المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: تُحِبُّونَ وَيُحْبِبْكُمُ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ، فِي: تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، وَفِي يَغْفِرْ لَكُمْ وَغَفُورٌ.

وَالطِّبَاقُ فِي: تُخْفُوا وَتُبْدُوهُ، وَفِي: مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ سُوءٍ، وَفِي: مُحْضَرًا وَبَعِيدًا.

وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَحَلِّ عَنِ الشَّيْءِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي صُدُورِكُمْ، عَبَّرَ بِهَا عَنِ الْقُلُوبِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ «1» الْآيَةَ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، الْآيَةَ. أَشَارَ إِلَى انْسِلَاخِهِمْ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ.

وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي صُدُورِكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ.

وَالتَّأْنِيسُ بَعْدَ الْإِيحَاشِ فِي قَوْلِهِ: والله رؤوف بِالْعِبَادِ.

وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي التفسير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)

(1) سورة الحج: 22/ 46.

ص: 105

نُوحٌ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَصْرُوفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا كَانَ يَقْتَضِي مَنْعَ صَرْفِهِ وَهُوَ: الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ الشَّخْصِيَّةُ، وَذَلِكَ لِخِفَّةِ الْبِنَاءِ بِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ، وَمَنْ جَوَّزَ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى هَذَا لَا بِالسَّمَاعِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّوَاحِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْعُجْمَةَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الِاشْتِقَاقُ الْعَرَبِيُّ إِلَّا أَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلُغَةُ الْعَجَمِ، فَيُمْكِنُ ذَلِكَ. وَيُسَمَّى: آدَمَ الثَّانِيَ وَاسْمُهُ السَّكَنُ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ابْنٌ لِمَلِكِ بْنِ مُتَوَشْلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ سَارِدَ بْنِ مَهْلَابِيلَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ.

عِمْرَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَلَوْ كَانَ عربيا لا متنع أَيْضًا لِلْعَلَمِيَّةِ، وَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ إِذْ كَانَ يَكُونُ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعُمْرِ وَاضِحًا.

مُحَرَّرًا: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَرَّرَ، وَيَأْتِي اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَدْلُولِهِ فِي الْآيَةِ، وَالتَّحْرِيرُ: الْعِتْقُ، وَهُوَ تَصْيِيرُ الْمَمْلُوكِ حُرًّا.

الْوَضْعُ: الْحَطُّ وَالْإِلْقَاءُ، تَقُولُ: وَضَعَ يَضَعُ وَضْعًا وَضَعَةً، وَمِنْهُ الْمَوْضِعُ.

الْأُنْثَى وَالذَّكَرُ: مَعْرُوفَانِ، وَأَلِفُ أُنْثَى لِلتَّأْنِيثِ، وَجُمِعَتْ عَلَى إِنَاثٍ، كَرُبَى وَرَبَابٍ، وَقِيَاسُ الْجَمْعِ: أُنَاثَى، كَحُبْلَى وَحُبَالَى. وَجَمْعُ الذَّكَرِ: ذُكُورٌ وَذُكْرَانٌ.

مَرْيَمُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ جَاءَ شَاذًّا: كَمَدْيَنَ، وَقِيَاسُهُ: مَرَامٍ كَمَنَالٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تُغَازِلُ الْفِتْيَانَ، قَالَ الرَّاجِزُ:

قُلْتُ لِزَيْدٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ عَاذَ بِكَذَا: اعْتَصَمَ بِهِ، عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة وَمَعْنَاهُ: الْتَجَأَ وَاعْتَصَمَ وَقِيلَ:

اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعَوْذِ وَهُوَ: عَوْذٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْحَشِيشُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ.

ص: 106

رَجَمَ: رَمَى وَقَذَفَ، وَمِنْهُ رَجْماً بِالْغَيْبِ «1» أَيْ: رَمْيًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْجَمُ هُوَ: الْمَظْنُونُ لَيْسَ فِيهِ يَقِينٌ.

وَالرَّجِيمُ: يحمل أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِلٍ، أَيْ إِنَّهُ يَرْمِي وَيَقْذِفُ بِالشَّرِّ وَالْعِصْيَانِ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: مَرْجُومٌ، أَيْ يُرْجَمُ بِالشُّهُبِ أَوْ يُبْعَدُ وَيُطْرَدُ.

الْكَفَالَةُ: الضَّمَانُ، يُقَالُ: كَفَلَ يَكْفُلُ فَهُوَ كَافِلٌ وَكَفِيلٌ، هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِلضَّمِّ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّيْءِ.

زَكَرِيَّا: أَعْجَمِيٌّ شُبِّهَ بِمَا فِيهِ الْأَلِفُ الْمَمْدُودَةُ وَالْأَلِفُ الْمَقْصُورَةُ فَهُوَ مَمْدُودٌ وَمَقْصُورٌ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ نَكِرَةً، وَهَاتَانِ اللُّغَتَانِ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَوْ كَانَ امْتِنَاعُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ انْصَرَفَ نَكِرَةً. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَيُقَالُ: ذِكْرَى بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَفِي آخِرِهِ يَاءٌ كَيَاءِ بحتى، مُنَوَّنَةٌ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدَ، وَوَجْهُهُ فِيمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّهُ حَذَفَ يَاءَيِ الْمَمْدُودِ وَالْمَقْصُورِ، وَأَلْحَقَهُ يَاءَيِ النَّسَبِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرْفُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْيَاءَانِ هُمَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا فِي زَكَرِيَّا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْرَفَ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ حُكِيَ: ذُكَرُ عَلَى وَزْنِ: عُمَرُ، وَحَكَاهَا الْأَخْفَشُ.

الْمِحْرَابُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَيِّدُ الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفُهَا وَمُقَدِّمُهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْغُرْفَةُ وَقَالَ:

وَمَاذَا عَلَيْهِ أَنْ ذَكَرْتُ أَوَانِسَا

كَغِزْلَانِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أَقْيَالِ

شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي غُرَفٍ أَقْيَالٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَوْضِعُ الْعَالِي الشَّرِيفُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْقَصْرُ، لِشَرَفِهِ وَعُلُوِّهِ. وَقِيلَ: الْمَسْجِدُ. وَقِيلَ: مِحْرَابُهُ الْمَعْهُودُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَحَارُبِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَتَنَافُسِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ.

هُنَا: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْمَكَانِ الْقَرِيبِ، وَالْتَزَمَ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ إِلَّا أَنَّهُ يُجَرُّ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَإِنْ أَلْحَقْتَهُ كَافَ الْخِطَابِ دَلَّ عَلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ. وَبَنُو تَمِيمٍ تَقُولُ: هُنَاكَ، وَيَصِحُّ دُخُولُ حَرْفِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ اللَّامُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا ظَرْفُ الزَّمَانِ.

النِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَفُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا، أَيْ أَرْفَعُ، وَدَارُ النَّدْوَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ بِهَا، وَالْمُنْتَدَى وَالنَّادِي مُجْتَمَعُ الْقَوْمِ مِنْهُ، وَيُقَالُ: نَادَى مُنَادَاةً وَنِدَاءً وَنُدَاءً، بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّهَا. قِيلَ: فَبِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَتِ الأصوات على

(1) سورة الكهف: 18/ 22.

ص: 107

الضَّمِّ: كَالدُّعَاءِ وَالرُّغَاءِ وَالصُّرَاخِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: يُمَدُّ مَعَ كَسْرِ النُّونِ، وَيُقْصَرُ مَعَ ضَمِّهَا.

وَالنَّدَى: الْمَطَرُ، يُقَالُ مِنْهُ نَدَى يَنْدَى نَدًى.

يَحْيَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ امْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مِنْ: حَيِيَ، سُمِّيَ بِهِ فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يُجْمَعُ عَلَى: يَحْيَوْنَ، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ: إِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فُتِحْتِ الْيَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا ضُمَّتِ الْيَاءُ.

سَيِّدٌ: فَيْعِلٌ مِنْ: سَادَ، أَيْ: فَاقَ فِي الشَّرَفِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا، وَجَمْعُهُ عَلَى: فَعْلَةٍ، فَقَالُوا: سَادَةٌ، شَاذٌّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ السَّايِسُ بِسَوَادِ النَّاسِ، أَيْ: مُعْظَمِهِمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ: سَيِّدُ الْعَبْدِ، وَلَا يُقَالُ سَيِّدُ الثَّوْبِ. انْتَهَى.

الْحَصُورُ: فَعُولٌ مِنَ الْحَصْرِ، وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاصَرَ وَقِيلَ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْصُورٍ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ.

الْغُلَامُ: الشَّابُّ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي طَرَّ شَارِبَهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطِّفْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، وَعَلَى الْكَهْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ:

شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا

غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا

تَسْمِيَةٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ مِنَ الْغُلْمَةِ وَالِاغْتِلَامِ، وَذَلِكَ شِدَّةُ طَلَبِ النِّكَاحِ.

وَيُقَالُ: اغْتَلَمَ الْفَحْلُ: هَاجَ مِنْ شِدَّةِ شَهْوَةِ الضِّرَابِ، وَاغْتَلَمَ الْبَحْرُ: هَاجَ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُهُ، وَجَمْعُهُ عَلَى: غُلْمَةٍ، شَاذٌّ وَقِيَاسُهُ فِي الْقِلَّةِ: أَغْلِمَةٌ، وَجُمِعَ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى:

غِلْمَانٍ، وَهُوَ قِيَاسُهُ.

الْكِبَرُ، مَصْدَرُ: كَبُرَ يَكْبُرُ مِنَ السِّنِّ قَالَ:

صَغِيرَيْنِ نرعى البهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

الْعَاقِرُ: مَنْ لَا يُوَلَدُ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَفِعْلُهُ لَازِمٌ، وَالْعَاقِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَقَرَ أَيْ: قَتَلَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ.

الرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، وَأَصْلُهُ التَّحَرُّكُ يُقَالُ ارْتَمَزَ تَحَرَّكَ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَحْرِ الرَّامُوزُ.

الْعَشِيُّ: مُفْرَدُ عَشِيَّةٍ، كَرَكِيٍّ، وَرَكِيَّةٍ. وَالْعَشِيَّةُ: أَوَاخِرُ النَّهَارِ، وَلَامُهَا وَاوَ، فَهِيَ كَمَطِيٍّ.

ص: 108

الْإِبْكَارُ: مَصْدَرُ أَبْكَرَ، يُقَالُ أَبْكَرَ: خَرَجَ بُكْرَةً.

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ أَبْنَاءُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ. وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: فِي نَصَارَى نَجْرَانَ لَمَّا غَلَوْا فِي عِيسَى، وَجَعَلُوهُ ابْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا، نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَإِعْلَامًا أَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ الْمُتَنَقِّلِينَ فِي الْأَطْوَارِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وِلَادَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ إِلَى وِلَادَتِهِ هُوَ، وَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَيْضًا. لِمَا قُدِّمَ قَبْلُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» وَوَلِيَهُ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «2» وَخَتَمَهَا بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «3» ذَكَرَ الْمُصْطَفَيْنَ الَّذِينَ يُحِبُّ اتِّبَاعَهُمْ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَوَّلِهِمْ وُجُودًا وَأَصْلِهِمْ، وَثَنَى بِنُوحٍ عليه السلام إِذْ هُوَ آدَمُ الْأَصْغَرُ لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ نَسْلِهِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِآلِ إِبْرَاهِيمَ، فَانْدَرَجَ فِيهِمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمُوسَى عليه السلام، ثُمَّ أَتَى رَابِعًا بِآلِ عِمْرَانَ، فَانْدَرَجَ فِي آلِهِ مَرْيَمُ وَعِيسَى عليهما السلام، وَنَصَّ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ لِخُصُوصِيَّةِ الْيَهُودِ بِهِمْ، وَعَلَى آلِ عِمْرَان لِخُصُوصِيَّةِ النَّصَارَى بِهِمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى جَعْلَ هَؤُلَاءِ صَفْوَةً، أَيْ مُخْتَارِينَ نَقَاوَةً.

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَقَّاهُمْ مِنَ الْكَدَرِ. وَهَذَا مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعْلُومِ بِالْمَحْسُوسِ..

وَاصْطِفَاءُ آدَمَ بِوُجُوهٍ.

مِنْهَا خَلْقُهُ أَوَّلَ هَذَا الْجِنْسِ الشَّرِيفِ، وَجَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِسْجَادُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، وَإِسْكَانُهُ جَنَّتَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَّفَهُ بِهِ.

وَاصْطِفَاءُ نُوحٍ عليه السلام بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا: أَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِتَحْرِيمِ: الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ ذَوِي الْمَحَارِمِ، وَأَنَّهُ أَبُ النَّاسِ بَعْدَ آدَمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاصْطِفَاءُ آلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِأَنْ جَعَلَ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: آلُ إِبْرَاهِيمَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: آلُهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «4» .

وَعِمْرَانُ هَذَا الْمُضَافُ إِلَيْهِ: آلُ، قِيلَ هُوَ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ مِنْ وَلَدِ سليمان بن داود،

(1) سورة آل عمران: 3/ 31.

(3- 2) سورة آل عمران: 3/ 32.

(4)

سورة البقرة: 2/ 248.

ص: 109

وَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ الْبَتُولِ أُمِّ عِيسَى عليه السلام، قَالَهُ: الْحَسَنُ وَوَهْبٌ. وَقِيلَ: هُوَ عِمْرَانُ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ نُصَيْرٍ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ آلُهُ عِيسَى، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَلَى الثَّانِي آلُهُ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ عِمْرَانَ عِمْرَانُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ فِي عِمْرَانَ أَنَّهُ أَبُو مَرْيَمَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا بِقَوْلِهِ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ «1» فقوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ كَالشَّرْحِ لِكَيْفِيَّةِ الِاصْطِفَاءِ، لِقَوْلِهِ: وَآلَ عِمْرَانَ، وَصَارَ نَظِيرَ تَكْرَارِ الِاسْمِ فِي جُمْلَتَيْنِ، فَيَسْبِقُ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، نحو: أكرم زيدا إن زَيْدًا رَجُلٌ صَالِحٌ.

وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَانَ فِي ذَلِكَ إِلْبَاسٌ عَلَى السَّامِعِ. وَقَدْ رُجِّحَ الْقَوْلُ الْآخَرُ بِأَنَّ مُوسَى يُقْرَنُ بِإِبْرَاهِيمَ كَثِيرًا فِي الذِّكْرِ، وَلَا يَتَطَرَّقُ الْفَهْمُ إِلَى أَنَّ عِمْرَانَ الثَّانِيَ هُوَ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ سِنًّا، لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ وَلَدَتْ عِيسَى، وَأَنَّ زَكَرِيَّا كَفَلَ مَرْيَمَ أُمَّ عِيسَى، وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مَرْيَمَ إِمْشَاعَ ابْنَةَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ فَكَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيْ خَالَةٍ، وَبَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ وَالْمَرْيَمَيْنِ أَعْصَارٌ كَثِيرَةٌ. قِيلَ: بَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ أَلْفُ سَنَةٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآلَ من يؤول إِلَى الشَّخْصِ فِي قَرَابَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى هَؤُلَاءِ هُنَا فِي الِاصْطِفَاءِ لِلْمَزَايَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ.

وَذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ: أَبُو الْحَكَمِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، رحمه الله وَرِضَى عَنْهُ، إِلَى أَنَّ ذِكْرَ آدَمَ وَنُوحٍ تَضَمَّنَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِهِمَا، وَأَنَّ الْآلَ الْأَتْبَاعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ بَعْضِهِمُ. انْتَهَى مَا قَالَ مُلَخَّصًا، وَقَوْلُهُ شَبِيهٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ آدَمَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى دِينَ آدَمَ.

وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمُرَادُ اصْطَفَى دِينَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ لَكَانَ: وَنُوحٍ مَجْرُورًا، لِأَنَّ آدَمَ مَحَلُّهُ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْلَا تَسْطِيرُهُ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ. لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُجَرَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ، فَيَلْزَمُ

(1) سورة آل عمران: 3/ 42.

ص: 110

جَرُّ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْرَبُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ؟ وَأَمَّا إِقْرَارُهُ مَجْرُورًا فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطٍ ذُكِرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

عَلَى الْعالَمِينَ متعلق باصطفى، ضَمَّنَهُ مَعْنَى فَضَّلَ، فَعَدَّاهُ بِعَلَى. وَلَوْ لَمْ يُضَمِّنْهُ مَعْنَى فَضَّلَ لَعُدِّيَ بِمِنْ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:

وَيَضْحَى الْعَالَمُونَ لَهُ عِيَالًا وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:

أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكَ الْعَالَمِينَا وَكَمَا تؤول فِي وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ «2» .

وَقَالَ الْقَتِبِيُّ: لِكُلِّ دَهْرٍ عَالَمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ بِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ، وَيَكُونُ قَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ فُضِّلُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ التَّفْضِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي فِي مَرَاتِبِ التَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَعُمَرُ وَخَالِدٌ أَغْنِيَاءٌ، فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْغِنَى لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي فِي مَرَاتِبِ الْغِنَى، وَإِذَا حَمَلْنَا: الْعَالَمِينَ، عَلَى مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ: الْعَالَمِينَ، عَلَى عُمُومِهِ لِأَجْلِ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِذَا وُصِفُوا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ، يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَآلَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.

ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أَجَازُوا فِي نَصْبِ: ذَرِّيَّةً، وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ يَعْنِي أَنَّ الْآلَيْنِ ذَرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَدَلٌ مِنْ نُوحٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذُرِّيَّةٍ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا يَسُوغُ أَنْ تَقُولَ فِي وَالِدِ هَذَا ذُرِّيَّةٌ لِوَلَدِهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الذَّرِّيَّةُ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ والأصل والنسل.

(1) سورة يوسف: 12/ 82.

(2)

سورة البقرة: 2/ 47 و 122.

ص: 111

كَقَوْلِهِ: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «1» أَيْ آبَاءَهُمْ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: الذَّرَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ:

الْآيَةُ تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآبَاءُ ذَرِّيَّةً لِلْأَبْنَاءِ، وَالْأَبْنَاءُ ذَرِّيَّةً لِلْآبَاءِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فالأب ذرىء منه الولد، والولد ذرىء مِنَ الْأَبِ. وَقَالَ مَعْنَاهُ النَّقَّاشُ فَعَلَى قَوْلِ الرَّاغِبِ وَصَاحِبِ النَّظْمِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ذَرِّيَّةً، بَدَلًا مِنْ: آدَمَ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ.

وَأَجَازُوا أَيْضًا نَصْبَ: ذَرِّيَّةً، عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الْبَدَلِ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذُرِّيَّةٍ دَلَالَةً وَاشْتِقَاقًا وَوَزْنًا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالضَّحَّاكُ: ذِرِّيَّةً، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ.

بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لذرية و: من، لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً أَيْ:

مُتَشَعِّبَةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاسُلِ، فَإِنْ فُسِّرَ عِمْرَانَ بِوَالِدِ مُوسَى وَهَارُونَ فَهُمَا مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ يَصْهَرَ، وَيَصْهَرُ مِنْ قَاهِثَ، وَقَاهِثُ مِنْ لَاوَى، وَلَاوَى مِنْ يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام. وَإِنْ فُسِّرَ عِمْرَانَ بِوَالِدِ مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى، فَعِيسَى مِنْ مَرْيَمَ، وَمَرْيَمُ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ داود، وسليمان مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا بْنِ يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ دَخَلَ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقِيلَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ مَجَازًا أَيْ: مِنْ بَعْضٍ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ، قَالَ: مِنْ بَعْضٍ فِي تَنَاصُرِ الدِّينِ، وَقَالَ أَبُورُوتُ:

بَعْضُهَا عَلَى دِينِ بَعْضٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُهُ الْخَلْقُ، عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ. أَوْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُهُ امْرَأَةُ عِمْرَانَ، عَلِيمٌ بِمَا تَقْصِدُ. أَوْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُهُ الذُّرِّيَّةُ، عَلِيمٌ بِمَا تُضْمِرُهُ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِلِاصْطِفَاءِ، أَوْ: يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مناسب لقوله آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام دَعَا لآله فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ

(1) سورة يس: 36/ 41.

ص: 112

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «1» بِقَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «2» وَحَمَدَ رَبَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «3» وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ «4» ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَذُرِّيَّتَهُ، وَقَالَ حِينَ بنى هو وإسماعيل الْكَعْبَةَ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «5» إِلَى سَائِرِ مَا دَعَا بِهِ حَتَّى قَوْلِهِ:

وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ «6» وَلِذَلِكَ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» .

فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ تَضَرُّعَاتٌ وَأَدْعِيَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي آلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، نَاسَبَ أَنْ يُخْتَمَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ آلُ عِمْرَانَ، دَعَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ بِقَبُولِ مَا كَانَتْ نَذَرَتْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَيْضًا ذِكْرَ الْوَصْفَيْنِ، وَلِذَلِكَ حِينَ ذَكَرَتِ النَّذْرَ وَدَعَتْ بِتَقَبُّلِهِ، أَخْبَرَتْ عَنْ رَبِّهَا بِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيِ: السَّمِيعُ لِدُعَائِهَا، الْعَلِيمُ بِصِدْقِ نِيَّتِهَا بِنَذْرِهَا مَا فِي بَطْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى.

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ الْآيَةَ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى اصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ مُعْظَمُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَمْرِ النَّصَارَى وَفْدَ نَجْرَانَ، ذَكَرَ ابْتِدَاءً حَالَ آلِ عِمْرَانَ، وامرأة عِمْرَانَ اسْمُهَا: حَنَّةُ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَآخِرُهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ، وَهُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَهِيَ حَنَّةُ بنت فاقود، ودير حَنَّةَ بِالشَّامِ مَعْرُوفٌ، وَثَمَّ دَيْرٌ آخَرُ يُعْرَفُ بِدَيْرِ حَنَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نواس دَيْرَ حَنَّةَ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ:

يَا دَيْرَ حَنَّةَ من ذات الاكيداح

مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإِنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِ

وَقَبْرُ حَنَّةَ، جَدَّةُ عِيسَى، بِظَاهِرِ دِمَشْقَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِيِّ اسْمُ امْرَأَةٍ حَنَّةُ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ: حَنَّةُ أم عمرو يروي حَدِيثَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ.

وَيُسْتَفَادُ حَنَّةُ مَعَ: حَبَّةَ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَاءٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أسفل، و: حية، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ أَسْفَلَ، وَهُمَا اسْمَانِ لِنَاسٍ، وَمَعَ: خَبَّةَ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ، وَهِيَ خَبَّةُ بِنْتُ يحيى بن أكثم القاضي، أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَمَعَ: جَنَّةَ بِجِيمٍ وَنُونٍ وَهُوَ أَبُو جَنَّةَ خَالُ ذِي الرُّمَّةِ الشَّاعِرِ، لَا نَعْرِفُ سِوَاهُ.

وَلَمْ تَكْتَفِ حَنَّةُ بِنِيَّةِ النَّذْرِ حَتَّى أَظْهَرَتْهُ بِاللَّفْظِ، وَخَاطَبَتْ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدَّمَتْ قَبْلَ التلفظ بذلك نداء هاله تَعَالَى بِلَفْظِ الرَّبِّ. الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا وَمَالِكُ كُلِّ شيء، وتقدّم معنى

(2- 1) سورة إبراهيم: 14/ 37. [.....]

(4- 3) سورة إبراهيم: 14/ 39.

(5)

سورة البقرة: 2/ 127.

(6)

سورة البقرة: 2/ 129.

ص: 113

النَّذْرِ وَهُوَ اسْتِدْفَاعُ الْمُخَوِّفِ بِمَا يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقِيلَ: مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرِيطَةٍ وَبِغَيْرِ شَرِيطَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكَ قَدْ نَذَرُوا دَمِي

وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بثين لقوني

و: لك، اللَّامُ فِيهِ لَامُ السَّبَبِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ التَّقْدِيرِ: لِخِدْمَةِ بَيْتِكَ، أَوْ لِلِاحْتِبَاسِ عَلَى طَاعَتِكَ.

مَا فِي بَطْنِي جَزَمَتِ النَّذْرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، أَوْ لِرَجَاءٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا.

مُحَرَّراً مَعْنَاهُ عَتِيقًا مِنْ كُلِّ شُغْلٍ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ. قَالَ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ: أَوْ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ: مُخْلِصًا لِلْعِبَادَةِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَرَوَاهُ خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، دُونَ: مِنْ، لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ، أَوْ لِأَنَّ: مَا، مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ: مِنْ.

وَنُسِبَ هَذَا إِلَى سِيبَوَيْهِ.

فَتَقَبَّلْ مِنِّي دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا مَا نَذَرَتْهُ لَهُ، وَالتَّقَبُّلُ أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ بالجزاء، و: تقبل، هُنَا بِمَعْنَى: قَبِلَ، فَهُوَ مِمَّا تَفَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وعداه، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ.

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خُتِمَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتِ النَّذْرَ، وَعَقَدَتْهُ بَنِيَّتِهَا، وَتَلَفَّظَتْ بِهِ، وَدَعَتْ بِقَبُولِهِ. فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.

وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: أَذْكُرُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْمُبَرِّدُ، أَوْ مَعْنَى الِاصْطِفَاءُ، التَّقْدِيرُ: وَاصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وعلى هذا يجعل وَآلَ عِمْرانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّهُ إِنْ جُعِلَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ اصْطَفَى آدَمَ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ لِتَغَايُرِ زَمَانِ هَذَا الِاصْطِفَاءِ، وَزَمَانِ قَوْلِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، فَلَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِيهِ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: سَمِيعٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَوْ:

سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لِقَوْلِ امْرَأَةِ عمران ونيتها، وَ: إِذْ، مَنْصُوبٌ بِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلِيمٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ:

ص: 114

سَمِيعٌ، فِي الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ قد وصف. اسم الْفَاعِلِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِ مَعْمُولِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى خِلَافٍ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اتِّصَافَهُ تَعَالَى: بِسَمِيعٍ عَلِيمٍ، لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ إِذْ زَائِدَةٌ، الْمَعْنَى: قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ لَهُ نَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فِي: مَوَاضِعَ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ فِي النَّحْوِ.

وَانْتَصَبَ: مُحَرَّرًا، عَلَى الْحَالِ. قِيلَ: من ما، فالعامل: نذرات. وَقِيلَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي: اسْتَقَرَّ، الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَالْعَامِلُ فِي هَذَا: اسْتَقَرَّ، وَقَالَ مَكِّيُّ فَمَنْ نَصَبَهُ عَلَى النَّعْتِ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ يُقَدِّرُهُ: غُلَامًا مُحَرَّرًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، يَعْنِي أَنَّ: نَذَرَ، قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ: مَا فِي بَطْنِي، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى آخر، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ:

مُحَرَّرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَعْنَى: تَحْرِيرًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى زِنَةِ الْمَفْعُولِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى الثَّلَاثَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي

فَلَا عِيًّا بِهِنَّ وَلَا اجْتِلَابَا

التَّقْدِيرُ: تَسْرِيحِي الْقَوَافِي، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: نَذَرَ تحرير، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى: نَذَرْتُ، لِأَنَّ مَعْنَى: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي حَرَّرْتُ لَكَ بِالنَّذْرِ مَا فِي بَطْنِي. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ: مَا، وَيَكُونَ، إِذْ ذَاكَ حَالًا مُقَدَّرَةً إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُحَرَّرًا، خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ، وَحَالًا مُصَاحِبَةً إِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَتِيقًا، لِأَنَّ عِتْقَ مَا فِي الْبَطْنِ يَجُوزُ.

وَكَتَبُوا: امْرَأَةُ عِمْرَانَ، بِالتَّاءِ لَا بِالْهَاءِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَامْرَأَةُ نُوحٍ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، سَبْعَةُ مَوَاضِعَ. فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقِفُونَ بِالتَّاءِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ مَعَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يَقِفُونَ عَلَى طَلْحَةَ طَلَحَتْ، بِالتَّاءِ. وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ: بِالْهَاءِ وَلَمْ يَتْبَعُوا رَسْمَ الْمُصْحَفِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ سَبَبَ هَذَا الْحَمْلِ الَّذِي اتَّفَقَ لِامْرَأَةِ عِمْرَانَ. فَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةٌ، فَبَيْنَا هِيَ يَوْمًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ نَظَرَتْ إِلَى طَائِرٍ يَذُقْ فَرْخًا لَهُ، فَتَحَرَّكَتْ بِهِ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ، فَدَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا. فَحَمَلَتْ. وَمَاتَ عِمْرَانُ زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَحَسِبَتِ الْحَمْلَ وَلَدًا فَنَذَرَتْهُ لِلَّهِ حَبِيسًا لِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ التَّقَرُّبُ بِهِبَةِ أَوْلَادِهِمْ لِبُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ، وكان بنو ماثان رؤوس

ص: 115

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْغِلْمَانِ، وَكَانَتِ الْجَارِيَةُ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَكَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَكَانَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُمْ، فَإِذَا حُرِّرَ خَدَمُ الْكَنِيسَةِ بِالْكَنْسِ وَالْإِسْرَاجِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيُخَيَّرُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي الْكَنِيسَةِ أَقَامَ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي وَضَعَتْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى فِي: مَا، لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا كَانَ أُنْثَى فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حملا على الموجودة، وَرَفْعًا لِلَفْظِ: مَا، فِي قَوْلِهَا: مَا فِي بَطْنِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْجِبِلَّةِ، أَوِ النَّفْسِ، أَوِ النَّسَمَةِ. جَوَابٌ: لِمَا، هُوَ: قَالَتْ وَخَاطَبَتْ رَبَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ رَجَائِهَا، وَخِلَافُ مَا قَدَّرَتْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَرْجُو أَنْ تَلِدَ ذَكَرًا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ، وَلِذَلِكَ نَذَرَتْهُ مُحَرَّرًا. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي وَضَعْتُها الضَّمِيرُ مُؤَنَّثًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ، إِذْ تَكُونُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: أُنْثَى، مُبَيِّنَةً إِذِ النَّسَمَةُ وَالنَّفْسُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ انْتِصَابُ أُنْثَى حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَضَعْتُهَا وَهُوَ كَقَوْلِكَ: وَضَعَتِ الْأُنْثَى أُنْثَى؟.

قُلْتُ: الْأَصْلُ وَضَعَتْهُ أُنْثَى، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ، وَذَا الْحَالِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، كَمَا أُنِّثَ الِاسْمُ فِي: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ؟ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «1» . انْتَهَى. وَآلَ قَوْلُهُ إِلَى أَنَّ: أُنْثَى، تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، لَا يُخْرِجُهُ تَأْنِيثُهُ لِتَأْنِيثِ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مُؤَكِّدَةً. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَتْ أُمَّكَ؟ حَيْثُ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، لِأَنَّ ذَلِكَ حَمْلٌ عَلَى مَعْنَى:

مَنْ، إِذِ الْمَعْنَى: أَيَّةُ امْرَأَةٍ، كَانَتْ أُمَّكَ، أَيْ: كَانَتْ هِيَ أَيُّ الْمَرْأَةِ أُمُّكَ، فَالتَّأْنِيثُ لَيْسَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَأْنِيثٌ لِلِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ نَظِيرَ: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُخَصَّصٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ، فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْخَبَرِ مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْمِ بِخِلَافِ أُنْثَى، فَإِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ.

وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «2» فَيَعْنِي أَنَّهُ ثَنَّى بِالِاسْمِ لِتَثْنِيَةِ الخبر، والكلام

(1) سورة النساء: 4/ 176.

(2)

سورة النساء: 4/ 176.

ص: 116

عَلَيْهِ يَأْتِي فِي مَكَانِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ فِي: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، عَائِدًا عَلَى النَّسَمَةِ، أَوِ النَّفْسِ، فَتَكُونُ الْحَالُ مَبْنِيَّةً لَا مُؤَكِّدَةً.

وَقِيلَ: خَاطَبَتِ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِذَارِ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْ نَذْرِ مَا لَا يَصْلُحُ لِسَدَانَةِ الْبَيْتِ، إِذْ كَانَتِ الْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ.

وَقِيلَ: كَانَتْ مَرْيَمُ أَجْمَلَ نِسَاءِ زَمَانِهَا وَأَكْمَلَهُنَّ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ كَلَامِ أُمِّ مَرْيَمَ، وَكَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسَهَا بِقَوْلِهَا: وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ تَأْتِ عَلَى لَفْظِ: رَبِّ، إِذْ لَوْ أَتَتْ عَلَى لَفْظِهِ لَقَالَتْ: وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ. وَلَكِنْ خَاطَبَتْ نَفْسَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ عَنِ الذَّكَرِ، وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَسَابِقَ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَذُّرِ عَلَى مَا فَاتَنِي مِنَ الْمَقْصِدِ، إِذْ مُرَادُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبْتُهُ وَرَجَوْتُهُ مِثْلَ الْأُنْثَى الَّتِي عَلِمَهَا وَأَرَادَهَا وَقَضَى بِهَا. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأُنْثَى تَكُونُ خَيْرًا مِنَ الذَّكَرِ، إِذْ أَرَادَهَا اللَّهُ، سَلَّتْ بِذَلِكَ نَفْسَهَا.

وَتَكُونُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرُ، لِلْعَهْدِ فَيَكُونُ مَقْصُودُهَا تَرْجِيحَ هَذِهِ الْأُنْثَى الَّتِي هِيَ مَوْهُوبَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ قَدْ رَجَتْ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ ذَكَرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهَا أَنَّهُ لَيْسَ كَالْأُنْثَى فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَالْمَزِيَّةِ، لِأَنَّ الذَّكَرَ يَصْلُحُ لِلتَّحْرِيرِ، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى خِدْمَةِ مَوْضِعِ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى الْخِدْمَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ عَيْبٌ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ وَلَا تُهْمَةَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَالْأُنْثَى، فِي امْتِنَاعِ نَذْرِهِ إِذِ الْأُنْثَى تَحِيضُ وَلَا تَصْلُحُ لِصُحْبَةِ الرُّهْبَانِ؟ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَبَدَأَتْ بِذِكْرِ الْأَهَمِّ فِي نَفْسِهَا، وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: وَلَيْسَتِ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، فَتَضَعُ حَرْفَ النَّفْيِ مَعَ الشَّيْءِ الَّذِي عِنْدَهَا، وَانْتَفَتْ عَنْهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلْغَرَضِ الْمُرَادِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الذَّكَرُ، لِلْجِنْسِ.

وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِمَا وَضَعَتْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ السَّاكِنَةِ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي وَضَعَتْهُ. أَيْ: بِحَالِهِ، وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْأُنْثَى، فَإِنَّ قَوْلَهَا: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ مِنْ حَالِهَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ النَّسَمَةِ جَاءَتْ أُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِلتَّحْرِيرِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، فَأَتَى بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعِلْمِ

ص: 117

بِتَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْإِعْلَامُ بِمَا عَلِقَ بِهَا وَبِابْنِهَا مِنْ عَظِيمِ الْأُمُورِ، إِذْ جَعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ. وَوَالِدَتُهَا جَاهِلَةٌ بِذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا وَضَعْتِ، بِكَسْرِ تَاءِ الْخِطَابِ، خَاطَبَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذِهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِظَمِ شأنها وعلوّ قدرها.

وَ: مَا، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى: الَّذِي، أَوِ: الَّتِي، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ عَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ.

وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنَاهُ: الْعَابِدَةُ، أَرَادَتْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ التَّفَاؤُلَ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّضَرُّعَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِاسْمِهَا، وَأَنْ تَصْدُقَ فِيهَا ظَنَّهَا بِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى إعاذتها بالله وإعاذتها ذُرِّيَّتِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ؟ وَخَاطَبَتِ اللَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِتَرَتُّبِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِبْدَادُهَا بِالتَّسْمِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا عِمْرَانَ كَانَ قَدْ مَاتَ، كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُنْثَى أَنْ تَسْتَبِدَّ الْأُمُّ بِالتَّسْمِيَةِ لِكَرَاهَةِ الرِّجَالِ الْبَنَاتِ، وَفِي الْآيَةِ تَسْمِيَةُ الطِّفْلِ قُرْبَ الْوِلَادَةِ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ فَسَمَّيْتُهُ بَاسِمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» .

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: «يُعَقُّ عَنِ الْمَوْلُودِ فِي السَّابِعِ وَيُسَمَّى» .

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ كَلَامِهَا، وَهِيَ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعَتْ، بِسُكُونِ التَّاءِ أَوْ بِالْكَسْرِ.

فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَانِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «1» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كَلَامِهَا، وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِهَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُتَعَيَّنُ لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ فِي اعْتِرَاضِ جُمْلَتَيْنِ خلافا. مذهب أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ جُمْلَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَيْضًا تَشْبِيهُهُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اعْتُرِضَ بِهِمَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «2» لَيْسَ تَشْبِيهًا مُطَابِقًا لِلْآيَةِ، لِأَنَّهُ لم

(2- 1) سورة الواقعة: 56/ 76.

ص: 118

يَعْتَرِضْ جُمْلَتَانِ بَيْنَ طَالِبٍ وَمَطْلُوبٍ، بَلِ اعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» وَجَوَابِهِ الَّذِي هُوَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «2» بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «3» لَكِنَّهُ جَاءَ فِي جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَبَعْضٍ، اعْتِرَاضٌ بِجُمْلَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ «4» اعْتَرَضَ بِهِ بَيْنَ الْمَنْعُوتِ الَّذِي هُوَ: لَقَسَمٌ، وَبَيْنَ نَعْتِهِ الَّذِي هُوَ: عَظِيمٌ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ، فَلَيْسَ فَصْلًا بِجُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَسَمَّى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا، وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ، وَإِثْبَاتُهُ هُوَ الْأَصْلُ، يَقُولُ: سَمَّيْتُ ابْنِي بِزَيْدٍ، وَسَمَّيْتُهُ زَيْدًا. قَالَ:

وَسَمَّيْتُ كَعْبًا بِشْرَ الْعِظَامِ

وَكَانَ أَبُوكَ يُسَمَّى الْجَعْلَ

أَيْ: وَسُمِّيتُ بِكَعْبٍ، وَيُسَمَّى: بِالْجَعْلِ، وَهُوَ بَابٌ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عَنِ الْأَخْفَشِ الصَّغِيرِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أَتَى خَبَرُ: إِنَّ، مُضَارِعًا وَهُوَ:

أُعِيذُهَا، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا دَيْمُومَةُ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالتَّكْرَارُ بِخِلَافِ: وَضَعْتُهَا، وَسَمَّيْتُهَا، فَإِنَّهُمَا مَاضِيَانِ قَدِ انْقَطَعَا، وَقَدَّمَتْ ذِكْرَ الْمُعَاذِ بِهِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الذكر ذُرِّيَّتِهَا، وَمُنَاجَاتِهَا اللَّهَ بِالْخِطَابِ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا يُقَدِّمُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ يَدَيْ مَقْصُودِهِ مَا يَسْتَنْزِلُ بِهِ إِحْسَانَ مَنْ يَقْصِدُهُ، ثُمَّ يأتي بعد لك بِالْمَقْصُودِ،

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«كل مولولد مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طعن مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَابْنِهَا، فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعَتْهَا: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الْحِجَابِ» .

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَطَعَنَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الشَّرِّ مَنْ يَعْرِفُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ هَذَا الْمَسِّ لَفَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إِهْلَاكِ الصَّالِحِينَ وغير

(1) سورة الواقعة: 56/ 75.

(2)

سورة الواقعة: 56/ 77.

(4- 3) سورة الواقعة: 56/ 76.

ص: 119

ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خَصَّ فِيهِ مَرْيَمَ وَابْنَهَا عِيسَى دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَسَّ لَنُفِيَ أَثَرُهُ، وَلَوْ نُفِيَ لَدَامَ الصُّرَاخُ وَالْبُكَاءُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا

يُرْوَى فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ مولولد يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» .

فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ فِي إِغْوَائِهِ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مَعْصُومَيْنِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي صِفَتِهِمَا لقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1» وَاسْتِهْلَالُهُ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ، تَخْيِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِطَمَعِهِ فِيهِ كَأَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا مِمَّنْ أَغْوِيهِ، وَنَحْوُهُ مِنَ التَّخْيِيلِ قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ:

لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا

يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ

وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمَسِّ وَالنَّخْسِ كَمَا يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْحَشْوِ فَكَلَّا، وَلَوْ سُلِّطَ إِبْلِيسُ عَلَى النَّاسِ بِنَخْسِهِمْ لَامْتَلَأَتِ الدُّنْيَا صُرَاخًا وَعِيَاطًا مِمَّا يَبْلُونَا بِهِ مِنْ نَخْسِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ مَرَّ لَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قوله: الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «2» .

فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ فَتَقَبَّلَهَا بِتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، وَلَكِنْ قَبُولٍ مَحْمُولٌ عَلَى: قَبِلَهَا قَبُولًا، يُقَالُ: قَبِلَ الشَّيْءَ قبولا وَالْقِيَاسُ فِيهِ الضَّمُّ: كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ ضَمَّ الْقَافِ، وَنَقَلَهَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فقال: قيلته قبولا وقبولا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَكَفَّلَ بِتَرْبِيَتِهَا وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَمْ يُعَذِّبْهَا سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ تَقَبَّلَ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، فَيَكُونُ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيِ: اسْتَقْبَلَهَا رَبُّهَا، نَحْوَ: تَعَجَّلْتُ الشَّيْءَ فَاسْتَعْجَلْتُهُ، وَتَقَصَّيْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَقْصَيْتُهُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَقْبَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَخَذَهُ بِأَوَّلِهِ. قَالَ:

وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ

وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا

أَيْ فأخذها فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا حِينَ وُلِدَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَقَبِلَهَا أَيْ: رَضِيَ بِهَا فِي النَّذْرِ مَكَانَ الذَّكَرِ فِي النَّذْرِ كَمَا نَذَرَتْ أُمُّهَا وَسَنَى لَهَا الْأَمَلُ فِي ذَلِكَ، وَقَبِلَ دُعَاءَهَا فِي قولها: فتقبل

(1) سورة الحجر: 15/ 39 وص: 38/ 82.

(2)

سورة البقرة: 2/ 275.

ص: 120

مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَلَمْ تُقْبَلْ أُنْثَى قَبْلَ مَرْيَمَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ: تَفَعَّلَ، بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَجَّبَ وَعَجِبَ، وتبرأ وبرىء.

وَالْبَاءُ فِي: بِقَبُولٍ، قِيلَ: زَائِدَةٌ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ.

وَالْقَبُولُ اسْمٌ لِمَا يُقْبَلُ بِهِ الشَّيْءُ: كَالسَّعُوطِ وَاللَّدُودِ لِمَا يُسْعَطُ بِهِ وَيَلِدُ، وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ لَهَا بِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الذَّكَرِ فِي النَّذْرِ، أَوْ: مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بِذِي قَبُولٍ حَسَنٍ، أَيْ: بِأَمْرٍ ذِي قَبُولٍ حَسَنٍ، وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ.

وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ النَّشْأَةِ وَالْجَوْدَةِ فِي خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَأَنْشَأَهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ صامت النَّهَارِ وَقَامَتِ اللَّيْلَ حَتَّى أَرْبَتْ عَلَى الْأَحْبَارِ. وَقِيلَ: لَمْ تَجْرِ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: حُدِّثْنَا أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُصِيبُ الذُّنُوبَ كَمَا يُصِيبُ بَنُو آدَمَ. وقيل: معنى أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أَيْ: جَعَلَ ثَمَرَتَهَا مِثْلَ عِيسَى.

وَانْتَصَبَ: نَبَاتًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، أَوْ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:

فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا، وَيُقَالُ: القبول الحسن تَرْبِيَتُهَا عَلَى نَعْتِ الْعِصْمَةِ حَتَّى قَالَتْ: أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

«1» وَالنَّبَاتُ الْحَسَنُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِيثَارُ رِضَا اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ.

وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قَالَ قَتَادَةُ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا، وَمِنَ الْقَبُولِ الْحَسَنِ وَالنَّبَاتِ الْحَسَنِ أَنْ جَعَلَ تَعَالَى كَافِلَهَا وَالْقَيِّمَ بِأَمْرِهَا وَحِفْظِهَا نَبِيًّا.

أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ عليه السلام: إِذَا رَأَيْتَ لِي طَالِبًا فَكُنْ لَهُ خَادِمًا.

وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: وَكَفَّلَهَا، بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِهَا. وَأُبَيٌّ: وَأَكْفَلَهَا، وَمُجَاهِدٌ: فَتَقَبَّلْهَا بِسُكُونِ اللَّامِ، رَبَّهَا، بالنصب على النداء، و: أنبتها، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ، و: كفلها، بِكَسْرِ الْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى الدُّعَاءِ مِنْ أُمِّ مَرْيَمَ لِمَرْيَمَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: وَكَفِلَهَا، بَكَسْرِ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ: كَفِلَ يَكْفَلُ وَكَفَلَ يكفل، كعلم يعلم.

(1) سورة مريم: 19/ 18.

ص: 121

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: زَكَرِيَّا، مَقْصُورًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَمْدُودًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ اللُّغَاتِ فِيهِ.

رُوِيَ أَنَّ حَنَّةَ حِينَ وَلَدَتْ مَرْيَمَ لَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمَلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الْأَحْبَارِ أَبْنَاءِ هَارُونَ، وَهُمْ فِي بيت المقدس كالحجة فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةُ! فَتَنَافَسُوا فِيهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ إِمَامِهِمْ، وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ، وَكَانَتْ بنو ماثان رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، عِنْدِي خَالَتُهَا. فَقَالُوا: لَا، حَتَّى نَقْتَرِعَ عَلَيْهَا. فَانْطَلَقُوا، وَكَانُوا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، إِلَى نَهْرٍ.

قِيلَ: هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنْ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: فِي عَيْنِ مَاءٍ كَانَتْ هُنَاكَ، فَأَلْقَوْا فِيهِ أَقْلَامَهُمْ، فَارْتَفَعَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَرَسَبَتْ أَقْلَامُهُمْ فَتَكَفَّلَهَا. قِيلَ: وَاسْتَرْضَعَ لَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا قَطُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

أَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فَجَرَى قَلَمُ زَكَرِيَّا عَكْسَ جَرْيَةِ الْمَاءِ. وَقِيلَ: عَامَتْ مَعَ الْمَاءِ مَعْرُوضَةً، وَبَقِيَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَاقِفًا كَأَنَّمَا رَكَزَ فِي طِينٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ زَكَرِيَّا كَانَ تَزَوَّجَ خَالَتَهَا لِأَنَّهُ وَعِمْرَانَ كَانَا سِلْفَيْنِ عَلَى أُخْتَيْنِ، وَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا يَحْيَى، وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ مَرْيَمَ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُ: كَانَ زَكَرِيَّا تَزَوَّجَ ابْنَةً أُخْرَى لِعِمْرَانَ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ

قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَحْيَى وَعِيسَى: ابْنَا الْخَالَةِ.

وَقِيلَ: إِنَّمَا كَفَلَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا هَلَكَتْ، وَكَانَ أَبُوهَا قَدْ هَلَكَ وَهِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهَا. وَقِيلَ: كَانَ زَكَرِيَّا ابْنَ عَمِّهَا وَكَانَتْ أُخْتُهَا تَحْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَرَعْرَعَتْ وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ إِنْفَاقِ مَرْيَمَ، فَاقْتَرَعُوا عَلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، فَفَعَلُوا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، فَجَعَلَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَهَذَا اسْتِهَامٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ، هَذَا الْمُرَادُ مِنْهُ دَفَعَهَا لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ مِنْهُ: أَخَذَهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ زَكَرِيَّا قَدْ كَفَلَهَا مِنْ لَدُنِ الطُّفُولَةِ دُونَ اسْتِهَامٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ أَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا كَفَلَهَا بِالِاسْتِهَامِ، وَلَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ زَكَرِيَّا كَفَلَهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا أَوْلَى بِكَفَالَتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ أَقْرِبَائِهَا مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا، وَلِأَنَّ خَالَتَهَا أَوْ أُخْتَهَا تَحْتَهُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، فَهُوَ أَوْلَى بِهَا لِعِصْمَتِهِ.

وَزَكَرِيَّا هُوَ ابْنُ أَذْنِ بْنِ مُسْلِمٍ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهم السلام. وَذَكَرَ النَّقِيبُ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْجَوَّانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَالْيَسَعَ، وَإِلْيَاسَ، وَالْعُزَيْرَ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا زَكَرِيَّا مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ، وَلَا يَكُونُ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ، لِأَنَّ مَرْيَمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وسليمان مِنْ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وموسى وهارون مِنْ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ.

ص: 122

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى حَتَّى إِذَا شَبَّتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ بَنَى لَهَا مِحْرَابًا فِي الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ بَابَهُ فِي وَسَطِهِ لَا يُرْقَى إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ، مِثْلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ إِذَا خَرَجَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا الْبَابَ وَمَعَهُ الْمِفْتَاحُ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَإِذَا حَاضَتْ أَخْرَجَهَا إِلَى مَنْزِلَهِ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا أُمِّ يَحْيَى أَوْ أُخْتِهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ رَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: كَانَتْ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ.

كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَكَلَّمَتْ فِي الْمَهْدِ وَلَمْ تُلْقَمْ ثَدْيًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنَ الْجَنَّةِ.

وَالَّذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِي المهد ثلاثة: عيسى، وصاحب جُرَيْجٍ، وَابْنُ الْمَرْأَةِ. وَوَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ شَاذٍّ: صَاحِبُ الْأُخْدُودِ. وَالْأَغْرَبُ أَنَّ مَرْيَمَ منهم.

وقيل: كان جريح النَّجَّارُ، وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ حِينَ كَفَلَهَا بِالْقُرْعَةِ وَقَدْ ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، يَأْتِيهَا مِنْ كَسْبِهِ بِشَيْءٍ لَطِيفٍ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، فَيَزْكُو ذَلِكَ الطَّعَامُ وَيَكْثُرُ، فَيَدْخُلُ زَكَرِيَّا عَلَيْهَا فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وُسْعِ جُرَيْجٍ، فَيَسْأَلُهَا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ كَبُرَتْ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلصَّوَابِ.

وَقِيلَ: كَانَتْ تُرْزَقُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِ بِلَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِنَبًا فِي مِكْتَلٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ عِنَبٌ، وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَأْتِيهَا بِالرِّزْقِ.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي كَفَلَهَا بِالتَّرْبِيَةِ هُوَ زَكَرِيَّا لَا غَيْرُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَاهُ لَمَّا كفلها مؤونة رِزْقِهَا، وَوَضَعَ عَنْهُ بِحُسْنِ التكفل مشقة التكلف.

و: كلما، تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ تَعَهُّدِهِ وَتَفَقُّدِهِ لِأَحْوَالِهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الرِّزْقِ عِنْدَهَا كُلَّ وَقْتٍ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ غِذَاءٌ يُتَغَذَّى بِهِ لَمْ يَعْهَدْهُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُوَجِّهْهُ هُوَ. وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَ الرِّزْقَ هُنَا بِأَنَّهُ فَيْضٌ كَانَ يَأْتِيهَا مِنَ اللَّهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ آدَمِيٍّ، فَسَمَّاهُ رِزْقًا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ، انْتَهَى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ.

قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اسْتَغْرَبَ زَكَرِيَّا وُجُودَ الرِّزْقِ عِنْدَهَا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ أَتَى بِهِ، وَتَكَرَّرَ وُجُودُهُ عِنْدَهَا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَأَلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْ

ص: 123

وُصُولِ الرِّزْقِ إِلَيْهَا، وَكَيْفَ أتى هذا الرزق؟ و: أنّى، سُؤَالٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنِ الْمَكَانِ وَعَنِ الزَّمَانِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْجِهَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ؟ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، أَيْ كَيْفَ تَهَيَّأَ وُصُولُ هَذَا الرِّزْقِ إِلَيْكِ؟ وَقَالَ الْكُمَيْتُ:

أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ أَتَاكَ الطَّرَبُ

مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةٌ وَلَا طَرَبُ

وَجَوَابُهَا سُؤَالَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ: يَأْتِ بِهِ آدَمِيٌّ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ رِزْقٌ يَتَعَهَّدُنِي بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ كُلَّمَا وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ فِي الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّانِي مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، فَتُجِيبُهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتُحِيلُهُ عَلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَمُبْرِزِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ الْمَحْضِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَرِيحُ قَلْبُ زَكَرِيَّا بِكَوْنِهِ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى تَعَهُّدِ مَرْيَمَ، وَبِكَوْنِهِ يَشْهَدُ مَقَامًا شَرِيفًا، وَاعْتِنَاءً لَطِيفًا بِمَنِ اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي كَفَالَتِهِ.

وَهَذَا الْخَارِقُ الْعَظِيمُ، قِيلَ: هُوَ بِدَعْوَةِ زَكَرِيَّا لَهَا بِالرِّزْقِ، فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصَ زَكَرِيَّا.

وَقِيلَ: كَانَ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّةِ وَلَدِهَا عِيسَى. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَبِيهَانِ بِأَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ يَنْفُونَ وُجُودَ الْخَارِقِ على غَيْرِ النَّبِيِّ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ نَبِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا مَرْيَمَ، وَلَوْ كَانَ خَارِقًا لِأَجْلِ زَكَرِيَّا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ زَكَرِيَّا، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ نُبُوَّةِ عِيسَى، فَهُوَ كَانَ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْخَارِقُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «1» وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُعْجِزَاتِ زَكَرِيَّا، دَعَا لَهَا عَلَى الْإِجْمَالِ لِأَنْ يُوَصِّلَ لَهَا رِزْقَهَا، وَرُبَّمَا غَفَلَ عَنْ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، سَأَلَ عَنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ، فَدَعَا بِهِ، أَوْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِهِ إِنْسَانًا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَسَأَلَ لِئَلَّا يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي.

إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ مِنْ كَلَامِ مَرْيَمَ، وَأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم..

(1) سورة الأنبياء: 21/ 91.

ص: 124

وَرَوَى جَابِرٌ حَدِيثًا مُطَوَّلًا فِيهِ تَكْثِيرُ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهَا: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكِ شَبِيهَةً بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ. الْعُمُومُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي قَوْلِهِ:

عَلَى الْعَالَمِينَ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: آدَمَ، وَنُوحًا، وَآلَ إبراهيم، وآل عِمْرَانَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ. وَالْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، فِي قَوْلِهِ: ذَرِّيَّةً، فِيمَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْآبَاءُ، وَالْإِبْهَامُ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بَطْنِي، لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا أَتَتْ بِلَفْظِ: مَا، الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالتَّأْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَالْخَبَرُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاعْتِذَارُ فِي قَوْلِهَا: وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَالِاعْتِرَاضُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ التَّاءَ أَوْ كَسَرَهَا. وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ وَمَعْدُولِهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ كَسَرَ التَّاءَ، خَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهَا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا، إِلَى خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا وَضَعْتِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: وَأَنِّي، وفي: زكريا، وزكريا، وَفِي:

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا، وَفِي: رِزْقًا وَيَرْزُقُ. وَالْإِشَارَةُ، وَهُوَ أَنْ يُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ عَنِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فِي قَوْلِهِ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ هُوَ رِزْقٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي قَوْلِهِ: رِزْقًا، أَتَى بِهِ مُنَكَّرًا مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ أَجْنَاسٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَقْتَضِي الشُّيُوعَ وَالْكَثْرَةَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِاعْتِبَارِهَا.

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أَصْلُ: هُنَالِكَ، أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً لِلْمَكَانِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَقِيلَ بِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دَعَا زَكَرِيَّا، أَوْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَّا رَأَى هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ لِمَرْيَمَ، وَأَنَّهَا مِمَّنِ اصْطَفَاهَا اللَّهُ، ارْتَاحَ إِلَى طَلَبِ الْوَلَدِ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلِأَنْ يَرِثَ مِنْهُ وَمِنْ آلِ يَعْقُوبَ، كَمَا قَصَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ من طلب كَوْنُ امْرَأَتِهِ عَاقِرًا، إِذْ رَأَى مِنْ حَالِ مَرْيَمَ أَمْرًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ وَلَدًا مَعَ كَوْنِ امْرَأَتِهِ كَانَتْ عَاقِرًا، إِذْ كَانَتْ حَنَّةُ قَدْ رُزِقَتْ مريم بعد ما أَيِسَتْ مِنَ الْوُلْدِ.

وَانْتِصَابُ: هُنَالِكَ، بِقَوْلِهِ: دَعَا، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ السَّجَاوَنْدِيِّ: أَنَّ هناك في المكان، وهنا لك فِي الزَّمَانِ، وَهُوَ وَهْمٌ، بَلِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَكَانِ سَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِهِ اللَّامُ وَالْكَافُ أَوِ الْكَافُ فَقَطْ أَوْ لَمْ يَتَّصِلَا. وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ إِلَى الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ: عِنْدَ، أَنْ يَكُونَ لِلْمَكَانِ، ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهَا لِلزَّمَانِ، كَمَا تَقُولُ: آتِيكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

ص: 125

قِيلَ: وَاللَّامُ فِي: هُنَالِكَ، دَلَالَةٌ عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ، فَإِنَّهُ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَإِجَابَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: دَخَلَتِ اللَّامُ لِبُعْدِ مَنَالِ هَذَا الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا أُدْخِلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ «1» لِبُعْدِ مَنَالِهِ وَعِظَمِ ارْتِفَاعِهِ وَشَرَفِهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: كَانَتْ نَفْسُهُ تُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا يَبْقَى بِهِ الذِّكْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، إِذِ الْأَدَبُ أَنْ لَا يَدْعُوَ لِمُرَادٍ إِلَّا فِيمَا هُوَ مُعْتَادُ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهَا مَا هُوَ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ. انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ: كَانَتْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ. وَفِي قَوْلِهِ: هُنالِكَ دَعا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ يَتَوَخَّى الْعَبْدُ بِدُعَائِهِ الْأَمْكِنَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْأَزْمِنَةَ الْمُشَرَّفَةَ.

قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً هَذِهِ الْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلدُّعَاءِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَنَادَاهُ بِلَفْظِ: رَبِّ، إِذْ هُوَ مُرَبِّيهِ وَمُصْلِحُ حَالِهِ، وَجَاءَ الطَّلَبُ بِلَفْظِ: هَبْ، لِأَنَّ الْهِبَةَ إِحْسَانٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ يَكُونُ عِوَضًا لِلْوَاهِبِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ مَا لَا تَسَبُّبَ فِيهِ: لَا مِنَ الْوَالِدِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلَا مِنَ الْوَالِدَةِ لِكَوْنِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَالْوُجُودِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، أَتَى هِبَةً مَحْضَةً مَنْسُوبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ مِنْ جِهَةِ مَحْضِ قُدْرَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ سَبَبٍ.

وَتَقَدَّمَ أَنَّ: لدن، لما قرب، و: عند، لِمَا قَرُبَ وَلِمَا بَعُدَ، وَهِيَ أَقَلُّ إِبْهَامًا مِنْ:

لَدُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ: عند، تقع جوابا لأين، وَلَا تَقَعُ لَهُ جَوَابًا: لَدُنْ؟.

ومِنْ لَدُنْكَ مُتَعَلِّقٌ: بِهَبْ، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ: ذَرِّيَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَعَلَى هَذَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالذُّرِّيَّةُ جِنْسٌ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَكْثَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:

أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ هُنَا وَاحِدًا دَلِيلُ ذَلِكَ طَلَبُهُ: وَلِيًّا، وَلَمْ يَطْلُبْ: أَوْلِيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِيمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ تَعَقُّبٌ، وَإِنَّمَا الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلِيُّ اسْمَا جِنْسٍ يَقَعَانِ لِلْوَاحِدِ فَمَا زَادَ، وَهَكَذَا كَانَ طَلَبُ زَكَرِيَّا. انْتَهَى.

وَفَسَّرَ: طَيِّبَةً، بِأَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً فِي الْخُلُقِ وَفِي الدِّينِ تَقِيَّةً. وَقَالَ الرَّاغِبُ: صَالِحَةً، وَاسْتِعْمَالُ الصَّالِحِ فِي الطَّيِّبِ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبِيثِ فِي ضِدِّهِ، عَلَى أَنَّ فِي الطَّيِّبِ زِيَادَةَ مَعْنًى عَلَى الصَّالِحِ. وَقِيلَ: أَرَادَ: بِطَيِّبَةٍ، أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي الدِّينِ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ أراد بالذرية

(1) سورة البقرة: 2/ 2. [.....]

ص: 126

مَدْلُولَهَا مِنْ كَوْنِهَا اسْمَ جِنْسٍ، وَلَمْ يُقَيَّدْ بِالْوَحْدَةِ، فَوَصَفَهَا: بِطَيِّبَةٍ، وَاضِحٌ! وَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَكَرًا وَاحِدًا، فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ:

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى

سُكَاتٍ إِذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بأدْرَدَا

وَكَمَا قَالَ:

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى

وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ

وَفِي قَوْلِهِ: هَبْ لِي دَلَالَةٌ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالدُّعَاءِ بِحُصُولِهِ وَهِيَ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ.

إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِأَنَّهُ يَهِبُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا، أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُجِيبُ الدُّعَاءِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى السَّمَاعِ الْمَعْهُودِ، بَلْ مِثْلُ

قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.

عَبَّرَ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْمَقْصِدِ، وَاقْتَفَى فِي ذَلِكَ جَدَّهُ الْأَعْلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِذْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ «1» فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَزَقَهُ عَلَى الْكِبَرِ كَمَا رَزَقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْكِبَرِ، وَكَانَ قَدْ تَعَوَّدَ مِنَ اللَّهِ إِجَابَةَ دُعَائِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا «2» ؟.

قِيلَ: وَذَكَرَ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ دُعَائِهِ ثَلَاثَ صِيَغٍ: أَحَدُهُا: هَذَا، وَالثَّانِي: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «3» إِلَى آخِرِهِ. وَالثَّالِثُ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ «4» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ تَكَرَّرَ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الصِّيَغِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ زَمَانًا. انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَكْرِيرُ الدُّعَاءِ، كَمَا قِيلَ: لِأَنَّهُ حَالَةُ الْحِكَايَةِ قَدْ يَكُونُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً «5» عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِسْهَابِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّطِ.

وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ إِنَّمَا هِيَ بِالْمَعْنَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِسَانُهُمْ عَرَبِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ وَاحِدٌ مُتَعَقَّبٌ بِالتَّبْشِيرِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَفِي قَوْلِهِ:

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى «6» وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي مريم: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ «7» اعْتِقَابُ التَّبْشِيرِ الدُّعَاءُ لَا تَأَخُّرُهُ عَنْهُ.

(1) سورة إبراهيم: 14/ 39.

(2)

سورة مريم: 19/ 4.

(3)

سورة مريم: 19/ 4.

(5- 4) سورة الأنبياء: 21/ 89.

(6)

سورة الأنبياء: 21/ 90.

(7)

سورة مريم: 19/ 7.

ص: 127

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ: النِّدَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّبْشِيرِ وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرَعَ بِهِ وَيَنْهَى إِلَى نَفْسِ السَّامِعِ لِيُسَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى عُرْفِ الْوَحْيِ، بَلْ نِدَاءٌ كَمَا نَادَى الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُ.

وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُنَادَاةُ تَكُونُ لِتَبْشِيرٍ وَلِتَحْزِينٍ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ،

كَمَا جَاءَ. «يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا موت»

وجاء: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً «1» وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْبِشَارَةُ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ لَا أَنَّ لَفْظَ نَادَتْهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا بِالْوَضْعِ وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ: أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يُنَادُوهُ، أَوْ يَكُونَ نَادَوْهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ لَكَ: بَلِّغْ زَيْدًا كَذَا وَكَذَا، فَتَقُولَ لَهُ: يَا زَيْدُ جَرَى كَذَا وَكَذَا. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ.

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَقَبَّلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ، فَنَادَتْهُ. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنَادِيَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَعَثَ تَعَالَى مَلَائِكَةً إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَفِي غَيْرِ مَا قَصَّهُ.

وَذَكَرَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، يَعْنِي: إِنَّ الَّذِي نَادَاهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، كَمَا أَنَّ قولهم:

فلان يركب الخيل لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَرْكُوبَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْفَضْلُ: الرَّئِيسُ يُخْبَرُ عَنْهُ أَخْبَارُ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، أَوْ لِاجْتِمَاعِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ فِيهِ، الْمُتَفَرِّقَةِ فِي غَيْرِهِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بالكثرة لذلك. قيل: وجبريل رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَادَاهُ، مُمَالَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَنَادَتْهُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ و: الملائكة، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْعَلَامَةُ، وَأَنْ لَا يَلْحَقَ. تَقُولُ: قَامَ الرِّجَالُ، وَقَامَتِ الرِّجَالُ. وَإِلْحَاقُ الْعَلَامَةِ قِيلَ. أَحْسَنُ، أَلَا تَرَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ؟ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا؟ وَمُحَسَّنٌ الْحَذْفُ هُنَا الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ.

وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ

ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يقرب

(1) سورة غافر: 40/ 36.

ص: 128

الْقُرْبَانَ، وَيَفْتَحُ بَابَ الْمَذْبَحِ، فَلَا يَدْخُلُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ. فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، يَعْنَى الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْمَذْبَحِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَفَزِعَ مِنْهُ، فَنَادَاهُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ: يَا زَكَرِيَّا! إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ.

وَقِيلَ:

الْمِحْرَابُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْقِبْلَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ فَفِي الْمَكَانِ الَّذِي رَأَى فِيهِ خَرْقَ الْعَادَةِ، فِيهِ دَعَا، وَفِيهِ جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي شَرِيعَتِهِمْ.

وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هُنَا الدُّعَاءُ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِدَاءِ الْمُتَلَبِّسِ بِالصَّلَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَغْلٌ لَهُ عَنْ صَلَاتِهِ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، و: يصلي، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً: لقائم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضمير المستكن في: قَائِمٌ، أَوْ: مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَ حَالَيْنِ مِنْ ذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانيا: لهو، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ لِمُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ.

وَيَتَعَلَّقُ: فِي الْمِحْرَابِ، بِقَوْلِهِ: يُصَلِّي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بقائم، فِي وَجْهٍ مِنِ احْتِمَالَاتِ إِعْرَابِ: يُصَلِّي، إِلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ: يُصَلِّي، حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي اسْتَكَنَّ فِي: قَائِمٌ، فَيَجُوزُ. لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَتَّحِدُ الْعَامِلُ فِيهِ وَفِي: يُصَلِّي، وَهُوَ: قَائِمٌ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذْ ذَاكَ فِي الْحَالِ هُوَ: قَائِمٌ، إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الْحَالِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ.

وَفِي قَوْلِهِ: قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ قَالُوا: دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قِيَامِ الْإِمَامِ فِي مِحْرَابِهِ، وَقَدْ كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا.

وَرَقَّقَ وَرْشٌ رَاءَ: الْمِحْرَابِ، وَأَمَالَ الرَّاءَ ابْنُ ذَكْوَانَ إِذَا كَانَ: الْمِحْرَابِ، مَجْرُورًا وَنَسَبَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْجَرِّ.

أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: إِنَّ اللَّهَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْكَسْرُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقَالَتْ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لَا إِضْمَارَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْقَوْلِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ: كَالنِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ، يَجْرِي مَجْرَى الْقَوْلِ فِي الْحِكَايَةِ، فَكُسِرَتْ بِنَادَتْهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: قَالَتْ لَهُ.

ص: 129

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَعْمُولٌ لِبَاءٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الْأَصْلِ، أَيْ بِتَبْشِيرٍ:

وَحِينَ حُذِفَتْ فَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ بالفعل أوجر بِالْبَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، قَوْلَانِ قَدْ تَقَدَّمَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا زكرياء إِنَّ اللَّهَ. فَقَوْلُهُ: يَا زكرياء، هُوَ مَعْمُولُ النِّدَاءِ. فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ فَتْحُ: إِنَّ، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدِ اسْتَوْفَى مَفْعُولَيْهِ، وَهُمَا:

الضَّمِيرُ وَالْمُنَادَى. وَتَبْلِيغُ الْبِشَارَةِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَارَةً مِنَ الرَّسُولِ، بَلْ مِنَ الْمُرْسِلِ. أَلَا تَرَى إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يُبَشِّرُكَ؟ وَقَدْ قَالَ فِي سورة مريم: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ «1» فَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: يُبَشِّرُكَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَقِصَّةِ مَرْيَمَ، وَفِي الْإِسْرَاءِ، وَفِي الْكَهْفِ، وَفِي الشُّورَى، مِنْ: بَشَرَ، مُخَفَّفًا. وَافَقَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو في الشُّورَى، زَادَ حَمْزَةُ فِي الْحِجْرِ: أَلَا فَبِمَ تُبَشِّرُونِ، ومريم. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يُبَشِّرُ، مِنْ بَشَّرَ الْمُضَعَّفِ الْعَيْنِ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ يُبَشِّرُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَبْشَرَ، وَهِيَ لُغًى ثَلَاثٌ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً

أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا

وَقَالَ الْآخَرُ:

يَا بِشْرُ حَقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ

هَلَّا غَضِبْتَ لَنَا وَأَنْتَ أَمِيرُ

بِيَحْيَى، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: نُبَشِّرُكَ، وَالْمَعْنَى: بِوِلَادَةِ يَحْيَى مِنْكَ وَمِنَ امْرَأَتِكَ، فَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَمَنْعُ صَرْفِهِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَلِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنُ الْفِعْلِ، كَيَعْمُرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا.

وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَاحَظُوا فِيهِ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْحَيَاةِ.

قَالَ قَتَادَةُ: سَمَّاهُ اللَّهُ يَحْيَى لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الحسن بن المفضل: حي بِالْعِصْمَةِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ اسْتُشْهِدَ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ.

رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ» .

وَقَالَ مُقَاتِلٌ:

سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بَيْنَ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ. وقال الزجاج: حي بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيهَا.

(1) سورة مريم: 19/ 7.

ص: 130

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَمُوتُ فَسُمِّيَ يَحْيَى تَفَاؤُلًا، كَالْمَفَازَةِ وَالسَّلِيمِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى.

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ هُوَ عِيسَى، وَسَيَأْتِي لِمَ سُمِّيَ كَلِمَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ.

قَالَ الرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُ: كَانَ يَحْيَى أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى وَشَهِدَ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ يَحْيَى أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقُتِلَ قَبْلَ رَفْعِ عِيسَى، وَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي لَأَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَتَحَرَّكُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْجُدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُومِي بِرَأْسِهِ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ التَّصْدِيقِ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْقَعَ الْمُفْرَدَ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، فَالْكَلِمَةُ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَدْ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً.

رُوِيَ أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ ذُكِرَ لِحَسَّانٍ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، أَيْ قَصِيدَتَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ»

وَقِيلَ مَعْنَى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ هُنَا أَيْ: بِوَعْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ: بِكِلْمَةٍ، بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ مِثْلَ: كَتِفٌ وَكِتْفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ فَاءَ الْكَلِمَةِ لِعَيْنِهَا، فَيَقِلُّ اجْتِمَاعُ كَسْرَتَيْنِ، فَسَكَّنَ الْعَيْنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ اسْتِثْقَالًا لِلْكَسْرَةِ فِي الْعَيْنِ.

وَانْتُصِبَ: مُصَدِّقًا، عَلَى الْحَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ بِحَسْبِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَسَيِّداً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّيِّدُ الْكَرِيمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَلِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَيِّدٌ لَا تَحِلُّ حَبْوَتُهُ

بَوَادِرَ الْجَاهِلِينَ إِنْ جَهِلُوا

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ سَالِمٌ: التَّقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرِيفُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْفَقِيهُ الْعَالِمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: الرَّاضِي بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْمُطَاعُ الْفَائِقُ أَقْرَانَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْمُتَوَكِّلُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَظِيمُ الْهِمَّةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: السَّيِّدُ مَنْ لَا يَحْسُدُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْحَسُودُ لَا يَسُودُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: السَّيِّدُ الَّذِي يَفُوقُ فِي الْخَيْرِ قَوْمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: السَّيِّدُ الْمَالِكُ الَّذِي

ص: 131

تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَلِهَذَا قِيلَ لِلزَّوْجِ: سَيِّدٌ. وَقِيلَ: سَيِّدُ الْغُلَامِ، وَقَالَ سَلَمَةُ عَنِ الْفَرَّاءِ: السَّيِّدُ الْمَالِكُ، وَالسَّيِّدُ الرَّئِيسُ، وَالسَّيِّدُ الْحَكِيمُ، وَالسَّيِّدُ السَّخِيُّ.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «السَّيِّدُ مَنْ أُعْطِيَ مَالًا وَرُزِقَ سَمَاحًا، فَأَدْنَى الْفُقَرَاءَ، وَقَلَّتْ شِكَايَتُهُ فِي النَّاسِ» .

وَفِي مَعْنَاهُ: مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ.

وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ لِبَنِي سَلِمَةَ وَقَدْ سَأَلَهُمْ مَنْ سَيِّدُكُمْ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلِهِ فَقَالَ عليه السلام: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» .

وَسُمِّيَ أَيْضًا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيِّدًا فِي

قَوْلِهِ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» .

أَيْ رَئِيسِكُمْ وَالْمُطَاعُ فِيكُمْ. وَسُمِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: سَيِّدًا. فِي

قَوْلِهِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّيِّدُ الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ أَيْ يَفُوقُهَا فِي الشَّرَفِ. وَكَانَ يَحْيَى قَائِمًا لِقَوْمِهِ، قَائِمًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ سَيِّئَةً قَطُّ، وَيَا لَهَا مِنْ سِيَادَةٍ؟! انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مُلَخَّصُهُ: خَصَّهُ اللَّهُ بِذِكْرِ السُّؤْدُدِ، وَهُوَ الِاعْتِمَالُ فِي رِضَا النَّاسِ عَلَى أَشْرَفِ الْوُجُوهِ دُونَ أَنْ يُوقَعَ فِي بَاطِلٍ، وَتَفْصِيلُهُ: بَذْلُ النَّدَى وَهُوَ الْكَرَمُ، وَكَفُّ الْأَذَى وَهِيَ الْعِفَّةُ فِي الْفَرْجِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ وَهُنَا هُوَ الْحُلْمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْغَرَامَاتِ وَجَبْرُ الْكَسِيرِ وَالْإِنْقَاذُ مِنَ الْهَلَكَاتِ. وَقَدْ يُوجَدُ من الثقات الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُبْرِزُ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَدْ يُوجَدُ مَنْ يَبْرُزُ فِيهَا، فَيُسَمَّى سَيِّدًا وَإِنْ قَصَّرَ فِي مَنْدُوبٍ، وَمُكَافَحَةٍ فِي حَقٍّ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ بِاللَّائِمَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا رَأَيْتُ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ؟ قِيلَ لَهُ: وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ قَالَ: هُمَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمُعَاوِيَةُ أَسْوَدُ مِنْهُمَا! انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيرِ السَّيِّدِ كُلُّهَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا فِي وَصْفِ يَحْيَى عليه السلام، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ هُمُ النَّبِيُّونَ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَسَيِّدًا، دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى مَنْ فِيهِ سِيَادَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَدْحِ. وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلظَّالِمِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ.

وَوَرَدَ النَّهْيُ: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا»

، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ أَطَعْنا سادَتَنا «1» فَعَلَى مَا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَزَعْمِهِمْ.

(1) سورة الأحزاب: 33/ 67.

ص: 132

قِيلَ: وَمَا

جَاءَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ مِنْ قَوْلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ علينا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ، تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ»

، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَقَدْ سَمَّى هُوَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ سَيِّدًا، وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ.

وَحَصُوراً هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَحَصُورًا لَا يُرِيدُ نِكَاحًا

لَا وَلَا يَبْتَغِي النِّسَاءَ الصِّبَاحَا

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ.

وَقِيلَ: الْحَاصِرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ:

عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَقِيلَ: الْحَصُورُ الْهَيُوبُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ، وَالْمُسَيَّبُ: هُوَ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا ذَكَرَ لَهُ يَتَأَتَّى بِهِ النِّكَاحُ وَلَا يَنْزِلُ.

وَإِيرَادُ الْحَصُورِ وَصْفًا فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِعْلِ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ مَقَامُ يَحْيَى عليه السلام أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ، وَلَعَلَّ تَرْكَ النِّسَاءِ زَهَادَةٌ فِيهِنَّ كَانَ شَرْعُهُمْ إِذْ ذَاكَ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ طَعَامُ يَحْيَى الْعُشْبَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَارُ عَلَى عَيْنَيْهِ لَخَرَقَهُ، وَكَانَ الدَّمْعُ اتَّخَذَ مَجْرًى فِي وَجْهِهِ.

قِيلَ: وَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَهُوَ فِي شَغْلٍ عَنِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا.

وَقِيلَ: الْحَصُورُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الْمَيْسِرِ. قَالَ الْأَخْطَلُ:

وَشَارِبٌ مُرْبِحٌ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي

لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَآرٍ

فَاسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ: مَرَّ وَهُوَ طِفْلٌ بِصِبْيَانٍ فَدَعَوْهُ إِلَى اللَّعِبِ، فَقَالَ: مَا لِلَعِبٍ خُلِقْتُ.

وَالْحَصُورُ وَالْحَصِرُ كما تم السِّرِّ. قَالَ جَرِيرُ:

وَلَقَدْ تشاقطني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا

حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ الْعَاصِي، مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا للرجل إِلَّا مِثْلَ هَذَا الْعُودِ، يُشِيرُ إِلَى عُوَيْدٍ صَغِيرٍ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ ذَكَرُهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقَذَاةِ، يُشِيرُ إِلَى

ص: 133

قَذَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخَذَهَا.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَحَصُوراً مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّبَتُّلَ لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِالْعَكْسِ.

وَنَبِيًّا هَذَا الْوَصْفُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَوْصَافِ، فَذَكَرَ أولا الوصف الذي تبنى عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ بَعْدَهُ، وَهُوَ: التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ السِّيَادَةَ وَهِيَ الْوَصْفُ يَفُوقُ بِهِ قَوْمَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الزَّهَادَةَ وَخُصُوصًا فِيمَا لَا يَكَادُ يُزْهَدُ فِيهِ وَذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا وَهِيَ: رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَشَابُهٌ مِنْ أَوْصَافِ مَرْيَمَ عليها السلام، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَرْيَمُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَةِ، دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَهِبَ لَهُ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى عَلَى وَفْقِ مَا طَلَبَ، فَالتَّصْدِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى، وَكَانَتْ مَرْيَمُ سَيِّدَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَصِّ الرَّسُولِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَكَانَ يَحْيَى سَيِّدًا، فَاشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ عَذْرَاءَ بَتُولًا لَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ وَكَانَ يَحْيَى لَا يَقْرُبُ النِّسَاءَ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ أَتَاهَا الْمَلَكُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحاورها عَنِ اللَّهِ بِمُحَاوَرَاتٍ حَتَّى زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً، وَكَانَ يَحْيَى نَبِيًّا، وَحَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ هُوَ أَنَّ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْوَصْفِ.

مِنَ الصَّالِحِينَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ أَصْلَابِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَصَالِحًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «1» قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ مِنْ صَالِحِي الْحَالِ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِذِكْرِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ صَلَاحَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمُ. انْتَهَى.

وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ حُصُولِ النُّبُوَّةِ لَهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «2» قِيلَ: وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ قَدْرًا مِنَ الصَّلَاحِ لَوِ انْتَقَصَ لَانْتَفَتِ النُّبُوَّةُ، ثُمَّ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُمْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَ نَصِيبًا مِنَ الصَّلَاحِ كَانَ أَعْلَى قَدْرًا.

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الصَّلَاحُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي غَيْرِهِمْ

(1) سورة البقرة: 2/ 130.

(2)

سورة النمل: 27/ 19.

ص: 134

لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْضُهَا، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ لَكِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ فِي الْأَنْبِيَاءِ هُوَ تَحْقِيقُ الصَّلَاحِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْضِهَا، فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ حَتَّى يَنْقَطِعَ احْتِمَالُ جَوَازِ النُّبُوَّةِ فِي مُطْلَقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِاسْمِ الصَّلَاحِ مُفِيدًا.

وَقِيلَ: مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الدَّوَامِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْأَمْنِ مِنْ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ.

قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ سُؤَالُهُ به: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً فَلَا شَكَّ فِي إِمْكَانِيَّةِ ذَلِكَ، وَجَوَازِهِ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَبَشَّرَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فَمَا وَجْهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ؟.

وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَيُولَدُ لِي عَلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَكَوْنِ امْرَأَتِي عَاقِرًا؟ أَيْ بَلَغَتْ سَنَّ مَنْ لَا تَلِدُ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَامْرَأَتُهُ بَلَغَتْ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَوْمَ بُشِّرَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً.

أَمْ أُعَادُ أَنَا وَامْرَأَتِي إِلَى سِنِّ الشَّبِيبَةِ وَهَيْئَةِ مَنْ يُولَدُ لَهُ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُولَدُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. قَالَ مَعْنَاهُ: الْحَسَنُ، وَالْأَصَمُّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ اسْتَعْلَمَ: أَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْ صُلْبِهِ نَفْسِهِ أَمْ من بينه؟.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ نَسِيَ السُّؤَالَ، وَكَانَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالتَّبْشِيرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتُّونَ سَنَةً.

الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْلَامَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْظَامِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يَحْدُثُ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْآيَاتِ وَهُوَ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، لِكَوْنِهِ كَالْمَدْهُوشِ عِنْدَ حُصُولِ مَا كان مستبعدا لَهُ عَادَةً.

الْخَامِسُ: إِنَّمَا سَأَلَ لِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْجِمَاعِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ: هَلْ يُقَوِّيهِ عَلَى الْجِمَاعِ وَامْرَأَتُهُ عَلَى الْقَبُولِ عَلَى حَالِ الْكِبَرِ؟

السَّادِسُ: سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ الْوَلَدُ مِنَ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا.

السَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ لِيُكَدِّرَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَدْرِي

ص: 135

مَنْ نَادَاكَ؟ قَالَ: مَلَائِكَةُ رَبِّي! قَالَ لَهُ: بَلْ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ لَأَخْفَاهُ لَكَ كَمَا أَخْفَيْتَ نِدَاءَكَ، فَخَالَطَتْ قَلْبَهُ وَسْوَسَةٌ، فَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ الْقَاضِي: لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الرُّسُلِ كَلَامُ الْمَلَكِ بِكَلَامِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَبْقَ الْوُثُوقُ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَقُومَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى الْوَحْيِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا لَا يُؤَكَّدُ بِالْمُعْجِزَةِ، فَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ، فَيَطْلُبُ زَوَالَهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ. كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ. انْتَهَى. وَعَلَى مَا قَالَهُ:

لَوْ كَانَ اسْتِبْعَادًا لَمَا سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُ إِلَّا مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّهِمْ كَثِيرُ الْوُقُوعِ.

وَ: يَكُونُ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَفَاعِلُهَا غُلَامٌ، أَيْ: أنَّى يَحْدُثُ لِي غُلَامٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: دُخُولُ كَانَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، إِذْ تَقَدُّمُ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا: يَكُونُ، إِنْ كَانَتْ تَامَّةً، أَوِ الْعَامِلُ فِي: لِي، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً.

وَقِيلَ: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي: بَلَغَنِي، وَالْعَامِلُ بَلَغَنِي، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِعْلِيَّةً لِأَنَّ الْكِبَرَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَازِمًا، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً وَالْخَبَرُ: عاقر، لأن كَوْنُهَا عَاقِرًا أَمْرٌ لَازِمٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا طَارِئًا عَلَيْهَا، فَنَاسَبَ لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، وَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَمَعْنَى: بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، أَثَّرَ فِيَّ: وَحَقِيقَةُ الْبُلُوغِ فِي الْأَجْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْبَالِغُ إِلَى الْمَبْلُوغِ إِلَيْهِ.

وَأَسْنَدَ الْبُلُوغَ إِلَى الْكِبَرِ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، كَأَنَّ الْكِبَرَ طَالِبٌ لَهُ، لِأَنَّ الْحَوَادِثَ طَارِئَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّهَا طَالِبَةٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَمَا جَاءَ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا «1» وَكَمَا قَالَ:

مِثْلَ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ

نَجْرَانَ أَوْ بلغت سوآتهم هَجَرُ

وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا بَلَغْتَ الْكِبَرَ فَقَدْ بَلَغَكَ الْكِبَرُ. انْتَهَى. وَهُنَا قَدَّمَ حَالَ نَفْسِهِ وَأَخَّرَ حَالَ

(1) سورة مريم: 19/ 69.

ص: 136

امْرَأَتِهِ، وَفِي مَرْيَمَ عَكَسَ، فَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَا تُرَاعَى الْأَلْفَاظُ فِي الْحِكَايَةِ إِنَّمَا تُرَاعَى الْمَعَانِي الْمُدْرَجَةُ فِي الْأَلْفَاظِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: صَدْرُ الْآيَاتِ فِي مَرْيَمَ مُطَابِقٌ لِهَذَا التَّرْتِيبِ هُنَا، لِأَنَّهُ قَدَّمَ: أَنَّهُ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنْهُ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» وَقَالَ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «2» فَلَمَّا أَعَادَ ذِكْرَهَا فِي الِاسْتِعْلَامِ أَخَّرَ ذِكْرَ الكبر ليوافق عتيا رؤوس الْآيِ، وَهُوَ بَابٌ مَقْصُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ يَتَرَجَّحُ إِذَا لَمْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى، وَالْعَطْفُ هُنَا بِالْوَاوِ، فَلَيْسَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مُشْعِرًا بِتَقَدُّمِ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْمُنَاسِبِ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ.

قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ الْكَافُ: لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ، أَيْ:

مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ تَكَوُّنُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْفَانِي وَالْعَاقِرِ، يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ فِعْلًا، مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلْ سَبَبُ إِيجَادِهِ هُوَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ: سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعَادَةِ أَمْ مِنَ الَّتِي لَا تَجْرِي عَلَى الْعَادَةِ؟ وَإِذَا كَانَ تَعَالَى يُوجِدُ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفَ بِلَا مَادَّةٍ وَلَا سَبَبٍ، فَكَيْفَ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا مَادَّةٌ وَسَبَبٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ؟

وَتَكُونُ الْكَافُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلًا مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ: مِنْ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ اللَّهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَذَلِكَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ صُنْعُ اللَّهِ الْغَرِيبُ مِثْلُ ذَلِكَ الصُّنْعِ، وَيَكُونُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ شَرْحًا لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الصفة:

الله، قال: يَفْعَلُ مَا يَشاءُ بَيَانٌ لَهُ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ.

انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ: كَهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ هِيَ قُدْرَةُ اللَّهِ. انْتَهَى.

وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، تَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لِابْنِ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالِ زَكَرِيَّا وَحَالِ امْرَأَتِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ لَنَا غُلَامٌ وَنَحْنُ بِحَالِ كَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: كَمَا أَنْتُمَا يَكُونُ لَكُمَا الْغُلَامُ. وَالْكَلَامُ تَامٌّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ،

(1) سورة مريم: 19/ 4.

(2)

سورة مريم: 19/ 5. [.....]

ص: 137

جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُقَرِّرَةٌ فِي النَّفْسِ وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُسْتَغْرَبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَكُونُ: كَذَلِكَ، مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَشَرَحَ الرَّاغِبُ الْمَعْنَى فَقَالَ: يَهِبُ لَكَ الْوَلَدَ وَأَنْتَ بِحَالَتِكَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَوَّلُ.

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً

قَالَ الرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ زَكَرِيَّا قَالَ: يَا رَبِّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ مِنْ قِبَلِكَ، وَالْبِشَارَةُ حَقٌّ، فَاجْعَلْ لِي آيَةً، عَلَامَةً أَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ ذَلِكَ! فَعُوقِبَ عَلَى هَذَا الشَّكِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ مُنِعَ الْكَلَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ النَّاسِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكَّ قَطُّ زَكَرِيَّا، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْوَلَدُ، وَتَتِمُّ بِهِ الْبِشَارَةُ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ سَأَلَ عَلَامَةً عَلَى وَقْتِ الْحَمْلِ لِيَعْرِفَ مَتَى يَكُونُ الْعُلُوقُ بِيَحْيَى.

وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْعِهِ الْكَلَامَ: هَلْ كَانَ لِآفَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أَمْ لِغَيْرِ آفَةٍ؟ فَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: رَبَا لِسَانُهُ فِي فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَجُعِلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ مُعَاقَبَةً عَلَى سُؤَالِ آيَةٍ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِالْبِشَارَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ تَكُنْ آفَةً، وَلَكِنَّهُ مُنِعَ مُجَاوَرَةَ النَّاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتِ الْآيَةُ حَبْسَ اللِّسَانِ لِتَخْلُصَ الْمُدَّةُ لِذِكْرِ اللَّهِ لَا يَشْغَلُ لِسَانَهُ بِغَيْرِهِ تَوَفُّرًا مِنْهُ عَلَى قَضَاءِ حَقِّ تِلْكَ النعمة الجسيمة وشكرها، وكأنه لَمَّا طَلَبَ الْآيَةَ مِنْ أَجْلِ الشُّكْرِ قِيلَ لَهُ: آيَتُكَ أَنْ يُحْبَسَ لِسَانُكَ إِلَّا عَنِ الشُّكْرِ.

وَأَحْسَنُ الْجَوَابِ وَأَوْقَعُهُ مَا كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ السُّؤَالِ، وَمُنْتَزَعًا مِنْهُ وَكَانَ الْإِعْجَازُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَجْزِهِ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ، مَعَ سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ، وَمِنْهُ جِهَةُ وُقُوعِ الْعُلُوقِ وَحُصُولِهِ عَلَى وَفْقِ الْأَخْبَارِ.

وَقِيلَ: أُمِرَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صَوْمِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: آيَتُكَ أَنْ تَصِيرَ مَأْمُورًا بِأَنْ لَا تُكَلِّمَ الْخَلْقَ، وَأَنْ تَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ شُكْرًا عَلَى إِعْطَاءِ هَذِهِ الْمَوْهِبَةِ، وَإِذَا أُمِرْتَ بِذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ. قِيلَ: فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ فَرْضًا يَجْعَلُهُ شُكْرًا لِذَلِكَ.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ سَأَلَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُولَدُ لَهُ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ آيَتَهُ انْتِفَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَأُمِرَ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَانْتِفَاءِ الْكَلَامِ قَدْ يَكُونُ

ص: 138

لِمُتَكَلَّفٍ بِهِ، أَوْ بِمَلْزُومِهِ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُوَ الصَّوْمُ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِآفَةٍ تَعْرِضُ فِي الْجَارِحَةِ، أَوْ لِغَيْرِ آفَةٍ، قَالُوا: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَلَامِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِلَى آخِرِهِ يَعْنِي فِي أَيَّامِ عَجْزِكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. انْتَهَى.

وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ وُجُوهِ الِانْتِفَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالزَّمَانِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ بِالنُّطْقِ بِالْكَلَامِ، وَظَاهِرُ: اجْعَلْ، هُنَا أَنَّهَا بِمَعْنَى صَيِّرْ، فَتَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ آيَةٌ، وَالثَّانِي الْمَجْرُورُ، قَبْلَهُ وَهُوَ: لِي، وَهُوَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ: اجْعَلْ، هُوَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَنْ لَا تُكَلِّمُ، بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ: أَنْ، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَا تُكَلِّمُ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ: أَنْ، مَجْرَى: مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتِصَابُ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى الظَّرْفِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ اسْمُ الزَّمَانِ يَسْتَغْرِقُهُ الْفِعْلُ، فَلَيْسَ بِظَرْفٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ: صَمَتَ يَوْمًا، فَانْتِصَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْكَلَامِ مِنْهُ لِلنَّاسِ كَانَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَخْلُ جُزْءٌ مِنْهَا مِنِ انْتِفَاءٍ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا «1» وَهَذَا يَضَعِّفُ تَأْوِيلَ مَنْ قَالَ: أُمِرَ بِالصَّوْمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صَوْمِهِمْ، وَاللَّيَالِي تَبْعُدُ مَشْرُوعِيَّةُ صَوْمِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ ابْتِدَاءَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ أَطْلَقَ فَقَالَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَكْلِيفٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِهِ، يَمْتَنِعُ مِنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَتَى شَاءَ، وَيُمْكِنُ أن يكون ذلك من حِينِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ بِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ حِينِ الْخِطَابِ.

قِيلَ: وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ قُدْرَةِ زَكَرِيَّا عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ شَرْعَهُ مشرع لَنَا وَإِنْ نَسَخَهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى الليل.

(1) سورة مريم: 19/ 10.

ص: 139

وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا صَمْتَ يَوْمٍ، أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا الصَّمْتُ عَمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، فَحَسُنٌ.

وَاسْتِثْنَاءُ الرَّمْزِ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إذ الرَّمْزُ لَا يُدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيمِ، مِنْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِشَارَةِ الدالة على ما في نَفْسِ الْمُشِيرِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلِذَلِكَ أَنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ:

أَرَادَتْ كَلَامًا فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا

فَلَمْ يَكُ إِلَّا وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ

وَقَالَ:

إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفُوَاتِرِ رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ وَاسْتَعْمَلَ الْمُوَلِّدُونَ هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ حَبِيبٌ:

كَلِمَتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ

فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ

وَكَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: لَمَّا أَدَّى مُؤَدِّي الْكَلَامِ، وَفَهِمَ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، سُمِّيَ كَلَامًا.

وَأَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا. قَالَ: وَالْكَلَامُ المراد به في الآية إِنَّمَا هُوَ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ لَا الْإِعْلَامُ بِمَا فِي النَّفْسِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَبَدَأَ بِهِ أَوَّلًا، فَقَالَ اسْتِثْنَاءُ الرَّمْزِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا إِلَى أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْكَلَامِ فِي الْإِيمَانِ وَنَحْوِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَالرَّمْزُ هُنَا:

تَحْرِيكٌ بِالشَّفَتَيْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ وَالرَّأْسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ. أَوْ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: إِيمَاءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ. فَالْإِيمَاءُ هُوَ الْإِشَارَةُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ بِمَاذَا أَشَارَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: إِشَارَةٌ بِالْيَدِ أَوْ إِشَارَةٌ بِالْعَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ.

وَقِيلَ: رَمْزُهُ الْكِتَابَةُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ الْمُسَبِّحَةِ. وَقِيلَ:

بِاللِّسَانِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

ظَلَّ أَيَّامًا لَهُ مِنْ دَهْرِهِ

يَرْمُزُ الْأَقْوَالَ مِنْ غَيْرِ خُرْسٍ

وَقِيلَ: الرَّمْزُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.

وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: رُمُزًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْمِيمِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ

ص: 140

جَمْعُ رُمُوزٍ، كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ، وَعَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَرَمْزٍ جَاءَ عَلَى فِعْلٍ، وَأَتْبَعَتِ الْعَيْنُ الْفَاءَ كَالْيُسْرِ وَالْيُسُرِ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: رَمَزًا، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ رَامِزٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ، وَانْتِصَابُهُ إِذَا كَانَ جَمْعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي تُكَلِّمَ، وَمِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ:

النَّاسُ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنَّ

أَيِّي وَأَيُّكَ فَارِسُ الْأَحْزَابِ

أَيْ: إِلَّا مُتَرَامِزِينَ كَمَا يُكَلِّمُ الْأَخْرَسُ النَّاسَ وَيُكَلِّمُونَهُ.

وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَمْزاً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَيْنَ اللَّهُ» . فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:«أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» .

فَأَجَازَ الْإِسْلَامُ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّيَانَةِ الَّتِي تَحْقِنُ الدَّمَ وَتَحْفَظُ الْمَالَ وَتُدْخِلُ الْجَنَّةَ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ الدِّيَانَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.

وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً قِيلَ: الذِّكْرُ هُنَا هُوَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقِيلَ:

بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَاذْكُرْ عَطَاءَ ربك وإجابته لدعائك. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا، وَلِلرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً «1» وَأَمَرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ لِيَكْثُرَ ذِكْرُ اللَّهِ لَهُ بِنِعَمِهِ وَأَلْطَافِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «2» .

وَانْتِصَابُ: كَثِيرًا، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ: اذْكُرُوا، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.

وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَيْ: نَزِّهِ اللَّهَ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ بِالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ بِقَوْلِكَ:

سُبْحَانَ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَسَبِّحْ وَصَلِّ، وَمِنْهُ: كَانَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى أَرْبَعًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ: أَوَّلَ الْفَجْرِ، وَوَقْتَ ميل الشمس

(1) سورة الأنفال: 8/ 45.

(2)

سورة البقرة: 2/ 152.

ص: 141

لِلْغُرُوبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْعَشِيِّ اللَّيْلَ، وَبِالْإِبْكَارِ النَّهَارَ، فَعَبَّرَ بِجُزْءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جُمْلَتِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ.

وَمَفْعُولُ: وَسَبِّحْ، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً أَيْ: وَسَبِّحْ رَبَّكَ. و: الباء فِي: بِالْعَشِيِّ، ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: في العشي.

وقرىء شَاذًّا وَالْأَبْكَارِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ جَمْعُ بَكَرٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَافِ، تَقُولُ:

أَتَيْتُكَ بَكَرًا، وَهُوَ مِمَّا يَلْتَزِمُ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ إِذَا كَانَ مِنْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَنَظِيرُهُ: سَحَرٌ وَأَسْحَارٌ، وَجَبَلٌ وَأَجْبَالٌ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْعَشِيِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ جَمْعَ عَشِيَّةً إِذْ يَكُونُ فِيهَا تَقَابُلٌ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِيَّةُ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُنَاسِبَةٌ إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ مُفْرَدًا، وَكَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» وَأَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ.

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَالْإِبْكَارِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ قَدْ قَابَلَ الْعَشِيَّ الَّذِي هُوَ وَقْتٌ، بِالْمَصْدَرِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ أَيْ: بِالْعَشِيِّ وَوَقْتَ الْإِبْكَارِ. وَالظَّاهِرُ فِي: بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِمَا لِلْعُمُومِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ عَشِيُّ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ وَلَا وَقْتَ الْإِبْكَارِ فِيهَا.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَمْ يَعْنِ التَّسْبِيحَ طَرَفَيِ النَّهَارِ فَقَطْ، بَلْ إِدَامَةَ الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، ذِكْرُهُ الْعَشِيُّ وَالْإِبْكَارُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَصَلِّ طَرَفَيِ النَّهَارِ. انْتَهَى.

وَيَتَعَلَّقُ: بِالْعَشِيِّ، بِقَوْلِهِ: وَسَبِّحْ، وَيَكُونُ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَوْلَى، إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ، لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي، إِذْ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ.

قِيلَ: أَوْ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِهَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ.

قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ فُنُونِ الْفَصَاحَةِ أَنْوَاعًا: الزِّيَادَةُ فِي الْبِنَاءِ فِي قَوْلِهِ:

هُنَالِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَائِدَتَهُ و: التكرار، فِي رَبِّهِ، قَالَ رَبِّ، وَفِي إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، وَبِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَفِي آيَةٍ قَالَ: آيَتُكَ، وَفِي: يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ وَتَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ حَمْلًا عَلَى اللفظ

(1) سورة العصر: 103/ 2.

ص: 142