الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَيَّرَهُ بِالِانْهِزَامِ وَبِالْفِرَارِ عَنِ الْأَحِبَّةِ. وَقَالَ آخَرُ فِي الْمَدْحِ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْحَرْبِ وَالْقَتْلِ فِيهِ:
وَقَدْ كَانَ فَوْتُ الْمَوْتِ سَهْلًا فرده
…
إليه الحفاظ المرء وَالْخُلُقُ الْوَعْرُ
فَأَثْبَتَ فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَوْتِ رِجْلَهُ
…
وَقَالَ لَهَا مِنْ تَحْتِ أُخْمُصِكِ الْحَشْرُ
وَقِيلَ: الْمُصِيبَةُ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، سَمَّوْا ذَلِكَ مُصِيبَةً عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ كُلَّهُ مُصِيبَةٌ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُصِيبَةُ الْهَزِيمَةُ وَالْقَتْلُ. وَالشَّهِيدُ هُنَا الْحَاضِرُ مَعَهُمْ فِي مُعْتَرَكِ الْحَرْبِ، أَوِ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَقُولُهُ الْمُنَافِقُ اسْتِهْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يعتقد حقيقة الشهادة في سبيل الله.
[سورة النساء (4) : آية 73]
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
الْفَضْلُ هُنَا: الظَّفَرُ بِالْعَدُوِّ وَالْغَنِيمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيَقُولَنَّ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَيَقُولُنَّ بِضَمِّ اللَّامِ، أُضْمِرَ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَلَى مَعْنَى مَنْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَزِيدُ النَّحْوِيُّ: فَأَفُوزُ بِرَفْعِ الزَّايِ عَطْفًا عَلَى كُنْتُ، فَتَكُونُ الْكَيْنُونَةُ مَعَهُمْ وَالْفَوْزُ بِالْقِسْمَةِ دَاخِلَيْنِ فِي التَّمَنِّي، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ فَأَنَا أَفُوزُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الزَّايِ، وَهُوَ جَوَابُ التَّمَنِّي، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ عَطَفَتِ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ وَالْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ. وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّهُ انْتَصَبَ بِالْخِلَافِ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ: أَنَّهُ انْتَصَبَ بالفاء نفسها، ويا عِنْدَ قَوْمٍ لِلنِّدَاءِ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَا قَوْمُ لَيْتَنِي. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ: إِلَى أَنَّ يَا لِلتَّنْبِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مُنَادًى محذوف، وهو الصحيح. وكأن هُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَإِذَا وَلِيَتْهَا الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَتَكُونُ مَبْدُوءَةً بِقَدْ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
لَا يَهُولَنَّكَ اصْطِلَاؤُكَ للحر
…
ب فَمَحْذُورُهَا كَأَنْ قَدْ أَلَمَّا
أو بلم كَقَوْلِهِ: «كَأَنْ لَمْ يَكُنْ» «كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» «1» وَوَجَدْتُ فِي شِعْرِ عَمَّارٍ الْكَلْبِيِّ ابْتِدَاءَهَا فِي قَوْلِهِ:
(1) سورة يونس: 10/ 24.
بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَّيَالِي شَمْلَهُمْ
…
فَكَأَنْ لَمَّا يَكُونُوا قَبْلُ ثَمَّ
وَيَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكأن مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَالثَّقِيلَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا تَجِيءُ بَعْدَهَا الْجُمَلُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرَ مُحَرَّرٍ، وَلَا عَلَى إِطْلَاقِهِ. أَمَّا إِذَا خُفِّفَّتْ وَوَلِيَهَا مَا كَانَ يَلِيهَا وَهِيَ ثَقِيلَةٌ، فَالْأَكْثَرُ وَالْأَفْصَحُ أَنْ تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَيَكُونُ اسْمُ كَانَ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا، وَتَكُونُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ كَانَ. وَإِذَا لَمْ يُنْوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ جَازَ لَهَا أَنَّ تَنْصِبَ الِاسْمَ إِذَا كَانَ مُظْهَرًا، وَتَرْفَعَ الْخَبَرَ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ.
وَلَا يخص ذلك بالشعر، فتقول: كَأَنْ زَيْدًا قَائِمٌ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَحَدَّثَنَا مَنْ يَوْثَقُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يقرؤون: وَإِنْ كُلًّا لَمَّا يُخَفِّفُونَ وَيَنْصِبُونَ كَمَا قَالَ: كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْفَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ، فَلَمَّا حُذِفَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ لَمْ يُغَيِّرْ عَمَلَهُ، كَمَا لَمْ يُغَيِّرْ عَمَلَ لَمْ يَكُ، وَلَمْ أُبْلَ حِينَ حُذِفَ انْتَهَى. فَظَاهِرُ تَشْبِيهِ سِيبَوَيْهِ أَنْ عُمَرَ الْمُنْطَلِقُ بِقَوْلِهِ: كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ جواز ذلك في الكلام، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ.
وقد نقل صاحب رؤوس الْمَسَائِلِ: أَنَّ كَأَنْ إِذَا خُفِّفَتْ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَأَنَّ الْبَصْرِيِّينَ أَجَازُوا ذَلِكَ. فَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ قَدْ يَتَمَشَّى قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي أَنْ كأن الْمُخَفِّفَةِ لَيْسَتْ كَالثَّقِيلَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَلَا، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ اسْمٍ وَخَبَرٍ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا وَنَحْنُ نَسْرُدُ كَلَامَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ فِيهَا. فَنَقُولُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ لَيَقُولَنَّ، وَبَيْنَ مَفْعُولِهِ وَهُوَ يَا لَيْتَنِي، وَالْمَعْنَى: كَأَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعَكُمْ مَوَدَّةٌ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُوَادُّونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَادِقُونَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا يَبْغُونَ لَهُمُ الْغَوَائِلَ فِي الْبَاطِنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَى عَدُوٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَشَدَّهُمْ حَسَدًا لَهُمْ، فَكَيْفَ يُوصَفُونَ بِالْمَوَدَّةِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْعَكْسِ تَهَكُّمًا بِحَالِهِمْ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُنَافِقُ يُعَاطِي الْمُؤْمِنِينَ الْمَوَدَّةَ، وَيُعَاهِدُ عَلَى الْتِزَامِ كُلَفِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَتَخَلَّفُ نِفَاقًا وَشَكًّا وَكُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثم يتمنى عند ما يَكْشِفُ الْغَيْبَ الظَّفَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَعَلَى هَذَا يَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، الْتِفَاتَةً بَلِيغَةً وَاعْتِرَاضًا بَيْنَ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ بِلَفْظٍ يُظْهِرُ زِيَادَةً فِي قُبْحِ
فِعْلِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَادُّونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ أَيْضًا، وَتَبِعَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ، فَإِنَّهُ لَا يفصل بين بعض الْجُمْلَةِ وَبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: مَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، فَضْلًا عَنْ مَوَدَّةٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَقْعَدُوهُمْ عَنِ الْجِهَادِ وَخَرَجُوا هُمْ، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ أَيْ: وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوَدَّةٌ فَيُخْرِجَكُمْ مَعَهُمْ لِتَأْخُذُوا مِنَ الْغَنِيمَةِ، لِيُبَغِّضُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ. وَتَبِعَ أَبُو عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مُقَاتِلًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَلَا مَوَدَّةَ بَيْنَكُمْ، يُرِيدُ: أَنَّ الْمُبَطِّئَ قَالَ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْغَزْوِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ بِإِذْنٍ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ مَوَدَّةٌ فَيُخْرِجَكُمْ إِلَى الْجِهَادِ، فَتَفُوزُونَ بِمَا فَازَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ إِنْسَانًا فَرِحَ عِنْدَ فَرَحِهِ، وَحَزِنَ عِنْدَ حُزْنِهِ، فَإِذَا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ فَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِلْعَدَاوَةِ. فَنَقُولُ:
حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِ سُرُورَهُ وَقْتَ نَكْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَ حُزْنَهُ عِنْدَ دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْغَنِيمَةُ، فَقَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ الْكَلَامَ بِتَمَامِهِ أَلْقَى قوله: كأن لم يكن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ. كَأَنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: انْظُرُوا إِلَى مَا يَقُولُهُ هَذَا الْمُنَافِقُ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا مُخَالَطَةَ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُ الْمُنَافِقِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عَلَى مَعْنَى الْحَسَدِ مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي نَيْلِ رَغْبَتِهِ.
وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في لَيَقُولَنَّ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى المفعول بيقولن عَلَى الْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَجُمْلَةُ الْمَقُولِ هُوَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةُ التَّشْبِيهِ، وَجُمْلَةُ التَّمَنِّي. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَبَيْنَهُ لِلرَّسُولِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ لِلْقَائِلِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِكَوْنِهَا اعْتِرَاضًا فِي الْأَصْلِ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْقَسَمِ وَأُخِّرَتْ، وَالنِّيَّةُ بِهَا التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ. أَوْ لِكَوْنِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ: لَيَقُولَنَّ وَمَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ جُمْلَةُ التَّمَنِّي، وَلَيْسَ اعْتِرَاضًا يَتَعَلَّقُ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بمضمون الجملتين،
والضمير الذي لِلْخِطَابِ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي بَيْنَهُ لِلْقَائِلِ. وَاعْتَرَضَ بِهِ بَيْنَ أَثْنَاءَ الْحَمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَأَخِّرًا إِذْ مَعْنَاهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْقَوْلِ النِّيَّةُ بِهِ التَّقْدِيمُ، لَكِنَّهُ حَسَّنَ تَأْخِيرَهُ كَوْنُهُ وَقَعَ فَاصِلَةً. وَلَوْ تَأَخَّرَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ لَمْ يَحْسُنْ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ فَاصِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيَقُولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، إِذْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ وَقْتَ الْمُصِيبَةِ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا. وَقَوْلُهُ: وَقْتَ الْغَنِيمَةِ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ مَوَدَّةٌ لَكُمْ.
وَفِي الْآيَتَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ مِنَ الْمَنْحِ إِلَّا أَغْرَاضَ الدُّنْيَا، يَفْرَحُونَ بِمَا يَنَالُونَ مِنْهَا، وَلَا مِنَ الْمِحَنِ إِلَّا مَصَائِبَهَا فَيَتَأَلَّمُونَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ «1» الْآيَةَ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَدِيعِ:
دُخُولُ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَى مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ: خَيْرٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ التَّعَجُّبُ فِي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا، وَفِي: أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، وَفِي: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا، وَفِي: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، وَفِي: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وَفِي: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَفِي:
فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ، أَصْلُ الْمُنَازَعَةِ الْجَذْبُ بِالْيَدِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّنَازُعِ فِي الْكَلَامِ. وَفِي: ضَلَالًا بَعِيدًا اسْتَعَارَ الْبُعْدَ الْمُخْتَصَّ بِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَصَّةِ بِالْقُلُوبِ لِدَوَامِ الْقُلُوبِ عَلَيْهَا، وَفِي: فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ اسْتَعَارَ مَا اشْتَبَكَ وَتَضَايَقَ مِنَ الشَّجَرِ لِلْمُنَازَعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا بَعْضُ الْكَلَامِ فِي بَعْضٍ اسْتِعَارَةَ الْمَحْسُوسِ للمعقول وفي: أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا أَطْلَقَ اسْمَ الْحَرَجِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَصْفِ الشَّجْرِ إِذَا تَضَايَقَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ مِنَ الضِّيقِ وَالتَّتْمِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الْكَلَامَ كَلِمَةٌ تَزِيدُ الْمَعْنَى تَمُكُّنًا وَبَيَانًا لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: قَوْلًا بَلِيغًا أَيْ: يَبْلُغُ إِلَى قُلُوبِهِمْ أَلَمُهُ أَوْ بَالِغًا فِي زَجْرِهِمْ. وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى فِي: مِنْ رَسُولٍ أَتَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ إِذْ لَوْ لَمْ تَدْخُلْ لَا وَهُمُ الْوَاحِدُ. وَالتَّكْرَارُ فِي: استغفر واستغفروا أنفسهم، وفي أَنْفُسِهِمْ وَاسْمُ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. وَالتَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ في: ويسلموا
(1) سورة الفجر: 89/ 15.