (إِثْرَ)(6) الصَّلَوَاتِ فَأَبَى، فَإِذَا كَانَ فِي غَدْوَةِ غَدٍ (لم يفعل)(7) أضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف فِي يَدِهِ فَخَافُوا عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا عَلِمُوا مِنْهُ، فَرَجَعَتِ الْجَمَاعَةُ بِجُمْلَتِهَا إِلَى دَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: ما شأنكم؟ / فقالوا: والله لقد خفنا (عليك)(8) مِنْ هَذَا الرَّجُلِ / وَقَدِ اشْتَدَّ الْآنَ غَضَبُهُ عَلَيْكَ فِي تَرْكِكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا أَخْرُجُ عَنْ عَادَتِي، فَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ ـ وهو متبسم ـ: انْصَرِفُوا وَلَا تَخَافُوا فَهُوَ الَّذِي (تُضْرَبُ)(9) رَقَبَتُهُ (في)(10) غدوة غد بذلك السيف
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بأصحابها".
(2)
في (م): "القتل".
(3)
تقدمت ترجمته (2 270).
(4)
زيادة من (غ) و (ر).
(5)
ساقط من (غ) و (ر).
(6)
ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "بعد".
(7)
ما بين القوسين زيادة من (ت).
(8)
زيادة من (غ) و (ر).
(9)
في (ط) و (خ) و (ت): "ضربت". وفي (م): "ضرب".
(10)
ساقط من (غ) و (ر).
بحول الله، ودخل (إلى)(1) دَارَهُ، وَانْصَرَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذُعْرٍ مِنْ قَوْلِ ذلك الرجل، فلما كان مع (الصبح)(2)(من الغد)(3) وصل إلى دار الرجل قوم من (صنفه مع عبيد المخزن، وحملوه حمل المغضوب عليه، فتبعه قَوْمٌ مِنْ)(4) أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ البارحة حتى وصلوا (به)(5) إلى دار (الإمارة)(6) بِبَابِ جَوْهَرٍ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ (7)، وَهُنَاكَ أَمَرَ بِضَرْبِ رقبته (فضربت بسيفه)(8) ذَلِكَ، تَحْقِيقًا لِلْإِجَابَةِ وَإِثْبَاتًا لِلْكَرَامَةِ.
(وَقَدْ رَوَى بعض الإشبيليين الحكاية بمعنى هذه (لكن نَحْوٍ)(9) آخَرَ) (10).
وَلَمَّا رَدَّ وَلَدُ ابْنِ الصَّقْرِ (11) على الخطيب في خطبته (وكذَّبه حِينَ فَاهَ)(12) بِاسْمِ الْمَهْدِيِّ (13) وَعِصْمَتِهِ، أَرَادَ الْمُرْتَضَى (14) ـ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ (15) وَهُوَ إِذْ ذَاكَ خَلِيفَةٌ ـ أَنْ يَسْجُنَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَبَى الْأَشْيَاخُ
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2)
في (غ) و (ر): "الصحب".
(3)
زيادة من (غ) و (ر).
(4)
ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليه".
(6)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الإمامة".
(7)
إشبيلية من أهم مدن الأندلس، وهي تقع في الجنوب الغربي لقرطبة. انظر: معجم البلدان (1 195).
(8)
في (ط) و (خ): "بسيف".
(9)
هكذا في (ط) و (م): "لعل الصواب": (لكن على نحو آخر).
(10)
ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(11)
هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الصقر الأنصاري الخزرجي أبو العباس، كان محدثاً ثقة ضابطاً مقرءاً، ولد سنة 492هـ. وتوفي سنة 569هـ. انظر: الديباج المذهب (1 211).
(12)
في (ط) و (م) و (خ): "وكذلك خبر فاه"، وفي ت بياض بمقدار نصف سطر وهي تشبه في الرسم كلمة (وذلك حين).
(13)
هو ابن تومرت، تقدمت ترجمته (ص127).
(14)
هو أبو جعفر المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن، من أمراء الموحدين، قتل سنة 665هـ. انظر: كتاب "المهدي ابن تومرت" للدكتور عبد المجيد النجار (ص406)، ونفح الطيب (4 384).
(15)
هو عبد المؤمن بن علي بن القيسي، وهو خليفة ابن تومرت، ولدت سنة 487هـ، وتوفي سنة 558هـ. انظر: السير (20 366)، ونفح الطيب (1 442).