الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
/
فصل
النوع الثالث (1): (تحكيم العقل وتحسين الظن به، اعلم)(2) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا (سَبِيلًا)(2) إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؟ فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى، وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.
وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ (ذَوَاتُ)(3) الْأَشْيَاءِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَصِفَاتُهَا وَأَحْوَالُهَا وَأَفْعَالُهَا وَأَحْكَامُهَا جُمْلَةً وتفصيلاً، (وأيضاً)(4) فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا فِي/ ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَحْوَالِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ الشيء قاصر ناقص، (تعلق بذاته)(5) أو صفاته (أو أفعاله)(6) أَوْ (أَحْوَالِهِ)(7) أَوْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ (أَمْرٌ)(8) مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ (تُخْرِجُهُ)(9) التَّجْرِبَةُ إِذَا اعْتَبَرَهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ.
(1) النوع الثالث من أسباب الإحداث في الشريعة.
(2)
ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(3)
في (م): "سبيل".
(4)
في (م): "دول".
(5)
في (م): "تعقل في ذاته". وهو ساقط من (ت) و (خ) و (ط).
(6)
في (م): "تعلق". وفي (خ) و (ط): "تعقل".
(7)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (ت).
(8)
ما بين القوسين ساقط من (ت).
(9)
في (ت) بياض بمقدار كلمة.
(وأيضاً)(1) فأنت ترى المعلومات/ عند (العقلاء)(2) تَنْقَسِمُ (إِلَى)(3) ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ: لَا يُمْكِنُ التَّشْكِيكُ فِيهِ، كَعِلْمِ/ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَقِسْمٌ: لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِهِ أَوْ يُجْعَلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْتَادُ عَلِمَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْ لَا، كَعِلْمِهِ بِمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ/ (الآن مُغَيَّبٌ)(4) عَنْهُ تَحْتَ/ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ، وَعِلْمِهِ بِالْبَلَدِ الْقَاصِي عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ، فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْبِحَارِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النار على التفصيل، فعلمه بما لَمْ يُجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَقَسَمٌ نَظَرِيٌّ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ لا يعلم (به)(5) ـ وهي النظريات ـ وذلك الْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَةٍ لَا بِأَنْفُسِهَا، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا إِخْبَارًا.
وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق (عليها)(6) عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَنْظَارِ، فَإِذَا/ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُخْبِرٍ بِحَقِيقَتِهَا في أنفسها إن احتيج إليها، لأنها لَوْ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِخْبَارِ لَمْ يَصِحَّ الْعِلْمُ بِهَا، لَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْظَارِ، لِأَنِّهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبًا ـ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ ـ وَإِنَّمَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ.
وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، فَنَحْنُ نَقْطَعُ بأن أحد الدليلين
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العلماء".
(3)
ساقط من (غ) و (ر).
(4)
في (ط) و (خ): إلا أن مغيبه. وفي (غ) و (ر): لأن مغيباً.
(5)
ساقط من (غ) و (ر).
(6)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".
دليل حقيقة، والآخر شبهة، ولا (تعيين)(1)، فلا بد مِنْ إِخْبَارٍ بِالتَّعْيِينِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا قول الإمامية، لأنا نقول: بل هو (مما)(2) يُلْزِمُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعْصُومِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ نَصًّا يَقْطَعُ الْعُذْرَ.
فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. فَكَيْفَ يَخْرُجُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ؟ هَذَا لَا يُمْكِنُ (3).
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا/ رَجَعْنَا إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ:/ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ من حيث تقع على أفعال المكلفين (ليست)(4) مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا في بعض التفاصيل (فلتماسها)(5).
/وَنَرْجِعُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا فِي الْجُمْلَةِ ـ أَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيعِ الْعَقْلِيِّ ـ أَنَّ مِنْهُ نَظَرِيًّا، وَمِنْهُ مَا لَا يعلم (لا)(6) بضرورة ولا بنظر، وهما القسمان الباقيان (فما لا يعلم أصلاً)(7) إلا من جهة الإخبار، فلا بد فِيهِ مِنِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ. وَهَذَا إِذَا رَاعَيْنَا قَوْلَهُمْ وَسَاعَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ لَمْ نَلْتَزِمْ ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبِ أهل السنة فعندنا أن لا (حكم للعقل)(8) أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِسْمٌ لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم، فلأجل ذلك نقول: لا بد من الافتقار إلى
(1) في (ط) و (م) و (خ): يعين. وفي (غ) و (ر): "نعين".
(2)
زيادة من (غ) و (ر).
(3)
لا خلاف في عدم عصمة غير الأنبياء بين العقلاء من المسلمين، وإنما ادعى العصمة لغير الأنبياء بعض الفرق الغالية كالرافضة والصوفية، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم.
(4)
ما بين القوسين ساقط من (ت) و (ط) و (خ).
(5)
في (م) و (غ) و (ر): فلنحاشِها؟؟ يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن هنا سقط. وقد تكون الكلمة: "فلالتباسها".
(6)
زيادة من (غ) و (ر).
(7)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما لا يعلم له أصلاً".
(8)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحكم العقل".
الخبر، وحينئذ يكون العقل غير/ مستقل (بالتشريع)(1).
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَا لم يقض فيه إما أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بِالْوَقْفِ ـ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ ـ أَوْ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ ـ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
فَإِنْ (قَالُوا)(2)(بِالثَّانِي)(3)، فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَإِنْ (قَالُوا)(4) بِالْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَعْضِ فَافْتِقَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ مُطْلَقًا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ: لِأَنَّ القائلين بالوقف (قد)(5) اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي الْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِافْتِقَارُ فِي صُورَةٍ ثَبَتَ مُطْلَقًا إِذْ مَا وقف فيه العقل قد ثبتت فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقِفْ فِيهِ فَإِنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَيُرْجَعُ (إِلَى)(6) مَا تَقَدَّمَ فِي النَّظَرِ، وقد مر أنه لا بد مِنْ حُكْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ.
(وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوَقْفِ فَرَاجِعَةٌ (أَقْوَالُهُمْ)(7) أيضاً إلى أن المسألة نظرية فلا بد مِنِ الْإِخْبَارِ) (8)، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَقْلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ لَهُ.
/فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ فيها قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَثْبُتُ الِاسْتِقْلَالُ.
/قُلْنَا: إِنْ سَاعَدْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا فِي دَعْوَى الِافْتِقَارِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَأْتِي/ بِمَا يُدْرِكُهُ/ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ تَنْبِيهًا لِغَافِلٍ أَوْ إِرْشَادًا لِقَاصِرٍ، أَوْ إيقاظاً لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه (مطلوباً فضلاً عَنْ كَوْنِهِ)(9) ضَرُورِيًّا، فَهُوَ إِذًا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، ولا بد للعقل من التنبيه من خارج، وهي
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالتفريع".
(2)
في (ت): "قلنا".
(3)
ساقط من (خ).
(4)
في (ت): "قلنا".
(5)
زيادة من (غ) و (ر).
(6)
زيادة من (غ) و (ر).
(7)
ما بين القوسين زيادة من مصحح (ط)، لا يستقيم المعنى إلا بها.
(8)
ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(9)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
فَائِدَةُ بَعْثِ الرُّسُلِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ حُسْنَ الصدق النافع والإيمان، وقبح الكذب (الضار)(1) وَالْكُفْرَانِ، مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمَدْحِ هَذَا وَذَمِّ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
/فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى التنبيه لزم منه الْمُحَالُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ يَفْتَقِرُ الْعَقْلُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، (فَمَا)(2) ادَّعَى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ (تِلْكَ)(3) الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يُدْرِكَهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا أَحْكَامًا عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى السِّيَاسَاتِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَصْلًا مُنْتَظِمًا (ولا)(4) قاعدة مطردة (مع)(5) الشَّرْعِ بَعْدَ مَا جَاءَ، بَلِ اسْتَحْسَنُوا أُمُورًا تَجِدُ الْعُقُولَ بَعْدَ/ تَنْوِيرِهَا بِالشَّرْعِ تُنْكِرُهَا، وَتَرْمِيهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ (وَالْبُهْتَانِ)(6) وَالْحُمْقِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَشْيَاءَ قَدْ وَافَقَتْ وَجَاءَ الشَّرْعُ بِإِقْرَارِهَا وَتَصْحِيحِهَا، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُقُولٍ (وافرة)(7)، وأنظار (صائبة)(8)، وَتَدْبِيرَاتٍ لِدُنْيَاهُمْ غَامِضَةٍ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لم يُصِيبُوا فِيهِ قَلِيلَةٌ، فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ/ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ.
/فَالْإِنْسَانُ ـ وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا ـ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ من علمه ما لم (يكن
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أيضاً".
(2)
في (غ) و (ر): "بما".
(3)
في (م) و (غ) و (ر): "ذلك".
(4)
زيادة من (غ) و (ر).
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على".
(6)
في (غ) و (ر): "وبالبهتان".
(7)
في (ط) و (خ): "باهرة".
(8)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "صافية".
أَدْرَكَ) (1) قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ (ذَلِكَ)(2) مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ـ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ، لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ ـ إِنَّ كانت شرعية ـ لأن (أوضاع)(3) الشارع (لا تخلّف)(4) فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مباديها موضوعة على وفق الغايات، وهي (معنى)(5) الْحِكْمَةِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ مَا نَدَّعِي علمه في الحياة (الدنيا)(6) يَنْقَسِمُ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْبَدِيهِيِّ الضَّرُورِيِّ (7) وَغَيْرِهِ (فالضروري قد عرفناه، بحيث لا يسعنا إنكاره، وغير الضروري لا يمكننا أن نعرفه)(8) إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَرُورِيٍّ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ أَنَّ العلوم/ المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسط مُقَدِّمَتَيْنِ مُعْتَرَفٍ بِهِمَا (9)، فَإِنْ كَانَتَا ضَرُورِيَّتَيْنِ فَذَاكَ، وإن كانتا مكتسبتين فلا بد فِي/ اكْتِسَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ،
(1) في (غ) و (ر): "يدركه".
(2)
ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر) ومن مصحح (ط).
(3)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أوصاف".
(4)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تختلف".
(5)
في (ط) و (خ) و (ت): "من".
(6)
زيادة من (غ) و (ر).
(7)
قسم أهل المنطق العلم إلى قسمين: تصور وتصديق، وكل منهما ينقسم إلى بدهي ضروري، ونظري كسبي، وعرفوا التصور: بأنه الإدراك الخالي عن الحكم. والتصديق: بأنه الإدراك الذي معه حكم. والعلم البدهي الضروري: هو الحاصل بلا نظر ولا كسب. والعلم النظري الكسبي: هو ما يحتاج إلى نظر وكسب. انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (1 8 ـ 9) وتسهيل المنطق لعبد الكريم الأثري (ص9).
(8)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9)
قوله بضرورة توسط مقدمتين معترف بهما لحصول العلوم المكتسبة، هو من قول المناطقة، وهو قول مرجوح، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، انظر ـ على سبيل المثال ـ: الرد على المنطقيين (ص110 و167 و187 و193 و250 و339).
وَيُنْظَرُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ واحدة ضرورية (والأخرى)(1) مكتسبة فلا بد لِلْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنِ انْتَهَيْنَا إِلَى ضَرُورِيَّتَيْنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ (2)، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، فَإِذًا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَ غير الضروري إلا (بواسطة)(3) الضروري.
وحاصل (الأمر أنه)(4) لا بد من (معرفتنا)(5) بِمُقَدِّمَتَيْنِ حَصَلَتْ لَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ/ مِنْهُمَا مِمَّا عقلناه وعلمناه من مشاهدة بَاطِنَةٍ، كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بِدِيهِيٍّ لِلْعَقْلِ كَعِلْمِنَا بِوُجُودِنَا/ وَبِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ الضِّدَّيْنِ/ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَنَا مُعْتَادٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا عِلْمٌ إِلَّا بِمَا هو معتاد في هذه الدَّارِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَقَبْلَ النُّبُوَّاتِ/ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ بَقِينَا (وذاك)(6) لم (نحمل)(7) مَا لَمْ نَعْرِفْ إِلَّا عَلَى مَا عَرَفْنَا، ولأنكرنا (دعوى)(8) مَنِ ادَّعَى جَوَازَ قَلْبِ الشَّجَرِ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانِ حجراً، (وأشباه)(9) ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْمُعْتَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافُ هَذِهِ الدَّعْوَى.
فَلِمَا جَاءَتِ النُّبُوَّاتُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَنْكَرَهَا مَنْ أصرَّ عَلَى الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَاعْتَقَدَهَا سِحْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَرْقِ الْبَحْرِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَتَكْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، إِلَى غَيْرِ ذلك مما (تبين)(10) به أن
(1) في (ط): وأخرى.
(2)
التسلسل: هو ترتب أمور على أمور غير متناهية: وأما الدور: فهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. انظر: التعريفات للجرجاني (ص57 و105)، والفتاوى (8 380 و153).
(3)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(4)
في (م) و (خ): الأمرين. وفي (غ) و (ر): "الأمر أن".
(5)
في (ت) بياض بمقدار نصف سطر. وفي (ط) و (خ) و (م): "معرفتهما".
(6)
في (ط) و (خ) و (ت): "وذلك".
(7)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحل".
(8)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وما أشبه".
(10)
في (م): "بين".
تِلْكَ الْعَوَائِدَ اللَّازِمَةَ فِي الْعَادَاتِ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ (تَتَخَلَّفَ)(1) كَمَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، كَمَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
(فَمَجَارِي)(2) الْعَادَاتِ إِذًا يُمْكِنُ (عَقْلًا تَخَلُّفِهَا)(3). إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ لَهَا عَقْلِيًّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ (تَتَخَلَّفَ)(4) لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمْعَ بين النقيضين، ولا تحدى أحد بكون (الواحد أكثر من اثنين)(5)، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ فَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ/ وَإِذَا أَمْكَنَ فِي الْعَصَا وَالْبَحْرِ وَالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَصَابِعِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جاءنا الشرع بأوصاف (في)(6) أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ الذي (عهدنا)(7)، فَإِنَّ (كَوْنَ)(8) / الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ثُمَّ لَا يَغُوطُ وَلَا يَبُولُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ عَرَقِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ غَيْرُ/ مُعْتَادٍ وَكَوْنَ الْأَزْوَاجِ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِهِنَّ فِي حالة الصبا وسن من (تحيض)(9) غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا/ يَنَامُ (أصلاً)(10) وَلَا يُصِيبُهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ أَبَدَ الدَّهْرِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الثَّمَرِ فِيهَا إِذَا (قُطِفَ)(11) أخلف في الحال (وتدانى)(12) إِلَى يَدِ الْقَاطِفِ إِذَا اشْتَهَاهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ فِيهَا أَنْهَارًا مِنْ غَيْرِ/ حُلَابٍ وَلَا عَصْرٍ وَلَا نَحْلٍ، وَكَوْنَ الخمر لا تسكر غير معتاد، وكون
(1) في (م): "يتخلف".
(2)
في (ط): "فمبادي".
(3)
في (ت): "تخلفها عقلاً".
(4)
في (م): "يتخلف".
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الاثنين أكثر من الواحد".
(6)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".
(7)
في (ط): "عندنا".
(8)
في (غ) و (ر): "كان".
(9)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يحيض".
(10)
زيادة من (غ) و (ر).
(11)
في (غ) و (ر): "قطعت".
(12)
في (ط) و (ت): "ويتدانى".
ذلك كله بحيث لو استعمله دَائِمًا (لَا يَمْتَلِئُ وَلَا يُصِيبُهُ كِظَّةٌ)(1) وَلَا تخمة ولا يخرج من جسده لا في أذنه ولا (في)(2) أَنْفِهِ وَلَا (أَرْفَاغِهِ)(3) وَلَا سَائِرِ جَسَدِهِ أَوْسَاخٌ وَلَا أَقْذَارٌ (غَيْرُ مُعْتَادٍ)(4)، وَكَوْنَ أَحَدٍ مِنْ (أَهْلِ الْجَنَّةِ)(5) لَا يَهْرَمُ وَلَا يَشِيخُ وَلَا يموت ولا يمرض (غير)(6) معتاد.
كذلك إذا (نظرت)(7)(إلى)(8) أَهْلَ النَّارِ عِيَاذًا بِاللَّهِ وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، كَكَوْنِ النَّارِ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (9)، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، كُلُّهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.
فَهَذَانَ نَوْعَانِ شَاهِدَانِ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَأَشْبَاهِهَا (بِأَنَّهَا)(10) لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ وَضْعِيَّةٌ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، وَإِنَّمَا لَمْ نَحْتَجَّ بِالْكَرَامَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَهَا رَأْسًا/ وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا بعضهم (11).
وإن ملنا إلى (التقريب)(12)، فَلَوِ اعْتَبَرَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَوَجَدَ لذلك نظائر جارية على (غير)(13) المعتاد.
وَاسْمَعْ فِي ذَلِكَ أَثَرًا غَرِيبًا حَكَاهُ ابْنُ وهب من طريق إبراهيم بن نشيط (14)
(1) في (غ) و (ر): "لا يتملا ولا يصيبه كظمة".
(2)
زيادة من (غ) و (ر).
(3)
الأرفاغ: المغابن من الآباط وأصول الفخذين والحوالب وغيرها من مطاوي الأعضاء، وما يجتمع فيه الوسخ والعرق. انظر مادة رفغ من لسان العرب.
(4)
ما بين القوسين ساقط من (ت).
(5)
في (م): أهل السنة بل الجنة.
(6)
في (ط): ولا غير.
(7)
في (م): "نظر".
(8)
زيادة من (غ) و (ر).
(9)
سورة طه: الآية (74).
(10)
في (م): لأنها. وفي (غ) و (ر): (أنها).
(11)
انظر مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية لهم في هذه المسألة في كتاب النبوات (ص 150 وما بعدها).
(12)
في (ط) و (خ) و (ت): "التعريف".
(13)
ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(14)
هو إبراهيم بن نشيط بن يوسف الوعلاني أبو بكر المصري، وثقه أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، توفي سنة 163هـ. انظر: المنتظم (8 167)، وتهذيب التهذيب (1 175).
قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ (1) يُحَدِّثُ: أَنَّ رَاهِبًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ (عُلَمَائِهِمْ)(2) وَكَانَ يَنْزِلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَتَجْتَمِعُ/ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ (لِيُعَلِّمَهُمْ)(3) مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، فَأَتَاهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ (4) فِيمَنْ جَاءَهُ، فقال له الراهب: أمن أهل هذه الملة أنت؟ يريد النصرانية، قال خالد: لا ولكني من أمة محمد، قال الرَّاهِبُ (5): أَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ؟
قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُونَ ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَذًى؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى، قَالَ الرَّاهِبُ: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ تَعْرِفُونَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فِي بَطْنِ/ أُمِّهِ مِنْ طَعَامِهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَذًى، قَالَ الرَّاهِبُ لِخَالِدٍ:(أَلَيْسَ)(6) تَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي، قَالَ: أَفَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ فَوَاكِهَ تأكلون منها ولا ينقص منها شيء؟ قال خالد: بلى، قال: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ فِي الدُّنْيَا تَعْرِفُونَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: نعم، الكتاب يكتب منه كل (أَحَدٌ)(7) ثُمَّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ الرَّاهِبُ:(أَلَيْسَ)(8) تَقُولُ:/ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي،/ قَالَ خَالِدٌ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أُمَّةٍ بُسِطَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ/ مَا لَمْ يُبْسَطْ لِأَحَدٍ. انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ.
وَهُوَ/ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ تنزل (للممكن)(9) غير لازم، ولكنه مقرب
(1) شعيب بن أبي سعيد أبو يونس، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4 218)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4 347)، ولم يذكراه بجرح ولا تعديل وذكره ابن حبان في الثقات (4 356).
(2)
في (ط): "أعمالهم". وفي (م) و (خ): "عمالهم".
(3)
في (م) و (غ) و (ر): "يعلمهم".
(4)
هو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، كان موصوفاً بالعلم، وقول الشعر، أخرج له أبو داود، توفي سنة 84، وقيل 85هـ. انظر: السير (4 382)، وتهذيب التهذيب (1 194).
(5)
ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6)
في (غ) و (ر): "ألست".
(7)
في (ط): "شيء أحد".
(8)
في (غ) و (ر): "أفليس".
(9)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "للمنكر".
لفهم من قصر فهمه عن إدراك (هذه)(1) الْحَقَائِقِ الْوَاضِحَاتِ.
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْعَقْلِ في (كل)(2) عَادِيٍّ بِانْخِرَاقِهِ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْعَادِيِّ عَادِيًّا مُطَّرِدًا (غَيْرَ)(3) صَحِيحٍ أَيْضًا، فَكُلُّ عَادِيٍّ يَفْرِضُ العقل فيه خرق العادة فليس للعقل (إنكاره)(4)، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي اخْتُصَّ الْبَارِي بِاخْتِرَاعِهَا، وَالْعَقْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ. تَنْبِيهًا عَلَى/ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ.
فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ (التَّأْخِيرُ)(5) ـ وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ ـ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ (حَاكِمًا)(6) عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ/ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ (من قَالَ) (7): اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا (تَقْتَضِي ظَاهِرًا)(8) خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ (الْإِنْكَارَ)(9) بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ (يُصَدِّقَ)(10) بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2)
زيادة من (غ) و (ر).
(3)
ساقط من (غ) و (ر).
(4)
في (ط) و (خ) و (ت): فيه إنكار. وفي (م): إنكار.
(5)
في (غ) و (ر): "أن يؤخر".
(6)
في (ط) و (غ) و (ر): "حكما".
(7)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(8)
في (غ) و (ر): "يقتضي ظاهره".
(9)
في (غ) و (ر): "بالإنكار".
(10)
في (غ) و (ر): "يقصد".
عِنْدِ رَبِّنَا} (1) يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ (لَجُعِلَ)(2) لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عند (الجميع)(3)، فَبَقِيَ الْخِلَافُ/ فِي نَفْيِ (عَيْنِ)(4) / الصِّفَةِ أَوْ إثباتها، (فالمثبت)(5) أثبتها صفة عَلَى شَرْطِ (نَفْيِ)(6) التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْمُعْتَادِ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَازِمٌ فِيمَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ بَدِيهَةً، كَقَوْلِهِ:(رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ)(7) فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَنْكَرُوا ظَاهِرَهُ، إذ العقل/ (والمحسوس)(8) يَشْهَدَانِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اعْتَقَدُوا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَتَأَوَّلُوا الْكَلَامَ.
/قِيلَ: لَمْ نَعْنِ مَا هُوَ (مُنْكَرٌ بِبَدَاهَةِ)(9) الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا ما للنظر
(1) سورة آل عمران: الآية (7).
(2)
ما بين القوسين ساقط من (م).
(3)
في سائر النسخ ما عدا (غ): "الجمهور".
(4)
في (م) و (غ) و (ر): "غير".
(5)
في (م): "فالمثال". وفي (غ) و (ر): فالمتأول.
(6)
في (م): "يعني".
(7)
قال الألباني في إرواء الغليل: صحيح
…
والمشهور في كتب الفقه بلفظ: ": (رفع عن أمتي
…
) ولكنه منكر
…
والمعروف ما أخرجه ابن ماجه (1 630)، من طريق الوليد بن مسلم
…
عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (إن الله وضع عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ)
…
إلخ. انظر: الإرواء (1 123) برقم (82) ففيه تفصيل مطول للحديث.
(8)
هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب:(والحس) نبه عليه رشيد رضا، والله تعالى أعلم.
(9)
في (م): من بدائه، وفي (غ) و (ر): بدائه.
فِيهِ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ/، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّرَاطَ ثَابِتٌ، وَالْجَوَازَ عَلَيْهِ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ، فنحن نصدق به لأنه وإن كان (حدّ)(1) السَّيْفِ وَشِبْهِهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فَوْقَهُ عادة فكيف يمشي عليه؟ فالعادة قد (تنخرق)(2) حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ وَالِاسْتِقْرَارُ،/ (وَالَّذِينَ)(3) يُنْكِرُونَهُ (4) يَقِفُونَ مَعَ الْعَوَائِدِ وَيُنْكِرُونَ أَصْلَ الصِّرَاطِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلى إمكان انخراق العوائد، (فيردون ما جاء فيه أو يتأولونه حتى لا يثبتوا معنى الصراط أصلاً فإن أصروا على هذا ظهر التدافع في قولهم في إجازة انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ)(5)، فَإِنْ فَرَّقُوا صَارَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ من غير مرجح عقلي، وقد صادمهم النَّقْلُ، فَالْحَقُّ الْإِقْرَارُ دُونَ الْإِنْكَارِ.
(وَلْنَشْرَحْ)(6) هَذَا الْمَطْلَبَ بِأَمْثِلَةٍ عَشْرَةٍ:
أَحَدُهَا: مَسْأَلَةُ الصِّرَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَالثَّانِي: مَسْأَلَةُ الْمِيزَانِ (7)، إِذْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِيزَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ عَادِيٍّ، نَعَمْ يُقِرُّ الْعَقْلُ بِأَنَّ أَنْفُسَ الْأَعْرَاضِ ـ وَهِيَ الْأَعْمَالُ ـ لَا تُوزَنُ وَزْنَ الْمَوْزُونَاتِ عِنْدَنَا فِي
(1) في (ط) و (خ) و (ت): "كحد".
(2)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تخرق".
(3)
في (م): "والذي".
(4)
الذين أنكروا كون الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر: شرح الأصول الخمسة (737).
(5)
ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6)
في (غ) و (ر): "ولنرشح".
(7)
المنكرون للميزان هم جمهور المعتزلة، وخالفهم القاضي عبد الجبار حيث أثبت الميزان، وأنه حقيقي توزن به الأعمال كما في شرح الأصول الخمسة (735)، والذي عليه أهل السنة أن الميزان له كفتان حسيَّتان مشاهدتان، وأن الإنسان يوزن مع عمله، وأن الأعمال توزن في الميزان، خلافاً لما ذكر المؤلف، انظر تفصيل هذه المسألة في: مقالات الإسلاميين (2 164)، وفتح الباري (13 547 ـ549)، وشرح الطحاوية (ص409 ـ 413)، ولوامع الأنوار (2 184 ـ189)، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى (2 593)، ولمعة الاعتقاد ص26، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1 177).
الْعَادَاتِ وَهِيَ الْأَجْسَامُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي النَّقْلِ مَا يُعَيِّنَ أَنَّهُ كَمِيزَانِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أو أنه (عبارة عن العدل)(1) أو (أن)(2) أَنْفُسُ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ (بِعَيْنِهَا)(3)، فَالْأَخْلَقُ الْحَمْلُ إِمَّا عَلَى التَّسْلِيمِ ـ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ نَفْسِ الْمِيزَانِ أو (كيفيته أَوْ)(4) كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عنهم في الصراط/ إلا (مثل)(5) مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي الْمِيزَانِ، فَعَلَيْكَ بِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّأْوِيلُ إِذًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَأَصْحَابُ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا مِنَ الْفِرَقِ (الْخَارِجَةِ) (6)؟ قِيلَ: لَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ بِمَا جاء (ثم)(7) التسليم محضاً/ أو مع التأويل، (فيكون التأويل من التوابع والذي جرى عليه الصحابة من الوجهين التسليم وهو الأولى إذ هم أحق بالصواب، والتأويل)(8)(نَظَرٌ)(9) لَا يَبْعُدُ، إِذْ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ/ الْمَوَاضِعِ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ التَّكْذِيبَ/ بِهَا، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لهم، (سلك)(10) في الأحاديث مسلك التأويل (أو لا، فَالتَّأْوِيلُ)(11) أَوْ عَدَمُهُ لَا أَثَرَ لَهُ لِأَنَّهُ تابع على كلتا الطريقتين، (لكن)(12) التَّسْلِيمَ أَسْلَمُ.
وَالثَّالِثُ: مَسْأَلَةُ عَذَابِ الْقَبْرِ (13)، وَهِيَ أسهل، ولا بعد ولا نكير في
(1) في (م): "اعتباره عن النقل". وفي (خ): "عبارة عن النقل"، وفي (ت) و (ط):"عبارة عن الثقل".
(2)
ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(3)
في (غ) و (ر): "به بعينه".
(4)
زيادة من (غ) و (ر).
(5)
زيادة من (غ) و (ر).
(6)
في (ط): "الخارج".
(7)
زيادة من (غ) و (ر).
(8)
ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(9)
في (ت): "بنظر".
(10)
في (ط) و (خ): لسلك.
(11)
ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ط).
(12)
في (غ) و (ر): "إلا أن".
(13)
يقول ابن حزم في الفصل (4 117): ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر، وهو قول من لقينا من الخوارج.
وانظر تفصيل مسألة نعيم القبر وعذابه، وهل يقع على الجسد والروح معاً، وغير ذلك في: الروح لابن القيم (ص75 وما بعدها)، ولوامع الأنوار (2 23 ـ 26)، ومقالات الإسلاميين (2 116).
كَوْنِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِرَدِّ الرُّوحِ إِلَيْهِ عَارِيَةً، ثُمَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ (كَذَلِكَ)(1) وَلَا سَمَاعِهِ، فَنَحْنُ نَرَى الْمَيِّتَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَيُخْبِرُ بِآلَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَلَا نَرَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُؤْلِمَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ (فما)(2) نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهَا، فَلِمَاذَا يُجْعَلُ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ صادّاً في وجه التصديق بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
/وَالرَّابِعُ: مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ/ لِلْمَيِّتِ وَإِقْعَادِهِ فِي قَبْرِهِ (3)، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يشكل إذا حكمنا (العقل)(4) الْمُعْتَادَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَهُ بِإِطْلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقُصُورِهِ، وَإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، إما (بفسح)(5) الْقَبْرِ حَتَّى يُمْكِنَ إِقْعَادُهُ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحِيطُ بِمَعْرِفَتِهَا الْعُقُولُ.
وَالْخَامِسُ: مَسْأَلَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَقِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ قَطُّ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ خَلْفَ (ظَهْرِهِ)(6)، كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِيهِ خَرْقُ الْعَوَائِدِ فَيَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ عَلَى وَجْهٍ مِنْهَا.
وَالسَّادِسُ: (مَسْأَلَةُ)(7) إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ (8) شَاهِدَةً عَلَى صَاحِبِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي شَهِدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ.
وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ (9)، إِذْ لَا دَلِيلَ في العقل يدل
(1) في (ط) و (ت): "لذلك".
(2)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما".
(3)
سؤال الملكين للميت في القبر وإقعاده فصَّلها ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص389 ـ 396)، والسفاريني في لوامع الأنوار (2 4 ـ 16).
(4)
زيادة من (ت).
(5)
في سائر النسخ: "بفتح" والتصحيح من هامش (ت).
(6)
في (م): "ظاهره".
(7)
ساقط من (غ) و (ر).
(8)
انظر: تفسير ابن كثير (4 96)، عند تفسير سورة فصلت الآية (21)، وفتح القدير للشوكاني (4 510).
(9)
ذهبت المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وبعض الزيدية وبعض المرجئة إلى نفي رؤية الله تعالى عياناً في الدنيا والآخرة، ومذهب الأشاعرة ومن تبعهم أن الله تعالى يرى في الآخرة في غير جهة. انظر تفصيل المسألة في كتاب: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها، للدكتور أحمد آل حمد.
عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا (فصل)(1) جِسْمٍ/ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ (2)، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ.
وَالثَّامِنُ: كَلَامُ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ/ نَفَاهُ وُقُوفًا مَعَ الكلام (المعتاد)(3) الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ (4)، وَلَمْ (يَقِفْ)(5) مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ/ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا.
وَالتَّاسِعُ: / إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ (مَنْ نَفَاهُ)(6) لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ (7) عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا يمكن أن
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فضل".
(2)
هذه اللوازم التي نفاها هنا الشاطبي في رؤية الله تعالى، هي من اللوازم التي ذكرها بعض المتكلمين، وهي مما استدلوا به على نفي الرؤية، وتأويلها بمعان أخرى، ويظهر هنا ميل الشاطبي إلى رأي الأشاعرة في إثبات الرؤية. انظر تفصيل المسألة في المصدر السابق (ص16 وما بعدها).
(3)
زيادة من (غ) و (ر).
(4)
مذهب أهل السنة أن الله تعالى يتكلم على الحقيقة، وكلامه بحرف وصوت، وأنه سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء متى شاء إذا شاء. والخلاف في مسألة الكلام من المسائل التي كثر الخلاف فيها، وتفصيل المسألة مبسوط في الفتاوى الجزء 12، وانظر كذلك العقيدة السلفية في كلام رب البرية، لعبد الله الجديع.
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقل"،
(6)
ساقط من (غ) و (ر).
(7)
القائلون بأن إثبات الصفات يستلزم التركيب هم المعتزلة وبعض الفلاسفة، وقد فصل شيخ الإسلام الرد عليهم في هذه المسألة في كثير من كتبه، وخاصة في نقض أساس التقديس (1 605 ـ 606) وفي درء تعارض العقل والنقل (1 280 ـ 281)(3 15 ـ 17 و389 ـ 390 و395 ـ 407 و419 ـ 438) و (4 148 ـ 149 و183 ـ 188=
يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا، وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ (قُصُورُ)(1) إِدْرَاكِهِ (فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فكيف لا يثبت/ قصوره في (إدراك)(2)) (3)(ما ادعى)(4) مِنَ التَّرْكِيبِ (بِالنِّسْبَةِ)(5) إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟ فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.
وَالْعَاشِرُ: تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يجب عليه بعثة الرسل، ويجب عليه (رعاية)(6) الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ (7)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ (8)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كذا (9)، إلى آخر ما ينطق به (اللسان)(10) فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وعظَّمَهُ لَمْ (يَجْتَرِئْ)(11) عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مقصور مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قوله:{قُلْ فَلِلَّهِ} / ي ً ٌ ٍ َ ُ {الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ
=و149 ـ 234 و245 ـ 273) و (5 140 ـ 147 و246 ـ 247) و (7 141 ـ 144 و225 ـ 230) و (10 251 ـ 254 و300 ـ 313).
(1)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "قصور في".
(2)
في (ط) و (خ) و (م): إدراكها.
(3)
ما بين القوسين ساقط من (ت).
(4)
في (ت): ادعى ما ادعى. وفي (م): ادعى وفي (ت) و (خ): "إذا ادعى".
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالرب بالنسبة".
(6)
زيادة من (غ) و (ر).
(7)
تقدم الكلام على هذه المسألة (ص151).
(8)
اللطف عن المتكلمين: هو أن يختار المرء الواجب ويتجنب القبيح، ويسمى توفيقاً وعصمة، وذهب بشر بن المعتمر ومن تبعه إلى أن اللطف غير واجب على الله تعالى، وذهب فريق آخر إلى إيجاب اللطف على الله تعالى. انظر تفصيل المسألة في: مذاهب الإسلاميين لبدوي، وأحال على شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (520)، ومقالات الإسلاميين (1 287).
(9)
المعتزلة هم القائلون بإيجاب بعض الأمور على الله، انظر ما تقدم ذكره عنهم (3/ 151).
(10)
زيادة من (غ) و (ر).
(11)
في (غ) و (ر): "يجسر".
فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1)، وقوله تعالى:{يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (3)، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (4)، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *فَعَّالٌ/ لِمَا يُرِيدُ} (5).
(فالحاصل)(6) من هذه القضية أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَقْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يدي الشرع، فإنه من (التقديم)(7) بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ مُلَبِّيًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا هو (مذهب الصحابة)(8) رضي الله عنهم وَعَلَيْهِ دَأَبُوا، وَإِيَّاهُ اتَّخَذُوا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَصَلُوا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَيْرِهِمْ أَشْيَاءُ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَقَرُّوا وَأَذْعَنُوا لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، ولم يصادموه (بمعقول)(9) وَلَا عَارَضُوهُ بِإِشْكَالٍ، وَلَوْ/ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا سَائِرُ سِيَرِهِمْ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا وَالْمُنَاظَرَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ/ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا (به)(10)(وأمرّوه)(11)، كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ.
كان مالك بن أنس رحمه الله يَقُولُ: الْكَلَامُ فِي الدِّينِ أَكْرَهُهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْرَهُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، نَحْوَ الْكَلَامِ فِي رَأْيٍ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، وَكُلِّ مَا/ أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ وَفِي اللَّهِ عز وجل فالسكوت أحب إلي (منه)(12)، لأني رأيت أهل بلدنا
(1) سورة الأنعام: الآية (149).
(2)
سورة آل عمران: الآية (40).
(3)
سورة المائدة: الآية (1).
(4)
سورة الرعد: الآية (41).
(5)
سورة البروج: الآية (15 ـ 16).
(6)
في (ت): "والحاصل".
(7)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التقدم".
(8)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المذهب للصحابة".
(9)
زيادة من (غ) و (ر).
(10)
ساقط من (غ) و (ر).
(11)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأقرّوه".
(12)
زيادة من (غ) و (ر).
يَنْهَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ (1).
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ بَيَّنَ مَالِكٌ رحمه الله أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تحته عمل هو المباح عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ ـ يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ ـ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ نَحْوَ الْقَوْلِ في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلاً (فقال)(2) نَحْوَ رَأْيِ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ مالك عليه جماعة الفقهاء (والعلماء)(3) قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى، وَإِنَّمَا خالف في ذلك أهل البدع، (قال) (4): وَأَمَّا/ الْجَمَاعَةُ فَعَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ رحمه الله، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ أَحَدٌ إِلَى الْكَلَامِ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه، (أو خشي ضلال)(5) عَامَّةً، أَوْ نَحْوَ هَذَا (6).
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ (عَبْدِ الْأَعْلَى)(7): سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمَ نَاظَرَهُ/ حَفْصٌ الْفَرْدُ (8) قَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى، لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ حَفْصٍ كَلَامًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكِيَهُ (9).
/وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا، وَلَا تَكَادُ ترى أحداً نظر في (الكلام)(10) إلا وفي قلبه دغل (11).
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1786)، واللالكائي (309)
(2)
زيادة من (غ) و (ر).
(3)
زيادة من (غ) و (ر).
(4)
زيادة من (غ) و (ر).
(5)
في (ط): "وخشي ضلالة".
(6)
انظر كلامه في: جامع بيان العلم (2/ 938).
(7)
في (م) و (ت): عبد الله. وهو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة أبو موسى المصري، ولد سنة 170هـ، وكان من كبار العلماء في زمانه، وثقه النسائي وابن أبي حاتم، توفي 264هـ. انظر: الجرح والتعديل (9 243)، والسير (12 348).
(8)
قال ابن حجر: حفص الفرد، مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام، لا يكتب حديثه، وكفره الشافعي في مناظرته. انظر: لسان الميزان (1 330 ـ 331).
(9)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1788).
(10)
في (م) وأصل (ط) و (خ) و (ت): "المسائل".
(11)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1796).
وقال: عن الحسن بن زياد اللؤلؤي (1)، قال لَهُ رَجُلٌ فِي زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ (2): أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْمَقَكَ، مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ جَالَسْنَا وَأَخَذْنَا (عَنْهُمْ هَمَّهُمْ)(3) غَيْرُ الْفِقْهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ (4).
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وزيغ، ولا يعدون عند الجميع (في (جميع الأمصار)) (5) في طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ (وَإِنَّمَا)(6) الْعُلَمَاءُ، أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان/ وَالْمَيْزِ وَالْفَهْمِ (7).
وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ (8) أَنَّهُ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنَّا (لَنَلْتَقِطُ)(9) السُّنَنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ (وَالثِّقَةِ، وَنَتَعَلَّمُهَا شَبِيهًا بِتَعَلُّمِنَا آيَ الْقُرْآنِ، (وَمَا بَرِحَ)(10) مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ) (11)، وَالْفَضْلِ مِنْ (خِيَارِ/ أَوَّلِيَّةِ)(12) النَّاسِ، يَعِيبُونَ أَهْلَ الْجَدَلِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْأَخْذِ بِالرَّأْيِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ لِقَائِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَنَا مُقَارَبَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَتَحْرِيفٍ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَنَاحِيَةَ التَّنْقِيبِ/ وَالْبَحْثِ (وَزَجَرَ)(13) عَنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ موطن،
(1) هو الحسن بن زياد اللؤلؤي أبو علي الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة 204هـ، انظر: تاريخ بغداد (7 314)، والسير (9 543)، وميزان الاعتدال (1 419).
(2)
هو زفر بن الهذيل العنبري، ولد سنة 110هـ، قال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون. كان من كبار تلاميذ أبي حنيفة، توفي سنة 158هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 387)، والسير (8 38).
(3)
في (غ) و (ر): "عنه يهمهم".
(4)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1798).
(5)
في (ت): "الجميع". وما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(6)
في (م) و (غ) و (ر): "قال وإنما".
(7)
انظر: جامع بيان العلم (2 942).
(8)
هو أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، وثقه الإمام أحمد وابن معين، توفي سنة 131هـ. انظر: الجرح والتعديل (5 49)، وتهذيب التهذيب (5 203).
(9)
في (م): "لنتلقط".
(10)
في (غ) و (ر): "وما قال ودرج".
(11)
ما بين القوسين ساقط من (م) و (ت).
(12)
في (غ) و (ر): "أخيار لأمة".
(13)
في (م) و (خ): "والجزر".
حَتَّى كَانَ مِنْ قَوْلِهِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ (بِشَيْءٍ) (1) فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(2).
//وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: اتقوا (الرأي)(3) في دينكم، قال سحنون: يعني (البدع)(4).
(وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا)(5) وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئلوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ (6).
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ (7)، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ (8):
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ
…
فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَزْكَى وَأَشْرَحُ
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَتَرَكُوا الْآثَارَ وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (9).
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ (يرغب)(10) برأيه عن أمر الله يضل (11).
(1) في (غ) و (ر): "بأمر".
(2)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وابن راهويه في مسنده (60)، وأحمد (2 508)، وابن ماجه (2)، والنسائي في المجتبى (2619)، وفي الكبرى (3598)، والدارقطني في السنن (2 281)، وابن حبان (3707 و3705)، والبيهقي في الكبرى (8398). وقول أبي الزناد في جامع بيان العلم (2/ 949).
(3)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الله".
(4)
ساقط من (م). وفي (ت) و (خ) و (ط): "الانتهاء عن الجدل فيه"، والأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2002).
(5)
ساقط من (غ) و (ر).
(6)
تقدم تخريجه (1 176).
(7)
انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 1042).
(8)
انظر: قصيدة الإمام أبي بكر (ص20).
(9)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2026)، وذكر المحقق نسبة القول للشعبي، وبيّن أن في نسخة كُتب الحسن بدلاً من الشعبي.
(10)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "رغب".
(11)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2027).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كان يقول: السنن السنن، (فإن)(1)(السُّنَنَ)(2) قِوَامُ الدِّينِ (3).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (عن أبيه)(4) قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ مولَّدون أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (5).
فَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَشْبَاهُهَا تُشِيرُ إِلَى ذَمِّ إِيثَارِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، الْبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ فِي الِاعْتِقَادِ، كَرَأْيِ (جَهْمٍ)(6) وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى اللَّهُ/ فِي الْآخِرَةِ (لِأَنَّهُ)(7) تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ)} (8)(9) الْآيَةَ، فَرَدُّوا قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(10)، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} (11)، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا/ اثْنَتَيْنِ} (12)، فرُّدوا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ (13)، وردوا الأحاديث/ في
(1) في (ط): "إن".
(2)
في (غ) و (ر): "السنة".
(3)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2028).
(4)
ما بين القوسين زيادة من جامع بيان العلم.
(5)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2015) و (2031).
(6)
في جميع النسخ: أبي جهم.
(7)
في (م): "فإنه".
(8)
ما بين القوسين ساقط من (م).
(9)
سورة الأنعام: الآية (103).
(10)
أحاديث رؤية الله عز وجل يوم القيامة، من الأحاديث المتواترة، وله عدة روايات، انظر: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم (22 و4581 و4919 و6560 و6574 و7438 و7439)، وفي مسلم (183 ـ 184)، والنسائي (8 112)، وابن ماجه (1 63)، برقم (177 ـ 180). وقد جمع أغلب الروايات الواردة في المسألة الدارقطني في كتاب "رؤية الله".
(11)
سورة القيامة: الآيتان (22، 23).
(12)
سورة غافر: الآية (11).
(13)
انظر طائفة من الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته في كتاب قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي (ص294).
الشَّفَاعَةِ/ عَلَى تَوَاتُرِهَا (1)،/ وَقَالُوا: لَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَ فِيهَا. وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ حَوْضًا وَلَا مِيزَانًا، وَلَا نَعْقِلُ مَا هَذَا، وَرَدُّوا السُّنَنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِرَأْيِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ/ ذِكْرُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي (صفات)(2) الْبَارِي، وَقَالُوا: الْعِلْمُ مُحْدَثٌ فِي حَالِ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عِلْمٌ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، فِرَارًا مِنْ قِدَمِ الْعَالَمِ فِي زَعْمِهِمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَشِبْهُهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ (بِالِاعْتِقَادِ)(3)، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ ـ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُمُ الْجُمْهُورُ ـ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونِ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالتَّذَرُّعُ إِلَى جَهْلِهَا (4).
وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ مُعَارَضَةُ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْحَثْ عَنِ السُّنَنِ جَهِلَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الرَّأْيِ، فَلَحِقَ بِالْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا السُّنَنَ حَقِيقَةً، فَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ، إِمَّا قَصْدًا أَوْ غَلَطًا وَجَهْلًا، وَالرَّأْيُ إِذَا عَارَضَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ.
/فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ ما تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم رضي الله عنهم لم يعارضوا ما جاء في (السنة)(5) بِآرَائِهِمْ، عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ جَهِلُوهُ، جَرَى لَهُمْ عَلَى مَعْهُودِهِمْ أَوْ لَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ نقله،
(1) المرجع السابق (ص301).
(2)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): صفة.
(3)
في (غ) و (ر): بالاعتقاديات.
(4)
نقله المصنف عن جامع بيان العلم (2/ 1054) متصرفاً مختصراً.
(5)
في (غ) و (ر): "السنن".
(ليعتبر به)(1) مَنْ قَدَّمَ النَّاقِصَ ـ وَهُوَ الْعَقْلُ ـ عَلَى الْكَامِلِ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَرَحِمَ اللَّهُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ حَيْثُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ عِلْمٍ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا/ اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *} (2)، إلى آخرها (3).
وعن معتمر بْنِ سُلَيْمَانَ (4) عَنْ جَعْفَرٍ (5) عَنْ رَجُلٍ مِنْ علماء أهل المدينة، قال: إن الله تعالى عَلِمَ عِلْمًا علَّمه الْعِبَادَ، وعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يعلِّمه الْعِبَادَ، فَمَنْ تَكَلَّفَ الْعِلْمَ الَّذِي (لَمْ) (6) يعلِّمه الْعِبَادَ لَمْ يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ: وَالْقَدَرُ/ مِنْهُ (7).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ يَقُولَانِ: أمِرُّوا هَذِهِ/ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تَتَنَاظَرُوا فِيهَا (8).
وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، فِي الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ (كلهم قالوا) (9): أمِرُّوها كما جاءت، نحو حديث التنزل، وخلق آدم على صورته، وشبههما،
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وليعتبر فيه".
(2)
سورة ص: الآية (86).
(3)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2011).
(4)
معتمر بن سليمان التيمي أبو محمد البصري، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين وقد جاوز الثمانين. انظر: التاريخ الكبير (8 49)، تهذيب التهذيب (10 204)، التقريب (6785).
(5)
جعفر بن حيان السعدي، أبو الأشهب العطاردي البصري، مشهور بكنيته، ثقة من السادسة، مات سنة خمس وستين وله خمس وتسعون سنة. انظر: التاريخ الكبير (2 189)، تهذيب التهذيب (2 75)، التقريب (935).
(6)
ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (خ): "لا".
(7)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1804).
(8)
أخرجه اللالكائي (735)، وفي جامع بيان العلم (1801).
(9)
ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ).
وَحَدِيثُ مَالِكٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ/ مَشْهُورٌ (1).
وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2) الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، فإنها صريحة في هذا (المعنى)(3) الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ (مَا لَمْ)(4) يَجْرِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْفَهْمِ مُتَشَابِهٌ، (فَالْوُقُوفُ)(5) عَنْهُ هُوَ الْأَحْرَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ اتِّبَاعُ الرَّأْيِ لَمْ يَذُمُّوهُ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ لَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَضِي طَرِيقًا ثُمَّ يَنْهَى عَنْ سُلُوكِهِ، كَيْفَ وَهَمَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
/وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ (فِيهِ أَصْحَابُ)(6) مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أبرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (7).
وَعَنْ/ حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَمْرِي لَئِنِ (اتَّبَعْتُمُوهُ)(8) لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يِمِينًا أَوْ شِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بعيداً (9).
(1) الآثار الواردة عن قول السلف: (أمرّوها كما جاءت بلا كيف) ونحوها، أخرجها ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1802)، والآجري في الشريعة (720)، والحلية (6 325)، واللالكائي (735 و875 و877 و930)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2 198) وفي الاعتقاد (ص44)، والصابوني في عقيدة السلف (90)، وقول الإمام مالك في الاستواء أخرجه اللالكائي (664)، وروى بنحوه عن أم سلمة (663)، وربيعة الرأي (665)، وانظر: شرح السنة للبغوي (1 171)، وحلية الأولياء (6 325 ـ 326).
(2)
سورة آل عمران: الآية (7).
(3)
ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4)
في (م) و (خ) و (ت): "من لم".
(5)
في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فالوقف".
(6)
ما بين القوسين ساقط من (م)، وفي (غ) و (ر):"أصحاب".
(7)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1807).
(8)
في (ت): "اتبعتم"، وفي (غ) و (ر):"اتبعتموهم".
(9)
تقدم تخريجه (1 127).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فليتأسَّ/ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وأقومها هدياً، وأحسنها (حالاً)(1)، (قَوْمٌ)(2) اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (3).
وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِطَرِيقِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ فِي قَوْلِهِ:"مَا أَنَا عليه وأصحابي"(4).
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر) وجامع بيان العلم: "خلالاً".
(2)
في (غ) و (ر): "قوماً".
(3)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1810).
(4)
تقدم تخريجه (3/ 122).