الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَائِدَةِ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ «1» أَيْ بَعْضَهُ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ؟ (قُلْتُ) : قَالُوا: إِنَّهَا أَيْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (فَإِنْ قُلْتَ) : قَوْلُهُمْ إِنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ قَوْلٌ مُتَعَسِّفٌ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ، وَمِنَ الْمَاءِ، وَمِنَ التُّرَابِ، إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ (قُلْتُ) : هُوَ كَمَا تَقُولُ، وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ الْمِرَاءِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ وَالتَّيْسِيرِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْخَطَّائِينَ وَيَغْفِرَ لَهُمْ، آثَرَ أَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا غَيْرَ مُعَسِّرٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ إِذْ أَذَعْنَ إِلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ مَنْ عَادَتِهِ، بَلْ عَادَتُهُ أَنْ يُحَرِّفَ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ لِأَجْلِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَأَيْضًا فَكَلَامُهُ أَخِيرًا حَيْثُ أَطْلَقَ أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنِ الْخَطَّائِينَ وَيَغْفِرُ لَهُمْ، الْعَجَبُ لَهُ إِذْ لَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَعَادَتِهِ فِيمَا هُوَ يُشْبِهُ هذا الكلام.
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَاّ قَلِيلاً (46)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ. وَقِيلَ: فِي غَيْرِهِ مِنَ الْيَهُودِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ إِذْ ذَاكَ يَوَدُّونَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُعَادَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يُعَامِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَأْتِي شَهِيدًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الْيَهُودُ أَشَدَّ إِنْكَارًا لِلْحَقِّ، وَأَبْعَدَ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ. وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَحَلِّيًا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ بِخُصُوصِيَّتِهِمْ. وتقدم
(1) سورة المائدة: 5/ 6.
تَفْسِيرُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ. وَمِنَ الْكِتَابِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يتعلق بأوتوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لنصيبا. وَظَاهِرُ لَفْظِ الَّذِينَ أُوتُوا، يَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَيَكُونُ الْكِتَابُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالنَّصِيبُ قِيلَ: بَعْضُ عِلْمِ التَّوْرَاةِ، لَا الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا. وَقِيلَ: عِلْمُ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْهُ فَحَسْبُ. وَقِيلَ: كُفْرُهُمْ بِهِ. وَقِيلَ:
عِلْمُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ الْمَعْنَى: يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، كَمَا قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «2» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَبْدَلُوا الضَّلَالَةَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَبْدَلُوا التَّكْذِيبَ بِالنَّبِيِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَاسْتِنْصَارِهِمْ بِهِ انْتَهَى. وَدَلَّ لَفْظُ الِاشْتِرَاءِ عَلَى إِيثَارِ الضَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى، فَصَارَ ذَلِكَ بَغْيًا شَدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَتَوْبِيخًا فَاضِحًا لَهُمْ، حَيْثُ هُمْ عِنْدَهُمْ حَظٌّ مِنْ عِلْمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمَعَ ذَلِكَ آثَرُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَكِتَابُهُمْ طَافِحٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: اشْتِرَاءُ الضَّلَالَةِ هُنَا هُوَ مَا كَانُوا يَبْذُلُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِأَحْبَارِهِمْ عَلَى تَثْبِيتِ دِينِهِمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ.
وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ: لَمْ يَكْفِهِمْ أَنْ ضَلُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى تَعَلَّقَتْ آمَالُهُمْ بِضَلَالِكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ كَرِهُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مُخْتَصِّينَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَأَرَادُوا أَنْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلُّوا هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً «3» وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ:
وَتُرِيدُونَ بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ وَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أَيْ:
تَدَّعُونَ الصَّوَابَ فِي اجْتِنَابِهِمْ، وَتَحْسَبُونَهُمْ غَيْرَ أعداء الله. وقرىء: أَنْ يَضِلُّوا بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَافِي لِوِدَادِ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الْعَدَاوَةُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْهُمْ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى الِاسْتِنَامَةِ إِلَيْهِمْ وَالرُّكُونِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ حَذَرُهُمْ كَمَا قَالَ تعالى:
(1) سورة البقرة: 2/ 243.
(2)
سورة البقرة: 2/ 16 و 175.
(3)
سورة النساء: 4/ 89.
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ «1» وَأَعْلَمُ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، أَيْ: أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ مِنْكُمْ. وَقِيلَ:
بِمَعْنَى عَلِيمٍ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَعْدَائِكُمْ.
وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ومن كان الله وليه وَنَصِيرَهُ فَلَا يُبَالِي بِالْأَعْدَاءِ، فَثِقُوا بِوِلَايَتِهِ وَنُصْرَتِهِ دُونَهُمْ أَوْ لَا تُبَالُوا بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَكْفِيكُمْ مَكْرَهُمْ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَلِيًّا لِرَسُولِهِ، نَصِيرًا لِدِينِهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِاللَّهِ زَائِدَةٌ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا كَمَا قَالَ: سُحَيْمٌ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَزِيَادَتُهَا فِي فَاعِلِ كَفَى وَفَاعِلِ يَكْفِي مُطَّرِدَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «2» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتِ الْبَاءُ فِي الْفَاعِلِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الْأَمْرُ أَيِ: اكْتَفُوا بِاللَّهِ. وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ مُشْعِرٌ أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُمُ الْمُخَاطِبُونَ، وَيَكُونُ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَكَوْنُ الْبَاءِ دَخَلَتْ فِي الْفَاعِلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ لَا الْمُخَاطَبُونَ، فَتُنَاقِضُ قَوْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: مَعْنَاهُ كَفَى الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لَيْسَتْ زَائِدَةً إِذْ تَتَعَلَّقُ بِالِاكْتِفَاءِ، فَالِاكْتِفَاءُ هُوَ الْفَاعِلُ لِكَفَى. وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
هَلْ تَذْكُرُنَّ إِلَى الدِّيرَيْنِ هِجْرَتَكُمْ
…
وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانَ قُرْبَانَا
التَّقْدِيرُ: وَقَوْلُكُمْ يَا رَحْمَنُ قُرْبَانَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ الْخَافِضِ، وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهِ تَبْيِينُ مَعْنَى الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، أَيِ: اكْتَفَوْا بِاللَّهِ، فَالْبَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُلَفَّقٌ بَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى تَنَاقُضِ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِ تناقض اخْتِلَافَ مَعْنَى الْحَرْفِ، إِذْ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَاعِلًا هُوَ زَائِدٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ اكْتَفُوا بِاللَّهِ هُوَ غَيْرُ زَائِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْبَاءُ فِي كَفَى بِاللَّهِ لأنه كان يتصل اتصال الْفَاعِلُ، وَبِدُخُولِ الْبَاءِ اتَّصَلَ اتصال مضاف، واتصال الفاعل لأن الكفارية مِنْهُ لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غيره، فضوعف لفظها لمضاعفة مَعْنَاهَا، وَهُوَ كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كَفَى بِاللَّهِ في قوله:
(1) سورة المنافقون: 63/ 4.
(2)
سورة فصلت: 41/ 53.
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً «1» لَكِنْ تَكَرَّرَ هُنَا لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ مَزِيدِ: نُقُولٍ: وَرَدَ بَعْضُهَا. وَانْتِصَابُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا قِيلَ: عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ أَجْوَدُ لِجَوَازِ دُخُولِ مِنْ.
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ظَاهِرُهُ الِانْقِطَاعُ فِي الْإِعْرَابِ عَنْ مَا قَبْلَهُ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مَوْصُوفٍ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَمِنَ الَّذِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَ مِنْ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ فِعْلًا كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا ظَعَنَ، وَمِنَّا أَقَامَ أَيْ: مِنَّا نَفَرٌ ظَعَنَ، وَمِنَّا نَفَرٌ أَقَامَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا
…
أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
يُرِيدُ: فَمِنْهُمَا تَارَةً أَمُوتُ فِيهَا. وَخَرَّجَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى إِضْمَارِ مَنِ الْمَوْصُولَةِ أَيْ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا مَنْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ. وَتَأَوَّلُوا مَا جَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهَا
…
وَآخَرُ يُثْنِي دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ
وَهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مَوْصُولًا، بَلْ يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا لِعَطْفِ النَّكِرَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ آخَرُ، إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ عَاشِقٌ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ التَّقْدِيرُ: هُمْ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَيُحَرِّفُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ هَادُوا، وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، فقيل: بنصيرا أَيْ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هادوا، وعداه بمن كَمَا عَدَّاهُ فِي:
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «2» وفَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ «3» أي ومنعناه وفمن يَمْنَعُنَا. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: بِأَعْدَائِكُمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي يُرِيدُونَ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أُوتُوا لِأَنَّ شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَكُونُ لَهُ أكثر من حال واحدة، إِلَّا أَنْ يَعْطِفَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ذَا الْحَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ من حال واحدة، مسئلة خِلَافٍ فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا بَيَانُ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «4» لِأَنَّهُمْ يَهُودُ وَنَصَارَى، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ «5»
(1) سورة النساء: 4/ 6.
(2)
سورة الأنبياء: 21/ 77.
(3)
سورة غافر: 40/ 29.
(4)
سورة آل عمران: 3/ 23، وسورة النساء: 4/ 44 و 51.
(5)
سورة النساء: 4/ 45. [.....]
وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا «1» وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «2» جُمَلٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ، وَإِذَا كَانَ الْفَارِسِيُّ قَدْ مَنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِجُمْلَتَيْنِ، فَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِثَلَاثٍ.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أَيْ: كَلِمَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَوْ كَلِمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ، أَوْ كَلِمَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْأَمْرِ فَيُخْبِرُهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا الْكَلَامَ.
وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهُ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَتَحْرِيفُ كَلِمِ التَّوْرَاةِ بِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ لِتَحْرِيفِهِمْ أَسْمَرَ رَبْعَةً فِي صِفَتِهِ عليه السلام بآدم طُوَالٍ مَكَانَهُ، وَتَحْرِيفِهِمُ الرَّجْمَ بِالْحَدِيدِ لَهُ، وَبِتَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ التَّوْرَاةَ بِغَيْرِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ مَعَانِي ألفاظها الأمور يَخْتَارُونَهَا وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى أَمْوَالِ سِفْلَتِهِمْ، وَأَنَّ التَّحْرِيفَ فِي كَلِمِ الْقُرْآنِ أَوْ كَلِمِ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي التأويل.
وقرىء: يُحَرِّفُونَ الْكِلْمَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ، جَمْعُ كِلْمَةٍ تَخْفِيفِ كَلِمَةٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ: يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ، وَجَاءَ هُنَا عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَفِي الْمَائِدَةِ جَاءَ: عَنْ مَواضِعِهِ «3» وَجَاءَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ «4» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا عَنْ مَوَاضِعِهِ فَعَلَى مَا فَسَّرْنَا مِنْ إِزَالَتِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَضْعَهُ فِيهَا بِمَا اقْتَضَتْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ إِبْدَالِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ. وَأَمَّا مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ:
فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مَوَاضِعُ هُوَ قَمِنٌ بَأَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَحِينَ حَرَّفُوهُ تَرَكُوهُ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ بَعْدَ مَوَاضِعِهِ وَمَقَارِّهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا سِيَاقَانِ، فَحَيْثُ وُصِفُوا بِشِدَّةِ التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ، وَاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ، وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، جَاءَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا «5» وَقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «6» فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الْكَلِمَ مِنَ التَّحْرِيفِ عَنْ مَا يُرَادُ بِهَا، وَلَمْ تَسْتَقِرَّ فِي مَوَاضِعِهَا، فَيَكُونُ التَّحْرِيفُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا، بَلْ بَادَرُوا إِلَى تَحْرِيفِهَا بِأَوَّلِ وهلة. وحيث
(1) سورة النساء: 4/ 45.
(2)
سورة النساء: 4/ 45.
(3)
سورة المائدة: 5/ 13.
(4)
سورة المائدة: 5/ 41.
(5)
سورة النساء: 4/ 46.
(6)
سورة المائدة: 5/ 13.
وُصِفُوا بِبَعْضِ لِينٍ وَتَرْدِيدٍ وَتَحْكِيمٍ لِلرَّسُولِ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، جَاءَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا «1» وَقَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «2» فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَادِرُوا بِالتَّحْرِيفِ، بَلْ عَرَضَ لَهُمُ التَّحْرِيفُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْكَلِمِ فِي مَوَاضِعِهَا. وَقَدْ يُقَالُ: أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، لَكِنَّهُ حَذَفَ هُنَا. وَفِي أَوَّلِ الْمَائِدَةِ: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ مَوَاضِعِهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ مَوَاضِعَ لَهُ، وَحُذِفَ فِي ثَانِي الْمَائِدَةِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. لِأَنَّ التَّحْرِيفَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَحْرِيفٌ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَالْأَصْلُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ. فَحَذَفَ هُنَا الْبَعْدِيَّةَ، وَهُنَاكَ حَذَفَ عَنْهَا. كُلُّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ هُنَا بِقَوْلِهِ: عَنْ مَوَاضِعِهِ، لِأَنَّهُ أَخْصَرُ. وَفِيهِ تَنْصِيصٌ بِاللَّفْظِ عَلَى عَنْ، وَعَلَى الْمَوَاضِعِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْدِيَّةِ.
وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ، أَوْ سَمِعْنَاهُ جَهْرًا، وَعَصَيْنَاهُ سِرًّا قَوْلَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ شَافَهُوا بِالْجُمْلَتَيْنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُبَالَغَةً مِنْهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَجَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا «3» .
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ، وَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْوَجْهَ الْمَكْرُوهَ لِسِيَاقِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ.
دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالصَّمَمِ، وَأَرَادُوا ذَلِكَ في الباطن، وأروا فِي الظَّاهِرِ تَعْظِيمَهُ بِذَلِكَ. إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَأْمُورٍ وَغَيْرَ صَالِحٍ أَنْ تَسْمَعَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ اسْمَعْ غَيْرَ مُجَابٍ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا يُوَافِقُكَ، فَكَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ شَيْئًا انْتَهَى، وَقَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلَامًا تَرْضَاهُ، فَسَمْعُكَ عَنْهُ نَابٍ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ غَيْرُ مَسْمَعٍ مَفْعُولَ اسْمَعْ، أَيِ:
اسْمَعْ كَلَامًا غَيْرَ مُسْمَعٍ إِيَّاكَ، لِأَنَّ أُذُنَكَ لَا تَعِيهِ نُبُوًّا عَنْهُ. وَيُحْتَمَلُ الْمَدْحُ أَيِ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا مِنْ قَوْلِكَ: أَسْمَعَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا سَبَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَالَ: غَيْرَ مُسْمَعٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، فَإِنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ التَّصْرِيفُ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ انْتَهَى.
وَوَجْهُ أَنَّ التَّصْرِيفَ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ أَسْمَعْتُكَ بِمَعْنَى قَبِلْتُ مِنْكَ، وَإِنَّمَا
(1) سورة المائدة: 5/ 41.
(2)
سورة المائدة: 5/ 42.
(3)
سورة البقرة: 2/ 93.
تَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْكَ بِمَعْنَى قَبِلْتُ، فَيُعَبِّرُونَ عَنِ الْقَبُولِ بِالسَّمَاعِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، لَا بِالْأَسْمَاعِ. وَلَوْ أُرِيدَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ لَكَانَ اللَّفْظُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مَسْمُوعٍ مِنْكَ.
وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ رَاعِنَا فِي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ «1» أَيْ فَتْلًا بِهَا. وَتَحْرِيفًا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ حَيْثُ يَضَعُونَ رَاعِنَا مَكَانَ انْظُرْنَا، وَغَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا. أَوْ يَفْتِلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّتْمِ إِلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّوْقِيرِ نِفَاقًا. وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُسْمَعٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي اسْمَعْ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِيَّاهُ مَفْعُولًا فِي أَحَدِ التَّقَادِيرِ، وَانْتِصَابُ لَيًّا وَطَعْنًا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ.
وَقِيلَ: هُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: لَاوِينَ وَطَاعِنِينَ. وَمَعْنَى: وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، أَيْ بِاللِّسَانِ. وَطَعْنُهُمْ فِيهِ إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ، وَتَغْيِيرُ نَعْتِهِ، أَوْ عَيْبُ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، أَوْ تَجْهِيلُهُ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَدَرَى أَنَّا نَسُبُّهُ، أَوِ اسْتِخْفَافُهُمْ وَاعْتِرَاضُهُمْ وَتَشْكِيكُهُمُ أَتْبَاعَهُ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا اللَّيُّ بِاللِّسَانِ إِلَى خِلَافِ مَا فِي الْقَلْبِ مَوْجُودٌ حَتَّى الْآنَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُحْفَظُ مِنْهُ فِي عَصْرِنَا أَمْثِلَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِهَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى.
وَهُوَ يُحْكَى عَنْ يَهُودِ الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ شَاهَدْنَاهُمْ وَشَاهَدْنَا يَهُودَ دِيَارِ مِصْرَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَكَأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمُ الصِّغَارَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحَفِّظُونَهُمْ مَا يُخَاطِبُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا ظَاهِرُهُ التَّوْقِيرُ وَيُرِيدُونَ بِهِ التَّحْقِيرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : كيف جاؤوا بِالْقَوْلِ الْمُحْتَمِلِ ذِي الْوَجْهَيْنِ، بعد ما صَرَّحُوا وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ (قُلْتُ) : جَمِيعُ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَدُعَاءِ السُّوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْطِقُوا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ جَعَلُوا كَأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِهِ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أَيْ: لَوْ تَبَدَّلُوا بِالْعِصْيَانِ الطَّاعَةَ، وَمِنَ الطَّاعَةِ الْإِيمَانُ بِكَ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى لَفْظِ اسْمَعْ، وَتَبَدَّلُوا بِرَاعِنَا قَوْلَهُمْ: وَانْظُرْنَا، فَعَدَلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَالْمُوهِمَةِ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، لَكَانَ أَيْ: ذَلِكَ الْقَوْلُ، خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْدَلَ أَيْ: أَقْوَمُ وَأَصْوَبُ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنْظِرْنَا أَيِ انْتَظِرْنَا بِمَعْنَى أَفْهِمْنَا وَتَمَهَّلْ عَلَيْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ وَنَعِيَ قَوْلَكَ، كَمَا قال الحطيئة:
(1) سورة النساء: 4/ 46.
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَثْنَاءَ صَادِرَةٍ
…
لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحِي وَإِبْسَاسِي
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَيْنَا، وَكَأَنَّهُ اسْتِدْعَاءُ اهْتِبَالٍ وَتَحَفٍّ مِنْهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كَمَا تَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَأَنْظِرْنَا مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ الْإِمْهَالُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى وَلَوْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لَكَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَأَعْدَلَ وَأَسَدَّ انْتَهَى. فَسَبَكَ مِنْ أَنَّهُمْ قَالُوا مصدرا مرتفعا يثبت عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ خِلَافًا لِسِيبَوَيْهِ. إِذْ يَرَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنْ بَعْدَ لَوْ مَعَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مُقَدَّرٌ بِاسْمٍ مُبْتَدَأٍ، وَهَلِ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي صِلَةِ أَنْ؟
قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا. فَالزَّمَخْشَرِيُّ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أَيْ: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْهُدَى بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ خَذَلَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَلْطَافِهِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ.
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي لَعَنَهُمْ أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا لَمْ يَلْعَنْهُمْ فَآمَنُوا، أَوِ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: فَلَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا فَآمَنُوا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وكعب الْأَحْبَارِ، وَغَيْرِهِمَا. أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ أَيْ: إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا قَلَّلَهُ إِذْ آمَنُوا بِالتَّوْحِيدِ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِشَرَائِعِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا أَيْ: ضَعِيفًا رَكِيكًا لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِمَنْ خَلَقَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِهِ. وَأَرَادَ بِالْقِلَّةِ الْعَدَمَ كَقَوْلِهِ: قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْهُمُومِ تُصِيبُهُ. أَيْ عَدِيمُ التَّشَكِّي.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ عَبَّرَ بِالْقِلَّةِ عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عدمه على مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ قَلَّمَا تُنْبِتُ كَذَا، وَهِيَ لَا تُنْبِتُهُ جُمْلَةً. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطية من أَنَّ التَّقْلِيلَ يُرَادُ بِهِ الْعَدَمُ هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ الِاسْتِثْنَائِيُّ مِنْ تَرَاكِيبِهِ. فَإِذَا قُلْتَ: لَا أَقُومُ إِلَّا قَلِيلًا، لَمْ يُوضَعْ هذا لانتفاء الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْقِيَامِ مِنْكَ إِلَّا قَلِيلًا فَيُوجَدُ مِنْكَ. وَإِذَا قُلْتَ: قَلَّمَا يَقُومُ أَحَدٌ إِلَّا زِيدٌ، وَأَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ احْتَمَلَ هَذَا، أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّقْلِيلُ الْمُقَابِلُ لِلتَّكْثِيرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّفْيُ الْمَحْضُ. وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا يَقُومُ أَحَدٌ إِلَّا زِيدٌ، وَمَا رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ. إِمَّا أَنْ تَنْفِيَ ثُمَّ تُوجِبَ