الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمْعِ فِي: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ وَبِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى نَوْعِهِ فِي: يَا أَهْلَ الْكِتابِ إِذَا فُسِّرَ بِالْيَهُودِ. وَالتَّكْرَارِ في: إلا الله، و: إنّ اللَّهَ، وَفِي: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ. وَفِي: إِبْرَاهِيمَ، و: ما كان إبراهيم، و: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ.
وَالتَّشْبِيهِ فِي: أَرْبَابًا، لَمَّا أَطَاعُوهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَأَذْعَنُوا إِلَيْهِمْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ:
أَرْبَابًا تَشْبِيهًا بِالرَّبِّ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْإِجْمَالِ فِي الْخِطَابِ فِي: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، تَعَالَوْا يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لِمَ تُحَاجُّونَ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ. يَا أَبَتِ. وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا
…
لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
بَنِي عَمِّنَا لَا تَنْبِشُوا الشَّرَّ بَيْنَنَا
…
فَكَمْ مِنْ رَمَادٍ صَارَ مِنْهُ لَهِيبُ
وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: أَوْلَى وولي.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي:
مُعَاذٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَمَّارٍ. دَعَاهُمْ يَهُودُ: بَنِي النَّضِيرِ، وقريظة، وقينقاع، إِلَى دِينِهِمْ. وَقِيلَ:
دَعَاهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَمِنْ يَهُودَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ، قَالُوا لِمُعَاذٍ وَعَمَّارٍ تَرَكْتُمَا دِينَكُمَا وَاتَّبَعْتُمَا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: عَيَّرَتْهُمُ الْيَهُودُ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: وَدَّ بِمَعْنَى: تَمَنَّى، فتستعمل معها: لو، و: أن، وَرُبَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَيُقَالُ: وَدِدْتُ أَنْ لَوْ فَعَلَ، وَمَصْدَرُهُ: الْوِدَادَةُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: وُدٌّ، وَقَدْ يَتَدَاخَلَانِ فِي المصدر والاسم. قال الرَّاغِبُ: إِذَا كَانَ: وَدَّ، بِمَعْنَى أَحَبَّ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ: لَوْ فِيهِ أَبَدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِذَا كَانَ: وَدَّ، بِمَعْنَى: تَمَنَّى، صَلَحَ لِلْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْمَاضِي لِأَنَّ الْإِرَادَةَ كَاسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ. وَإِذَا كَانَ لِلْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ جَازَ: أَنْ وَلَوْ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَاضِي لَمْ يَجُزْ: أَنْ، لِأَنَّ:
أَنْ، لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَمَا قَالَ فِيهِ نَظَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ: أَنْ، تُوصَلُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي نَحْوَ: سَرَّنِي أَنْ قُمْتَ؟.
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِطَائِفَةٍ، وَالطَّائِفَةُ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ: مِنْ، أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَتَكُونُ الطَّائِفَةُ جَمِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا قَالَهُ يَبْعُدُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَلَوْ، هُنَا قَالُوا بِمَعْنَى: أَنْ فَتَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْأَوْلَى إِقْرَارُهَا عَلَى وَضْعِهَا. وَمَفْعُولُ: وَدَّ، مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ: لَوْ، مَحْذُوفٌ، حُذِفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَا يَدُلُّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَدُّوا إِضْلَالَكُمْ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لَسُرُّوا بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي نَظِيرِ هَذَا مُشَبَّعًا فِي قَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فَيُطَالَعُ هُنَاكَ.
وَمَعْنَى: يُضِلُّونَكُمْ، يَرُدُّونَكُمْ إِلَى كُفْرِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: يُهْلِكُونَكُمْ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدِّمَشْقِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاسْتَدَلَّ، يَعْنِي ابْنَ جَرِيرِ الطَّبَرِيَّ بِبَيْتِ جَرِيرٍ:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوجِ أَخْضَرَ مُزْبِدٍ
…
قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا
وَبِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَينِ جَلِيَّةٍ
…
وَغودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُخَلِّصٍ وَلَا خَاصٍّ بِاللَّفْظَةِ، وَإِنَّمَا اطَّرَدَ لَهُ، لِأَنَّ هَذَا الضَّلَالَ فِي الْآيَةِ فِي الْبَيْتَيْنِ اقْتَرَنَ بِهِ هَلَاكٌ، وَأَمَّا أَنْ يُفَسِّرَ لَفْظَةَ الضَّلَالَ بِالْهَلَاكِ فَغَيْرُ قَوِيمٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَضَلُّ الضَّلَالِ فِي اللُّغَةِ الْهَلَاكُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُوقِعُونَكُمْ فِي الضَّلَالِ، وَيُلْقُونَ إِلَيْكُمْ مَا يُشَكِّكُونَكُمْ بِهِ فِي دِينِكُمْ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْإِهْلَاكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَشْيَاعَهُمْ، لِاسْتِحْقَاقِهِمْ بِإِيثَارِهِمْ إِهْلَاكَ الْمُؤْمِنِينَ سُخْطُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْإِخْرَاجَ عَنِ الدِّينِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ بِجَحْدِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ صَارُوا بِذَلِكَ كُفَّارًا، وَخَرَجُوا عَنْ مِلَّةِ موسى وعيسى. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْإِيقَاعَ فِي الضَّلَالِ، فَذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى بِإِيضَاحِ الْحُجَجِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ.
(1) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 96.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِعْلَامٌ أَنَّ سُوءَ فِعْلِهِمْ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يَعُودُ وَبَالُ الضَّلَالِ إِلَّا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ لَهُمْ بِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ، أَوْ: وَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِضْلَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُضِلُّونَ أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَشْيَاعِهِمُ.
انْتَهَى.
وَما يَشْعُرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الضَّلَالَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَيْ: لَا يَفْطِنُونَ لِذَلِكَ لَمَّا دَقَّ أَمْرُهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ لِمَا اعْتَرَى قُلُوبَهُمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ، فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ جَاهِلًا كَانَ ضَالًّا، أَوْ وَما يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى إِضْلَالِكُمْ، أَوْ: لَا يَفْطِنُونَ بِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا لِظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ. أَوْ: مَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَالِهِمْ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا يَشْعُرُونَ، مُبَالَغَةٌ فِي ذَمِّهِمْ حَيْثُ فَقَدُوا المنفعة بحواسهم.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام، وتحريف الكلام أو الآيات التي فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» قَالَهُ قَتَادَةُ، والسدي، والربيع، وابن جريح. أَوِ: الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِمْ:
إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ «2» أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «3» وَالْآيَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدَيْهِ مِنِ: انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. أَوْ: مُحَمَّدٌ وَالْإِسْلَامُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ: مَا تَلَاهُ مِنْ أَسْرَارِ كُتُبِهِمْ وَغَرِيبِ أَخْبَارِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. أَوْ: كُتُبُ اللَّهِ، أَوِ: الْآيَاتُ الَّتِي يُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهَا صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَأُمِرُوا فِيهَا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَهُ أبُو عَلِيٍّ.
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهَا آيَاتُ اللَّهِ، وَمُتَعَلِّقُ الشَّهَادَةِ مَحْذُوفٌ، يُقَدَّرُ عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، فَيُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُ ما
(1) سورة الأعراف: 7/ 157.
(2)
سورة الفرقان: 25/ 4.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 25. والأنفال: 8/ 31، والنحل: 16/ 24، والمؤمنون: 23/ 83، والفرقان: 25/ 5، والنمل: 27/ 681، والأحقاف: 46/ 17، والقلم: 68/ 15، والمطففين: 83/ 13.
فُسِّرَتْ بِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ كِتَابِكُمُ الَّذِي فِيهِ الْبِشَارَةُ.
وَقِيلَ: تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُقِرُّونَ بِهَا، وَقِيلَ: بِمَا عَلَيْكُمْ فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُتُبَكُمْ حَقٌّ، وَلَا تَتَّبِعُونَ مَا أُنْزِلَ فِيهَا. وَقِيلَ: بِصِحَّتِهَا إِذَا خَلَوْتُمْ.
فَيَكُونُ: تَشْهَدُونَ، بِمَعْنَى: تُقِرُّونَ وَتَعْتَرِفُونَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَوْ عَنَى مَا يَكُونُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ «1» .
وَقِيلَ: تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ: تُنْكِرُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، ثُمَّ تَشْهَدُونَ بِقُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ أَنَّهُ مُعْجِزٌ.
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ «2» وَفُسِّرَ: اللَّبْسُ، بِالْخَلْطِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، فَفَسَّرُوا الْحَقَّ بِمَا يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ، وَالْبَاطِلَ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ: قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقِيلَ: إِظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَإِبْطَالُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالثَّعْلَبِيُّ.
وَقِيلَ: الْإِيمَانُ بِمُوسَى وعيسى، وَالْكَفْرُ بِالرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَتَأَوَّلُونَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهَا، لِيَظْهَرَ مِنْهَا لِلْعَوَامِّ خِلَافُ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا تَقُولُونَ.
وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ وَقِيلَ: إِقْرَارُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْبَاطِلُ: كِتْمَانُهُمْ لِبَعْضِ أَمْرِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: إِقْرَارُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَالْبَاطِلُ قَوْلُ أَحْبَارِهِمْ: لَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا، بَلْ شَرِيعَتُنَا مُؤَبَّدَةٌ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَلْبَسُونَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ مُضَارِعُ: لَبِسَ، جَعَلَ الْحَقَّ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ لَبِسُوهُ، وَالْبَاءُ فِي: بِالْبَاطِلِ، لِلْحَالِ أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْبَاطِلِ.
وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: تُلَبِّسُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: جَرَّحْتُ وَقَتَّلْتُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ فِي: وَيَكْتُمُونَ، النصب، فتسقط النون
(1) سورة النور: 24/ 24.
(2)
سورة البقرة: 2/ 42.
مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى قَوْلِكَ: لِمَ تَجْمَعُونَ ذَا وَذَا؟ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الصَّرْفِ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِإِضْمَارِ: أَنْ، فِي قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ: الِاسْتِفْهَامُ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ.
وَأَمَّا: يَكْتُمُونَ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى:
تَلْبِسُونَ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّرْفُ هَاهُنَا يَقْبُحُ، وَكَذَلِكَ إِضْمَارُ: أَنْ، لِأَنَّ: يَكْتُمُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اسْتُفْهِمَ عَنِ السَّبَبِ فِي اللَّبْسِ، وَاللَّبْسُ مُوجَبٌ، فَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، وَبِمَنْزِلَةِ، قَوْلِكَ: أَتَقُومُ فَأَقُومَ؟ وَالْعَطْفُ عَلَى الْمُوجَبِ الْمُقَرَّرِ قَبِيحٌ مَتَى نُصِبَ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ، كَمَا رُوِيَ:
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي قَوْلِكَ: أَسِرْتَ حَتَّى تَدْخُلَهَا، لَا يَجُوزُ إِلَّا النَّصْبُ، فِي:
تَدْخُلَ، لِأَنَّ السَّيْرَ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ غَيْرُ مُوجَبٍ: وَإِذَا قُلْنَا: أَيُّهُمْ سَارَ حَتَّى يَدْخُلُهَا، رُفِعَتْ، لِأَنَّ السَّيْرَ مُوجَبٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ.
وَالظَّاهِرُ تَعَارُضُ مَا نُقِلَ مَعَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِيهِ: أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَقَعَ عَلَى اللَّبْسِ فَحَسْبُ، وَأَمَّا: يَكْتُمُونَ، فَخَبَرٌ حَتْمًا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ، وَفِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ:
يَكْتُمُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ عَنْ سَبَبِ اللَّبْسِ وَسَبَبِ الْكَتْمِ الْمُوجَبَيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ: وَيَكْتُمُونَ، إِخْبَارًا مَحْضًا لَمْ يَشْتَرِكْ مَعَ اللَّبْسِ فِي السُّؤَالِ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا تَضَمَّنَ وُقُوعَ الْفِعْلِ لَا يَنْتَصِبُ الْفِعْلُ بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِهِ، تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ. فَقَالَ فِي (التَّسْهِيلِ) حِينَ عَدَّ مَا يُضْمِرُ: أَنْ، لُزُومًا فِي الْجَوَابِ، فَقَالَ: أَوْ لِاسْتِفْهَامٍ لَا يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ الْفِعْلِ، فَإِنْ تَضَمَّنَ وَقْعَ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزِ النَّصْبُ عِنْدَهُ، نَحْوَ: لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا، فَيُجَازِيكَ؟ لِأَنَّ الضَّرْبَ قَدْ وَقَعَ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَتَبِعَهُ فِيهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ إِذَا تَعَذَّرَ سَبْكُ مَصْدَرٍ مِمَّا قَبْلَهُ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ ثَمَّ فِعْلٌ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ يَنْسَبِكُ مِنْهُ، وإما لإسحالة سَبْكِ مَصْدَرٍ مُرَادٍ اسْتِقْبَالُهُ لِأَجْلِ مُضِيِّ الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرُ اسْتِقْبَالِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِذَا قَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ زَيْدًا فَأَضْرِبُكَ. أَيْ: لِيَكُنْ مِنْكَ تَعْرِيفٌ بِضَرْبِ زَيْدٍ فَضَرْبٌ
مِنَّا، وَمَا رَدَّ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ بِمُتَّجَهٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِمَ تَلْبِسُونَ لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِعَ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي حَقِيقَةً، إِذْ قَدْ يُنْكَرُ الْمُسْتَقْبَلُ لِتَحَقُّقِ صُدُورِهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى الشَّخْصِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْهُ وُجُودُ أَمْثَالِهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ مَاضٍ حَقِيقَةً، فَلَا رَدَّ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ كَمَا قَرَّرْنَا قَبْلُ: إِذَا لَمْ يُمْكِنْ سَبْكُ مَصْدَرٍ مُسْتَقْبَلٍ مِنَ الْجُمْلَةِ، سَبَكْنَاهُ مِنْ لَازِمِ الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ نَصْبَ الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ، نَحْوَ:
أَيْنَ ذَهَبَ زَيْدٌ فَنَتْبَعَهُ؟ وَكَذَلِكَ فِي: كَمْ مَالُكَ فَنَعْرِفَهُ؟ و: من أَبُوكَ فَنُكْرِمَهُ؟ لَكِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: لِيَكُنْ مِنْكَ إِعْلَامٌ بِذَهَابِ زَيْدٍ فاتباع منا. و: ليكن مِنْكَ إِعْلَامٌ بِقَدْرِ مَالِكَ فمعرفة منا. و: ليكن مِنْكَ إِعْلَامٌ بِأَبِيكَ فَإِكْرَامٌ مِنَّا لَهُ.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لِمَ تَلْبِسُوا، وَتَكْتُمُوا، بِحَذْفِ النُّونِ فِيهِمَا، قَالُوا: وَذَلِكَ جَزْمٌ، قَالُوا: وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ شُذُوذٌ مِنَ النُّحَاةِ فِي إِلْحَاقِ: لم بلم فِي عَمَلِ الْجَزْمِ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنَّ: لِمَ، تَجْزِمُ الْفِعْلَ عِنْدَ قَوْمٍ كُلَّمٍ. انْتَهَى. وَالثَّابِتُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ: لِمَ، لَا يَنْجَزِمُ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرَ أَنَّ لِمَ تَجْرِي مَجْرَى: لَمْ فِي الْجَزْمِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ هُنَا، وَإِنَّمَا هَذَا عِنْدِي مِنْ بَابِ حَذْفِ النُّونِ حَالَةَ الرَّفْعِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي النَّثْرِ قَلِيلًا جِدًّا، وَذَلِكَ فِي قراءة أبي عمرو، وَمِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ قَالُوا: ساحران تظاهرا، بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، أَيْ أَنْتُمَا سَاحِرَانِ تَتَظَاهَرَانَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ وَحَذَفَ النُّونَ، وَأَمَّا فِي النَّظْمِ، فَنَحْوَ: قَوْلِ الرَّاجِزِ:
أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي يُرِيدُ: وَتَبِيتِينَ تُدَلِّكِينَ. وَقَالَ:
فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُو
…
سَتَحْتَلِبُوهَا لَاقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لُبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتْمَ الْحَقِّ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِسْمَيْنِ:
قِسْمٌ خَلَطُوا فِيهِ الْبَاطِلَ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ، وَقِسْمٌ كَتَمُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا الْتَبَسُوا بِهِ مِنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ، أَيْ: لَا يُنَاسِبُ مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلَا أَنْ يَخْلِطَهُ بِالْبَاطِلِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ سُؤَالٌ عَنِ الْمُسَبِّبِ، فَإِذَا أَنْكَرَ السَّبَبَ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُنْكِرَ الْمُسَبِّبَ، وَخُتِمَتِ الْآيَةُ قَبْلَ