الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وَهَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ هُوَ الْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ بَعْضُ الْحَقِّ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، فَنَاسَبَ الْأَخَصُّ الْأَخَصَّ، وَهُنَا الْحَقُّ أَعَمُّ مِنَ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَنَاسَبَ الْأَعَمُّ الْأَعَمَّ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ: أَنَّهُ نَبِيٌّ حَقٌّ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: قَالَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ بِمَا عَرَفْتُمُوهُ مِنْ كُتُبِكُمْ وَمَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِكُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَدِيعِ. الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِقْرَارٌ وَإِظْهَارٌ، وَالْكُفْرُ سَتْرٌ.
والتجنيس المماثل في: يضلونك وما يضلون وَالتَّكْرَارُ فِي: أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْحَذْفُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ بينت.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ حَبْرًا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ وَقُرَى عَرِينَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ بِاللِّسَانِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَاكْفُرُوا بِهِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَقُولُوا إِنَّا نَظَرْنَا فِي كُتُبِنَا، وَشَاوَرْنَا عُلَمَاءَنَا، فَوَجَدْنَا مُحَمَّدًا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَظَهَرَ لَنَا كَذِبُهُ وَبُطَلَانُ دِينِهِ، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ شَكَّ أَصْحَابُهُ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا، فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ إِلَى دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ، لَمَّا صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ
ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ: صَلُّوا إِلَيْهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، وَارْجِعُوا إِلَى كَعْبَتِكُمُ الصَّخْرَةِ آخِرَهُ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ رَجَعُوا آخِرَ النَّهَارِ فَصَلَّوْا صَلَاتَهُمْ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ ضَلَالَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبَعُوهُ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِسَفَلَتِهِمْ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا كَانَ بِالْعَشِيِّ قُولُوا: قَدْ عَرَّفَنَا عُلَمَاؤُنَا أَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ.
وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ قَالَتْ ذَلِكَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ. انْتَهَى.
جَعَلَتِ الْيَهُودُ هَذَا سَبَبًا إِلَى خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَقُولُ لَهُمْ مَحْذُوفٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ لِبَعْضٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ لَهُمْ لَيْسُوا مِنْ هذه الطائفة، والمراد: بآمنوا، أَظْهِرُوا الْإِيمَانَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصْدِيقُ، وَفِي قَوْلِهِ: بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا حَذْفٌ أَيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ، وَإِلَّا فَهُمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَانْتَصَبَ: وَجْهَ النَّهَارِ، عَلَى الظَّرْفِ وَمَعْنَاهُ: أَوَّلَ النَّهَارِ، شُبِّهَ بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ إِذْ هُوَ أَوَّلُ مَا يُوَاجَهُ مِنْهُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ فِي مَالِكِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْعَبْسِيِّ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ
…
فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
وَالضَّمِيرُ فِي: آخِرَهُ، عَائِدٌ عَلَى النَّهَارِ، أَيْ: آخِرَ النَّهَارِ.
وَالنَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الْأَوَّلِ: آمِنُوا، وَلِلْآخِرِ: اكْفُرُوا. وَقِيلَ: النَّاصِبُ لِقَوْلِهِ: وَجْهَ النَّهَارِ، أُنْزِلَ. أَيْ: بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالضَّمِيرُ فِي: آخِرَهُ، يَعُودُ عَلَى الَّذِي أُنْزِلَ، أَيْ: وَاكْفُرُوا آخِرَ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَمُخَالَفَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزُولِ، وَمُتَعَلِّقُ الرُّجُوعِ مَحْذُوفٌ أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا امْتِثَالُ الْأَمْرِ مِمَّنْ أُمِرُ بِهِ فَسُكُوتٌ عَنْ وُقُوعِهِ، وَأَسْبَابُ النُّزُولِ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ طَمِعُوا أَنْ يَنْخَدِعَ الْعَرَبُ بِهِ، أَوْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ وَالِاطِّلَاعِ، دَخَلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَرَجَعُوا عَنْهُ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ أَيْضًا لِضُعَفَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اللَّامُ فِي: لِمَنْ، قِيلَ: زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ «1» أَيْ رَدِفَكُمْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَا كُنْتُ أخدع للخليل بحله، حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا أَرَادَ: مَا كُنْتُ أَخْدَعُ الْخَلِيلَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ لَا تَكُونَ: اللَّامُ، زَائِدَةً بَلْ ضَمَّنَ، آمَنَ مَعْنَى:
أَقَرَّ وَاعْتَرَفَ، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقَدْ تَعَدَّى آمَنَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ «2» وآمَنْتُمْ لَهُ «3» ويُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» انْتَهَى. وَالْأَجْوَدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ طَائِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، يُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَشُكُّوَا عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ وَتَزْوِيرِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ طَائِفَةِ الْيَهُودِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ انْقَطَعَ كَلَامُهُمْ إِذْ لَا خِلَافَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا بَعْدَهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ وَأَنْ يُؤْتَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِأُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، لَا مَا رُمْتُمْ مِنَ الْخِدَاعِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَذَاكَ الْفِعْلِ، لِمَخَافَةِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْتُمْ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْمَكِيدَةَ، أَيْ: فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَسَدًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ تَذْهَبَ رِئَاسَتُكُمْ، وَيُشَارِكَكُمْ أَحَدٌ فِيمَا أُوتِيتُمْ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ:
يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَيْكُمْ عند الله إذا كِتَابُكُمْ طَافِحٌ، بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمُلْزِمٌ لَكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَتَتَّبِعُوهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إِلَى آخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَنْ يُؤْتَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَالتَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ هُوَ مُثْبَتٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ أَلِمَخَافَةِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْتُمْ ذَلِكَ وَفَعَلْتُمُوهُ؟ وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَعْطُوفًا عَلَى: يُؤْتَى، وَأَوْ: لِلتَّنْوِيعِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: هُدَى اللَّهِ، بَدَلًا مِنَ:
الْهُدَى. لَا خَبَرًا لِإِنَّ. وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَيْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ إِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ: أَنْ، بَعْدَ أَوْ بمعنى:
(1) سورة النمل: 27/ 72. [.....]
(2)
سورة يونس: 10/ 83.
(3)
سورة طه: 20/ 71، والشعراء: 26/ 49.
(4)
سورة التوبة: 9/ 61.
حَتَّى، أَيْ: حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَيَغْلِبُوكُمْ وَيَدْحَضُوا حُجَّتَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ صِحَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ هَذَا النَّبِيِّ، وَلَا يَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، مَعْطُوفًا عَلَى:
يُؤْتَى، وَدَاخِلًا فِي خَبَرِ إِنَّ، و: أحد، فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ الَّذِي يَأْتِي فِي الْعُمُومِ مُخْتَصًّا بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْيٍ، أَوْ فِي خَبَرِ نَفْيٍ، بَلْ: أَحَدٌ، هُنَا بِمَعْنَى: وَاحِدٌ، وَهُوَ مُفْرِدٌ، إِذْ عُنِيَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي: يُحَاجُّوكُمْ، لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ، لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاتِّبَاعِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ، هُنَا لِلنَّفْي بِمَعْنَى: لَا، التَّقْدِيرُ: لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَنُقِلَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْفَرَّاءِ، وَتَكُونُ: أَوْ، بِمَعْنَى إِلَّا، وَالْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ: لَا يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، فَإِنَّ إِيتَاءَهُ مَا أُوتِيتُمْ مَقْرُونٌ بِمُغَالَبَتِكُمْ وَمُحَاجَّتِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، لِأَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْوَحْيَ لَا بُدَّ أَنْ يُحَاجَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، فَقَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، حَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَازِمَةٌ، إِذْ لَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى رَسُولٍ إِلَّا وَهُوَ مُحَاجٍّ مُخَالِفِيهِ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ، أَحَدٌ، هُوَ الَّذِي لِلْعُمُومِ. لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ عَلَيْهِ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ فِي: يُحَاجُّوكُمْ، حملا على معنى: أحد، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «1» جَمَعَ حَاجِزِينَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى: أَحَدٍ، لَا عَلَى لَفْظِهِ، إِذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى لَفْظِهِ لَأُفْرِدَ.
لَكِنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْقَوْلُ بِأَنَّ: أَنِ، الْمَفْتُوحَةَ تَأْتِي لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى لَا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْخِطَابُ فِي: أُوتِيتُمْ، وَفِي: يُحَاجُّوكُمْ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِلطَّائِفَةِ السَّابِقَةِ، الْقَائِلَةِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ، وَحُذِفَتْ: لَا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَى الْحَذْفِ. قَالَ كَقَوْلِهِ:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» أَيْ: أَنْ لَا تَضِلُّوا. وَرَدَّ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقَالَ: لَا تُحْذَفُ:
لَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَكَذَلِكَ هُنَا: كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَيْ:
مِمَّنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، فَهُدَى اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.
والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَى هَذَا: أَنْ يُؤْتَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى حَذْفِ كَرَاهَةَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ فِيهِ، وَيَصْعُبُ تَقْدِيرُهُ، إِذْ قَبْلَهُ جُمْلَةٌ لَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ النِّسْبَةِ فِيهَا بِكَرَاهَةِ الإيتاء المذكور.
(1) سورة الحاقة: 69/ 47.
(2)
سورة النِّسَاءِ: 4/ 176.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: هُدَى اللَّهِ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ كَالَّذِي جَاءَنَا نَحْنُ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، بِمَعْنَى، أَوْ فَلْيُحَاجُّوكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَغْلِبُونَكُمُ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَفِيهِ الْجَزْمُ بِلَامِ الْأَمْرِ وَهِيَ مَحْذُوفَةٌ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ: أَنْ يُؤْتَى، بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فَلَا تَنْكَرُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ بَعِيدٌ، لأن فيه حذف حرف النَّهْيِ وَمَعْمُولِهِ، وَلَمْ يُحْفَظْ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِهِمْ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْقَوْلُ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا وَتُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ جَاءَ بِمِثْلِ دِينِكُمْ، مَخَافَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، وَمَخَافَةَ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ بِتَصْدِيقِكُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثَمَرَةُ الْحَسَدِ وَالْكُفْرِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا يُؤْتَى، فَحُذِفَتْ: لَا، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا دَاخِلًا فِي حَيِّزِ: إِلَّا، لَا مُقَدَّرًا دُخُولُهُ قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، بِانْتِفَاءِ أَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم، وَانْتِفَاءِ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ: إِلَّا بِانْتِفَاءِ كَذَا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: بِأَنْ يُؤْتَى، وَيَكُونَ متعلقا بتؤمنوا، وَلَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ إِلَّا، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَجَاءَ بِمِثْلِهِ، وَعَاضِدًا لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْتَاهُ غَيْرُكُمْ. وَيَكُونُ مَعْنَى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ بِمَعْنَى:
إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا لَا أَتْرُكُكَ أَوْ تَقْضِينِي حَقِّي، وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ثَمَرَةُ التَّكْذِيبِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَتُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ إِذْ قَدْ عَلِمْتُمْ صِحَّتَهَا إِلَّا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ صِفَةٌ لِحَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَالْمَعْنَى:
تَسَتَّرُوا بِإِقْرَارِكُمْ أَنَّ قَدْ أُوتِيَ أَحَدٌ مِثْلَ أُوتِيتُمْ، أَوْ فَإِنَّهُمْ يَعْنُونَ الْعَرَبَ، يُحَاجُّونَكُمْ بِالْإِقْرَارِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَبَدَأَ بِهِ مَا نَصُّهُ: وَلَا تُؤْمِنُوا، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُؤْتَى أحد، و: ما بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَيْ: وَلَا تُظْهِرُوا إِيمَانَكُمْ بِأَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَرَادُوا: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا لِأَشْيَاعِكُمْ وَحْدِهِمْ دون المسلمين، لئلا يزيدوا ثَبَاتًا، وَدُونَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عُطِفَ عَلَى أَنْ يُؤْتى وَالضَّمِيرُ في:
يحاجوكم، لأحد لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ بِمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ، وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْحُجَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَمَّا: أَحَدٌ، عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي لِلْعُمُومِ، وَكَانَ مَا قَبْلَهُ مُقَدَّرًا بِالنَّفْي، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّ الْمَعْنَى: لَا يُؤْتَى، أَوْ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَنْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ، فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ أَوْ مَا أَشْبَهَ النَّفْيَ: كَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا يَدْخُلُ هُنَا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ النَّفْيُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، كَمَا دَخَلَتْ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «1» لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ «2» .
وَمَعْنَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ مَا رَامُوا مِنَ الْكَيْدِ وَالْخِدَاعِ بِقَوْلِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ الْآيَةَ، لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَلَا يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، لِأَنَّ الْهُدَى هُوَ هُدَى اللَّهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَصِّلَهُ لِأَحَدٍ، وَلَا أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ أَحَدٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ؟ بِالْمَدِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَاطِعٌ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ تُصَدِّقُونَ بِهِ، أَوْ تَعْتَرِفُونَ، أَوْ تَذْكُرُونَهُ لِغَيْرِكُمْ، وَنَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ عليه الكلام. و: يحاجوكم، مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْ يُؤْتَى.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ: أَنْ، نَصْبًا، فَيَكُونَ الْمَعْنَى: أَتُشِيعُونَ، أَوْ:
أَتَذْكُرُونَ أَنْ يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم؟ وَيَكُونُ بِمَعْنَى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ فَعَلَى
(2- 1) سورة البقرة: 2/ 105.
كِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى الْآيَةِ تَوْبِيخٌ مِنَ الْأَحْبَارِ لِلْأَتْبَاعِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، وَيَكُونُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، فِي تَأْوِيلِ نَصْبِ أَنْ بِمَعْنَى: أَوْ تُرِيدُونَ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ؟.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَحَدٌ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَقَدْ مَنَعَ الِاسْتِفْهَامُ الْقَاطِعُ مِنْ أَنْ يَشِيعَ لِامْتِنَاعِ دُخُولِهِ فِي النَّفْيِ الَّذِي فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ: أَحَدٌ، الَّذِي فِي قَوْلِكَ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ يَقَعُ فِي الْإِيجَابِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: وَاحِدٌ، وَجُمِعَ ضَمِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، حَمْلًا على المعنى، إذ: لأحد، الْمُرَادُ بِمِثْلِ النُّبُوَّةِ أَتْبَاعٌ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْكَثْرَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي أَنْ تُرَجَّحَ فِيهِ قِرَاءَةُ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُفْرَدَةَ لَيْسَ بِالْمُسْتَمِرِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ. انْتَهَى تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ لِقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُ قِرَاءَتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى، مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مِنْ قوله:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَهُ لِأُمَّتِهِ.
وَذَهَبَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: إِلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلطَّائِفَةِ الَّتِي قَالَتْ: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ قوله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كُلَّهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ لِأَتْبَاعِهِمْ، وَقَوْلَهُ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ لِأَتْبَاعِهِمْ. وَذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ: قُلْ، يَقُولُهُ الرَّسُولُ لِلْيَهُودِ، وَتَمَّ مَقُولُهُ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ الطَّائِفَةِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَعَلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ تَرْتِيبُ الْأَوْجُهِ السَّابِقَةِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَشُعَيْبُ بْنُ أبي حمزة: إِنْ يُؤْتَى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خِطَابًا مِنَ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ؟
وَيَكُونُ قَوْلُهَا: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، بِمَعْنَى: أَوْ، فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وَهَذَا عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيَ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، وَهَذَا عَلَى تَجْوِيزِ: أَنْ
يُؤْتَى، أَحَدٌ ذَلِكَ إِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ لَهُ. هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهَا: كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أُمَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي أَحَدًا، وَلَا أَعْطَى فِيمَا سَلَفَ مِثْلَ مَا أَعْطَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مِنْ كَوْنِهَا وَسَطًا، فَهَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ، وَمُنْدَرِجٌ تَحْتَ: قُلْ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَسَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قال: وقرىء: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ عَلَى: أَنِ، النَّافِيَةِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِكَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تبع دينكم وقولوا مَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ: مَا يُؤْتُونَ مِثْلَهُ فَلَا يُحَاجُّوكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدٌ، بِكَسْرِ التَّاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى:
أَحَدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِنْعَامَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهُ إِنْعَامُ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَظْهَرُ مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ يؤتى أحدا أَحَدًا. انْتَهَى.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلَفْظِ: أَنْ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَهِيَ بِالْكَسْرِ أَمْ بِالْفَتْحِ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: أَنْ يؤتى، و: الحسن: أَنْ يُؤْتِيَ أَحَدًا، جَعَلَا:
أَنْ، نَافِيَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدَ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «1» و: أَوْ، بِمَعْنَى:
إِلَّا أَنْ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل، وَمَعَ اعْتِرَاضٍ: قُلْ، قَوْلَ الْيَهُودِ. انْتَهَى.
وَفِي مَعْنَى: الْهُدَى، هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أُوتِيَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي: التَّوْفِيقُ وَالدَّلَالَةُ إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى يُسْلِمَ، أَوْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَيَحْتَمِلُ: عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي: عِنْدَ كُتُبِ رَبِّكُمُ الشَّاهِدَةِ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ تَشْرِيفًا، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَدُورُ تَفَاسِيرُ الْآيَةِ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ هَذَا تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَفِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لليهود حيث قالو: شَرِيعَةُ مُوسَى مُؤَبَّدَةٌ وَلَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ أَحَدًا مِثْلَ مَا أُوتِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَالْفَضْلُ هُوَ بِيَدِ اللَّهِ. أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِيهِ كَالشَّيْءِ فِي الْيَدِ، وهذه كناية
(1) سورة الأحقاف: 46/ 26.