الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمُسْتَبْشَرُ بِهِ غَيْرُهُ. التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. وَالذَّوَاتُ لَا يُسْتَبْشَرُ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَفِي ذِكْرِ حَالِ الشُّهَدَاءِ وَاسْتِبْشَارِهِمْ بِمَنْ خَلْفَهُمْ بَعْثٌ لِلْبَاقِينَ بَعْدَهُمْ عَلَى ازْدِيَادِ الطَّاعَةِ، وَالْجِدِّ فِي الْجِهَادِ، وَالرَّغْبَةِ فِي نَيْلِ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ وَإِصَابَةِ فَضْلِهِمْ، وَإِحْمَادٍ لِحَالِ مَنْ يَرَى نَفْسَهُ فِي خَيْرٍ فَيَتَمَنَّى مِثْلَهُ لِإِخْوَانِهِ فِي اللَّهِ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَوْزِ فِي الْمَآبِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَدِيعِ، الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الْآيَةَ، إِذِ التَّقْدِيرُ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْمُقَدَّرِ. وَفِي قَوْلِهِ: فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَفِي: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَالْقَوْلُ ظَاهِرٌ ويكتمون. وَفِي قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا، إِذِ التَّقْدِيرُ حِينَ خَرَجُوا وَقَعَدُوا هُمْ. وَفِي: أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ وَفِي: فَرِحِينَ وَيَحْزَنُونَ. وَالتَّكْرَارَ فِي:
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا الِاخْتِلَافُ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ. وَفِي فَرِحِينَ وَيَسْتَبْشِرُونَ.
وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي: أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَالْمُمَاثِلَ فِي: أَصَابَتْكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الإنكار في: أو لما أَصَابَتْكُمْ. وَالِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ فِي: قل فادرأوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ. وَالتَّأْكِيدَ فِي: وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
الْحَظُّ النَّصِيبُ، وَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ. مَازَ وَمَيَّزَ: فَصَلَ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ. قَالَ يَعْقُوبُ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَالتَّضْعِيفُ لَيْسَ لِلنَّقْلِ. وَقِيلَ:
التَّشْدِيدُ أَقْرَبُ إِلَى الْفَخَامَةِ وَأَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الْمَصْدَرَ عَلَى نِيَّةِ التَّشْدِيدِ فَقَالُوا: التَّمْيِيزُ، وَلَمْ يَقُولُوا الْمَيْزَ انْتَهَى. وَيَعْنِي: وَلَمْ تَقُولُوهُ مَسْمُوعًا، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَيُقَالُ. وَقِيلَ: لا يكون مازالا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَثِيرٍ، فَأَمَّا وَاحِدٌ مِنْ وَاحِدٍ فَيَتَمَيَّزُ عَلَى مَعْنَى يَعْزِلُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: يُقَالُ: مَيَّزْتُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمِزْتُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. اجْتَبَى:
اخْتَارَ وَاصْطَفَى، وَهِيَ مَنْ جَبَيْتُ الْمَاءَ، وَالْمَالَ وَجَبَوْتُهُمَا فَاجْتَبَى، افْتَعَلَ مِنْهُ. فَيُحْتَمَلُ أن تكون اللام واو أَوْ يَاءً.
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ كَرَّرَ الْفِعْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ بَيَانًا لِمُتَعَلِّقِ الِاسْتِبْشَارِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ.
قَالَ: وَكَرَّرَ يَسْتَبْشِرُونَ لِيُعَلِّقَ بِهِ مَا هُوَ بَيَانٌ لقوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» مِنْ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَجْرٌ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، يَجِبُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ وَلَا يَضِيعَ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، فِي ذِكْرِهِ وُجُوبَ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلَهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَسَلَكَ ابْنُ عَطِيَّةَ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ: أَكَّدَ اسْتِبْشَارَهُمْ بِقَوْلِهِ:
يَسْتَبْشِرُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَفَضْلُ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ الَّذِي هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، لَا بِعَمَلِ أَحَدٍ، وَأَمَّا النِّعْمَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ انتهى.
(1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 170.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهِ وَاوَ الْعَطْفِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَحْزَنُونَ، وَيَحْزَنُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ.
لِأَنَّ الظَّاهِرَ اخْتِلَافُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْحُزْنُ وَالْمُسْتَبْشِرِ، وَلِأَنَّ الْحَالَ قُيِّدَ، وَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، لَا بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلَيْنِ، فَلَا تَأْكِيدَ لِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَبْشِرَ بِهِ هُوَ لَهُمْ، وَهُوَ: نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلُهُ. وَفِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى إِبْهَامِ الْمُرَادِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى صُعُوبَةِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا
جَاءَ فِيهَا «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَالظَّاهِرُ تَبَايُنُ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ لِلْعَطْفِ، وَيُنَاسِبُ شَرْحُهُمَا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى «1» وَزِيَادَةٌ فَالْحُسْنَى هِيَ النِّعْمَةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ الْفَضْلُ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَقَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ «2» .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النِّعْمَةُ هِيَ الْجَزَاءُ وَالْفَضْلُ زَائِدٌ عَلَيْهِ قَدْرَ الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ، وَالْفَضْلُ الْمُضَاعَفُ عَلَيْهَا مَعَ مُضَاعَفَةِ السُّرُورِ بِهَا وَاللَّذَّةِ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وجماعة: وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اعْتِرَاضٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ هُنَا اعْتِرَاضًا لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِاسْتِئْنَافِ أَخْبَارٍ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ الِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَسْتَبْشِرُونَ بِتَوْفِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضِعْهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَبْخَسُوهُ. وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِبْشَارُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، وَقَدْ عَلِمُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا أَضَاعَ أُجُورَهُمْ حَتَّى اخْتَصَّهُمْ بِالشَّهَادَةِ وَمَنَحَهُمْ أَتَمَّ النِّعْمَةِ، وَخَتَمَ لَهُمْ بِالنَّجَاةِ وَالْفَوْزِ، وَقَدْ كَانُوا يَخْشَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ الْمُحْبِطَةِ لِلْأَعْمَالِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَمَا اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَهَا الْأُجُورُ وَتُضَاعَفُ الْأَعْمَالُ، اسْتَبْشَرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وفيه
(1) سورة يونس: 10/ 26.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 172.
تَطْوِيلٌ شَبِيهٌ بِالْخَطَابَةِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْشَارُ لِمَنْ خَلَّفُوهُ بَعْدَهُمْ مِنَ المؤمنين لما عاينوا منزلتهم عِنْدَ اللَّهِ.
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ كَانَتْ أَثَرَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ. اسْتَنْفَرَ الرَّسُولُ لِطَلَبِ الْكُفَّارِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ تِسْعُونَ. وَذَلِكَ لَمَّا ذُكِرَ لِلرَّسُولِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَأَبَى الرَّسُولُ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهُمْ، فَسَبَقَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَدَخَلَ مَكَّةَ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ: عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَفِي ذِكْرِ هَذَا السَّبَبِ اخْتِلَافٌ فِي مَوَاضِعَ. وَقِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ كَانَتْ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ بَعْدَ قِصَّةِ أُحُدٍ، حَيْثُ تَوَاعَدَ أَبُو سُفْيَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْسِمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَأُرْعِبَ، وَبَدَا لَهُ الرُّجُوعُ وَقَالَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَهُوَ عَامُ جَدْبٍ لَا يَصْلُحُ لنا، فثبطتهم عَنَّا وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ فَفَعَلَ، وَخَوَّفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ وَأَقَامُوا بِبَدْرٍ يَنْتَظِرُونَ أَبَا سُفْيَانَ فَنَزَلَتْ. قَالَ مَعْنَاهُ:
مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ.
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ الثَّانِي مِنْ أُحُدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، نَادَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ:«لَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَاهَدَنَا بِالْأَمْسِ» وَكَانَتْ بِالنَّاسِ جِرَاحَةٌ وَقَرْحٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ تَجَلَّدُوا، وَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَهِيَ: عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَرَتْ قِصَّةُ مَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ، وَقَدْ ذُكِرَتْ وَمَرَّتْ قُرَيْشٌ، فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ أَخَوَانِ وَبِهِمَا جِرَاحَةٌ شَدِيدَةٌ، وَضَعُفَ أَحَدُهُمَا فَكَانَ أَخُوهُ يَحْمِلُهُ عُقْبَةً وَيَمْشِي هُوَ عُقْبَةً، وَلَمَّا لَمْ تَتِمَّ اسْتِجَابَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ إِلَّا بِاسْتِجَابَتِهِ لِلرَّسُولِ جَمَعَ بَيْنِهِمَا
، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. قِيلَ: وَالِاسْتِجَابَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَإِنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلِلرَّسُولِ بِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ مِنْهُ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا اسْتِجَابَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ إِجَابَتُهُمْ لَهُ حِينَ انْتَدَبَهُمْ لِاتِّبَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى مَا نُقِلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْإِحْسَانُ هُنَا مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الِاتِّصَافِ بِمَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الِاتِّصَافِ بِمَا يَجِبُ.
وَالظَّاهِرُ إِعْرَابُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرُ. وَجَوَّزُوا الْإِتْبَاعَ نَعْتًا، أَوْ بَدَلًا، وَالْقَطْعَ إِلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَمَنْ فِي مِنْهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلتَّبْيِينِ مِثْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «1» لِأَنَّ الذين استجابوا
(1) سورة الحجرات: 49/ 29.
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَدْ أَحْسَنُوا كُلَّهُمْ وَاتَّقَوْا، إِلَّا بَعْضَهُمْ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَوَيْكَ لَمِمَّنِ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ تَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ وَالزُّبَيْرَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَحْسَنُوا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ.
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قِيلَ: أُرِيدَ بِالنَّاسِ الْأُوَلِ أَبُو نعيم بن مسعود الأشجعي، وَهُوَ قَوْلُ:
ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَبِالثَّانِي: أَبُو سُفْيَانَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِصَّةِ نُعَيْمٍ وَذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ مُطَوَّلَةً،
وَفِيهَا: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ جَعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى تَثْبِيطِ الصَّحَابَةِ عَنْ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَذَلِكَ عَشْرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَمِنَهَا لَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَفْزَعَ النَّاسَ وَخَوَّفَهُمُ اللِّقَاءَ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ وَلَوْ وَحْدِي» فَأَمَّا الْجَبَانُ فَرَجَعَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَتَجَهَّزَ لِلْقِتَالِ وَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
، فَوَافَى بَدْرًا الصُّغْرَى فَجَعَلُوا يَلْقَوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُونَ: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَأَقَامَ بِبَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَقَدِ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَجَنَّةَ إِلَى مَكَّةَ، فَسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ حَبْسَةَ جَيْشِ السَّوِيقِ قَالُوا: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السَّوِيقَ. وَكَانَتْ مَعَ الصَّحَابَةِ تِجَارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ، فَبَاعُوا وَأَصَابُوا لِلدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ غَانِمِينَ، وَحَسَبَهَا الرَّسُولُ لَهُمْ غَزْوَةً، وَظَفِرَ فِي وُجْهَةِ ذَلِكَ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي غزة الْجُمَحِيِّ فَقَتَلَهُمَا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُثَبِّطَ أَبُو نُعَيْمٍ وَحْدَهُ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ، وَمَا لَهُ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَبُرْدٌ وَاحِدٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: وَلِأَنَّهُ حِينَ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُضَامُّونَهُ وَيَصِلُونَ جَنَاحَ كَلَامِهِ، وَيُثَبَّطُونَ مِثْلَ تَثْبِيطِهِ انْتَهَى. وَلَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ وَهُوَ: أَنْ نُعَيْمًا وَحْدَهُ هُوَ الْمُثَبِّطُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْضَافَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُنْفَرِدًا بِالتَّثْبِيطِ.
وَقِيلَ: النَّاسُ الْأُوَلُ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا عَلَى أَبِي سُفْيَانَ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ لِلْمِيرَةِ، فَجَعَلَ لَهُمْ جُعْلًا وَهُوَ حِمْلُ إِبِلِهِمْ زَبِيبًا عَلَى أَنْ يُخْبِرُوا أَنَّهُ جَمَعَ لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ إِذْ ذَاكَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالنَّاسُ الثَّانِي قُرَيْشٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ.
وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ قَالَ: أَوْجُهُ الَّذِينَ قَبْلَهُ، والفاعل بزاد ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَالَ أَيْ: فَزَادَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِيمَانًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَوْلِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى النَّاسِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ نُعَيْمٌ وَحْدَهُ. وَهُمَا ضَعِيفَانِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَزِيدُ إِيمَانًا إِلَّا بِالنُّطْقِ بِهِ، لَا هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الثَّانِي إِذَا أَطْلَقَ عَلَى الْمُفْرَدِ لَفْظَ الْجَمْعِ مَجَازًا فَإِنَّ الضمائر تجزي عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ، لَا عَلَى الْمُفْرَدِ. فَيَقُولُ: مَفَارِقُهُ شَابَتْ، بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمْعِ، وَلَا يَجُوزُ مَفَارِقُهُ شَابَ، بِاعْتِبَارِ مَفْرِقِهِ شَابَ.
وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، وَمَعْنَاهُ هُنَا: أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ زَادَهُمْ تَثْبِيتًا وَاسْتِعْدَادًا، فَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا هِيَ فِي الْأَعْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذلك، فقال قوم: يزيد وَيَنْقُصُ بِاعْتِبَارِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَهُوَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ وَالنَّصِيحَةِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ وَكَثْرَتِهَا وَتَظَافُرِهَا عَلَى مُعْتَقَدٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ طَرِيقِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَخْبَارِ فِي مُدَّةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ الْبَاقِلَّانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ: زِيَادَتُهُ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتِهِ وَتَعَاوُرِهِ دَائِمًا، لِأَنَّهُ عَرْضٌ لَا يُثْبِتُ زَمَانَيْنِ، فَهُوَ لِلصَّالِحِ مُتَعَاقِبٌ مُتَوَالٍ، وَلِلْفَاسِقِ وَالْغَافِلِ غَيْرُ مُتَوَالٍ، فَهَذَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَرُوِيَ شِبْهَهُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّصْدِيقُ فَيُعَلَّقُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ: أَنَّهُ تَسْتَحِيلُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابٍ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُثَبِّطِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، وَأَمْرٌ مِنْهُمْ لَهُمْ بِخَشْيَتِهِمْ لِهَذَا الْجَمْعِ الَّذِي جَمَعُوهُ، تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: قَلْبِيٌّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ. فَأَخْبَرَ بِحُصُولِ طُمَأْنِينَةٍ فِي الْقَلْبِ تُقَابِلَ الْخَشْيَةَ، وَأَخْبَرَ بَعْدُ بِمَا يُقَابِلُ جَمْعَ النَّاسِ وَهُوَ: إِنَّ كَافِيَهُمْ شَرَّ النَّاسِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَثْنَوْا عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ هُوَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَرَبْطِ أُمُورِهِمْ بِهِ تَعَالَى. فَانْظُرْ إِلَى بَرَاعَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَبَلَاغَتِهِ، حَيْثُ قُوبِلَ قَوْلٌ بِقَوْلٍ، وَمُتَعَلِّقُ قَلْبٍ بِمُتَعَلِّقِ قَلْبٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَسْبُ فِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ «1» وَمِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَهُ الشَّيْءُ كَفَاهُ. وَحَسْبُ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ، أَيِ
(1) سورة آل عمران: 3/ 173.
الْكَافِي، أُطْلِقَ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِ فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجُلٍ، أَيْ: كَافِيكَ. فَتَصِفُ بِهِ النَّكِرَةَ، إِذْ إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ غَيْرِ الْمَاضِي الْمُجَرَّدِ مِنْ أَلْ. وَقَالَ:
وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٍ وَرِيِّ أَيْ كَافِيكَ. وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْحَسْبَلَةُ هِيَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَكِيلُ الرَّبُّ قَالَهُ: قَوْمٌ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَمَا تَقُولُ: الْقَهَّارُ هُوَ اللَّهُ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَلِيِّ وَالْحَفِيظِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْوَكِيلُ الْكَفِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
أَيْ: فَرَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ: السَّلَامَةُ وَحَذَرُ الْعَدُوِّ إِيَّاهُمْ، وَفَضْلٌ:
وَهُوَ الرِّبْحُ فِي التِّجَارَةِ. كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِانْقِلَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ، يُرِيدُ: فِي السَّلَامَةِ وَالظُّهُورِ، وَفِي اتِّبَاعِ الْعَدُوِّ، وَحِمَايَةِ الْحَوْزَةِ، وَبِفَضْلٍ فِي الْأَجْرِ الَّذِي حَازُوهُ، وَالْفَخْرِ الَّذِي تَخَلَّلُوهُ، وَأَنَّهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي الْخَرْجَةِ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. وَشَذَّ مُجَاهِدٌ وَقَالَ: فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَذَكَرَ قِصَّةَ نُعَيْمٍ وَأَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ تَفْسِيرِهَا. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الِانْقِلَابِ وَالرُّجُوعِ، بِأَنَّ الِانْقِلَابَ صَيْرُورَةُ الشَّيْءِ إِلَى خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّكَ تَقُولُ: انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا، وَلَا تَقُولُ: رَجَعَتِ الْخَمْرُ خَلًّا انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ الْأَجْرُ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ وَالنَّصْرُ. قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. قِيلَ: وَالْفَضْلُ رِبْحُ التِّجَارَةِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. وَتَقَدَّمَ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: أَصَابُوا سَرِيَّةً بِالصَّفْرَاءِ فَرُزِقُوا مِنْهَا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الثَّوَابُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله:
(1) سورة البقرة: 2/ 198.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 172.
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ سَالِمِينَ. وبنعمة حَالٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ، أَيِ: انْقَلَبُوا مُتَنَعِّمِينَ سَالِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ بِلَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ ذِي الْحَالِ، يَجُوزُ دُخُولُ الْوَاوِ عَلَيْهَا، وَعَدَمُ دُخُولِهَا. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «1» وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ
…
أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً «2» وَقَوْلُ قَيْسِ بن الأسلت:
واضرب القوس يَوْمَ الْوَغَى
…
بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وَوَهِمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ فِي ذَلِكَ فَزَعَمَ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَاضِيَةً مَعْنًى لَا لَفْظًا احْتَاجَتْ إِلَى الْوَاوِ كَانَ فِيهَا ضَمِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَاتِّبَاعُهُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ هُوَ بِخُرُوجِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَرَاءَتِهِمْ، وَطَوَاعِيَّتِهِمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ «3» تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّوْفِيقِ فِي مَا فَعَلُوهُ، وَفِي ذَلِكَ تَحْسِيرٌ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ حَيْثُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَا فَازَ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ يَكُونُ هَذَا غَزْوًا؟ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ثَوَابَ الْغَزْوِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ.
وَهَذِهِ عَاقِبَةُ تَفْوِيضِ أَمْرِهِمْ إِلَيْهِ تَعَالَى، جَازَاهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ، وَسَلَامَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ رِضَاهُ.
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مَا: هِيَ الْكَافَّةُ لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ. وَهِيَ الَّتِي يَزْعُمُ مُعْظَمُ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَوْصُولَةً أَفَادَتْ مَعَ أَنَّ الْحَصْرَ. وَذَلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الرَّكْبِ الْمُثَبِّطِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْيَانٍ. وَقِيلَ: ذَلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا جَرَى مِنْ أَخْبَارِ الرَّكْبِ الْعَبْدِيِّينَ عَنْ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَحْمِيلِ أَبِي سُفْيَانَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَجَزَعِ مَنْ جَزِعَ مِنْهُ مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ مُتَرَدِّدٍ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعَانٍ، ولا بد
(1) سورة الأنعام: 6/ 93.
(2)
سورة الأحزاب: 33/ 25.
(3)
سورة البقرة: 2/ 174. [.....]
إِذْ ذَاكَ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا ذَلِكُمْ فِعْلُ الشَّيْطَانِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُ الشَّيْطَانِ، أَيْ قَوْلُ إِبْلِيسَ. فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَى الْقَوْلِ السَّابِقِ وَهُوَ: أَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ذَلِكُمْ بِالشَّيْطَانِ هُوَ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مَا جَرَى مِنْ قَوْلٍ فَقَطْ، أَوْ مِنْ قَوْلٍ، وَمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِمَّا صَدَرَ مِنَ الْعَدُوِّ مِنْ تَخْوِيفٍ، وَمَا صَدَرَ مِنْ جَزَعٍ، لَيْسَ نَفْسَ قَوْلِ الشَّيْطَانِ وَلَا فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ وَأُضِيفَ، لأنه ناشيء عَنْ وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ وَإِلْقَائِهِ.
وَالتَّشْدِيدُ فِي يُخَوِّفُ لِلنَّقْلِ، كَانَ قَبْلَهُ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَلَمَّا ضُعِّفَ صَارَ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ.
وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُ مَفْعُولَيْهَا، وَأَحَدُهُمَا اقْتِصَارٌ أَوِ اخْتِصَارٌ، أَوْ هُنَا تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَالْآخِرُ مَحْذُوفٌ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ وَيَكُونَ التقدير: يخوفكم أولياء، أَيْ شَرَّ أَوْلِيَائِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ. لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا تَخَافُ، وَيَكُونُ الْمُخَوَّفُونَ إذ ذاك الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، أَيْ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ شَرَّ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ:
أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى تَخْوِيفُهُ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ تَخْوِيفَهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ هُمُ الْكُفَّارِ: أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، إِذْ ظَهَرَ فِيهَا أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالنَّخَعِيُّ:
يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً مِثْلَهَا فِي يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ بِأَوْلِيَائِهِ، أَيْ: أَوْلِيَاءَهُ، كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، وَيَكُونَ مَفْعُولُ يُخَوِّفُ الثَّانِي مَحْذُوفًا أَيْ: يُخَوِّفُكُمُ الشَّرَّ بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَكُونُونَ آلَةً لِلتَّخْوِيفِ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: بِأَوْلِيَائِهِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ حَذَفَ مَفْعُولَا يُخَوِّفُ لِدَلَالَةِ، الْمَعْنَى عَلَى الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُخَوِّفُكُمُ الشَّرَّ بِأَوْلِيَائِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَالشَّيْطَانُ خَبَرُهُ، وَيُخَوِّفُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مَجِيءُ الْمُفْرَدِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مَكَانَهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «2» وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ بَدَلًا أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، ويكون يخوف خَبَرًا عَنْ ذَلِكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّيْطَانُ خَبَرُ ذَلِكُمْ، بِمَعْنَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الْمُثَبِّطُ هو الشيطان، ويخوّف أَوْلِيَاءَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِتَثْبِيطِهِ، أَوِ الشَّيْطَانُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُخَوِّفُ الْخَبَرُ. وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمٌ أَوْ أبو
(1) سورة النمل: 27/ 52.
(2)
سورة هود: 11/ 72.
سُفْيَانَ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِنَّمَا قَالَ:
وَالْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ نُعَيْمٌ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صِفَةً، وَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ. لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِبْلِيسُ كَانَ إِذْ ذَاكَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ، إِذْ أَصْلُهُ صِفَةٌ كَالْعَيُّوقِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى إِبْلِيسَ، كَمَا غَلَبَ الْعَيُّوقُ عَلَى النَّجْمِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكُمْ فِي الْإِعْرَابِ ابْتِدَاءٌ، وَالشَّيْطَانُ مُبْتَدَأٌ آخَرُ، وَيُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ خَبَرٌ عَنِ الشَّيْطَانِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ خَبَرٌ فِي تَنَاسُقِ الْمَعْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ خَبَرُ ذَلِكُمْ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ فِي الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ بَعِيدَةٌ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ إِعْرَابٌ لَا يَجُوزُ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي أَوْلِيَاءَهُ عَائِدًا عَلَى الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا عَنْ ذَلِكُمْ لَيْسَ فِيهَا رَابِطٌ يَرْبِطُهَا بِقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ، وَلَيْسَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هِجِّيرَى أَبِي بَكْرٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى ذَلِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَنِ الشَّيْطَانِ جَازَ، وَصَارَ نَظِيرَ: إِنَّمَا هِنْدٌ زَيْدٌ يَضْرِبُ غُلَامَهَا وَالْمَعْنَى: إِذْ ذَاكَ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الرَّكْبُ، أَوْ أَبُو سُفْيَانَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، أَيْ: أَوْلِيَاءَ الرَّكْبِ، أَوْ أَبِي سُفْيَانَ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَخَافُوهُمُ الظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى أَوْلِيَاءَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
أَوْلِيَاءَهُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «1» قَوَّى نُفُوسَ الْمُسْلِمِينَ فَنَهَاهُمْ عَنْ خَوْفِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَ بِخَوْفِهِ تَعَالَى، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ. أَيْ إِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَخَافَ الْمُؤْمِنُ إِلَّا اللَّهَ كَقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ «2» وَأَبْرَزَ هَذَا الشَّرْطَ فِي صِفَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا إِذْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا. وَأَثْبَتَ أَبُو عَمْرٍو يَاءَ وَخَافُونِ وَهِيَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ، وَالْأَصْلُ الْإِثْبَاتُ.
وَيَجُوزُ حَذْفُهَا لِلْوَقْفِ عَلَى نُونِ الْوِقَايَةِ بِالسُّكُونِ، فَتَذْهَبُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ خَوْفِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَهُمْ بِخَوْفِهِ وَحْدَهُ تَعَالَى، نَهَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُزْنِ لِمُسَارَعَةِ مَنْ سَارَعَ فِي الْكُفْرِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَتَوَقَّعُ حُزْنًا وَلَا ضَرَرًا مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، أَيْ: لَنْ يَضُرُّوا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَنْفِيُّ هُنَا ضَرَرٌ خَاصٌّ، وَهُوَ إِبْطَالُ الْإِسْلَامِ وَكَيْدُهُ حَتَّى يَضْمَحِلَّ، فَهَذَا لَنْ يَقَعَ أَبَدًا، بَلْ أَمْرُهُمْ يَضْمَحِلُّ وَيَعْلُو أَمْرُكَ عَلَيْهِمْ.
(1) سورة آل عمران: 3/ 173.
(2)
سورة الأحزاب: 33/ 39.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ارْتَدُّوا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ «1» وَقِيلَ: مُثِيرُ الحزن وهو شفقته صلى الله عليه وسلم، وَإِيثَارُهُ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى يُنْقِذَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «2» وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3» وَهَذَا مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ لِلنَّاسِ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: يُحْزِنْكَ مِنْ أَحْزَنَ، وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ الْمُضَارِعُ، إِلَّا فِي لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، فَقَرَأَهُ مِنْ حَزِنَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. يُقَالُ: حَزِنَ الرَّجُلُ أَصَابَهُ الْحُزْنُ، وَحَزَنْتُهُ جَعَلْتُ فِيهِ ذَلِكَ، وَأَحْزَنْتُهُ جَعَلْتُهُ حَزِينًا. وَقَرَأَ النَّحْوِيُّ: يُسْرِعُونَ مِنْ أَسْرَعَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَبْلَغُ، لِأَنَّ مَنْ يُسَارِعُ غَيْرَهُ أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنَ الَّذِي يُسْرِعُ وَحْدَهُ. وَفِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ.
وَقِيلَ: انتصابه عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ شَيْءٌ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ هُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. فَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنْهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ هُوَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ بَدَلُ النَّعِيمِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ قِيلَ: لَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الْإِرَادَةِ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى حِرْمَانِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ قَدْ خَلَصَ خُلُوصًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ صَارِفٌ قَطُّ، حِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الطُّغْيَانِ وَبُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِيهِ، حَتَّى أَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَرْحَمُهُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ لِأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ أَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ مُوجِبَةٌ، إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ مُرِيدٌ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ: الْكُفْرُ. وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَشَاؤُهُ، فَتَأَوَّلَ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ بِانْتِفَاءِ حَظِّهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِتَعَلُّقِهَا بِانْتِفَاءِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ.
وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي يُرِيدُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ. والثاني: يريد في
(1) سورة المائدة: 5/ 41.
(2)
سورة فاطر: 35/ 8.
(3)
سورة الشعراء: 26/ 3.
الْآخِرَةِ أَنْ يَحْرِمَهُمْ ثَوَابَهُمْ لِإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ بِكُفْرِهِمْ. وَالثَّالِثُ: يُرِيدُ يُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ بِمَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ «1» كَانَ عَامًّا، فَكَرَّرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ أَوْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَيَكُونُ لَيْسَ تَكْرِيرًا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ حُكِمَ عَلَى الْعَامِّ بِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا. وَيَنْدَرِجُ فِيهِ ذَلِكَ الْخَاصُّ أَيْضًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ لِلْخَاصِّ الْعَذَابَ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الْعِظَمِ وَالْأَلَمِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي حَقِّهِمْ فِي الْعَذَابِ. وَجَعَلَ ذَلِكَ اشْتِرَاءً. مِنْ حَيْثُ تَمَكُّنِهُمْ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَآثَرُوا الْكُفْرَ على الإيمان. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً مَعْنَى نُمْلِي: نُمْهِلُ وَنَمُدُّ فِي الْعُمْرِ. وَالْمُلَاءَةُ الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، وَالْمَلَوَانُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَيُقَالُ: مَلَّاكَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، أَيْ مَنَحَكَهَا عُمْرًا طَوِيلًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَحْسَبَنَّ بِتَاءِ الْخِطَابِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولًا أول. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَصْدَرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْمَصْدَرُ لَا يَكُونُ الذَّاتُ، فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ:
وَلَا تَحْسَبَنَّ شَأْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَصْحَابَ، أَنَّ الْإِمْلَاءَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. وَخَرَّجَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَاذِشِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. قَالَ ابْنُ الْبَاذِشِ: وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرِيَّةُ إِمْلَائِنَا لَهُمْ كَائِنَةٌ أَوْ وَاقِعَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ الْبَدَلِ وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِفِعْلِ الْحُسْبَانِ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟ (قُلْتُ) : صَحَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُنَحَّى، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِنَاعِ سُكُوتِكَ عَلَى مَتَاعَكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ الْبَاذِشِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ سَبَقَهُمَا إليه الكسائي والفراء، فالأوجه هَذِهِ الْقِرَاءَةِ التَّكْرِيرُ وَالتَّأْكِيدُ. التَّقْدِيرُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَمِثْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ، أَيْ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
(1) سورة المائدة: 5/ 41.
تأتيهم انتهى. وقد ردّ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ فَقَالَ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ، فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمَا انْتَهَى.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ اخْتِصَارًا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «1» إِنَّ تَقْدِيرَهُ: وَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ مَلْكُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ لَكِنَّهُ عَزِيزٌ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا نَادِرًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ. وَعَلَى الْبَدَلِ خَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهَا بِنَصْبِ خَيْرٍ.
قَالَ: وَقَدْ قَرَأَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَاقَ عَلَيْهَا مِثَالًا قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ
…
وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
بِنَصْبِ هُلْكٍ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بَدَلٌ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ: أَنَّمَا نُمْلِي بَدَلٌ، وَخَيْرًا:
الْمَفْعُولُ الثاني أي إملائنا خَيْرًا. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي حَكَاهَا الزَّجَّاجُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا أَحَدٌ. وَابْنُ مُجَاهِدٍ فِي بَابِ الْقِرَاءَاتِ هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ قُبْحَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى. وَعَلَى مَقَالَةِ الْأَخْفَشِ يكون إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وإنما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ إِمْلَاؤُنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْأَخْفَشِ جَوَازُ ذَلِكَ. وَلِإِشْكَالِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ زَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا لَحْنٌ وَرَدُّوهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مِنْ إِنَّمَا مَكْسُورَةٌ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَتَكُونَ إِنَّ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي مُشْكِلِهِ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَرَأَ تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ إِنَّمَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وَإِعْرَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَسَدَّتْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ. وَتَحْتَمِلُ مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَمَصْدَرِيَّةً، أَيْ: أَنَّ الَّذِي نُمْلِي، وَحُذِفَ الْعَائِدُ أَيْ: عَلَيْهِ وَفِيهِ شَرْطُ جَوَازِ الْحَذْفِ مِنْ كَوْنِهِ
(1) سورة آل عمران: 3/ 169.
مُتَّصِلًا مَعْمُولًا لِفِعْلٍ تَامٍّ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ، أَوْ أَنَّ إملائنا خَيْرٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ فَاعِلُ الْغَيْبِ كَفَاعِلِ الْخِطَابِ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وإنما نُمْلِي بِالْكَسْرِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيَكُونُ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا فَيَحْتَاجُ يَحْسَبَنَّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. فَلَوْ كَانَتْ أَنَّمَا مَفْتُوحَةً سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَكِنَّ يَحْيَى قَرَأَ بِالْكَسْرِ، فَخُرِّجَ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ فَكُسِرَتْ إِنَّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ اللَّامُ فِي حَيِّزِهَا. وَالْجُمْلَةُ الْمُعَلَّقُ عَنْهَا الْفِعْلُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ، وَهُوَ بَعِيدٌ: لِحَذْفِ اللَّامِ نَظِيرَ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ عَنِ الْعَمَلِ، مَعَ حَذْفِ اللَّامِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ:
إِنِّي وَجَدْتُ مَلَاكَ الشِّيمَةِ الْأَدَبُ أَيْ لَمِلَاكُ الشِّيمَةِ الْأَدَبُ، وَلَوْلَا اعْتِقَادُ حَذْفِ اللَّامِ لَنُصِبَ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَحْيَى بْنَ وَثَّابٍ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّمَا الْأُولَى، وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تحسبن الذين كفروا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا كَمَا يَفْعَلُونَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَتُوبُوا وَيَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَعْمُولِهِ، وَمَعْنَاهُ:
أَنَّ إِمْلَاءَنَا خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنْ عَمِلُوا فِيهِ وَعَرَفُوا إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَفْسِيحِ الْمُدَّةِ، وَتَرْكِ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ. وَظَاهِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعُمُومُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا، وَلَيْسَتْ فِي كُلِّ كَافِرٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْإِمْلَاءُ مِمَّا يُدْخِلُهُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ لَهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَعَانِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ كَوْنَنَا ظَاهِرِينَ مُمَوَّلِينَ أَصِحَّةً دَلِيلٌ عَلَى رِضَا اللَّهِ بِحَالِنَا وَاسْتِقَامَةِ طَرِيقَتِنَا عِنْدَهُ. وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ وَالْإِهْمَالَ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لِتَكْثِيرِ الْآثَامِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا أَمَّا الْبَرَّةُ فَلْتُسْرِعْ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «1» وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَلِئَلَّا تَزْدَادَ إِثْمًا، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ انْتَهَى.
(1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 198.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْإِمْلَاءُ لَهُمْ تحليتهم، وَشَأْنُهُمْ مُسْتَعَارٌ مِنْ أَمْلَى لِفَرَسِهِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الطُولَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ. وَقِيلَ: هُوَ إِمْهَالُهُمْ وَإِطَالَةُ عُمْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِمْلَاءَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ مَنْعِهِمْ أَوْ قَطْعِ آجَالِهِمْ، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ يَحْسَبُونَ الْإِمْلَاءَ خَيْرًا لَهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ غَرَضًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي إِمْلَائِهِ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : هُوَ عِلَّةُ الْإِمْلَاءِ، وَمَا كُلُّ عِلَّةٍ بِغَرَضٍ. أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِغَرَضٍ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. فَكَذَلِكَ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ جُعِلَ عِلَّةً لِلْإِمْلَاءِ، وَسَبَبًا فِيهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ ازْدِيَادُ الْإِثْمِ عِلَّةً لِلْإِمْلَاءِ، كَمَا كَانَ الْعَجْزُ عِلَّةً لِلْقُعُودِ عَنِ الْحَرْبِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُمْ مُزْدَادُونَ إِثْمًا، فَكَانَ الْإِمْلَاءُ وَقَعَ لِأَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكُلُّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمُعْتَزِلَةُ تَنَاوَلُوهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. أَيْ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنما نملي لهم ليزدادو إِثْمًا، أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ سبحانه وتعالى عَنْ حُسْبَانِهِمْ فِيمَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ إِمْهَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِصَابَتَهُمُ الصِّحَّةَ وَالسَّلَامَةَ وَالْأَمْوَالَ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَاقِبَةِ، بَلْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ شَرٌّ. وَفِي التأويل الأول إِفْسَادُ النَّظْمِ، وَفِي الثَّانِي تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ تَنْبِيهُهُ. فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْعَاقِبَةِ يَكُونُ لِسَهْوٍ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ غَفْلَةٍ، وَالْعَالِمُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُنَبِّهُ نَفْسَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَتَبُوا مَا مُتَّصِلَةً بِأَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ الْأَوْلَى فِي عِلْمِ الْخَطِّ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً، وَلَكِنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْإِمَامِ مُتَّصِلَةً فَلَا تُخَالَفُ، وَنَتَّبِعُ سُنَّةَ الْإِمَامِ فِي الْمَصَاحِفِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا كَافَّةٌ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي. وَلَا مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّ لَامَ كَيْ لَا يَصِحَّ وُقُوعُهَا خبر لِلْمُبْتَدَأِ وَلَا لِنَوَاسِخِهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لِيَزْدَادُوا لِلصَّيْرُورَةِ. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ هَذِهِ الْوَاوُ فِي: وَلَهُمْ، لِلْعَطْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، يَعْنِي قِرَاءَةَ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ بِكَسْرِ إِنَّمَا الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهُ وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لِزِيَادَةِ الْإِثْمِ وَلِلتَّعْذِيبِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ. كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا مُعَدًّا لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ انْتَهَى. وَالَّذِينَ نَقَلُوا قِرَاءَةَ يَحْيَى لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ الثَّانِيَةَ بِالْفَتْحِ إِلَّا هُوَ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ قَرَأَ الْأُولَى بِالْكَسْرِ. وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مِنْ وُلُوعِهِ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ يَرُومُ رَدَّ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَلَمَّا قَرَّرَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ الْمَعْنَى عَلَى نَهْيِ
الْكَافِرِ أَنْ يَحْسَبَ أَنَّمَا يُمْلِي اللَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِثْمِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُمْلِي لِأَجْلِ الْخَيْرِ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يَدْفَعُ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَخُرِّجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ حَتَّى يَزُولَ هَذَا التَّدَافُعَ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ ظَاهِرِ آخِرِ الْآيَةِ. وَوَصَفَ تَعَالَى عَذَابَهُ فِي مَقَاطِعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: بِعَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمَهِينٍ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُنَاسَبَةٌ تَقْتَضِي خَتْمَ الْآيَةِ بِهَا. أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ الْمُسَارَعَةَ فِي الشَّيْءِ وَالْمُبَادَرَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَالتَّحَلِّي بِهِ يَقْتَضِي جَلَالَةَ مَا سُورِعَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنَ النَّفَاسَةِ وَالْعِظَمِ بِحَيْثُ يَتَسَابَقُ فِيهِ، فَخُتِمَتِ الْآيَةُ بِعِظَمِ الثَّوَابِ وَهُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ إِشْعَارًا بِخَسَاسَةِ مَا سَابَقُوا فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا اشْتِرَاءَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَمِنْ عَادَةِ الْمُشْتَرِي الِاغْتِبَاطُ بِمَا اشْتَرَاهُ وَالسُّرُورُ بِهِ وَالْفَرَحُ، فَخُتِمَتِ الْآيَةُ لِأَنَّ صَفْقَتَهُ خَسِرَتْ بِأَلَمِ الْعَذَابِ، كَمَا يَجِدُهُ الْمُشْتَرِي الْمَغْبُونُ فِي تِجَارَتِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْإِمْلَاءَ وَهُوَ الْإِمْتَاعُ بِالْمَالِ وَالْبَنِينِ وَالصِّحَّةِ وَكَانَ هَذَا الْإِمْتَاعُ سَبَبًا لِلتَّعَزُّزِ وَالتَّمَتُّعِ وَالِاسْتِطَاعَةِ فَخُتِمَتِ الْآيَةُ بِإِهَانَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ. وَأَنَّ ذَلِكَ الْإِمْلَاءَ الْمُنْتَجَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا التَّعَزُّزُ وَالِاسْتِطَالَةُ مَآلُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى إِهَانَتِهِمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي يُهِينُ الْجَبَابِرَةَ. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنِ اخْتِلَاطِكُمْ بِالْمُنَافِقِينَ. وَإِشْكَالِ أَمْرِهِمْ وَإِجْرَاءِ الْمُنَافِقِ مَجْرَى الْمُؤْمِنِ، وَلَكِنَّهُ مَيَّزَ بَعْضًا مِنْ بَعْضٍ بِمَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْكُفَّارُ مِنِ اخْتِلَاطِكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: قَالَ الْكُفَّارُ فِي بَعْضِ جَدَلِهِمْ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ فِي الرَّجُلِ مِنَّا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا؟ وَلَكِنْ أَخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ مِنَّا، وَبِمَنْ يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ، فَنَزَلَتْ. فَقِيلَ لَهُمْ: لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَدَّلَ الْكَافِرِينَ بِالْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَنِ الْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ؟ (قُلْتُ) : لِلْمُصَدِّقِينَ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُخْلِصِينَ مِنْكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مِنِ اخْتِلَاطِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مُخْلِصُكُمْ مِنْ مُنَافِقِكُمْ، لِاتِّفَاقِكُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ جَمِيعًا حَتَّى يُمَيِّزَهُمْ مِنْكُمْ بِالْوَحْيِ إِلَى نَبِيِّهِ بِإِخْبَارِهِ بِأَحْوَالِكُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَتْرُكُكُمْ مُخْتَلِطِينَ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ، بِأَنْ يُكَلِّفَكُمُ التَّكَالِيفَ الصَّعْبَةَ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا إِلَّا الْخُلَّصُ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ كَبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عِيَارًا عَلَى عَقَائِدِكُمْ، وَشَاهِدًا بِضَمَائِرِكُمْ، حَتَّى يَعْلَمَ بَعْضُكُمْ مَا فِي قَلْبِ بَعْضٍ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَاتِ الصُّدُورِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ انْتَهَى.
وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ لِابْنِ كَيْسَانَ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى مَا يَذَرُكُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، فَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقَوْلَ الَّذِي قَبْلَهُ وَنَمَّقَهُمَا بِبَلَاغَتِهِ وَحُسْنِ خَطَابَتِهِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمُ الَّذِينَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يستهزؤون بِالْمُؤْمِنِينَ سِرًّا فَقَالَ: لَا يَدَعُكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَكِنْ يَمْتَحِنُكُمْ لِتَفْتَضِحُوا وَيَظْهَرَ نِفَاقُكُمْ عِنْدَهُمْ، لَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ لَهُمْ دَارًا أُخْرَى يُمَيِّزُ فِيهَا الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَجْعَلُ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ، وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ. وَالْخَبِيثُ الْكَافِرُ، وَالطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَتَمْيِيزُهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَالْخَبِيثُ الْمُنَافِقُ، مَيَّزَ بَيْنَهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقِيلَ: الْخَبِيثُ الْكَافِرُ، وَالطَّيِّبُ الْمُؤْمِنُ، وَتَمْيِيزُهُ بِإِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَلْبِ الْآخَرِ. وَقِيلَ:
تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ هُوَ إِخْرَاجُ الذُّنُوبِ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا. وَقِيلَ: الْخَبِيثُ الْعَاصِي، وَالطَّيِّبُ الْمُطِيعُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، إِذْ كَانَ الْمَعْهُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الْكَافِرُ وَالطَّيِّبَ هُوَ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ «1» الْآيَةَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَذَرَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ لَامُ الْجُحُودِ، وَهِيَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَتَعْمَلُ بِنَفْسِهَا النَّصْبَ فِي الْمُضَارِعِ. وَخَبَرُ كَانَ هُوَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا فَتَقُولُ: مَا كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَمَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِذَا أَكَّدْتَ النَّفْيَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ خَبَرَ كَانَ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ النَّصْبَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وَاجِبَةِ الْإِضْمَارِ، وَأَنَّ اللَّامَ مُقَوِّيَةٌ لِطَلَبِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ لِمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَانَ اللَّهُ مُرِيدًا لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: مَا كَانَ مُرِيدًا لِتَرْكِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالتَّكْمِيلِ في شرح التسهيل.
(1) سورة النور: 24/ 26.
وَحَتَّى لِلْغَايَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى أَنْ يُمَيِّزَهَا كَذَا قَالُوا، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ غَايَةً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَتْرُكُهُمْ مُخْتَلِطِينَ إِلَى أَنْ يُمَيِّزَ، فَيَكُونُ قَدْ غَيَّا نَفْيَ التَّرْكِ إِلَى وُجُودِ التَّمْيِيزِ، فَإِذَا وُجِدَ التَّمْيِيزُ تَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَاطِ، وَصَارَ نَظِيرَ مَا أَضْرِبُ زَيْدًا إِلَى أَنْ يَجِيءَ عَمْرٌو، فَمَفْهُومُهُ: إِذَا جَاءَ عَمْرٌو ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هِيَ غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لَهُ. وَمَعْنَى مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّصُ مَا بَيْنَكُمْ بِالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، إِلَى أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: يُمَيِّزَ مِنْ مَيَّزَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَمِيزَ مِنْ مَازَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرِ: يُمَيِّزُ مِنْ أَمَازَ، وَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، كَمَا أَنَّ التَّضْعِيفَ لَيْسَ لِلنَّقْلِ، بَلْ أَفْعَلَ وَفَعِلَ بِمَعْنَى الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ كَحَزِنَ وَأَحْزَنَ، وَقَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزُ ذَلِكَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَيْبِ.
وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَيُطْلِعَهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ. فَوُقُوعُ لَكِنَّ هنا لكون هُنَا لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا ضِدًّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. إِذْ تَضَمَّنَ اجْتِبَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ إِطْلَاعَهُ إِيَّاهُ عَلَى مَا أَرَادَ تَعَالَى مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَإِطْلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الْغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبِرُ بِأَنَّ فِي الْغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِطْلَاعِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ.
قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فِيمَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ يَبْقَى كَافِرًا، وَلَكِنَّ هَذَا رَسُولٌ مُجْتَبًى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ فِي أَمْرِ أَحَدٍ أَيْ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ تُهْزَمُونَ، أَوْ تَكُفُّونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَصْرِيحًا بِهِمْ، وَتَسْمِيَةً بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَكِنْ بِقَرَائِنِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. وَالْغَيْبُ هُنَا مَا غَابَ عَنِ الْبَشَرِ مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ، وَمِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُونَهَا إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَالَ: لِمَ لَا يَكُونُ جَمِيعُنَا أَنْبِيَاءُ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا: لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ؟ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَهَلَّا كَانَ الْوَحْيُ إِلَيْنَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْتَرْقُونَ السَّمْعَ، فَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ بَعْدَ بِعْثَتِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ فَيَجْعَلُهُ رَسُولًا فَيُوحِي إِلَيْهِ، أَيْ: لَيْسَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ، أَخْبَرَ أَنَّكُمْ لَا تُدْرِكُونَ أَنْتُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَى مَا أَكَنَّتْهُ الْقُلُوبُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيُطْلِعُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَتُطْلَعُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ بِإِخْبَارِهِ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ بِوَحْيِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: حُكِمَ بِأَنَّهُ يَظْهَرُ هَذَا التَّمْيِيزُ. ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي عَوَامِّ النَّاسِ بِأَنْ يُطْلِعَهُمْ عَلَى غَيْبَهِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ فُلَانًا مُنَافِقٌ، وَفُلَانًا مُؤْمِنٌ. بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ بِأَنْ لَا يُطْلِعَ عَوَامَّ النَّاسِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالِامْتِحَانِ. فَأَمَّا مَعْرِفَةُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ فَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَخُصُّهُمْ بِإِعْلَامِ أَنَّ هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالتَّفَاسِيرُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْغَيْبَ الَّذِي نَفَى اللَّهُ إِطْلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَكُمْ كُلَّكُمْ عَالِمِينَ بِالْمُغَيَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ الرَّسُولُ حَتَّى تَصِيرُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ، بَلِ اللَّهُ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِذَلِكَ وَهُوَ الرَّسُولُ، فَتَنْدَرِجُ أَحْوَالُ الْمُنَافِقِ وَالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْعَامِّ.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ من يشاء فيطلعه على الْمُغَيَّبَاتِ، أَمَرَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْمُجْتَبَى، وَالْمُجْتَبَى وَمَنْ يَشَاءُ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، إِذْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَإِخْبَارِهِ لَكُمْ بِهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ. وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ وَرُسُلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَى أَيْدِيهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، بِأَنْ تُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَتُعْلِمُونَهُ وَحْدَهُ مُطَّلِعًا عَلَى الْغُيُوبِ، وَأَنْ يُنْزِلُوهُمْ مَنَازِلَهُمْ بِأَنْ تَعْلَمُوهُمْ عِبَادًا مُجْتَبِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَلَا يُخْبِرُونَ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، وَلَيْسُوا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ انْتَهَى.
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ رَتَّبَ حُصُولَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: الْإِيمَانُ السَّابِقُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَعَلَى التَّقْوَى وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَأَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
قَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: نَزَلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: فِي أهل الكتاب وبخلهم تبيان مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، شَرَعَ فِي التَّحْرِيضِ هُنَا عَلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ، وَالْبُخْلُ الشَّرْعِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ بَذْلِ الْوَاجِبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ، فَتَكُونُ الَّذِينَ أَوَّلَ مَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبَنَّ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بُخْلَ الَّذِينَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى ضمير الرسول أو ضمير أحد فيكون الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: بُخْلُهُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ. وَحَذْفُهُ كَمَا قُلْنَا: عَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ مِنْ كَوْنِ الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ فَصْلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْقَاطِ هُوَ، وَخَيْرًا هُوَ الْمَفْعُولُ بِتَحْسَبَنَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَدَلَّ قَوْلُهُ: يَبْخَلُونَ عَلَى هَذَا الْبُخْلِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا دَلَّ السَّفِيهُ عَلَى السَّفَهِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إليه
…
وخالف وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافٍ
وَالْمَعْنَى: جَرَى إِلَى السَّفَهِ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا سَوَاءً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّالَّ فِي الْآيَةِ هُوَ الْفِعْلُ، وَفِي الْبَيْتِ هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِضْمَارُ الْمَصْدَرِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَمْ تَكْثُرْ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ إِنَّمَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَ.
وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْآيَةِ حَذْفًا لِظَاهِرٍ، إِذْ قَدَّرُوا الْمَحْذُوفَ بُخْلُهُمْ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَهُوَ إِضْمَارٌ، لَا حَذْفٌ. وَيَظْهَرُ لِي تَخْرِيجٌ غَرِيبٌ فِي الْآيَةِ تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذَا جَعَلْنَا الْفِعْلَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْسَبَنَّ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ، وَيَبْخَلُونَ يَطْلَبُ مَفْعُولًا بِحَرْفِ جَرٍّ، فَقَوْلُهُ: مَا آتَاهُمْ يَطْلُبُهُ يَحْسَبَنَّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ هُوَ فَصْلًا، وَخَيْرًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَيَطْلُبُهُ يَبْخَلُونَ بِتَوَسُّطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَأَعْمَلَ الثَّانِي عَلَى الْأَفْصَحِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَبْخَلُونَ. فَعُدِّيَ بِحَرْفِ
الْجَرِّ وَاحِدٌ مَعْمُولُهُ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ تَحْسَبَنَّ الْأَوَّلُ، وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ، إِنَّمَا التَّنَازُعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ. وَسَاغَ حَذْفُهُ وَحْدَهُ، كَمَا سَاغَ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ سِيبَوَيْهِ: مَتَى رَأَيْتُ أَوْ قُلْتُ: زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، لِأَنَّ رَأَيْتُ وَقُلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنَازَعَا زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، وَفِي الْآيَةِ: لَمْ يَتَنَازَعَا إِلَّا فِي الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى:
وَلَا تَحْسَبَنَّ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّخْرِيجِ يَكُونُ هُوَ فَصْلًا لِمَا آتَاهُمُ الْمَحْذُوفُ، لَا لِتَقْدِيرِهِمْ بُخْلَهُمْ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ ظَنَّ الَّذِي مَرَّ بِهِنْدٍ هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ الْمَعْنَى، ظَنَّ هَنْدًا الشَّخْصَ الَّذِي مَرَّ بِهَا هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ، فَالَّذِي تَنَازَعَهُ الْفِعْلَانِ هُوَ الِاسْمُ الْأَوَّلُ، فَأَعْمَلَ الْفِعْلُ الثَّانِيَ وَبَقِيَ الْأَوَّلُ يَطْلُبُ مَحْذُوفًا، وَيَطْلُبُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مُثْبَتًا، إِذْ لَمْ يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ النَّهْيُ انْتِفَاءَ كَوْنِ الْبُخْلِ أَوِ الْمَبْخُولِ بِهِ خَيْرًا لَهُمْ، وَكَانَ تَحْتَ الِانْتِفَاءِ قَسَمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ، وَالْآخَرُ إِثْبَاتُ الشَّرِّ، أَتَى بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تُعَيِّنُ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ شَرًّا لَهُمْ.
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ «1» وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ سَيُلْزَمُونَ عِقَابَهُ إِلْزَامَ الطَّوْقِ، وَفِي الْمَثَلِ لِمَنْ جَاءَ بِهَنَةٍ تَقَلَّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:
هُوَ مِنَ الطَّاقَةِ لَا مِنَ التَّطْوِيقِ، وَالْمَعْنَى: سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ. كقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ «2» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: إِنَّ الْبُخْلَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَالًا فَيَمْنَعُ مِنْهُ قَرَابَتَهُ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي مَالِهِ، فَيُجْعَلُ حَيَّةً يُطَوَّقُهَا فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ»
وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَاكْتِنَازِ الْمَالِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ مَا يَقَعُ مِنْ إرث في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ حَقِيقَةً، فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِلْكُهُ هُوَ مَالِكُهُ حقيقة. وإذا كَانَ هُوَ مَالِكُهُ فَمَا لَكُمْ تَبْخَلُونَ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ مُمَتَّعُونَ بِهِ لَا مَالِكُوهُ حَقِيقَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «3» .
(1) سورة آل عمران: 3/ 180.
(2)
سورة البقرة: 2/ 184.
(3)
سورة الحديد: 57/ 7. [.....]