الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ عَلَى سَبِيلِ بالتوكيد، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً
[سورة آل عمران (3) : آية 82]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيْ:
مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ، وَعَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْتِزَامِ الْعَهْدِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْأُمَمِ بِهَذَا الْمِيثَاقِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
فاشهدوا أمر بالأداء.
و: من، الظَّاهِرِ أَنَّهَا شَرْطٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ: فَأُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ جَزَاءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي: تَوَلَّى، مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ: مَنْ، وَجَمَعَ فِي: فَأُولَئِكَ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهَذِهِ: ذلك، الْجُمْلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُخِذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ حَكَمَ تَعَالَى بِالْفِسْقِ عَلَى مَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَيْضًا فَالْأَنْبِيَاءُ، عليهم السلام، كَانُوا أمواتا عند مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم، يُعْلِمُنَا أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ هُمْ أُمُمُهُمْ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ. مِنْهَا: الطِّبَاقُ: فِي: بِقِنْطَارٍ وَبِدِينَارٍ، إِذْ أُرِيدَ بِهِمَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، وَفِي: يُؤَدِّهِ وَلَا يُؤَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ مَعْنَاهُ الدَّفْعُ وَعَدَمَهُ مَعْنَاهُ الْمَنْعُ، وَهُمَا ضِدَّانِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِالْكُفْرِ وَمُسْلِمُونَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: اتَّقَى وَالْمُتَّقِينَ، وَفِي:
فَاشْهَدُوا وَالشَّاهِدِينَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَيَأْمُرُكُمْ، وَفِي: أقررتم وَأَقْرَرْنَا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ، وَفِي أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ. وَالسُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَهُوَ فِي: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ؟ ثُمَّ: قَالُوا أَقْرَرْنَا. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، اخْتَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ مُجَازَاةُ الْأَعْمَالِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: يُؤَدِّهِ وَلَا يُؤَدِّهِ، وَفِي اسْمِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ، وَفِي: مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي:
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: لَمَا آتَيْتُكُمْ، وَهُوَ خِطَابٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: النَّبِيِّينَ، وَهُوَ لَفْظٌ غَائِبٌ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تقدمت.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
الْمِلْءُ: مِقْدَارُ مَا يُمْلَأُ، وَهُوَ اسْمٌ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ يُقَالُ: مِلْءَ الْقَدَحِ، وَمِلْأَهُ، وَثَلَاثَةَ أَمْلَائِهِ، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَصْدَرُ، يُقَالُ: مَلَأْتُ الشَّيْءَ امْلَأَهُ مَلْأً، وَالْمُلَاءَةُ الَّتِي تُلْبَسُ، وَهِيَ الْمُلْحَفَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ. وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي شَرْحِ: الْمَلَأِ.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اخْتَصَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَزَعَمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا أَوْلَى بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا. وَقَالُوا:
وَاللَّهِ مَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَالْهَمْزَةُ فِي: أَفَغَيْرَ؟ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، وَأُضِيفَ الدِّينُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ وَتَعَبَّدَ بِهِ الْخَلْقَ، وَمَعْنَى: تَبْغُونَ، تَطْلُبُونَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى: تَدِينُونَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِدِينٍ غَيْرِ دِينِ اللَّهِ لَا طَالِبُوهُ، وَعَبَّرَ بِالطَّلَبِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ الْوَقْتِ بَاحِثُونَ عَنْهُ وَمُسْتَخْرِجُوهُ وَمُبْتَغُوهُ.
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كُلُّ عَاقِلٍ يَبْتَغِي دِينَ اللَّهِ وَيَدَّعِي أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ.
قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَصَّرَ فِي الطَّلَبِ جُعِلَ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ بَاغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ بَاغِيًا لَبَالَغَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بَاغِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَانَ لِلْبَعْضِ فِي الِابْتِغَاءِ مَا هُوَ الْحَقُّ لِظُهُورِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ، وَلَكِنْ أَبَى إِلَّا الْعِنَادَ، فَهُوَ بَاغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي الْمُعَانِدِينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَفَصٌ، وَعَيَّاشٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: يَبْغُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَيَنْسُبُهَا ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ بِكَمَالِهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، فَالْيَاءُ عَلَى نَسَقِ: هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَالتَّاءُ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْفَاءُ لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ اعْتِنَاءً بِالِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَغَيْرَ؟ وَجَوَّزَ هَذَا الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ النُّحَاةِ قَبْلَهُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
أَيَتَوَلُّونَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا وَالْكَلَامُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَانْتَصَبَ: غَيْرَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَبْغُونَ، وَقُدِّمَ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْبَاطِلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَلَا تَحْقِيقَ فِيهِ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الذَّوَاتِ، إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ، فَالَّذِي أُنْكِرَ إِنَّمَا هُوَ الِابْتِغَاءُ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، وَشَبَّهَ: يَبْغُونَ، بِالْفَاصِلَةِ بِآخِرِ الْفِعْلِ.
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أَسْلَمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْلَمَ طَوْعًا بِحَالَتِهِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِ، وَكَرْهًا عِنْدَ دُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُجُودُ ظِلِّ الْمُؤْمِنِ طَائِعًا وَسُجُودُ ظَلِّ الْكَافِرِ كَارِهًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالشَّعْبِيُّ: مَا يُقَارِبُ مَعْنَاهُ: أسلم أقرّ
(1) سورة الرعد: 13/ 15.
بِالْخَالِقِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَشْرَكَ فِي الْعِبَادَةِ، فَمَنْ أَشْرَكُ أَسْلَمَ كَرْهًا. وَمَنْ أَخْلَصَ أَسْلَمَ طَوْعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَسْلَمَ قَوْمٌ طَوْعًا وَقَوْمٌ خَوْفَ السَّيْفِ. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ:
أسلم من في السموات طوعا وكذلك الأنصار، وبنو سليم، وعبد الْقَيْسِ، وَأَسْلَمَ سَائِرُ النَّاسِ كَرْهًا حَذِرَ الْقِتَالِ وَالسَّيْفِ. وَأَسْلَمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي ضِمْنِهِ الْإِيمَانُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْإِسْلَامُ كَرْهًا هُوَ إِسْلَامُ الْكَافِرِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُعَايَنَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ إِلَّا فِي أَفْرَادٍ. انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
طَوْعًا بِاضْطِرَارِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَوْعًا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَرْهًا بِالسَّيْفِ، أَوْ بِمُعَايَنَةِ ما يلجىء إِلَى الْإِسْلَامِ كَنَتْقِ الْجَبَلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِدْرَاكِ الْغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَالْإِشْفَاءِ عَلَى الْمَوْتِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1» . انْتَهَى.
فَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْسِيرَ: طَوْعًا، مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَتَفْسِيرَ قَوْلِهِ: وَكَرْهًا، مِنْ قَوْلِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ وَقَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَوْعًا بِالْوِلَادَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَرْهًا بِالسَّيْفِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى: وَلَهُ خَضَعَ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ فِيمَا صَوَّرَهُمْ فِيهِ وَدَبَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا يُحْدِثُ فِيهِمْ فَهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَلَيْهِ كَرِهُوا ذَلِكَ أَوْ أَحَبُّوهُ، رَضُوا بِذَلِكَ أَوْ سَخَطُوهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا الْخُضُوعُ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ فِي جبلته، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَمْتَنِعَ مِمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يُغَيِّرَهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ عُمُومُ مَنْ فِي السموات، وَخُصُوصُ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
وَالطَّوْعُ هُوَ الَّذِي لَا تُكَلُّفَ فِيهِ، وَالْكَرْهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، فَإِسْلَامُ مَنْ في السموات طَوْعٌ صِرْفٌ إِذْ هُمْ خَالُونَ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ، وَإِسْلَامُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعْصُومًا كَانَ طَوْعًا، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ كَانَ كَرْهًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي مَشَقَّةٍ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ جَاءَتْ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ مُبَشِّرٌ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرٌ بِالْعِقَابِ لَمْ يَلْتَزِمِ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ التَّكَالِيفِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تُخْرِجُ: أَسْلَمَ، فِيهَا عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ، وَعَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَعَلَى الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ بِهَذَا كُلِّهِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ حالية. و: طوعا وَكَرْهًا، مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ عَلَى خلاف الصدر.
(1) سورة غافر: 40/ 84.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: كُرْهًا، بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنِ اتَّبَعَ وَابْتَغَى غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُ أَسْلَمَ فَيَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ فِي الْحَالِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ نَعَى عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ غَيْرِ دِينِ مَنِ انْقَادَ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ وَمَنْ إِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لَا يَبْتَغِي دِينًا غَيْرَ دِينِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا وَإِخْبَارًا بِأَنَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَصِيرُهُمْ وَمُنْقَلَبُهُمْ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ، وَعَبَّاسٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: يَرْجِعُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ ضَمِيرِ يَبْغُونَ، فَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: تَبْغُونَ، بِالتَّاءِ إِذْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ، فَإِنْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَنْ كَانَ الْتِفَاتًا، أَوْ عَلَى ضَمِيرِ: تَبْغُونَ، كَانَ الْتِفَاتًا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَبْغُونَ، بِالْيَاءِ، أَوْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ.
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي الْبَقَرَةِ إِلَّا فِي: قُلْ، وَفِي: عَلَيْنَا، وَفِي: عِيسَى وَالنَّبِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا فِي الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، إِلَّا مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي: قُلْ، أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أُمِرَ أَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِهِ، وَيُقَوِّي أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ قَوْلُهُ أَخِيرًا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَأَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ:
قُلْ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي قوله: ثم جاءكم رسول، فَعَيَّنَهُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ لِيُظْهِرَ فِيهِ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. وَقَالَ: آمَنَّا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّهِ، بَلْ هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ «1» بَعْدَ قَوْلِهِ: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ «2» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُلُوكُ إِجْلَالًا مِنَ اللَّهِ لِقَدْرِ نَبِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ وَأُمَّتُكَ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ثَمَّ مَعْطُوفًا حُذِفَ، وَأَنَّ ثَمَّ الْأَمْرَ مُتَوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأمته.
(2- 1) سورة البقرة: 2/ 285.
وَأَمَّا تَعْدِيَةُ أُنْزِلَ، هُنَا: بعلى، وفي البقرة بإلى. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِنْزَالُ عَلَى نَبِيِّ الْأُمَّةِ إِنْزَالٌ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَّى أُنْزِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مِثْلِهَا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ؟.
قُلْتُ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ وَيَنْتَهِي إِلَى الرُّسُلِ، فَجَاءَ تَارَةً بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ وَأُخْرَى بِالْآخَرِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّمَا قَالَ هُنَا: عَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ وَاصِلًا إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِلَا وَاسِطَةِ بِشْرٍ كَانَ لَفْظُ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِالْعُلُوِّ أَوْلَى بِهِ، وَهُنَاكَ، لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَفْظُ: إِلَى، الْمُخْتَصِّ بِالْإِيصَالِ أَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِنَّمَا عَلَى مَا أُمِرَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، وَأُنْزِلَ إِلَيْهِ عَلَى مَا خُصَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ. وَإِلَيْهِ نِهَايَةُ الْإِنْزَالِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «1» وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «2» خُصَّ هُنَا: بإلى، لَمَّا كَانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْأَوْلَى لَا فِي الْوُجُوبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ: مَنْ قَالَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَدْ تَعَسَّفَ، قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «3» وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ «4» وَإِلَى قَوْلِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا «5» ؟ انْتَهَى.
وَأَمَّا إِعَادَةُ لَفْظِ: وَمَا أُوتِيَ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخِطَابِ عَامًّا، وَمِنْ حِكَمِ خِطَابِ الْعَامِّ الْبَسْطُ دُونَ الْإِيجَازِ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ هُنَا خَاصًّا اكْتَفَى فِيهِ بِالْإِيجَازِ.
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ هُنَا قِيلَ هُوَ الاستسلام إلى الله
(1) سورة العنكبوت: 29/ 51.
(2)
سورة النحل: 16/ 44.
(3)
سورة البقرة: 2/ 4. والنساء: 4/ 60 و 162 والرعد: 13/ 36.
(4)
سورة النساء: 4/ 105. والمائدة: 5/ 48، والعنكبوت: 29/ 47 والزمر: 39/ 2.
(5)
سورة آل عمران: 3/ 72.
وَالتَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَشَرِيعَةٍ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالتَّوْحِيدِ، وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ تَحَرَّى بَعْدَ مَبْعَثِهِ شَرِيعَةً غَيْرَ شَرِيعَتِهِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي وَافَقَ فِي مُعْتَقَدَاتِهِ دِينَ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
قِيلَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى «1» الْآيَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: وَمَنْ يَبْتَغِ الْآيَةَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نَسْخِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا «2» .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: حُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنْزَلَ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «3» فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَقَعَدَ الْكُفَّارُ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ بَعْدَ هَذَا. وَقَبُولُ الْعَمَلِ هُوَ رِضَاهُ وَإِثَابَةُ فَاعِلِهِ عَلَيْهِ.
وَانْتَصَبَ: دِينًا عَلَى التمييز: لغير، لِأَنَّ: غَيْرَ، مُبْهَمَةٌ، فَفُسِّرَتْ بِدِينٍ، كَمَا أَنَّ مِثْلًا مُبْهَمَةٌ فَتُفَسَّرُ أَيْضًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: لَنَا غَيْرُهَا إِبِلًا وَشَاءَ، وَمَفْعُولُ: يَبْتَغِ هُوَ: غَيْرَ، وَقِيلَ:
دِينًا، مَفْعُولٌ، و: غير، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ كَانَ نَعْتًا. وَقِيلَ: دِينًا، بَدَلٌ مِنْ:
غَيْرَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِظْهَارِ الْغَيْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْإِدْغَامُ.
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الْخُسْرَانُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ حِرْمَانُ الثَّوَابِ وَحُصُولُ الْعِقَابِ، شُبِّهَ فِي تَضْيِيعِ زَمَانِهِ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ بِالَّذِي خَسِرَ فِي بِضَاعَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ عُطِفَتْ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى ابْتِغَاءِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ دِينًا عَدَمُ الْقَبُولِ وَالْخُسْرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ بَلْ هِيَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَ: فِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ:
بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أو: بالخاسرين عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَيْسَتْ مَوْصُولَةً بَلْ لِلتَّعْرِيفِ، كَهِيَ فِي: الرَّجُلِ، أَوْ: بِهِ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَتُسُومِحَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَكُلٌّ مَنْقُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا نَظِيرُهُ.
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
(2- 1) سورة البقرة: 2/ 62.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 97.
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِيهِمَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَغَيَّرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَرَوَى عَطِيَّةُ قَرِيبًا مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ ارْتَدُّوا فِيهِمُ الحارث بْنُ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَدِمَ وَرَجَعَ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ مجاهد، والسدّي: أن الحارث كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ الْمُجَدَّرَ بْنَ زِيَادٍ بِدَمٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ زَيْدَ بْنَ قَيْسٍ، وَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ ظَفَرَ بِهِ، فَفَاتَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَخِيهِ مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَكَتَبَ بِهَا قَوْمُهُ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ تَائِبًا.
وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى أَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلًا. وَقِيلَ: لَحِقَ بِالرُّومِ. وَقِيلَ: ارْتَدَّ الحارث فِي أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَمَّى مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ: طُعْمَةَ بن أبيرق، والحارث بْنَ سُوَيْدٍ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَحْوَحَ بْنَ الْأَسْلَتِ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَسَمَّى مِنْهُمْ:
أَبَا عامر الراهب، والحارث وَوُجُوهًا.
وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ. أَلْفَاظُ الْآيَةِ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ وَغَيْرَهُمْ.
وَقِيلَ: هِيَ فِي عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَمَلَ الْآيَاتِ إلى الحارث رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عليه فقال له الحارث: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ. قَالَ فرجع الحارث فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
كَيْفَ: سُؤَالٌ عَنِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّعْجِيبِ وَالتَّعْظِيمِ لِكُفْرِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَيْ:
كَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مَنْ أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا بَعْدَ الْتِبَاسِهِ بها ووضوحها؟ فَاسْتُبْعِدَ حُصُولُهَا لَهُمْ مَعَ شِدَّةِ الْجَرَائِمِ، كَمَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ تَفْلَحُ أُمَّةٌ أَدْمَتْ وَجْهَ نَبِيِّهَا» ؟.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَيْفَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَلَيْسُوا مَنْ أَهْلِ اللُّطْفِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ؟ انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْهِدَايَةَ فِيهِمْ كَمَا لَا يَخْلُقُ الضَّلَالَ فِيهِمْ، بَلْ هُمَا مَخْلُوقَانِ لِلْعَبْدِ.
وَقِيلَ: الِاسْتِفْهَامُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْجَحْدُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ يهدي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَهَذِي سُيُوفٌ، يَا صَدِيُّ بْنَ مَالِكٍ
…
كَثِيرٌ، وَلَكِنْ: أَيْنَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا
…
يَشْمَلُ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ إِلَى الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا إِنْ تَجَوَّزَ، فَأَطْلَقَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُسَبَّبٌ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَعُودُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَشَهِدُوا: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَفَرُوا، وَبِهِ قال الحوفي، وابن عطية، وَرَدَّهُ مَكِّيٌّ. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ عَطْفُ: شَهِدُوا، عَلَى: كَفَرُوا، لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ فَسَادُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ التَّرْتِيبَ، فَلِذَلِكَ فَسَدَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى مَفْهُومٌ أَنَّ الشَّهَادَةَ قبل الكفر، و: الواو، لَا تُرَتِّبُ، وَأَجَازَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مَكِّيٌّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ:
أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: ما فِي إِيمَانِهِمْ، مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذِ الْمَعْنَى: بَعْدَ أَنْ آمَنُوا وَشَهِدُوا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ: الواو، للحال لا للعطف، التَّقْدِيرُ: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَقَدْ شَهِدُوا، وَالْعَامِلُ فِيهِ: كَفَرُوا.
وَالرَّسُولُ هُنَا: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالْبَيِّنَاتُ: هِيَ شَوَاهِدُ الْقُرْآنِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَأْتِي بِمِثْلِهَا الْأَنْبِيَاءُ.
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا يَخْلُقُ في قلوبهم الهداية. و: الظالمين، عَامٌّ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ أَيْ: لَا يَهْدِي مَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنْ أَنَّ الظَّالِمَ فِي ظُلْمِهِ لَيْسَ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ عَامَّةً تَامَّةَ الْعُمُومِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْآيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
الظَّالِمِينَ، الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ اللُّطْفَ لَا يَنْفَعُهُمُ. انْتَهَى. وَتَفْسِيرُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ: وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَيْ: جَزَاءُ كُفْرِهِمْ، وَهُنَاكَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ «1» ، لِأَنَّ هناك جاء الإخبار
(1) المقصودة الآية 161 من سورة البقرة.
عَنْ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، فَلِذَلِكَ تَحَتَّمَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى سَبَبِ النُّزُولِ؟ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا ثُمَّ رَاجَعُوا الْإِسْلَامَ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ.
وَأَصْلَحُوا أَيْ: مَا أَفْسَدُوا، أَوْ: دَخَلُوا فِي الصَّلَاحِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْسَى زَيْدٌ أَيْ:
دَخَلَ فِي الْمَسَاءِ وَقِيلَ: مَعْنَى أَصْلَحُوا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا «1» .
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غَفُورٌ أَيْ لِكُفْرِهِمْ، رَحِيمٌ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَهُمَا صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ دَالَّتَانِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، كَفَرُوا بعيسى وَبِالْإِنْجِيلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِصِفَاتِهِ، وَإِقْرَارِهِمْ أَنَّهَا فِي التَّوْرَاةِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا فِي خِلَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتِ وَالسَّعْيِ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.
أَوْ: مَعْنَى: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، تُمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَلَغُوا الْمَوْتَ بِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُرْتَدُّونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ نَحْوَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ أصحاب الحارث بْنِ سُوَيْدٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: نُقِيمُ بِبَكَّةَ وَنَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَيْبَ الْمَنُونِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
وَيُفَسَّرُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعْنَى ازْدِيَادِ الْكُفْرِ، وَهُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، إِذِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي التَّحْقِيقِ لَا يَزْدَادَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِلْمُتَعَلِّقَاتِ، فَيُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَازْدَادُوا افْتَعَلُوا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَانْتِصَابُ: كُفْرًا، عَلَى التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْفَاعِلِ، الْمَعْنَى: ثُمَّ ازْدَادَ كَفْرُهُمْ، وَالدَّالُ الْأُولَى بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ.
وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَكُونُ مِنْهُمْ تَوْبَةٌ وَلَا تُقْبَلُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَوْبَةَ كُلِّ كَافِرٍ تُقْبَلُ سَوَاءٌ كَفَرَ
(1) سورة البقرة: 2/ 160. [.....]
بَعْدَ إِيمَانٍ وَازْدَادَ كُفْرًا، أَمْ كَانَ كَافِرًا أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَاحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَخْصِيصٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: نَفْيُ تَوْبَتِهِمْ مُخْتَصٌّ بِالْحَشْرَجَةِ وَالْغَرْغَرَةِ وَالْمُعَايَنَةِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «1» الْآيَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا مَعَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَنْ تقبل توبتهم لأنها توبة غَيْرُ خَالِصَةٍ، إِذْ هُمْ مُرْتَدُّونَ، وَعَزَمُوا عَلَى إِظْهَارِ التَّوْبَةِ لِسَتْرِ أَحْوَالِهِمْ وَفِي ضَمَائِرِهِمُ الْكُفْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمُ الَّتِي تَابُوهَا قَبْلَ أَنْ كَفَرُوا، لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ أَحْبَطَهَا. وَقِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا تَابُوا مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إِذَا تَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَفَاصِلُ هَذَا التَّخْصِيصِ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالزَّمَانِ، أو بوصف فِي التَّوْبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَوْبَةَ لَهُمْ فَتُقْبَلَ، فَنَفَى الْقَبُولَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ التَّوْبَةِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ.
عَلَى لا حب لَا يُهْتَدَى لِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، حَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ: لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ فَهُمْ لَا مَحَالَةَ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ.
وَلَمْ تُدْخُلِ: الْفَاءُ، فِي: لَنْ تُقْبَلَ، هُنَا، وَدَخَلَتْ فِي: فَلَنْ تُقْبَلَ، لِأَنَّ الْفَاءَ مُؤْذِنَةٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، وَهُنَاكَ قَالَ: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهُنَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا الْقَيْدِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَحِينَ كَانَ مَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ بِمَعْنَى الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ فَهَلَّا جُعِلَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ مُسَبَّبًا عَنِ ارْتِدَادِهِمْ وَازْدِيَادِهِمُ الْكُفْرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ، وَرُكُوبِ الرَّيْنِ، وَجَرِّهِ إِلَى الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ؟.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ: كَمْ مِنْ مُرْتَدٍ ازْدَادَ الْكُفْرَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ؟.
فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ: أَعْنِي: إِنْ كَنَّى عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بامتناع قبول التوبة؟.
(1) سورة النساء: 4/ 18.
قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهَا جَلِيلَةٌ، وَهِيَ التَّغْلِيظُ فِي شَأْنِ أُولَئِكَ الْفَرِيقِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِبْرَازِ حَالِهِمْ فِي صُورَةِ حَالِ الْآيِسِينَ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ، وَأَشَدُّهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ إِنَّمَا يُخَافُ مِنْ أَجْلِ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: لَنْ نَقْبَلَ، بِالنُّونِ، تَوْبَتَهُمْ، بِالنَّصْبِ، وَالضَّالُّونَ الْمُخْطِئُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ: الْهَالِكُونَ، مِنْ: ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ إِذَا صَارَ هَالِكًا. وَالْوَاوُ فِي:
وَأُولَئِكَ، لِلْعَطْفِ إِمَّا عَلَى خَبَرِ إِنَّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ:
إِنَّ وَمَطْلُوبَيْهَا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ.
وَذَكَرَ الرَّاغِبُ قَوْلًا: إِنَّ الْوَاوَ فِي: وَأُولَئِكَ، وَاوُ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ، فَالتَّوْبَةُ وَالضَّلَالُ مُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ.
وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُؤْتَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ فِي: هُمُ، الْفَصْلُ، وَالِابْتِدَاءُ، وَالْبَدَلُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً قَرَأَ عِكْرِمَةُ: فلن نقبل، بالنون و: ملء، بالنصب. وقرىء: فَلَنْ يَقْبَلَ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ فَلَنْ يَقْبَلَ الله. و: ملء، بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو السَّمَّالِ: مِلَّ الْأَرْضِ، بِدُونِ هَمْزٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلُ، وَهُوَ اللَّامُ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي كُلِّ مَا كَانَ نَحْوَ هَذَا، وَأَتَى بِلَفْظِ: أَحَدِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ: مِنْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَنَصُّ فِي الْمَقْصُودِ، إِذْ كَانَ: مِنْهُمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يفيد الْجَمِيعِ.
وَانْتِصَابُ: ذَهَبًا، عَلَى التَّمْيِيزِ، وَفِي نَاصِبِ التَّمْيِيزِ خِلَافٌ، وَسَمَّاهُ الْفَرَّاءُ: تَفْسِيرًا، لِأَنَّ الْمِقْدَارَ مَعْلُومٌ، وَالْمُقَدَّرُ بِهِ مُجْمَلٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ: مِنْ، أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، كَقَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «1» أَيْ: مِنْ صِيَامٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ذَهَبٌ، بِالرَّفْعِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَدٌّ عَلَى: مِلْءَ، كَمَا يُقَالُ عِنْدِي عِشْرُونَ نَفْسًا رِجَالٌ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالرَّدِّ: الْبَدَلَ، وَيَكُونُ مِنْ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ: مِلْءَ الْأَرْضِ، مَعْرِفَةٌ ولذلك ضبط
(1) سورة المائدة: 5/ 95.
الْحُذَّاقُ قَوْلَهُ: لَكَ الْحَمْدُ ملء السموات وَالْأَرْضِ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ للحمد، واستضعفوا نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ لِكَوْنِهِ مَعْرِفَةً.
وَلَوِ افْتَدى بِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَوِ افْتَدَى بِهِ، دُونَ واو، و: لو، هُنَا هِيَ بِمَعْنَى:
إِنِ، الشَّرْطِيَّةِ لَا: لَوِ، الَّتِي هِيَ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ: لَوْ، هُنَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ: فَلَنْ يُقْبَلَ، وَتِلْكَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَاضِي. فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الِافْتِدَاءَ شَرْطًا فِي عَدَمِ الْقَبُولِ فَلَمْ يَتَعَمَّمْ نَفْيُ وُجُودِ الْقَبُولِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْوَاوِ، فَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ مَعْنَى قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ موقع قوله لَوِ افْتَدى بِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا.
انْتَهَى. وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبُو عَنْهُ هَذَا التَّرْكِيبُ وَلَا يَحْتَمِلُهُ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا التَّرْكِيبُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا لَا يُقْبَلَ مِنْهُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مَنْ ذَهَبٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَقْصِدُهَا، وَلَوْ فِي حَالَةِ الِافْتِدَاءِ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ حَالَةَ الِافْتِدَاءِ هِيَ حَالٌ لَا يَمْتَنَّ فِيهَا الْمُفْتَدِي عَلَى الْمُفْتَدَى مِنْهُ، إِذْ هِيَ حَالَةُ قَهْرٍ مِنَ الْمُفْتَدَى مِنْهُ لِلْمُفْتَدِي، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي نَحْوِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ: لَوْ، تَأْتِي مُنَبِّهَةً عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا جَاءَ تَنْصِيصًا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَا تَنْدَرِجُ فِيمَا قَبْلَهَا،
كَقَوْلِهِ: «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ وَرُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ»
كَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى بِهَا، لِأَنَّ كَوْنَ السَّائِلِ عَلَى فَرَسٍ يَشْعُرُ بِغِنَاهُ فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه، فكأن يناسب أن لا يرد السائل به، وكذلك حالة الفداء:
يُنَاسِبُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا، لَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «1» لِأَنَّهُمْ نَفَوْا أَنْ يُصَدِّقَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي حَالَةِ صِدْقِهِمْ، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقُوا فِيهَا. فَلَفَظُ: وَلَوْ، هُنَا لِتَعْمِيمِ النَّفْيِ وَالتَّأْكِيدِ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ مَجِيئِهَا.
وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ إِنْفَاقُهُ وَتَقَرُّبَاتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ أَنْفَقَ ملء الأرض ذهبا، ولو افْتَدَى أَيْضًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. قَالَ: فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ
(1) سورة يوسف: 12/ 17.
لَا يُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمُ الِافْتِدَاءَ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الِافْتِدَاءَ بِالْآخِرَةِ.
وَحَكَى صَاحِبُ (رَيِّ الظَّمْآنِ) وَغَيْرُهُ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْقَبُولِ، وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْفِدْيَةِ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَبَيَّنَهُ مَا ثَبَتَ
فِي (صَحِيح) الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحَاسَبُ الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ أَيْ: لَوْ أَنَّ الْكَافِرَ قَدَرَ عَلَى أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى بَذْلِهِ، لَعَجَزَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْ تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. فَهُوَ نَظِيرُ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» وَنَظِيرُ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي «2» الْآيَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَبْعُدُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ أَنْفَقُوا فِي الدُّنْيَا مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ مَعَ الْكُفْرِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً.
وَافْتَدَى: افْتَعَلَ مِنَ الْفِدْيَةِ. قِيلَ: وَهُوَ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَشَوَى وَاشْتَوَى، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، وَيَحْتَاجُ فِي تَعْدِيَةِ افْتَدَى إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى:
مِلْءِ الْأَرْضِ، وَهُوَ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَؤُهَا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى: الْمِلْءِ، أَوْ:
عَلَى الذَّهَبِ. فَقِيلَ: عَلَى الذَّهَبِ غَلَطٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ، لِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ «3» وَالْمِثْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ زَيْدٍ، تُرِيدُ: مِثْلَ ضَرْبِهِ وَأَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُرِيدُ: مِثْلَهُ.
وَلَا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ للمطي
(3- 1) سورة الزمر: 39/ 47.
(2)
سورة المعارج: 70/ 11.
و: قضية وَلَا أَبَا حَسَنٍ لَهَا، تريد: ولا هيثم، و: لا مِثْلَ أَبِي حَسَنٍ، كَمَا أَنَّهُ يُرَادُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، تُرِيدُ: أَنْتَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ يَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخَرِ، فَكَانَا فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِثْلَ، فِي قَوْلِهِ وَلَوِ افْتَدى بِهِ وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَخَيَّلَ أَنَّ مَا نُفِيَ أَنْ يُقْبَلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَدَى بِهِ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِضْمَارِ: مِثْلَ، حَتَّى يُغَايِرَ بَيْنَ مَا نُفِيَ قَبُولُهُ وَبَيْنَ مَا يُفْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ لَا يُمْكِنُ عَادَةً أَنَّ أَحَدًا يَمْلِكُ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا بِحَيْثُ لَوْ بَذَلَهُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ بَذْلُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، بَلْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ مِثْلَ، لِأَنَّهُ نَفَى قَبُولَهُ حَتَّى فِي حَالَةِ الِافْتِدَاءِ، وَلَيْسَ مَا قُدِّرَ فِي الْآيَةِ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا فِي اللَّفْظِ وَلَا الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَا يُقَدَّرُ. وَأَمَّا فِيمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ زَيْدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ: مِثْلَ، إِذْ ضَرْبُكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ زَيْدٍ، وَذَاتُ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا:
لَا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ.
يَدُلُّ عَلَى حَذْفٍ: مِثْلَ مَا تَقَرَّرَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ: لَا، الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَعْلَامِ فَتُؤَثِّرُ فِيهَا، فَاحْتَاجَ إِلَى إِضْمَارِ: مِثْلَ، لِتَبْقَى عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيهَا، إِذْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ إِلَّا فِي الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْعَلَمِيَّةَ تُنَافِي عُمُومَ الْجِنْسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كما أنه يُزَادَ فِي: مِثْلِكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، تُرِيدُ، أَنْتَ، فَهَذَا قَوْلٌ قَدْ قِيلَ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ حُذَّاقُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ، وَلِتَقْرِيرِ أَنَّ مِثْلَكَ لَا يَفْعَلُ كَذَا، لَيْسَتْ فِيهِ مِثْلَ زَائِدَةً مَكَانَ غَيْرِ هَذَا.
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا إِخْبَارٌ ثَانٍ عَمَّنْ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُخَلِّصَ بِهِ نَفْسَهُ، بَيَّنَ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْآلَامِ لَهُ، إِذِ الِافْتِدَاءُ، وَبَذْلُ الْأَمْوَالِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَلْحَقُ الْمُفْتَدِيَ مِنَ الْآلَامِ حَتَّى يَبْذُلَ فِي الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ. كَمَا قَالَ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ