المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

[الجزء الثالث]

‌سورة ال عمران

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)

التَّوْرَاةُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّفَ النُّحَاةُ فِي اشْتِقَاقِهَا وَفِي وَزْنِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ تَقْرِيرِ النُّحَاةِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا يَدْخُلُهَا اشْتِقَاقٌ، وَأَنَّهَا لَا تُوزَنُ، يَعْنُونَ اشْتِقَاقًا عَرَبِيًّا. فَأَمَّا

ص: 5

اشْتِقَاقُ: التَّوْرَاةَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ: وَرَى الزَّنْدُ يَرَى، إِذَا قَدَحَ وَظَهَرَ مِنْهُ النَّارُ، فَكَأَنَّ التَّوْرَاةَ ضِيَاءٌ مِنَ الضَّلَالِ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وذهب أَبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ: وَرَّى،

كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَرَّى بِغَيْرِهِ

، لِأَنَّ أَكْثَرَ التَّوْرَاةِ تَلْوِيحٌ. وَأَمَّا وَزْنُهَا فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ، وَسَائِرُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا:

فَوْعَلَةٌ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي: تُولِجُ، فَالْأَصْلُ فِيهَا وَوَزْنُهُ: وَوَلَجَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ وَرَّى، وَمِنْ وَلَجَ. فَهِيَ: كَحَوْقَلَةَ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا: تَفْعِلَةٌ، كَتَوْصِيَةٍ. ثُمَّ أُبْدِلَتْ كَسْرَةُ الْعَيْنِ فَتْحَةً وَالْيَاءُ أَلِفًا. كَمَا قَالُوا فِي: نَاصِيَةٍ، وَجَارِيَةٍ: نَاصَاهُ وَجَارَاهُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَأَنَّهُ يُجِيزُ فِي تَوْصِيَةٍ تَوْصَاهَ، وَهَذَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهَا: تَفْعَلَةٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ: وَرَّيْتُ بِكَ زَنَادِيَّ، وَتَجُوزُ إِمَالَةُ التَّوْرَاةِ.

وَقَدْ قرىء بِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْإِنْجِيلَ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ اشْتِقَاقٌ، وَأَنَّهُ لَا يُوزَنُ، وقد قالوا: وزنه فعيل. كَإِجْفِيلَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَنِزُّ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الْخَلِيلُ: اسْتَنْجَلَتِ الْأَرْضُ نِجَالًا، وَبِهَا نِجَالٌ، إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ. وَالنَّجْلُ أَيْضًا: الْوَلَدُ وَالنَّسْلُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَغَيْرُهُ. وَنَجَلَهُ أَبُوهُ أَيْ: وَلَدَهُ. وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ فِي نَوَادِرِهِ: أَنَّ الْوَلَدَ يُقَالُ لَهُ: نَجْلٌ، وَأَنَّ اللَّفْظَةَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّجْلُ أَيْضًا: الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِنْجِيلُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، فَهَذَا يَنْحُو إِلَى مَا حَكَاهُ الزَّجَّاجِيُّ.

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَهُوَ مِنْ نَجَلَ إِذَا ظَهَرَ وَلَدُهُ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ، فَهُوَ مُسْتَخْرَجٌ إِمَّا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَإِمَّا مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّنَاجُلِ، وَهُوَ التَّنَازُعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتُنَازِعِ النَّاسِ فِيهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَتَكَلَّفَ اشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الْوَرْيِ وَالنَّجْلِ، وَوَزْنُهُمَا مُتَفْعَلَةٌ وَإِفْعِيلٌ: إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّيْنِ. انْتَهَى. وَكَلَامُهُ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ فِي كَلَامِهِ اسْتِدْرَاكًا فِي قَوْلِهِ: مُتَفْعَلَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ وَزْنَهَا: فَوْعَلَةٌ، وَلَمْ يُنَبِّهْ فِي: تَفْعَلَةٍ، عَلَى أَنَّهَا مَكْسُورَةُ الْعَيْنِ، أَوْ مَفْتُوحَتُهَا.

وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَجَلَ الْعَيْنَ، كَأَنَّهُ وَسَّعَ فِيهِ مَا ضَيَّقَ فِي التَّوْرَاةِ.

ص: 6

الِانْتِقَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ النِّقْمَةِ، وَهُوَ السَّطْوَةُ وَالِانْتِصَارُ. وَقِيلَ: هِيَ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى الذَّنْبِ مُبَالَغَةً فِي ذَلِكَ، وَيُقَالُ: نَقَمَ وَنَقِمَ إِذَا أَنْكَرَ، وَانْتَقَمَ عَاقَبَ.

صَوَّرَ: جَعَلَ لَهُ صُورَةً. قِيلَ: وَهُوَ بِنَاءٌ لِلْمُبَالَغَةِ مَنْ صَارَ يُصَوِّرُ، إِذَا أَمَالَ، وَثَنَى إِلَى حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ التَّصْوِيرُ إِمَالَةً إِلَى حَالٍ، وَإِثْبَاتًا فِيهَا، جَاءَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَالصُّورَةُ: الْهَيْئَةُ يَكُونُ عَلَيْهَا الشَّيْءُ بِالتَّأْلِيفِ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: التَّصْوِيرُ إِنَّهُ ابْتِدَاءُ مِثَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَهُ مِثْلُهُ.

الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ وزاغَتِ الْأَبْصارُ «1» . وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّيْغُ:

الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَزَاغَ وزال ومال يتقارب، لكن زاع لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا كَانَ مِنْ حَقٍّ إِلَى بَاطِلٍ.

التَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ، وَمَعْنَاهُ: آخِرُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّأْوِيلُ الْمَرَدُّ وَالْمَرْجِعُ. قَالَ:

أَؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ

ليس قضاي بِالْهَوَى الْجَائِرِ

الرُّسُوخُ: الثُّبُوتُ. قَالَ:

لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مَنِّي مَوَدَّةٌ

لِلَيْلَى أَبَتْ أَيَّامُهَا أَنْ تُغَيَّرَا

الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا، يُقَالُ: وَهَبَ يَهَبُ هِبَةً، وَأَصْلُهُ: أَنْ يَأْتِيَ الْمُضَارِعُ عَلَى يَفْعِلُ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ الْوَاوُ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ حَرْفَ حَلْقٍ فُتِحَتْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْكَسْرَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهُوَ نَحْوُ: وَضَعَ يَضَعُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فُتِحَ لِكَوْنِ لَامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا: يُوهِبُ وَيُوضِعُ. وَيَكُونُ: وَهَبَ، بِمَعْنَى جَعَلَ، وَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: وَهَبَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، أَيْ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ.

وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لَا تَتَصَرَّفُ، فَلَا تُسْتَعْمَلُ مِنْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْفِعْلُ الْمَاضِي خَاصَّةً.

لَدُنْ: ظَرْفٌ، وَقَلَّ أَنْ تُفَارِقَهَا: مِنْ، قَالَهُ ابْنُ جِنِّي، وَمَعْنَاهَا: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الذَّوَاتِ غَيْرِ الْمَكَانِيَّةِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَإِعْرَابُهَا لُغَةٌ قَيْسِيَّةٌ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةَ اللَّامِ مَضْمُومَةَ الدَّالِ بَعْدَهَا النُّونُ، فَمَنْ بَنَاهَا قيل: فأشبهها بِالْحُرُوفِ فِي لُزُومِ اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ، وَامْتِنَاعِ الْإِخْبَارِ بِهَا، بِخِلَافِ: عِنْدَ، وَلَدَيَّ. فَإِنَّهُمَا

(1) سورة الأحزاب: 33/ 10.

ص: 7

لَا يَلْزَمَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فَضْلَةً وَعُمْدَةً، فَالْفَضْلَةُ كَثِيرٌ، وَمِنَ الْعُمْدَةِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «1» وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ «2» .

وَأَوْضَحَ بَعْضُهُمْ عِلَّةَ الْبِنَاءِ فَقَالَ: عِلَّةُ الْبِنَاءِ كَوْنُهَا تَدُلُّ عَلَى الْمُلَاصَقَةِ لِلشَّيْءِ وَتَخْتَصُّ بِهَا، بِخِلَافِ: عِنْدَ، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمُلَاصَقَةِ، فَصَارَ فِيهَا مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَرْفُ، فَهِيَ كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلْحَرْفِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ. وَمِثْلُهُ:

ثم، و: هنا. لِأَنَّهُمَا بُنِيَا لَمَّا تَضَمَّنَا مَعْنَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِشَارَةِ.

وَمَنْ أَعْرَبَهَا، وَهُمْ قَيْسٌ، فَتَشْبِيهًا: بِعِنْدَ، لِكَوْنِ مَوْضِعِهَا صَالِحًا لِعِنْدَ، وَفِيهَا تِسْعُ لُغَاتٍ غَيْرُ الْأُولَى: لَدُنْ، وَلَدْنٌ، وَلَدِنٌ، وَلُدْنٌ، وَلَدِنِ، وَلَدْ وَلُدْ، وَلُدُ وَلَتْ. بِإِبْدَالِ الدَّالِّ تَاءً، وَتُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ لَفْظًا كَثِيرًا، وَإِلَى الْجُمْلَةِ قَلِيلًا.

فَمِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

صريع عوان رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ

لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

لَزِمْنَا لَدُنْ سَأَلْتُمُونَا وَفَاقَكُمْ

فَلَا يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلَافِ جُنُوحُ

وَمِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

تَذْكُرُ نَعَّمَاهُ لَدُنْ أَنْتَ يَافِعُ

إِلَى أَنْتَ ذُو فَوْدَيْنِ أَبْيَضُ كَالنَّسْرِ

وَجَاءَ إِضَافَتُهَا إِلَى: أَنْ وَالْفِعْلِ، قَالَ:

وَلَيْتَ فَلَمْ يَقْطَعْ لَدُنْ أَنْ وَلَيْتَنَا

قُرَابَةُ ذِي قُرْبَى وَلَا حَقُّ مُسْلِمِ

وَأَحْكَامُ لَدُنْ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

الْإِغْنَاءُ: الدَّفْعُ وَالنَّفْعُ، وَفُلَانٌ عَظِيمُ الْغِنَى، أَيِ: الدَّفْعُ وَالنَّفْعُ.

الدَّأْبُ: الْعَادَةُ. دَأَبَ عَلَى كَذَا: وَاظَبَ عَلَيْهِ وَأَدْمَنَ. قَالَ زُهَيْرُ:

لَأَرْتَحِلَنَّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لَأَدْأَبَنَّ

إِلَى اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ

الذَّنْبُ: التِّلْوُ، لِأَنَّ الْعِقَابَ يَتْلُوهُ، وَمِنْهُ الذَّنْبُ وَالذُّنُوبُ لِأَنَّهُ يتبع الجاذب.

(1) سورة الأنعام: 6/ 59.

(2)

سورة المؤمنون: 23/ 62.

ص: 8

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هَذِهِ السُّورَةُ، سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَتُسَمَّى: الزَّهْرَاءَ، وَالْأَمَانَ، وَالْكَنْزَ، وَالْمُعِينَةَ، وَالْمُجَادِلَةَ، وَسُورَةَ الِاسْتِغْفَارِ وَطِيبَةَ. وَهِيَ: مَدَنِيَّةٌ الْآيَاتُ سِتِّينَ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ:

أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ ثلاثة إليهم يؤول أَمْرُهُمْ، أَمِيرُهُمُ: الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَصَاحِبُ رَحْلِهِمُ: السَّيِّدُ الْأَيْهَمُ، وَعَالِمُهُمْ: أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَذَكَرَ مِنْ جَلَالَتِهِمْ، وَحُسْنُ شَارَتِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ. وَأَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا يُنَاظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في عِيسَى، وَيَزْعُمُونَ تَارَةً أَنَّهُ اللَّهُ، وَتَارَةً وَلَدُ الْإِلَهِ، وتارة: ثالث ثلاثة. رسول الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ لَهُمْ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى، وَانْتِفَاءَهَا عَنْ عِيسَى، وَهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: «بَلَى» . قَالُوا: فَحَسْبُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا، إِلَى أَنْ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الِابْتِهَالِ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الْمُبْغِضِينَ لِعِيسَى، الْقَاذِفِينَ لِأُمِّهِ، الْمُنْكِرِينَ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْجِيلِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ لِأَنَّهُ، لَمَّا ذَكَرَ آخِرَ الْبَقَرَةِ أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» نَاسَبَ أَنْ يذكر نصره تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِينَ، حَيْثُ نَاظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ، فَقَصَّ تَعَالَى أَحْوَالَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَذَكَرَ تَنْزِيهَهَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَبَدَاءَةَ خَلْقِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا الْمَسِيحِ إِلَى آخَرِ مَا رَدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ آيَةِ آخِرِ الْبَقَرَةِ آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ «2» فَكَأَنَّ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِالْكُتُبِ، نَاسَبَ ذِكْرَ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَذَكَرَ الْمُنَزَّلَ عَلَى غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

قَرَأَ السَّبْعَةُ: الم اللَّهُ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَأَلْفُ الْوَصْلِ سَاقِطَةٌ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، عَنْ عَاصِمٍ: سُكُونَ الْمِيمِ، وَقَطْعَ الْأَلِفِ. وَذَكَرَهَا الْفَرَّاءُ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْحَسَنِ. وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، والرؤاسي، وَالْأَعْمَشِ، وَالْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ الْقَعْقَاعِ:

وَقَفُوا عَلَى الْمِيمِ، كَمَا وَقَفُوا عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَحَقُّهَا ذَلِكَ، وَأَنْ يُبْدَأَ بما بَعْدَهَا كَمَا تَقُولُ:

وَاحِدٌ اثنان.

(1) سورة البقرة: 2/ 286، الآية الأخيرة.

(2)

سورة البقرة: 2/ 285.

ص: 9

وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَنَسَبُهَا ابْنُ عَطِيَّةَ إلى الرؤاسي، وَنَسَبَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَالَ: تَوَهَّمَ التَّحْرِيكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَا هِيَ بِمَقْبُولَةٍ، يَعْنِي: هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَلِكَ رَدِيءٌ، لِأَنَّ الْيَاءَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ قِرَاءَةُ جُمْهُورِ النَّاسِ. انْتَهَى.

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ: الم اللَّهُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقْلِهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي فَتْحَةِ الْمِيمِ: فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّهَا حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَمَا حَرَّكُوا: مِنَ اللَّهِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ سَاقِطَةٌ لِلدَّرَجِ كَمَا سَقَطَتْ فِي نَحْوِ: مِنَ الرَّجُلِ، وَكَانَ الْفَتْحُ أَوْلَى مِنَ الْكَسْرِ لِأَجْلِ الْيَاءِ، كَمَا قَالُوا: أَيْنَ؟ وَكَيْفَ؟ وَلِزِيَادَةِ الْكَسْرَةِ قَبْلَ الْيَاءِ، فَزَالَ الثِّقَلُ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهَا حركة نقل من همزة الْوَصْلِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ يُنْوَى بِهَا الْوَقْفُ، فَيُنْوَى بِمَا بَعْدَهَا الِاسْتِئْنَافُ. فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي حُكْمِ الثَّبَاتِ كَمَا فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ نَحْوُ:

لَتَسْمَعَنَّ وَشِيكًا فِي دِيَارِكُمُ

أَللَّهُ أَكْبَرُ: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا

وَضَعُفَ هَذَا الْمَذْهَبُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ الْمَوْصُولَةَ فِي التَّعْرِيفِ تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ.

وَمَا يسقط يتلقى حَرَكَتُهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَقَدِ اخْتَارَ مَذْهَبَ الْفَرَّاءِ فِي أَنَّ الْفَتْحَةَ فِي الْمِيمِ هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ حِينَ أُسْقِطَتْ لِلتَّخْفِيفِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَوْرَدَ أَسْئِلَةً وَأَجَابَ عَنْهَا.

فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ إِلْقَاءُ حَرَكَتِهَا عَلَيْهَا وَهِيَ هَمْزَةُ وَصْلٍ لَا تَثْبُتُ فِي دَرَجِ الْكَلَامِ، فَلَا تَثْبُتُ حَرَكَتُهَا لِأَنَّ ثَبَاتَ حَرَكَتِهَا كَثَبَاتِهَا؟

قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِدَرَجٍ، لِأَنَّ ميم فِي حُكْمِ الْوَقْفِ وَالسُّكُونِ، وَالْهَمْزَةَ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ. وَإِنَّمَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا لِتَدُلَّ عَلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ، بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الدَّالِ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَلَيْسَ جَوَابُهُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ الْمِيمَ حِينَ حُرِّكَتْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهَا. وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَرَجٍ، بَلْ هُوَ وَقْفٌ، وَهَذَا خِلَافٌ لِمَا أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ وَالنُّحَاةُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مُتَحَرِّكٍ أَلْبَتَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَرَكَتُهُ إِعْرَابِيَّةً، أَوْ بِنَائِيَّةً، أَوْ نَقْلِيَّةً، أَوْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، أَوْ لِلْحِكَايَةِ، أَوْ

ص: 10

لِلِاتِّبَاعِ. فَلَا يَجُوزُ فِي: قَدْ أَفْلَحَ، إِذَا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى دَالِ: قَدْ، أَنْ تَقِفَ عَلَى دَالِ: قَدْ، بِالْفَتْحَةِ، بَلْ تَسْكُنُهَا قَوْلًا وَاحِدًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الدَّالِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُشِمُّونَ آخِرَ وَاحِدٍ لِتَمَكُّنِهِ، وَلَمْ يَحْكِ الْكَسْرَ لُغَةً. فَإِنْ صَحَّ الْكَسْرُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا حَرَكَتُهُ حركة نقل من همزة الْوَصْلِ، وَلَكِنَّهُ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِمْ: اثْنَانِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، دَالُ، واحد، و: ثاء، اثْنَيْنِ، فَكُسِرَتِ الدَّالُ لِالْتِقَائِهِمَا، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ فِي الْوَصْلِ. وَأَمَّا ما استدل به للفراء مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ، بإلقائهم الْهَمْزَةِ عَلَى الْهَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ أَرْبَعَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ فِي حَالِ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهَا وَابْتِدَائِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ نَحْوُ: مِنَ اللَّهِ، وَأَيْضًا، فَقَوْلُهُمْ: ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ بِالنَّقْلِ لَيْسَ فِيهِ وَقَفٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، إِذْ لَوْ وُقِفَ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ الْحَرَكَةَ، وَلَكِنْ أُقِرَّتْ فِي الْوَصْلِ هَاءً اعْتِبَارًا بِمَا آلَتْ إِلَيْهِ فِي حَالٍ مَا، لَا أَنَّهَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا ثَانِيًا. فَقَالَ:

فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا حُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؟.

قُلْتُ: لِأَنَّ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ لَا نُبَالِي بِهِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، وَدَاوُدُ، وَإِسْحَاقُ. وَلَوْ كَانَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي حَالِ الْوَقْفِ مُوجِبُ التَّحْرِيكِ لَحُرِّكَ الْمِيمَانِ فِي أَلِفْ لَامْ مِيمْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَلَمَّا انْتَظَرَ سَاكِنٌ آخَرُ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَهُوَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ، وَجَوَابٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الَّذِي قَالَ: إِنَّ الْحَرَكَةَ هِيَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْتِقَاءَ الْيَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ أَلِفْ لَامْ مِيمْ فِي الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا عَنَى الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا: مِيمْ مِيمِ الْأَخِيرَةِ. و: لام التَّعْرِيفِ، كَالْتِقَاءِ نُونِ: مِنْ، وَلَامِ: الرَّجُلِ، إِذَا قُلْتَ: مِنَ الرَّجُلِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا ثَالِثًا، فَقَالَ:

فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا لَمْ يُحَرِّكُوا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي مِيمْ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَقْفَ، وَأَمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِسَاكِنَيْنِ، فَإِذَا جَاءَ بِسَاكِنٍ ثَالِثٍ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا التَّحْرِيكُ فَحَرَّكُوا؟

قُلْتُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ لَيْسَتِ لِمُلَاقَاةِ السَّاكِنِ، أَنَّهُمْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا:

وَاحِدْ اثْنَانِ، بِسُكُونِ الدَّالِ مَعَ طَرْحِ الْهَمْزَةِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، كَمَا قَالُوا: أَصْيَمْ

ص: 11

وَمَدْيَقْ، فَلَمَّا حَرَّكُوا الدَّالَّ عُلِمَ أَنَّ حَرَكَتَهَا هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. انْتَهَى هَذَا السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ. وَفِي سُؤَالِهِ تَعْمِيَةٌ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا لَمْ يُحَرِّكُوا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؟ وَيَعْنِي بِالسَّاكِنَيْنِ: الْيَاءَ وَالْمِيمَ فِي مِيمْ، وَحِينَئِذٍ يَجِيءُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَقْفَ وَأَمْكَنَهُمُ النُّطْقُ بِسَاكِنَيْنِ، يَعْنِي الْيَاءَ وَالْمِيمَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ جَاءَ بِسَاكِنٍ ثَالِثٍ، يَعْنِي لَامَ التَّعْرِيفِ، لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا التَّحْرِيكُ، يَعْنِي فِي الْمِيمِ، فَحَرَّكُوا يَعْنِي:

الْمِيمَ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُحَرِّكُوا لَاجْتَمَعَ ثلاث سَوَاكِنَ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ. هَذَا شَرْحُ السُّؤَالِ.

وَأَمَّا جَوَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنْ سُؤَالِهِ، فَلَا يُطَابِقُ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ على أن الحركة ليست لِمُلَاقَاةِ سَاكِنٍ بِإِمْكَانِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: وَاحِدِ اثْنَانِ، بِأَنْ يُسَكِّنُوا الدَّالَ، وَالثَّاءُ سَاكِنَةٌ، وَتَسْقُطُ الْهَمْزَةُ. فَعَدَلُوا عَنْ هَذَا الْإِمْكَانِ إِلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الدَّالِ، وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ فِي الْمَحْسُوسِ، لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَا هُوَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَجْمَعُوا فِي النُّطْقِ بَيْنَ سُكُونِ الدَّالِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَطَرْحِ الْهَمْزَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَجَمَعُوا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا قَالُوا:

أَصْيَمْ وَمَدْيَقْ، فَهَذَا مُمْكِنٌ كَمَا هُوَ فِي: رَادْ وَضَالْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ عَلَى حَدِّهِمَا الْمَشْرُوطِ فِي النَّحْوِ، فَأَمْكَنَ النُّطْقُ بِهِ، وَلَيْسَ مِثْلَ: وَاحِدِ اثْنَانِ. لِأَنَّ السَّاكِنَ الْأَوَّلَ لَيْسَ حَرْفَ عِلَّةٍ، وَلَا الثَّاءَ فِي مُدْغَمٍ، فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا حركوا الدال علم أن حَرَكَتَهَا هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِمَا بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي وَاحِدِ اثْنَانِ مُمْكِنٌ، وَحَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ إنما هي فِيمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِيهِ فِي اللَّفْظِ، ادَّعَى أَنَّ حَرَكَةَ الدَّالِّ هِيَ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ السَّاقِطَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَمَ إِمْكَانِ ذَلِكَ، فَإِنَّ صَحَّ كَسْرُ الدَّالِ، كَمَا نَقَلَ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهَا لالتقاء الساكنين لا للنقل، وَقَدْ رُدَّ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِيَّاهُ بِأَنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَالتَّدَافُعِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُكُونَ آخَرِ مِيمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، وَإِلْقَاءَ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَصْلِ، وَنِيَّةُ الْوَصْلِ تُوجِبُ حَذْفَ الْهَمْزَةِ، وَنِيَّةُ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا تُوجِبُ ثَبَاتَهَا وَقَطْعَهَا، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ. انْتَهَى. وَهُوَ رَدٌّ صَحِيحٌ.

وَالَّذِي تَحَرَّرَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّ الْعَرَبَ مَتَى سَرَدَتْ أَسْمَاءَ مُسَكَّنَةَ الْآخِرِ وَصْلًا

ص: 12

وَوَقْفًا، فَلَوِ الْتَقَى آخِرُ مُسَكَّنٍ مِنْهَا، بِسَاكِنٍ آخَرَ، حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ الَّتِي فِي مِيمِ: الم اللَّهُ، هِيَ حَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

وَالْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ: الم، تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْمُنْتَشِرَ الَّذِي لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.

وَالْكَلَامُ عَلَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «1» وَفِي أَوَّلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْقَاضِي الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي النَّظْمِ إِلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ هُنَا أَنْ يَكُونَ الم إِشَارَةً إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ كِتَابُكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا.

وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ عَلَى مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ، مِمَّا هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْحُرُوفِ، قَالَ: وَذَلِكَ فِي نَظْمِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «2» ترك الْجَوَابَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ «3» عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَلَا تَدْفِنُونِي، إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ

عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ

أَيْ: وَلَكِنِ اتْرُكُونِي لِلَّتِي يُقَالُ لَهَا: خَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يحْسُنُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ خَبَرُ قَوْلِهِ: اللَّهُ، حَتَّى يَرْتَبِطَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مِثْلِيَّتَهُ لَيْسَتْ صَحِيحَةَ الشَّبَهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ، وَمَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَبْرَعَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الم لَا يُضَمُّ مَا بَعْدَهَا إِلَى نَفْسِهَا فِي الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ كَلَامًا مُبْتَدَأً جَزْمًا، جُمْلَةٌ رَادَّةٌ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فحاجوه في عيسى بن مَرْيَمَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اللَّهُ. انتهى كلامه.

(1) سورة البقرة: 2/ 163.

(2)

سورة الزمر: 39/ 22.

(3)

سورة الزمر: 39/ 22.

ص: 13

قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَوْضِعُ: ألم، نصب، والتقدير: قرأوا ألم، و: عليكم الم. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى: هذا ألم، و: ذلك الم.

وَتَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْجُرْجَانِيِّ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هَذِهِ الْحُرُوفُ كِتَابُكَ.

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ: الْقَيَّامُ. وَقَالَ خَارِجَةٌ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: الْقَيَّمُ، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ عَلْقَمَةَ.

اللَّهُ رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ ونَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: نَزَّلَ، هُوَ الْخَبَرُ، وَ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، جملة اعترض.

وَتَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ اسْتِقْصَاءُ إِعْرَابِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَقَالَ الرَّازِيُّ: مَطْلَعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَازَعُوا كَأَنَّهُ قِيلَ: إِمَّا أَنْ تُنَازِعُوا فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، أَوْ فِي النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ:

حَيٌّ قَيُّومٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّانِي فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي عَرَفْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، هُوَ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الْكِتَابَ هُنَا: الْقُرْآنُ، بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتَكَرَّرَ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ، فَصَارَ عِلْمًا. بِالْغَلَبَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَزَّلَ، مُشَدَّدًا وَ: الْكِتَابَ، بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: نَزَلَ، مُخَفَّفًا، وَ: الْكِتَابُ، بِالرَّفْعِ، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: نَزَلَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَتَى هُنَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْكَ، وَلَمْ يَأْتِ بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَلَا الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ، تَخْصِيصًا لَهُ وَتَشْرِيفًا بِالذِّكْرِ، وَجَاءَ بِذِكْرِ الْخِطَابِ لِمَا فِي الْخِطَابِ مِنَ الْمُؤَانَسَةِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ: عَلَى، لِمَا فِيهَا مِنِ الِاسْتِعْلَاءِ. كَأَنَّ الْكِتَابَ تَجَلَّلَهُ وَتَغَشَّاهُ، صلى الله عليه وسلم.

وَمَعْنَى: بِالْحَقِّ: بِالْعَدْلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَدْلُ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْكَ مَنْ حَمْلِ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ. الثَّانِي: بِالْعَدْلِ فِيمَا اخْتَصَّكَ بِهِ مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ.

ص: 14

وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ. وَقِيلَ: بِالصِّدْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمِنَ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

وَقِيلَ: مَعْنَى بِالْحَقِّ: بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ.

وَالْبَاءُ: تَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ أَيْ: بِسَبَبِ إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ الْحَالَ، أَيْ: مُحِقًّا نَحْوُ:

خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ، أَيْ مُتَسَلِّحًا.

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَجِيئِهِ، وَوُقُوعُ الْمُخْبَرِ بِهِ يَجْعَلُ الْمُخْبِرَ صَادِقًا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ يُوَافِقْهَا، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ، إِلَّا بِالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْإِيمَانِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ صَلَاحُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ. فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِتِلْكَ الْكُتُبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِشَرَائِعِ أَكْثَرِ الْكُتُبِ، فَهِيَ مُبَشِّرَةٌ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهَا تَثْبُتُ إِلَى حِينِ بِعْثَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ. فَقَدْ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مُصَدِّقًا لَهَا لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَخْتَلِفُ.

وَانْتِصَابُ: مُصَدِّقًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ:

أَنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهِ نَسَبِي

وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لِلنَّاسِ مِنْ عَارِ؟

وَقِيلَ: انْتِصَابُ: مُصَدِّقًا، عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ: بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. وَ: لِمَا، متعلق بمصدقا، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ، إِذْ: مُصَدِّقًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا بِقَوْلِهِ لِما بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ. وَأَصْلُ هَذَا أَنْ يُقَالَ: لِمَا يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا كَانَ قُدَّامُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ.

وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ فَخَّمَ رَاءَ التَّوْرَاةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَضْجَعَهَا: أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَهَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ: حَمْزَةُ، وَنَافِعٌ. وَرَوَى الْمُسَيِّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَتْحَهَا.

ص: 15

وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْأَنْجِيلَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، لِأَنَّ أَفْعِيلًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ إِفْعِيلٍ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي أَبْنِيَتِهِمْ: كَإِخْرِيطٍ، وَإِصْلِيتٍ.

وَتَعَلَّقَ: مِنْ قَبْلُ، بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: مِنْ قَبْلُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْكَ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مِنْ قَبْلِكَ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرَ الرَّسُولِ. وَغَايَرَ بَيْنَ نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، وَإِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذِ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَمَا أَنَّ الْهَمْزَةَ لِلتَّعْدِيَةِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: نَزَّلَ الْكِتَابَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ؟.

قُلْتُ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَنَزَلَ الْكِتَابَانِ جُمْلَةً. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ على هذا القول. وإن التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَلَا التَّنْجِيمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: نَزَّلَ وَأَنْزَلَ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ «1» وأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَا كَانَ: مِمَّنْ يَنْزِلُ، مُشَدِّدًا بِالتَّخْفِيفِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيمِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لِتَنَاقُضِ الْإِخْبَارِ. وَهُوَ مُحَالٌ.

هُدىً لِلنَّاسِ قِيلَ: هُوَ قَيْدٌ فِي الْكِتَابِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَمْ يُثَنَّ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: هُوَ قَيْدٌ فِي الْإِنْجِيلِ وَحْدَهُ، وَحُذِفَ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي لِلْإِنْجِيلِ وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ فَيَكُونُ الْهُدَى لِلْفُرْقَانِ فَحَسْبُ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْفُرْقَانَ الْقُرْآنَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هُدًى إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ هُدًى، وَمَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، مجردة و: ضربت هِنْدًا، تُرِيدُ، وَضَرَبْتُ هِنْدًا مُجَرَّدَةً لَمْ يَجُزْ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْهُدَى: هُوَ الْبَيَانُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ هُدًى بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ النَّاسُ هُنَا مَخْصُوصًا، إِذْ لَمْ تَقَعِ الْهِدَايَةُ لِكُلِّ النَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُمَا هُدًى فِي ذَاتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا دَاعِيَانِ لِلْهُدَى، فَيَكُونُ النَّاسُ عَامًّا، أَيْ: هُمَا منصوبان وداعيان لمن

(1) سورة النحل: 16/ 44.

ص: 16

اهْتَدَى بِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ الْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: النَّاسُ قَوْمُ مُوسَى وَعِيسَى وَقِيلَ: نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِشَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا، فَالنَّاسُ عَامٌّ. قَالَ الْكَعْبِيُّ: هَذَا يُبْطِلُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَمِيٌّ عَلَى الْكَافِرِ، وَلَيْسَ هُدًى لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «1» أَنَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِ اخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، لِقَوْلِ نُوحٍ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «2» انْتَهَى.

قِيلَ: وَخَصَّ الْهُدَى بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ هُدًى، لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ مَعَ النَّصَارَى وَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ، بَلْ وَصَفَ بِأَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُمَا، فَلِذَلِكَ اخْتُصَّا فِي الذِّكْرِ بِالْهُدَى.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ هُنَا لِلنَّاسِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مُجَرَّدٌ، وَ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، خَبَرٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ الِاسْتِدْعَاءُ، وَالصَّرْفُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَحَسُنَتِ الصِّفَةُ لِيَقَعَ مِنَ السَّامِعِ النَّشَاطُ وَالْبِدَارُ، وَذَكَرَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ إِيجَادُ الْهِدَايَةِ فِي الْقَلْبِ، وَهُنَا إِنَّمَا ذَكَرَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، أَوِ الْهُدَى الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مُعَدٌّ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، فَسُمِّيَ هُدًى بِذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ فُورَكَ: التَّقْدِيرُ هَنَا: هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، وَيُرَدُّ هَذَا الْعَامُّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ مَدْلُولَيِ الْهُدَى، فَحَيْثُ كَانَ بِالْفِعْلِ ذُكِرَ الْمُتَّقُونَ، وَحَيْثُ كَانَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُدًى فِي ذَاتِهِ، ذُكِرَ الْعَامُّ.

وَأَمَّا الْمَوْضِعَانِ فَكِلَاهُمَا خَبَرٌ لَا فَرْقَ فِي الْخَبَرِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «3» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ.

وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الْفُرْقَانَ: جِنْسُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، لِأَنَّهَا كلها فرقان يفرق بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، مِنْ كُتُبِهِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، أَوْ أَرَادَ الْكِتَابَ الرَّابِعَ، وَهُوَ الزَّبُورُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «4» أَوِ الْفُرْقَانَ: الْقُرْآنُ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ بِمَا هُوَ نَعْتٌ لَهُ وَمَدْحٌ مِنْ كَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الحق والباطل، بعد ما ذَكَرَهُ بِاسْمِ الْجِنْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ: فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ

(1) سورة فصلت: 41/ 44.

(2)

سورة نوح: 71/ 6. [.....]

(3)

سورة البقرة: 2/ 2.

(4)

سورة النساء: 4/ 163 والإسراء: 17/ 55.

ص: 17

السَّلَامُ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْوَفْدَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمَا: فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، وَفِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: كُلُّ أَمْرٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا قَدُمَ وَحَدَثَ، فَدَخَلَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: طُوفَانُ نُوحٍ، وَفَرْقُ الْبَحْرِ لِغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَيَوْمُ بَدْرٍ، وَسَائِرُ أَفْعَالِ اللَّهِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: النَّصْرُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْمُخْتَارُ أن يكون المراد بالفرقان هُنَا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ، لأنهم إذا ادعو أَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ افْتَقَرُوا إِلَى، تَصْحِيحِ دَعْوَاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَكَانَتْ هِيَ الْفُرْقَانَ، لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ دَعْوَى الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهَا، أَنْزَلَ مَعَهَا مَا هُوَ الْفُرْقَانُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنْزَلَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: هُنَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللَّهُ لِيُفَرِّقَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ فِي تفسير الفرقان. والفرقان مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، أَيِ: الْفَارِقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ أَيِ: الْمَفْرُوقُ. قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «1» .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى أَمْرَ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمْرَ النُّبُوَّةِ بِذِكْرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، تَوَعَّدَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَغَيْرِهَا، بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ. وَالْغَلَبَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ: كَالنَّارِ.

والَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ دَاخِلٌ فِيهِ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ بِسَبَبِهِمْ، وَهُمْ نَصَارَى وَفْدِ نَجْرَانَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وكعب بْنِ أَسَدٍ، وَبَنِي أَخْطَبَ وَغَيْرِهِمْ.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: مُمْتَنِعٌ أَوْ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ، أَوْ مُنْتَصِرٌ ذُو عُقُوبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَصْفَ: بِذُو، أَبْلَغُ مِنَ الْوَصْفِ بِصَاحِبٍ، ولذلك لم يجىء فِي صِفَاتِ اللَّهِ صَاحِبٌ، وَأَشَارَ بِالْعِزَّةِ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَأَشَارَ بِذِي انْتِقَامٍ، إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْعِقَابِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُو انْتِقامٍ لَهُ انْتِقَامٌ شَدِيدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ مُنْتَقِمٌ. انْتَهَى.

وَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ لَفْظُ: ذُو انْتِقَامٍ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَارِجِ اللفظ.

(1) سورة الإسراء: 17/ 106.

ص: 18

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ شَيْءٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فتعم، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، إِذْ هُمَا أَعْظَمُ مَا نُشَاهِدُهُ، وَالتَّصْوِيرُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْهَيْئَاتِ دَالٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَبِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَتِمُّ مَعْنَى الْقَيُّومِيَّةِ، إِذْ هُوَ الْقَائِمُ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَمُهِمَّاتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى، إِذْ شُبْهَتُهُمْ فِي ادِّعَاءِ إِلَهِيَّةِ عِيسَى كَوْنُهُ: يُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعِلْمِ، وَكَوْنُهُ: يُحْيِي الْمَوْتَى، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْقُدْرَةِ. فَنَبَّهَتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى عَالِمًا بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ ذُو الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَرْكِيبِ الصُّوَرِ وَإِحْيَائِهَا، بَلْ إِنْبَاؤُهُ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَخَلْقُهُ وَإِحْيَاؤُهُ بَعْضَ الصُّوَرِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، وَإِقْدَارِهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي أَجْرَاهَا، وَأَمْثَالَهَا، عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ.

وَفِي ذِكْرِ التَّصْوِيرِ فِي الرَّحِمِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِيسَى إِلَهٌ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ صُوِّرَ فِي الرَّحِمِ.

وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ تَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَتِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَوَعِيدٌ بِالْمُجَازَاةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي أَمْرِ عِيسَى عليه السلام. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

مُطَّلِعٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ كَفَرَ، وَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ من الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَكُمْ؟ وَكُلُّ هَذِهِ تَخْصِيصَاتٌ. وَاللَّفْظُ عَامٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَبْلَغُ مِنْ: يَعْلَمُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ فِيهِ يُفِيدَانِ مَعْنًى وَاحِدًا.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالرَّبِيعُ، فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الطَّبِيعَةِ، إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَةً مُسْتَبِدَّةً كيف تشاء. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ

ص: 19

يَجْعَلُ قَوْلَ الْقَائِفِ حُجَّةً فِي دَعْوَى النَّسَبِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلْمَ التَّصْوِيرِ فِي الْأَرْحَامِ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَعْرِفُ القائف صَوَّرَهُ مِنْ مَائِهِ عِنْدَ قِيَامِ التَّشَابُهِ فِي الصُّوَرِ؟ انْتَهَى.

وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمَلُ مُسْتَقِلَّةً، فَتَكُونُ الْأُولَى: إِخْبَارًا عَنْهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ التَّامِّ، وَالثَّانِيَةُ: إِخْبَارًا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَبِالْإِرَادَةِ وَالثَّالِثَةُ: بِالِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ: إِنَّ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ، هُنَا: يُصَوِّرُكُمْ، بِلَفْظِ الْحَالِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَصَوَّرَكُمْ، لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَزْمِنَةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَتِ الْأَلْفَاظُ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْأَزْمِنَةِ بِحَسَبِ اللُّغَاتِ، وَأَيْضًا: فَصَوَّرَكُمْ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى نِسْبَةِ التَّقْدِيرِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ تَعَالَى فِي حكم ما قد فرغ مِنْهُ. وَيُصَوِّرُكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا حَالًا فحالا. انتهى.

وقرأ طاووس: تَصَوَّرَكُمْ، أَيْ صَوَّرَكُمْ لِنَفْسِهِ وَلِتَعَبُّدِهِ. كَقَوْلِكَ: أَثَلْتُ مَالًا، أَيْ:

جَعَلْتُهُ أَثْلَةً. أَيْ: أَصْلًا. وَتَأَثَّلْتُهُ إِذَا أَثَّلْتَهُ لِنَفْسِكَ. وَتَأْتِي: تَفَعَّلَ، بِمَعْنَى: فَعَّلَ، نَحْوُ:

تَوَلَّى، بِمَعْنَى: وَلَّى.

وَمَعْنَى كَيْفَ يَشاءُ أَيْ: مِنَ الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَاللَّوْنِ، وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ فَقَطْ.

وَ: كَيْفَ، هُنَا لِلْجَزَاءِ، لَكِنَّهَا لَا تَجْزِمُ. وَمَفْعُولُ: يَشَاءُ، مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُصَوِّرَكُمْ. كَقَوْلِهِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «1» أَيْ: كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُنْفِقَ، وَ: كَيْفَ، منصوب: بيشاء، وَالْمَعْنَى: عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ أَنْ يُصَوِّرَكُمْ صَوَّرَكُمْ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَحَذْفُ فِعْلِ الْجَزَاءِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، التَّقْدِيرُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَلَا مَوْضِعَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى، فَتَعَلُّقُهَا كَتَعَلُّقِ إِنْ فَعَلْتَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتَ ظَالِمٌ.

وَتَفْكِيكُ هَذَا الْكَلَامِ وَإِعْرَابُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَا يُهْتَدَى لَهُ إِلَّا بَعْدَ تَمَرُّنٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَاسْتِحْضَارٍ لِلَطَائِفِ النَّحْوِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَيْفَ يَشاءُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، مَعْمُولُ: يُصَوِّرُكُمْ وَمَعْنَى الْحَالِ

(1) سورة المائدة: 5/ 64.

ص: 20

أَيْ: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ قَادِرًا عَلَى تَصْوِيرِكُمْ مَالِكًا ذَلِكَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ:

يُصَوِّرُكُمْ عَلَى مَشِيئَتِهِ، أَيْ مُرِيدًا، فَيَكُونُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُصَوِّرُكُمْ مُنْقَلِبِينَ عَلَى مَشِيئَتِهِ.

وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ تَصْوِيرَ الْمَشِيئَةِ، وَكَمَا يَشَاءُ.

لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كَرَّرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الدَّالَّةَ عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَانْحِصَارِهَا فِيهِ، تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَرَدًّا عَلَى مَنِ ادَّعَى إِلَهِيَّةَ عِيسَى، وَنَاسَبَ مَجِيئَهَا بَعْدَ الْوَصْفَيْنِ السَّابِقَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، إِذْ مَنْ هَذَانِ الْوَصْفَانِ لَهُ، هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ أَتَى بِوَصْفِ الْعِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ النَّظِيرِ، وَالْحِكْمَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَصْوِيرِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِتْقَانِ التَّامِّ.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعْدِيلَ الْبِنْيَةِ وَتَصْوِيرَهَا عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَشْكَالِ الْحَسَنَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ جُسْمَانِيٌّ، اسْتَطْرَدَ إِلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ أَمْرٌ رُوحَانِيٌّ. وَكَانَ قَدْ جَرَى لِوَفْدِ نَجْرَانَ أَنَّ مِنْ شُبَهِهِمْ قَوْلَهُ وَرُوحٌ مِنْهُ «1» فَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ مُحْكَمُ الْعِبَارَةِ قَدْ صِينَتْ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، وَهُوَ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا.

وَنَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ.

وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِأَنَّ آيَاتِهِ مُحْكَمَةٌ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ كَامِلًا، وَلَفْظُهُ أَفْصَحُ، وَمَعْنَاهُ أَصَحُّ، لَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَلَامٌ، وَجَاءَ وَصْفُهُ بِالتَّشَابُهِ بِقَوْلِهِ: كِتاباً مُتَشابِهاً «2» مَعْنَاهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْجِنْسِ وَالتَّصْدِيقِ. وَأَمَّا هُنَا فَالتَّشَابُهُ مَا احْتَمَلَ وَعَجَزَ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، نَحْوُ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «3» وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً «4» أَيْ: مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ، وَمِنْهُ: اشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ، إِذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الْمَخَارِيقِ: أَصْحَابُ الشُّبَهِ، وَتَقُولُ: الْكَلِمَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِمَعْنًى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ نَصٌّ، أَوْ يَحْتَمِلُ رَاجِحًا أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِرٌ، وإلى المرجوح

(1) سورة النساء: 4/ 171 والمجادلة: 58/ 22.

(2)

سورة الزمر: 39/ 23.

(3)

سورة البقرة: 2/ 70.

(4)

سورة البقرة: 2/ 25.

ص: 21

مُؤَوَّلٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، فَمُشْتَرَكٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَمُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤَوَّلِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي الْقِسْمَيْنِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ: الْمُحْكَمُ: مَا بَيَّنَ تعالى حلاله وحرمه فَلَمْ تَشْتَبِهْ مَعَانِيهِ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بن جعفر بن الزبير، وَالشَّافِعِيُّ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُحْكَمُ: مَا لَمْ تَتَكَرَّرْ أَلْفَاظُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا تَكَرَّرَتْ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ دئاب، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا: الْمُحْكَمُ مَا فَهِمَ الْعُلَمَاءُ تَفْسِيرَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ: كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ عِيسَى.

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: الْمُحْكَمُ، الْفَاتِحَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الفضل: سورة الإخلاص، لأن لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيدُ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْمُحْكَمَاتُ مَا لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُحْكَمَاتُ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ، لِأَنَّهَا تُبَسِّطُ مَعَانِيهَا، فَكَانَتْ أُمَّ فُرُوعٍ قِيسَتْ عَلَيْهَا وَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا، كَالْأُمِّ يَحْدُثُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا: أُمَّ الْكِتَابِ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ.

وَقَالَ يَحيْيَ بْنُ يَعْمَرَ: الْمُحْكَمُ الْفَرَائِضُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمُتَشَابِهُ: الْقِصَصُ وَالْأَمْثَالُ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِدْلَالٍ. وَالْمُتَشَابِهُ مَا كَانَ مَعَانِي أَحْكَامِهِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ.

وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقِصَصِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «2» وقُلْنَا احْمِلْ «3» وفَاسْلُكْ «4» .

وَقَالَ أَبُو فَاخِتَةَ: الْمُحْكَمَاتُ فَوَاتِحُ السُّوَرِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهَا السور: كألم والمر.

وَقِيلَ: الْمُتَشَابِهُ فَوَاتِحُ السُّوَرِ، بِعَكْسِ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: الْمُحْكَمَاتُ: الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، والمتشابهات: آلم والمر، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَى الْيَهُودِ من هذه

(1) سورة طه: 20/ 20.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 107 والشعراء: 26/ 32.

(3)

سورة هود: 11/ 40.

(4)

سورة المؤمنون: 23/ 27.

ص: 22

وَنَحْوِهَا، حِينَ سَمِعُوا: الم، فَقَالُوا: هَذِهِ بِالْجَمْلِ: أَحَدٌ وَسَبْعُونَ، فَهُوَ غَايَةُ أَجَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا سَمِعُوا: الر، وَغَيْرَهَا، اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ. أَوْ: مَا اشْتَبَهَ مِنَ النَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِ:

وَرُوحٌ مِنْهُ «1» .

وَقِيلَ: الْمُتَشَابِهَاتُ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، كَصِفَةِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالْيَدِ، وَالِاسْتِوَاءِ.

وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ «2» الْآيَاتِ وقَضى رَبُّكَ «3» الْآيَاتِ وَمَا سِوَى الْمُحْكَمِ مُتَشَابِهٌ.

وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي أُحْكِمَتْ بِالْإِبَانَةِ، فَإِذَا سَمِعَهَا السَّامِعُ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْوِيلِهَا، لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَا خَالَفَتْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ:

الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. وَقَالَ ابْنُ خويز منداذ: الْمُتَشَابِهُ مَا لَهُ وُجُوهٌ وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، كَالْآيَتَيْنِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ: تَعْتَدُّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَعُمَرُ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ: وَضْعُ الْحَمْلِ. وَخِلَافُهُمْ فِي النَّسْخِ، وَكَالِاخْتِلَافِ فِي الوصية للوراث هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَا. وَنَحْوُ تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ: أَيُّهُمَا أَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ النَّسْخُ؟ نَحْوُ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «4» يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «5» يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؟

وَمَعْنَى: أُمُّ الْكِتَابِ، مُعْظَمُ الْكِتَابِ، إِذِ الْمُحْكَمُ فِي آيَاتِ اللَّهِ كَثِيرٌ قَدْ فُصِّلَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: هَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَكَّةَ: أُمُّ الْقُرَى، وَلِمَرْوَ: أُمُّ خُرَاسَانَ، و: أم الرأس:

لمجتمع الشؤون، إِذْ هُوَ أَخْطَرُ مَكَانٍ.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جِمَاعُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: أُمَّهَاتٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُحْكَمَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي تَقْدِيرِ شَيْءٍ وَآخَرَ، وَأَحَدُهُمَا أُمٌّ لِلْآخَرِ، وَنَظِيرُهُ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «6» وَلَمْ يَقُلِ: اثْنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: هُنَّ، أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، نَحْوُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «7» أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ منهم. قيل: ويحتمل أن

(1) سورة النساء: 4/ 171، وسورة المجادلة: 58/ 22.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 151. [.....]

(3)

سورة الإسراء: 17/ 23.

(4)

سورة النساء: 3/ 24.

(5)

سورة النساء: 3/ 23.

(6)

سورة المؤمنون: 23/ 50.

(7)

سورة النور: 24/ 4.

ص: 23

أفراد فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ. نَحْوُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ «1» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمُّ الْكِتَابِ أَيْ أَصْلُ الْكِتَابِ، تُحْمَلُ الْمُتَشَابِهَاتُ عَلَيْهَا، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «3» لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «4» أَمَرْنا مُتْرَفِيها

«5» انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَالْمُتَشَابِهَ قَوْلَهُ:

إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «6» .

وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْكِسُونَ هَذَا، أَوْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِدْرَاكِ وَالرُّؤْيَةِ. وَذُكِرَ مِنَ الْمُحْكَمِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «7» لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «8» وَمُتَشَابِهِهِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «9» ظَاهِرُ النِّسْيَانِ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَمَرْجُوحُهُ التَّرْكُ. وَأَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، فَمَا وَافَقَ الْمَذْهَبَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُحْكَمٌ، وَمَا خَالَفَ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ. فَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «10» عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُحْكَمٌ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «11» مُتَشَابِهٌ. وَغَيْرُهُمْ بِالْعَكْسِ.

وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ كَانَ لَفْظِيًّا فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِحُصُولِ التَّعَارُضِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَلَا قَطْعَ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَوْ أُرْجِحَ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ ظَنِّيَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ. فَإِذَنِ الْمَصِيرُ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَإِذَا عُلِمَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَرْجِيحَ مَجَازٍ عَلَى مَجَازٍ، وَتَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ.

وَمِنَ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَقَالَ: يَقُولُونَ، إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَالْجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآيَاتِ الْجَبْرِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً «12» وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «13» . وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا

(1) سورة البقرة: 2/ 7.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 103.

(6- 3) سورة القيامة: 75/ 23.

(4)

سورة الإعراف: 7/ 28.

(5)

سورة الإسراء: 17/ 16.

(7)

سورة مريم: 19/ 64.

(8)

سورة طه: 20/ 52.

(9)

سورة التوبة: 9/ 67.

(10)

سورة الكهف: 18/ 29. [.....]

(11)

سورة الإنسان: 76/ 30 والتكوير: 81/ 29.

(13- 12) سورة الأنعام: 6/ 25. والإسراء: 17/ 46 والكهف: 18/ 57.

ص: 24

فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ «1» وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «2» .

وَمُثْبِتُو الرُّؤْيَةِ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «3» وَالْآخَرُونَ، بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «4» . وَمُثْبِتُو الْجِهَةِ بِقَوْلِهِ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «5» وَبِقَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «6» وَالْآخَرُونَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «7» فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْمُحْكَمِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَرْجُوحِ إِلَيْهِ هَكَذَا؟ انْتَهَى كَلَامُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ. وَبَعْضُهُ مُلَخَّصٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِمَجِيءِ الْمُتَشَابِهِ فَوَائِدَ، وَأَحْسَنُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ:

فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا؟

قُلْتُ: لَوْ كَانَ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَتَعَلَّقَ النَّاسُ بِهِ لِسُهُولَةِ مَأْخَذِهِ، وَلَأَعْرَضُوا عَمَّا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْفَحْصِ وَالتَّأَمُّلِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَعَطَّلُوا الطَّرِيقَ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ إِلَّا بِهِ، وَلِمَا فِي الْمُتَشَابِهِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الثَّابِتِ عَلَى الْحَقِّ وَالْمُتَزَلْزِلِ فِيهِ، وَلِمَا فِي تَقَادُحِ الْعُلَمَاءِ وَإِتْقَانِهِمُ الْقَرَائِحَ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهِ، وَرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَالْعُلُومِ الْجَمَّةِ، وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُعْتَقِدَ أَنْ لَا مُنَاقَضَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا اخْتِلَافَ إِذَا رَأَى فِيهِ مَا يَتَنَاقَضُ فِي ظَاهِرِهِ، وَأَهَمَّهُ طَلَبُ مَا يُوَفِّقُ بَيْنَهُ وَيُجْرِيهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، فَفَكَّرَ وَرَاجَعَ نَفْسَهُ وَغَيَّرَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ مُطَابَقَةَ الْمُتَشَابِهِ الْمُحْكَمِ، ازْدَادَ طُمَأْنِينَةً إِلَى معتقده، ودقة فِي إِتْقَانِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِمَّا قَالَهُ النَّاسُ فِي فَائِدَةِ الْمَجِيءِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَّلَ السُّورَةِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ذَكَرَ هُنَا كَيْفِيَّةَ الْكِتَابِ، وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ، إِذْ فِي صِلَتِهِ حِوَالَةٌ عَلَى التَّنْزِيلِ السَّابِقِ، وَعَهْدٌ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ إِلَى آخِرِهِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: تَرَكَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَارْتَفَعَ: آيَاتٌ، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ قَدِ اعْتُمِدَ، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَوَصْفُ الْآيَاتِ بِالْإِحْكَامِ صَادِقٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مُحْكَمَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأُخَرُ صِفَةٌ لآيات

(1) سورة فصلت: 41/ 5.

(2)

سورة البقرة: 2/ 88.

(3)

سورة القيامة: 75/ 123.

(4)

سورة الأنعام: 6/ 103.

(5)

سورة النحل: 16/ 5.

(6)

سورة طه: 20/ 5.

(7)

سورة الشورى: 42/ 11.

ص: 25

مَحْذُوفَةٍ، وَالْوَصْفُ بِالتَّشَابُهِ لَا يَصِحُّ فِي مُفْرَدِ أُخَرَ، لَوْ قُلْتَ: وَأُخْرَى مُتَشَابِهَةٌ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشَابُهَ الْمَقْصُودَ هُنَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلِذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ مَعَ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ يُشَابِهُ الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ، فَهُوَ نَظِيرُ، رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَالُ: رَجُلٌ يَقْتَتِلُ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أُخَرَ فِي قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الَمَهْدَوِيَّ خَلَطَ فِي مَسْأَلَةِ: أُخَرَ، وَأَفْسَدَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ، فَتَوَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الَمَهْدَوِيِّ.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ نَصَارَى نَجْرَانَ لِتُعَرُّضِهِمْ لِلْقُرْآنِ فِي أَمْرِ عِيسَى، قَالَهُ الرَّبِيعُ. أَوِ: الْيَهُودُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بَقَاءَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَالزَّيْغُ: عِنَادُهُمْ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ الأشبه. وذكر محاورة حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَأَصْحَابِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُدَّةِ مِلَّتِهِ، وَاسْتِخْرَاجَ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاتِحِ، وَانْتِقَالَهُمْ مِنْ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ إِلَى أَنْ قَالُوا:

خَلَطَتْ عَلَيْنَا فَلَا نَدْرِي بِكَثِيرٍ نَأْخُذُ أَمْ بِقَلِيلٍ؟ وَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِهَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ الْآيَةَ، وَفَسَّرَ الزَّيْغَ: بِالْمَيْلِ عَنِ الْهُدَى، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَ قتادة: هم منكر والبعث، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهَا وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ أَخْفَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَهُمُ الْخَوَارِجُ. وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةً لَا فِي مَحَلِّهَا. وَقَالَ أَيْضًا: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحَرُورِيَّةُ هُمُ الْخَوَارِجُ السَّبَائِيَّةُ، فَلَا أَدْرِي مَنْ هم.

وقال ابن جريح: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ.

وَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي الزَّائِغِينَ عَنِ الْحَقِّ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ ذَكَرَ زَائِغَةٌ عَنِ الْحَقِّ، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُهُمْ وَإِنْ كَانَ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ.

فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مُتَّبِعُو الْمُتَشَابِهِ إِمَّا طالبو تشكيك وتناقض

(1) سورة البقرة: 2/ 184 و 185.

ص: 26

وَتَكْرِيرٍ، وَإِمَّا طَالِبُو ظَوَاهِرِ المتشابه: كالمجمسة إِذْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ جِسْمٌ، وَصُورَةٌ ذَاتُ وَجْهٍ، وَعَيْنٍ وَيَدٍ وَجَنْبٍ وَرِجْلٍ وَأُصْبُعٍ. وَإِمَّا مُتَّبِعُو إِبْدَاءِ تَأْوِيلٍ وَإِيضَاحِ مُعَايَنَةٍ، كَمَا سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ أَشْيَاءَ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ، نَحْوُ:

وَلا يَتَساءَلُونَ «1» وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3» وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «4» وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا أَزَالَ عَنْهُ التَّعَارُضَ، وَإِمَّا مُتَّبِعُوهُ وَسَائِلُونَ عَنْهُ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ، كَمَا جَرَى لِأُصَيْبِغَ مَعَ عُمَرَ، فَضَرَبَ عُمَرُ رَأْسَهُ حَتَّى جَرَى دَمُهُ عَلَى وَجْهِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا.

ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ عَلَّلَ اتِّبَاعَهُمْ لِلْمُتَشَابِهِ بِعِلَّتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: ابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَرَبِيعٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّبُهَاتُ وَاللَّبْسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيِّنِ. وَقِيلَ: الشُّبُهَاتُ الَّتِي حَاجَّ بِهَا وَفْدَ نَجْرَانَ.

وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: ابْتِغَاءُ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَغَوْا مَعْرِفَةَ مُدَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ:

التَّأْوِيلُ: التَّفْسِيرُ، نَحْوُ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «5» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: طَلَبُوا مَرْجِعَ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَآلَ كِتَابِهِمْ وَدِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَالْعَاقِبَةَ الْمُنْتَظَرَةَ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى: أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ، وَوَقْتَهُ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ، أَيْ تَرَكُوهُ: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا، أَيْ: قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ الرُّسُلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادُوا أَنْ يَعْلَمُوا عَوَاقِبَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ مَتَى يُنْسَخُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقِيلَ: تَأْوِيلَهُ طَلَبُ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ وَعُمْقِ مَعَانِيهِ. وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ كَلَامًا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، مِثْلُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ وَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ؟

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَحْتَمِلُ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمُبْتَدِعُ مِمَّا لَا يُطَابِقُ الْمُحْكَمَ، وَيَحْتَمِلُ مَا

(1) سورة المؤمنون: 23/ 101.

(2)

سورة الصافات: 37/ 27.

(3)

سورة النساء: 4/ 42.

(4)

سورة الأنعام: 6/ 23. [.....]

(5)

سورة الكهف: 18/ 78.

ص: 27

يطابقه من قوله أَهْلِ الْحَقِّ، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ: طَلَبَ أَنْ يَفْتِنُوا النَّاسَ عن دينهم ويضلوهم، وابتغاء تَأْوِيلِهِ: طَلَبَ أَنْ يُؤَوِّلُوُهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:

إِلَّا اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي نَهِيكٍ الْأَسَدِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، والكسائي، والفراء، والجلبائي، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الْخَطَّابِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ.

وَيَكُونُ قوله وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ ويَقُولُونَ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: وَالرَّاسِخُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَ: يَقُولُونَ، حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: قَائِلِينَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا دَلَّ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَجَازَاتِ، وَلَيْسَ التَّرْجِيحُ لِبَعْضٍ إِلَّا بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَالظَّنُّ لَا يَكْفِي فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ طَالِبِ الْمُتَشَابِهِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَمَا ذُمَّ بِأَنَّ طَلَبَ وَقْتِ السَّاعَةِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ مَدَحَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَدْحٌ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، وَإِنَّمَا الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَيُفَوِّضُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَطَعُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَدَمُ التَّعْيِينِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ: الرَّاسِخُونَ، معطوف عَلَى:

اللَّهُ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ: يَقُولُونَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَتَقْدِيرُهُ: هَؤُلَاءِ، أَوْ: هُمْ، فيلزم الإضمار، أو حال وَالْمُتَقَدِّمُ: اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الرَّاسِخِينَ فَقَطْ، وَفِيهِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يَقْتَضِي فَائِدَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا عَرَفُوا بِتَفْصِيلِهِ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي الْكُلِّ عُرِّيَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَلَمَّا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ لَا يَقَعُ جَهْلُهُ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

وَسُئِلَ مَالِكٌ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. انْتَهَى مَا رُجِّحَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ

ص: 28

أُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا رواه طاووس عنه: إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمَنَّا بِهِ.

وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ إِنَّ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ.

وَرَجَّحَ ابْنُ فُورَكَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ، وَفِي

قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»

مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَيْ: عَلِّمْهُ مَعَانِيَ كِتَابِكَ. وَكَانَ عُمَرُ إِذَا وَقَعَ مُشْكِلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَسْتَدْعِيهِ وَيَقُولُ لَهُ: غَصَّ غَوَّاصٍ. وَيَجْمَعُ أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالنَّظَرِ فِي مَعَانِي الْكِتَابِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَا تَأَمَّلْتَ قُرْبَ الْخِلَافِ مِنَ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، فَالْمُحَكَمُ الْمُتَّضِحُ لِمَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا لَبْسٍ فِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّاسِخُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُتَشَابِهُ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَأَمْرِ الرُّوحِ، وَآمَادِ الْمُغَيَّبَاتِ الْمُخْبَرِ بِوُقُوعِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا يُحْمَلُ عَلَى وُجُوهٍ فِي اللُّغَةِ، فَيَتَأَوَّلُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كَقَوْلِهِ فِي عِيسَى وَرُوحٌ مِنْهُ «1» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يُسَمَّى رَاسِخًا إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرًا بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ لَا يَعْلَمُ سِوَى الْمُحْكَمِ فَلَيْسَ بِرَاسِخٍ.

فَقَوْلُهُ إِلَّا اللَّهُ مُقْتَضٍ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَوْعَيْهِ جَمِيعًا، وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ النَّوْعَ الثَّانِي، وَالْكَلَامُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى فَصَاحَةِ الْعَرَبِ. وَدَخَلُوا بِالْعَطْفِ فِي عِلْمِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ لِنَصْرِي إِلَّا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَأَحَدُهُمَا نَصَرَكَ بِأَنْ ضَارَبَ مَعَكَ، وَالْآخَرُ أَعَانَكَ بِكَلَامٍ فَقَطْ.

وَإِنْ جَعْلَنَا وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأً مقطعوعا مِمَّا قَبْلَهُ، فَتَسْمِيَتُهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ؟ وَمَا الرُّسُوخُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ بِتَصَارِيفِ الْكَلَامِ، وَمَوَارِدِ الْأَحْكَامِ، وَمَوَاقِعِ الْمَوَاعِظِ؟.

وَإِعْرَابُ: الرَّاسِخِينَ، يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِمَا.

وَمَنْ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ بِأَنَّهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَقَطْ، فَتَفْسِيرُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الْمُتَشَابِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَفِيهِ اخْتِيَارُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: اللَّهُ، وَإِيَّاهُ اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَا يَهْتَدِي إِلَى تَأْوِيلِهِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عليه إلّا الله

(1) سورة النساء: 4/ 171. والمجادلة: 58/ 22.

ص: 29

وَعِبَادُهُ الَّذِينَ رَسَخُوا فِي الْعِلْمِ، أَيْ ثَبَتُوا فِيهِ وَتَمَكَّنُوا، وَعَضُّوا فِيهِ بِضِرْسٍ قاطع. ويقولون، كَلَامٌ مُسْتَأَنَفٌ مُوَضِّحٌ لِحَالِ الرَّاسِخِينَ، بِمَعْنَى: هَؤُلَاءِ الْعَالَمُونَ بِالتَّأْوِيلِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، أَيْ:

بِالْمُتَشَابِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَتَلَخَّصَ فِي إِعْرَابِ وَالرَّاسِخُونَ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اللَّهُ، وَيَكُونُ فِي إِعْرَابِ: يَقُولُونَ، وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الرَّاسِخِينَ، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ وَهِنْدٌ ضَاحِكَةً.

وَالثَّانِي: مِنْ إِعْرَابِ: وَالرَّاسِخُونَ، أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: يَقُولُونَ، خَبَرًا عَنْهُ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.

وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَصْحَابِهِ، بِدَلِيلِ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ «1» يَعْنَي الرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَقَدْ فُسِّرَ الرُّسُوخُ فِي الْعِلْمِ بِمَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَشْيَاءُ نَشَأَتْ عَنِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، كَقَوْلِ نَافِعٍ: الرَّاسِخُ الْمُتَوَاضِعُ لِلَّهِ، وَكَقَوْلِ مَالِكٍ: الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ الْعَامِلُ بِمَا يَعْلَمُ، الْمُتَّبِعُ.

كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا هَذَا مِنَ الْمَقُولِ، وَمَفْعُولُ: يَقُولُونَ قَوْلُهُ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَجُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ كَأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَكْ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، أَوْ جُعِلَا مُمْتَزِجَيْنِ فِي الْقَوْلِ امْتِزَاجَ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، نَحْوُ قَوْلِهِ:

كَيْفَ أصحبت؟ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ مِمَّا

يَزْرَعُ الود في فؤاد الكريم؟

كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مِمَّا يَزْرَعُ الْوِدَّ. وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ. وَالتَّنْوِينُ فِي: كُلٌّ، لِلْعِوَضِ مِنَ الْمَحْذُوفِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْكِتَابِ، أَيْ: كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيُرُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ، وَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ. وَأَضَافَ الْعِنْدِيَّةَ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّنَا، لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى

(1) سورة النساء: 4/ 162.

ص: 30

لِمَا فِي الْإِشْعَارِ بِلَفْظَةِ الرَّبِّ مِنَ النَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي الْمُتَشَابِهِ مَصْلَحَةً مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى، وَلَجَعَلَ كِتَابَهُ كُلُّهُ مُحْكَمًا.

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أَيْ: وَمَا يَتَّعِظُ بِنُزُولِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ، إِذْ هُمُ الْمُدْرِكُونَ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَوَضْعِ الْكَلَامِ مَوَاضِعِهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَشْتَبَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي جُعِلَ مُمَيِّزًا لِإِدْرَاكِ: الْوَاجِبِ، وَالْجَائِزِ، وَالْمُسْتَحِيلِ، فَلَا يُوقَفُ مَعَ دَلَالَةِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، بَلْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْفِكْرُ حَتَّى لَا يُنْسَبَ إِلَى الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا إِلَى مَا شَرَعَ مِنْ أَحْكَامِهِ، مَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ، مَا يَقُولُ هَذَا وَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَ، وَيَدَعِ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا ذُو لُبٍّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ بِإِلْقَاءِ الذِّهْنِ وَحُسْنِ التَّأَمُّلِ.

رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ أَيْ:

يَقُولُونَ رَبَّنَا، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى زَائِغٍ، وَمُتَذَكِّرٍ مُؤْمِنٍ، دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى بِلَفْظِ الرَّبِّ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ بَعْدَ هِدَايَتِهِمْ، فَيَلْحَقُوا بِمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى عَلَّمَهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ، وَالتَّقْدِيرُ: قُولُوا رَبَّنَا.

وَمَعْنَى الْإِزَاغَةِ هُنَا الضَّلَالَةُ. وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ:

إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْإِزَاغَةُ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لَمَا جَازَ أَنْ يُدْعَى فِي رَفْعِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: المعنى: لَا تُكَلِّفْنَا عِبَادَةً ثَقِيلَةً تَزِيغُ بِهَا قُلُوبُنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ التَّحَفُّظُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الزَّيْغَ وَالضَّلَالَةَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.

وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سَأَلُوا أَنْ لَا يَزِيغُوا، فَيُزِيغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، نَحْوُ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى هِدَايَتِكَ، وَأَنْ لَا نَزِيغَ، فَنَسْتَحِقَّ أَنْ تُزِيغَ قُلُوبَنَا. وهذه نزعة اعْتِزَالِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا تَمْنَعْهَا الْأَلْطَافَ الَّتِي بِهَا يَسْتَمِرُّ الْقَلْبُ عَلَى صِفَةِ الْإِيمَانِ.

وَلَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ مَنَعَ ذَلِكَ، جَازَ أَنْ يُقَالَ: أَزَاغَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَلَمَّا زَاغُوا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ أَيْضًا: لَا تُزِغْنَا عَنْ جَنَّتِكَ وَثَوَابِكَ.

(1) سورة الصف: 61/ 5.

ص: 31

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: احْرُسْنَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَشَرِّ أَنْفُسِنَا حَتَّى لَا نَزِيغَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تُبْلِنَا بِبَلَايَا تَزِيغُ فِيهَا قُلُوبُنَا، أَوْ: لَا تَمْنَعْنَا أَلْطَافَكَ بَعْدَ أَنْ لَطَفْتَ بِنَا. انْتَهَى.

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ: هَلِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الشَّرِّ كَمَا هُوَ خَالِقُ الْخَيْرِ؟ أَوْ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ؟

فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَكُلٌّ يُفَسِّرُ عَلَى مَذْهَبِهِ.

وَقَرَأَ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو قَائِلَةَ، وَالْجَرَّاحُ: لَا تَزُغْ قُلُوبُنَا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْبَاءِ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُغْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً، وَرَفْعِ بَاءِ قُلُوبُنَا، جَعَلَهُ مِنْ زَاغَ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْقُلُوبِ.

وَظَاهِرُهُ نَهْيُ الْقُلُوبِ عَنِ الزَّيْغِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ: لَا أَرَيَنَّكَ هاهنا.

ولا أَعْرِفَنَّ رَبْرَبًا حُوَّرًا مَدَامِعُهُ أَيْ: لَا تُزِغْنَا فَتَزِيغَ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ظَاهِرُهُ الْهِدَايَةُ الَّتِي هِيَ مُقَابَلَةُ الضَّلَالِ.

وَقِيلَ: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا لِلْعِلْمِ بِالْمُحْكَمِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ، وَ: إِذْ، أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا، وَهُنَا أُضِيفَ إِلَيْهَا: بَعْدَ، فَصَارَتِ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ، وَهِيَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ تُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَاسْتُصْحِبَ فِيهَا حَالُهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهَا تُخْرِجُهَا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ «1» ؟ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ «2» فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ يَوْمُ؟ وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا عَلَى حِينَ مَنْ تُكْتَبُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ عَلَى حِينَ الْكِرَامِ قَلِيلُ أَلَا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاءِ جَدِيدُ كَيْفَ خَرَجَ الظَّرْفُ هُنَا عَنْ بَابِهِ، وَاسْتُعْمِلَ خَبَرًا وَمَجْرُورًا بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَاسْمَ لَيْتَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ؟.

وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً سَأَلُوا بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا مُعَاوَضَةٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ كَذَلِكَ تَكُونُ، وَخَصُّوهَا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، والرحمة

(1) سورة المائدة: 5/ 119.

(2)

سورة الإنفطار: 82/ 19.

ص: 32

إِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الْهِبَةُ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: نَعِيمًا، أَوْ ثَوَابًا صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ، صَحَّ أَنْ يَسْأَلُوا الرَّحْمَةَ إِجْرَاءً لِلسَّبَبِ مَجْرَى الْمُسَبِّبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رَحْمَةً تَوْفِيقًا وَسَدَادًا وَتَثْبِيتًا لِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى.

إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِمْ: وَهَبْ لَنَا، كَقَوْلِكَ: حِلَّ هَذَا الْمُشْكِلَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِالْمُشْكِلَاتِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي عَلَى فَعَّالٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا:

وَهُوبٌ، لِمُنَاسَبَةِ رؤوس الْآيِ، وَيَجُوزُ فِي: أَنْتَ، التَّوْكِيدُ لِلضَّمِيرِ، وَالْفَصْلُ، وَالِابْتِدَاءُ.

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ لَمَّا سَأَلُوهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، وَكَانَتْ ثَمَرَةُ انْتِفَاءِ الزَّيْغِ وَالْهِدَايَةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ فِيهِ لِلْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ صِحَّةِ الْوَعْدِ بِهِ هُوَ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَى سُؤَالِ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ. وَمَعْنَى: لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ: لِجَزَاءِ يَوْمٍ، وَمَعْنَى: لَا رَيْبَ فِيهِ، لَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ لِصِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ لِلْمُكَذِّبِ بِهِ رَيْبٌ فَهُوَ بِحَالِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ.

وَقِيلَ: اللَّامُ، بِمَعْنَى: فِي، أَيْ: فِي يَوْمٍ، وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ لِأَجْلِهِ لَمْ يُذْكَرْ، وَظَاهِرُ هَذَا الْجَمْعِ أَنَّهُ الْحَشْرُ مِنَ الْقُبُورِ لِلْمُجَازَاةِ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ قِرَاءَةُ أَبِي حَاتِمٍ: جَامِعٌ النَّاسَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ: النَّاسَ.

وَقِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعُ هُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ، وَكَأَنَّ اللَّامَ تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَى لِلْغَايَةِ، أَيْ: جَامِعُهُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ هُنَا لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ، إِذْ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمُتْ، فَنُسِبَ الْجَمْعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى الْيَوْمِ، إِذِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَعَادَهُ عَلَى الْجَمْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَامِعُ، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَقَدْ أَبْعَدَ.

إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ظَاهِرُ الْعُدُولِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ الدَّاعِينَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أن الإلهية تنافي خلف الْمِيعَادِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّ الْجَوَادَ لا يخيب سائله، والميعاد: الْمَوْعِدُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي خَلْفَ الْمِيعَادِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ عِنْدَنَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ، كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهَمَ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ

ص: 33

التَّوْبَةِ، وَالشَّرْطَانِ يُثْبَتَانِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا مَا يَقُولُونَهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعْدِ.

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مِيعَادِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ وَعِيدِ الْأَعْدَاءِ، لِأَنَّ خَلْفَ الْوَعِيدِ كَرَمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ يَمْدَحُونَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ

وَإِنْ وَعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهْ

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ الدَّاعِينَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غِيبَةٍ لِمَا فِي ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا وَالَوُا الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ الْوَفِيُّ بِالْوَعْدِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ، وَالْمُجَازَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِمَا وَعَدَ تَعَالَى.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قِيلَ: الْمُرَادُ وَفْدُ نَجْرَانَ لِأَنَّهُ

رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَالَ لِأَخِيهِ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنِّي إِنْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ أَخَذَ مُلُوكُ الرُّومِ مِنِّي مَا أَعْطَوْنِي مِنَ الْمَالِ.

وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَيْظَةُ، وَالنَّضِيرُ. وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ.

وَمَعْنَى: مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَمَعْنَى: أَغْنَى عَنْهُ، دَفْعَ عَنْهُ وَمَنْعَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ فِي بَابِ الْمُدَافَعَةِ وَالتَّقَرُّبِ وَالْفِتْنَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قُدِّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «1» وَفِي قَوْلِهِ:

أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

«2» وَفِي قَوْلِهِ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «3» وَفِي قَوْلِهِ:

لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «4» بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ «5» إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ هُنَا حُبَّ الشَّهَوَاتِ، فَقَدَّمَ فِيهِ النِّسَاءَ وَالْبَنِينَ عَلَى ذِكْرِ الْأَمْوَالِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَنْ يُغْنِيَ، بِالْيَاءِ عَلَى تَذْكِيرِ الْعَلَامَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: لن يغني،

(1) سورة سبأ: 34/ 37.

(2)

سورة الأنفال: 8/ 28.

(3)

سورة الحديد: 57/ 20.

(4)

سورة الشعراء: 26/ 88.

(5)

سورة آل عمران: 3/ 14.

ص: 34

بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَنْ يُغْنِي بِالْيَاءِ أَوَّلًا وَبِالْيَاءِ السَّاكِنَةِ آخِرًا، وَذَلِكَ لِاسْتِثْقَالِ الْحَرَكَةِ فِي حَرْفِ اللِّينِ، وَإِجْرَاءِ الْمَنْصُوبِ مَجْرَى الْمَرْفُوعِ. وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَخُصُّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخُصَّ بِهَا، إِذْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ.

وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، وَبِمَعْنَى: عِنْدَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» قَالَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ جُوعٍ وَعِنْدَ خَوْفٍ، وَكَوْنُ: مِنْ، بِمَعْنَى: عِنْدَ، ضَعِيفٌ جِدًّا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2» وَالْمَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا، أَيْ: بَدَلَ رَحْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَبَدَلَ الْحَقِّ. وَمِنْهُ: وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ أَيْ: لَا يَنْفَعُهُ جَدُّهُ وَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا بِذَلِكَ، أَيْ: بَدَلَ طَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ. وَمَا عِنْدَكَ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «3» انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَإِثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ: لِمِنْ، فِيهِ خِلَافٌ أَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَهُ، وَغَيْرُهُمْ قَدْ أَثْبَتَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْبَدَلِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «4» لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً

«5» أَيْ: بَدَلَ الْآخِرَةِ وَبَدَلَكُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً

ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا

أَيْ بَدَلَ الْفَصِيلِ، وَشَيْئًا يَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ، لَنْ تَدْفَعَ أَوْ تَمْنَعَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لَهَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ. وَتَكُونُ: مِنْ إِذْ ذَاكَ لِلتَّبْعِيضِ.

فَتُلَخَّصُ فِي: مِنْ، أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ، والكلبي. و: كونها بِمَعْنَى: عِنْدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. و: البدلية، وهو قول الزمخشري، و: التبعيض، وَهُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.

وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ لَمَّا قَدَّمَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كَثْرَةُ أموالهم،

(1) سورة قريش: 106/ 4.

(2)

سورة النجم: 53/ 28.

(3)

سورة سبأ: 34/ 37. [.....]

(4)

سورة التوبة: 9/ 38.

(5)

سورة الزخرف: 43/ 60.

ص: 35

وَلَا تَنَاصُرُ أَوْلَادِهِمْ، أَخْبَرَ بِمَآلِهِمْ. وَأَنَّ غَايَةَ مَنْ كَفَرَ، وَمُنْتَهَى مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ النار، فاحتلمت هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى خَبَرِ: إِنَّ، واحتمل أن تكونه مُسْتَأْنَفَةً عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأَشَارَ: بِأُولَئِكَ، إِلَى بُعْدِهِمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ: هُمْ، الْمُشْعِرَةُ بِالِاخْتِصَاصِ، وَجَعَلَهُمْ نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِرَاقِ، كَأَنَّ النَّارَ لَيْسَ لَهَا مَا يُضْرِمُهَا إِلَّا هُمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَقُودِ فِي قَوْلِهِ: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» .

وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا: وُقُودُ، بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهُوَ مَصْدَرُ: وَقَدَتِ النَّارُ تَقِدُ وُقُودًا، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أهل وَقُودِ النَّارِ، أَوْ: حَطَبُ وَقُودٍ، أَوْ جَعَلَهُمْ نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً، كَمَا تَقُولُ: زَيْدُ رِضًا.

وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَصْدَرِ أَيْضًا: وَقُودُ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ ذكر ذلك.

وَ: هُمْ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِاللَّهِ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ، وَلَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ مَالُهُ وَلَا وَلَدُهُ، ذَكَرَ أَنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَتُّبَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَشَأْنِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ، أُخِذُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَعُذِّبُوا عَلَيْهَا، وَنَبَّهَ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ مَا جَرَى لَهُمْ حِينَ كَذَّبُوا بِمُوسَى مِنْ إِغْرَاقِهِمْ وَتَصْيِيرِهِمْ آخِرًا إِلَى النَّارِ، وَظُهُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ، وَتَوْرِيثِهِمْ أَمَاكِنَ مُلْكِهِمْ، فَفِي هَذَا كُلِّهِ بِشَارَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ. أَنَّ الْكُفَّارَ مَآلُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى الِاسْتِئْصَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ، أُهْلِكُوا فِي الدُّنْيَا، وَصَارُوا إِلَى النَّارِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ: كَدَأْبِ، فَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، وَبِهِ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ.

وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نصب بوقود، أَيْ: تُوقَدُ النَّارُ بِهِمْ، كَمَا تُوقَدُ بِآلِ فِرْعَوْنَ. كَمَا تَقُولُ: إِنَّكَ لَتَظْلِمُ النَّاسَ كَدَأْبِ أَبِيكَ، تُرِيدُ: كَظُلْمِ أَبِيكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

(1) سورة البقرة: 2/ 24 والتحريم: 66/ 6.

ص: 36

وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الِاحْتِرَاقِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: مِنْ مَعْنَاهُ أَيْ عُذِّبُوا تَعْذِيبًا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَقُودُ النَّارِ.

وَقِيلَ: بلن تُغْنِيَ، أَيْ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ مَا لَمْ تُغْنِ عَنْ أُولَئِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِلْفَصْلِ بين العالم وَالْمَعْمُولِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ عَلَى أَيِّ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدَّرْنَاهُمَا فِيهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى خَبَرِ إِنَّ، أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِإِنَّ، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا اعْتِرَاضِيَّةً، وَهُوَ بَعِيدٌ، جَازَ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَنْصُوبٍ مِنْ مَعْنَى: لَنْ تُغْنِيَ، أَيْ بَطَلَ انْتِفَاعُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ بُطْلَانًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ.

وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كُفْرًا كَدَأْبِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ: كَفَرُوا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْمُولًا لِلصِّلَةِ كَانَ مِنَ الصِّلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْمَوْصُولِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صِلَتَهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَهُنَا قَدْ أَخْبَرَ، فَلَا تَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَا فِي الصِّلَةِ.

وَقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: كَفَرُوا، التَّقْدِيرُ: كَفَرُوا كُفْرًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ.

وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِي الْكَافِ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَالضَّمِيرُ فِي: كَذَّبُوا، عَلَى هَذَا لِكُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: كَذَّبُوا تَكْذِيبًا كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ.

وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذًا كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا.

وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا: زَيْدًا قُمْتُ فَضَرَبْتُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ.

فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ فِي الْعَامِلِ فِي الْكَافِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالدَّأْبُ، بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، مَصْدَرُ دَأَبَ يَدْأَبُ، إِذَا لَازَمَ فِعْلَ شَيْءٍ وَدَامَ عَلَيْهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَيُقَالُ لِلْعَادَةِ: دَأْبٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ يَعْقُوبَ يَذْكُرُ:

كَدَأَبِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ لِي وَأَنَا غُلَيْمٌ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَجُوزُ كَدَأَبِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَظُنُّهُ مِنْ: دَئِبَ يَدْأَبُ دَأَبًا، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي، وَتَعَجَّبَ مِنْ جَوْدَةِ تَقْدِيرِي عَلَى صِغَرِي،

ص: 37

وَلَا أَدْرِي: أَيُقَالُ أَمْ لَا؟ قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يُقَالُ دَئِبَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: دَأَبَ يَدْأَبُ دُؤُبًا هَكَذَا حَكَى النَّحْوِيُّونَ، مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ، حَكَاهُ فِي كِتَابِ (المصادر) .

وآل فِرْعَوْنَ: أَشْيَاعُهُ وَأَتْبَاعُهُ.

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ كُفَّارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ. فَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا عَائِدٌ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُمْ مُعَاصِرُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَوْضِعُ: وَالَّذِينَ، جَرٌّ عَطْفًا عَلَى: آلِ فِرْعَوْنَ.

كَذَّبُوا بِآياتِنا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلدَّأْبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا فَعَلُوا؟ وَمَا فُعِلَ بِهِمْ؟

فَقِيلَ: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَهِيَ كَأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُكَذِّبِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا فَيَكُونُ: الَّذِينَ، مُبْتَدَأٌ، وَ: كَذَّبُوا خَبَرُهُ وَفِي قَوْلِهِ: بِآيَاتِنَا، الْتِفَاتٌ، إِذْ قَبْلَهُ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ اسْمُ غَيْبَةٍ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى التكلم.

و: الآيات، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَتْلُوَّةَ فِي كُتُبِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ.

فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ رَجَعَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَمَعْنَى الْأَخْذِ بِالذَّنْبِ: الْعِقَابُ عَلَيْهِ، وَالْبَاءُ فِي: بِذُنُوبِهِمْ، لِلسَّبَبِ.

وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَطْوَةِ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَكَذَّبَ بِهَا.

قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ.

حُسْنَ الْإِبْهَامِ، وَهُوَ فِيمَا افْتُتِحَتْ بِهِ، لِيُنَبِّهَ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ.

وَمَجَازُ التَّشْبِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَحَقِيقَةُ النُّزُولِ طَرْحُ جَرْمٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَالْقُرْآنُ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَمَّا أُثْبِتَ فِي الْقَلْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ جِرْمٍ أُلْقِيَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَشُبِّهَ بِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْإِنْزَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ، شُبِّهَ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ يَنَالُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أَقَامَ الْمَصْدَرَ فِيهِ مَقَامَ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَجَعَلَ التَّوْرَاةَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُوَرِّي عَنْكَ أَمْرًا، أَيْ: يَسْتُرُهُ لِمَا فِيهَا مِنَ

ص: 38

الْمَعَانِي الْغَامِضَةِ، وَالْإِنْجِيلُ شُبِّهَ لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّسَاعِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْخُضُوعِ بِالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ هُدًى لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِرْشَادِ، كَالطَّرِيقِ الَّذِي يَهْدِيكَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَرُومُهُ، وَشَبَّهَ الْفُرْقَانَ بِالْجِرْمِ الْفَارِقِ بَيْنَ جِرْمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: عَذابٌ شَدِيدٌ شَبَّهَ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ ضِيقِ الْعَذَابِ وَأَلَمِهِ بِالْمَشْدُودِ الْمُوَثقِ الْمُضَيَّقِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ:

يُصَوِّرُكُمْ شَبَّهَ أَمْرَهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ أَوْ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ بِكَوْنِهِ جَاءَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالصُّنْعِ بِمُصَوِّرٍ يُمَثِّلُ شَيْئًا، فَيَضُمُّ جِرْمًا إِلَى جِرْمٍ، وَيُصَوِّرُ مِنْهُ صُورَةً. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ جَعَلَ مَا اتَّضَحَ مِنْ مَعَانِي كِتَابِهِ، وَظَهَرَتْ آثَارُ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِ مُحْكَمًا، وَشَبَّهَ الْمُحْكَمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ الْمَعَانِي الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُرُوعٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُرْجَعُ إِلَيْهَا بِالْأُمِّ التي يرجع إِلَيْهَا مَا تَفَرَّعَ مِنْ نَسْلِهَا وَيَؤُمُّونَهَا، وَشَبَّهَ مَا خَفِيَتْ مَعَانِيهِ لِاخْتِلَافِ أَنْحَائِهِ كَالْفَوَاتِحِ، وَالْأَلْفَاظَ الْمُحْتَمِلَةَ مَعَانِيَ شَتَّى، وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَمْرِ الْمَعَادِ وَالْحِسَابِ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَبَهِ الْمُلْبَسِ أَمْرُهُ الَّذِي وَجَمَ الْعَقْلُ عَنْ تَكْيِيفِهِ وَفِي قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ شَبَّهَ الْقَلْبَ الْمَائِلَ عَنِ الْقَصْدِ بِالشَّيْءِ الزَّائِغِ عَنْ مَكَانِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً شَبَّهَ الْمَعْقُولَ مِنَ الرَّحْمَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ، بِالْمَحْسُوسِ مِنَ الْأَجْرَامِ مِنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي الْهِبَةِ وَفِي قَوْلِهِ: وَقُودُ النَّارِ شَبَّهَهُمْ بِالْحَطَبِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِلَّا فِي الْوَقُودِ. وَقَالَ تَعَالَى:

إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» وَالْحَصَبُ الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ شَبَّهَ إِحَاطَةَ عَذَابِهِ بِهِمْ بِالْمَأْخُوذِ بِالْيَدِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ بِحُكْمِ إِرَادَةِ الْأَخْذِ.

وَقِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا اسْتِعَارَاتٌ، وَلَا تَشْبِيهَ فِيهَا إِلَّا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ.

وَالِاخْتِصَاصُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَى وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ عَلَى مَنْ فَسَّرَهُ بِالزَّبُورِ، وَاخْتَصَّ الْأَرْبَعَةَ دُونَ بَقِيَّةِ مَا أَنْزَلَ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكُتُبِ إِذْ ذَاكَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ خَصَّهُمَا لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ مَخْلُوقَاتِهِ الظَّاهِرَةِ لَنَا، وَلِأَنَّهُمَا مَحَلَّانِ لِلْعُقَلَاءِ، وَلِأَنَّ مِنْهُمَا أَكْثَرَ الْمَنَافِعِ الْمُخْتَصَّةِ بِعِبَادِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ اخْتَصَّهُمْ بِخُصُوصِيَّةِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بهم وفي قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ لَهُمْ خصوصية التمييز، والنظر،

(1) سورة الأنبياء: 21/ 98.

ص: 39

وَالِاعْتِبَارِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا تُزِغْ قُلُوبَنا اخْتَصَّ الْقُلُوبَ لِأَنَّ بِهَا صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهَا مَحَلُّ الْإِيمَانِ وَمَحَلُّ الْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ هو جَامِعُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَفِي بَطْنِهَا أَمْوَاتًا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْجَمْعَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الْحَشْرُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا جَامِعَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ اخْتَصَّ الْكُفَّارَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، فَهُمْ يَجْنُونَ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَتَنْفَعُهُمْ أَوْلَادُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يَسْقُونَهُمْ وَيَكُونُونَ لَهُمْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، وَيُشَفَّعُونَ فِيهِمْ إِذَا مَاتُوا صِغَارًا، وَيَنْفَعُونَهُمْ بِالدُّعَاءِ الصَّالِحِ كِبَارًا. وَكُلُّ هَذَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.

وَفِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، وَقَدَّمَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ طُغْيَانًا، وَأَعْظَمُهُمْ تَعَنُّتًا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا.

وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ، فِي قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ: من الكتب وأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيْ: وَأَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ، لِأَنَّ الْإِنْزَالَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ هُدىً لِلنَّاسِ أَيِ: الَّذِينَ أَرَادَ هُدَاهُمْ: عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذُو انْتِقامٍ أَيْ مِمَّنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أَيْ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا الْعَزِيزُ أَيْ: فِي مُلْكِهِ. الْحَكِيمُ أَيْ فِي صُنْعِهِ وَأُخَرُ أَيْ: آيَاتٌ أُخَرُ زَيْغٌ أَيْ عَنِ الْحَقِّ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أَيْ: لَكُمْ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أَيْ: عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنْهُ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَيْ: عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبَةِ رَبَّنا أَيْ يا رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَيْ: عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أَيْ: إِلَيْهِ كَذَّبُوا بِآياتِنا أَيِ: الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، أَوِ الْمَنْصُوبَاتِ عَلَمًا عَلَى التَّوْحِيدِ بِذُنُوبِهِمْ أَيِ السَّالِفَةِ.

وَالتَّكْرَارُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ الْإِنْزَالِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَزَمَانِهِ، بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ كَرَّرَ اسْمَهَ تَعَالَى تَفْخِيمًا، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْمُظْهَرِ مِنَ التَّفْخِيمِ مَا لَيْسَ فِي الْمُضْمَرِ. لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ. كَرَّرَ الْجُمْلَةَ تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ. ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ التَّأْوِيلِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ،

ص: 40