المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة ال عمران

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 14]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 18]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 41]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 42 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 61]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 68]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]

- ‌[سُورَةُ آل عمران (3) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 83 الى 91]

- ‌[سورة آل عمران (3) : آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 101]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 112]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 120]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 141]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 152]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 180]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]

- ‌سورة النّساء

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 15 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 38]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 39]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 56]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 57]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 73]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78]

- ‌[سورة النساء (4) : آية 79]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 80 الى 86]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، نُهُوا عن شيء فضيعوه، فو الله مَا تُرِكُوا حَتَّى غُمُّوا بِهَذَا الْغُمِّ. يَا فِسْقَ الْفَاسِقِينَ الْيَوْمَ يُحِلُّ كُلَّ كَبِيرَةٍ، وَيَرْكَبُ كُلَّ دَاهِيَةٍ، وَيَسْحَبُ عَلَيْهَا ثِيَابَهُ، وَيَزْعُمُ أَنْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُ الْحَسَنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِالْعِصْيَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ قَوْلِهِ: وَعَصَيْتُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الذَّنْبَ كَانَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ، فَعَفَا عَنْكُمْ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِالْعَفْوِ عَمَّا كَانَ يُسْتَحَقُّ بِالذَّنْبِ مِنَ الْعِقَابِ.

وَقَالَ بِهَذَا: ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَجَمَاعَةٌ. وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَحْذِيرٌ.

وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي الْأَحْوَالِ، أَوْ بِالْعَفْوِ.

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ ضُرُوبًا: مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ فِي: أَمْ حَسِبْتُمْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: انْقَلَبْتُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ، وَفِي ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ. وَالْمُغَايِرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ قَالُوا. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ فِي: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أَيِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا فِيمَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْقُلُوبِ، لِأَنَّ ثَبَاتَ الْأَقْدَامِ مُتَسَبِّبٌ عَنْ ثَبَاتِ الْقُلُوبِ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَالتَّكْرَارُ فِي:

وَلَمَّا يَعْلَمْ وَيَعْلَمْ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ. أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ الصَّابِرِ. وَفِي: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي الْمَوْتِ خِلَافُ الْعُرْفِ فِي الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى: مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ فَهُوَ وَاحِدٌ.

وَمَنْ فِي وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَفِي: ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي قَوْلِ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَفِي:

ثواب وحسن ثواب. وَفِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ. وَالتَّقْسِيمُ فِي:

وَمَنْ يُرِدْ وَفِي مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: الشَّاكِرِينَ، وَالصَّابِرِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ.

وَالطِّبَاقُ: فِي آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالتَّشْبِيهُ فِي: يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، شَبَّهَ الرُّجُوعَ عَنِ الدِّينِ بِالرَّاجِعِ الْقَهْقَرَى، وَالَّذِي حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْكُفْرِ بِالْخَاسِرِ الَّذِي ضَاعَ رِبْحُهُ وَرَأْسُ مَالِهِ وَبِالْمُنْقَلِبِ الَّذِي يَرُوحُ فِي طَرِيقٍ وَيَغْدُو فِي أُخْرَى، وَفِي قَوْلِهِ: سَنَلْقَى. وَقِيلَ:

هَذَا كُلُّهُ اسْتِعَارَةٌ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 163]

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)

ص: 381

الْإِصْعَادُ: ابْتِدَاءُ السَّفَرِ، وَالْمَخْرَجُ. وَالصُّعُودُ: مَصْدَرُ صَعِدَ رَقَى مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ، قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَأَبُو حَاتِمٍ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أَصْعَدَ أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ، فَكَأَنَّهُ إِبْعَادٌ كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاعِ. قَالَ:

ص: 382

أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ صَعِدْتَ

فَإِنَّ لَهَا فِي أَرْضِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا

وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:

قَدْ كُنْتَ تُبْكِينِي عَلَى الْإِصْعَادِ

فَالْيَوْمَ سَرَحْتُ وَصَاحَ الْحَادِي

وَقَالَ المفضل: صعد، وأصعد وصعّده بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. وَصَعَدَةٌ:

اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَرْضِ. وَأَصْعَدَ: مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الصَّعِيدِ.

فَاتَ الشَّيْءُ أَعْجَزَ إِدْرَاكُهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَمَصْدَرُهُ: فَوْتٌ، وَهُوَ قِيَاسُ فِعْلِ الْمُتَعَدِّي.

النُّعَاسُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ. يُقَالُ: نَعِسَ يَنْعَسُ نُعَاسًا فَهُوَ نَاعِسٌ، وَلَا يُقَالُ: نَعْسَانُ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ سَمِعْتُهَا وَلَكِنِّي لَا أَشْتَهِيهَا.

الْمَضْجَعُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُتَّكَأُ فِيهِ لِلنَّوْمِ، وَمِنْهُ: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ «1» وَالْمَضَاجِعُ: الْمَصَارِعُ، وَهِيَ أَمَاكِنُ الْقَتْلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِضَجْعَةِ الْمَقْتُولِ فِيهَا.

الْغَزْوُ الْقَصْدُ وَكَذَلِكَ الْمَغْزَى، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى قَصْدٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ: الْإِيقَاعُ بِالْعَدُوِّ.

وَتَقُولُ: غَزَا بَنِي فُلَانٍ، أَوْقَعَ بِهِمُ الْقَتْلَ وَالنَّهْبَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَغُزًّى: جَمْعُ غَازٍ، كعاف وعفى. وَقَالُوا: غُزَّاءٌ بِالْمَدِّ. وَكِلَاهُمَا لَا يَنْقَاسُ. أَجْرَى جَمْعَ فَاعِلِ الصِّفَةِ مِنَ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ مَجْرَى صَحِيحِهَا، كَرُكَّعٍ وَصُوَّامٍ. وَالْقِيَاسُ: فُعَلَةٌ كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ. وَيُقَالُ: أَغْزَتِ النَّاقَةُ عَسُرَ لَقَاحُهَا. وَأَتَانٌ مُغْزِيَةٌ تَأَخَّرَ نِتَاجُهَا ثُمَّ تُنْتِجُ.

يُقَالُ: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَلِينُ، فَهُوَ لَيِّنٌ. وَالْمَصْدَرُ: لِينٌ وَلَيَانٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ فِي الْجِرْمِ وَهُوَ نُعُومَتُهُ، وَانْتِفَاءُ خُشُونَتِهِ، وَلَا يُدْرَكُ إِلَّا بِاللَّمْسِ. ثُمَّ تَوَسَّعُوا وَنَقَلُوهُ إِلَى الْمَعَانِي.

الْفَظَاظَةُ الْجَفْوَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنَةٍ لَهُ:

أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ

وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ

الْغِلَظُ: أَصْلُهُ فِي الْجِرْمِ، وَهُوَ تَكَثُّرُ أَجْزَائِهِ. ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي قِلَّةِ الِانْفِعَالِ وَالْإِشْفَاقِ وَالرَّحْمَةِ. كَمَا قَالَ:

يَبْكِي عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ

لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ

الِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ. وَفَضَضْتُ الشَّيْءَ كَسَرْتُهُ، وَهُوَ تَفْرِقَةُ أجزائه.

(1) سورة النساء: 4/ 34.

ص: 383

الْخَذْلُ وَالْخِذْلَانُ: هُوَ التَّرْكُ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّارِكِ. وَأَصْلُهُ: مِنْ خَذْلِ الظَّبْيِ، وَلِهَذَا قِيلَ لَهَا: خَاذِلٌ إِذَا تَرَكَتْهَا أُمُّهَا. وَهَذَا عَلَى النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ خَذْلٍ، لِأَنَّ الْمَتْرُوكَةَ هِيَ الْخَاذِلُ بِمَعْنَى مَخْذُولَةٍ، وَيُقَالُ: خَاذِلَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أَدْمَاءَ خَاذِلَةٍ

مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِنًا خَرِقَا

وَيُقَالُ أَيْضًا لَهَا: خَذُولٌ فَعُولٌ، بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ:

خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ

تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيدِ وَتَرْتَدِي

الْغُلُولُ: أَخْذُ الْمَالِ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي خَفَاءٍ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ غَلَّ يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَالْغِلُّ الضَّغَنُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ غَلَّ يَغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ إِغْلَالًا، خَانَ فِي الْأَمَانَةِ. قَالَ النَّمِرُ:

جَزَى اللَّهُ عَنِّي جَمْرَةَ بْنَ نَوْفَلٍ

جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ

وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْغُلُولُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَلَلِ وَهُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وَالرُّوحِ. وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْغُلُولِ: أَغَلَّ إِغْلَالًا وَأَغَلَّ الْحَارِزُ سَرَقَ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ مَعَ الْجِلْدِ. وَيُقَالُ: أَغَلَّهُ وَجَدَهُ غَالًّا كَقَوْلِكَ: أَبْخَلْتُهُ وَجَدْتَهُ بَخِيلًا.

السُّخْطُ مَصْدَرُ سَخِطَ، جَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَيُقَالُ فِيهِ: السُّخْطُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَيُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ فِي سُخْطَةِ الْمَلِكِ أَيْ فِي سُخْطِهِ. وَالسُّخْطُ الْكَرَاهَةُ الْمُفْرِطَةُ، وَيُقَابِلُهُ الرِّضَا.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي تَضَمَّنَتِ التَّوْبِيخَ وَالْعَتَبَ الشَّدِيدَ. إِذْ هُوَ تِذْكَارٌ بِفِرَارِ مَنْ فَرَّ وَبَالَغَ فِي الْهَرَبِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ إِلَيْهِ. فَمِنْ شِدَّةِ الْفِرَارِ وَاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَرُومُ نَجَاتَهَا لَمْ يُصْغِ إِلَى دُعَاءِ الرَّسُولِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَتَبِ حَيْثُ فَرَّ، وَالْحَالَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُصْعِدُونَ مُضَارِعُ أَصْعَدَ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَصْعَدَ لِلدُّخُولِ. أَيْ: دَخَلْتُمْ فِي الصَّعِيدِ، ذَهَبْتُمْ فِيهِ. كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ زَيْدٌ، أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ. فَالْمَعْنَى: إِذْ تَذْهَبُونَ فِي الْأَرْضِ. وَتُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْيَزِيدِيُّ: تُصْعِدُونَ مِنْ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ إِذَا ارْتَقَى إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْرَةَ: تَصَعَّدُونَ مِنْ تَصَعَّدَ فِي السُّلَّمِ، وَأَصْلُهُ: تَتَصَعَّدُونْ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى

ص: 384

الخلاف في ذلك، أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ؟ أَمْ تَاءُ تَفْعَلُ؟ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ أَوَّلًا أَصْعَدُوا فِي الْوَادِي لَمَّا أَرْهَقَهُمُ الْعَدْوُ، وَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ:

يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَائِبِ. والعامل في إذا ذكر مَحْذُوفَةٌ. أَوْ عَصَيْتُمْ، أَوْ تَنَازَعْتُمْ، أَوْ فَشِلْتُمْ، أَوْ عَفَا عَنْكُمْ، أَوْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، أَوْ صَرَفَكُمْ، وَهَذَانِ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمَا قَبْلَهُ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَالثَّلَاثَةُ قَبْلَهُ بَعِيدَةٌ لِطُولِ الْفَصْلِ. وَالْأَوَّلُ جَيِّدٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ إِذْ جُمَلٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ إِعْرَابِيٌّ بِمَا بَعْدَهَا، إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّيَاقَ كُلَّهَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَتَعَلُّقُهُ بِصَرَفَكُمْ جَيِّدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَبِعَفَا عَنْكُمْ جَيِّدٌ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبِ.

وَمَعْنَى ولا تلوون على أحد: أَيْ لَا تَرْجِعُونَ لِأَحَدٍ من شدة الفرار. يقال: لَوَى بِكَذَا ذَهَبَ بِهِ. وَلَوَى عَلَيْهِ: كَرَّ عَلَيْهِ وَعَطَفَ. وَهَذَا أَشَدُّ فِي الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَخُو الْجَهْدِ لَا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا لِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ نَفْيٌ عَامٌّ، وَفِي هَذَا نَفْيٌ خَاصٌّ، وَهُوَ عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا. وَقَالَ دريد ابن الصِّمَّةَ: وَهَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شيء؟ وقرىء تلو من بِإِبْدَالِ الوَاوِ هَمْزَةَ، وَذَلِكَ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ. وَقِيَاسُ هَذِهِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ أَنْ لَا تُبْدَلَ هَمْزَةً لِأَنَّ الضَّمَّةَ فِيهَا عَارِضَةٌ. وَمَتَى وَقَعَتِ الْوَاوُ غَيْرَ أَوَّلٍ وَهِيَ مَضْمُومَةٌ، فَلَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ مِنْهَا هَمْزَةً إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ لَازِمَةً. الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا بِالْإِسْكَانِ. مِثَالُ ذَلِكَ: فَوُوجٌ وَفَوُولٌ.

وَغَوُورٌ. فَهُنَا يَجُوزُ فؤوج وقؤول وغؤور بِالْهَمْزِ. وَمِثْلُ كَوْنِهَا عَارِضَةٌ: هَذَا دُلُوكٌ. وَمِثْلُ إِمْكَانِ تَخْفِيفِهَا بِالْإِسْكَانِ: هَذَا سُورٌ، وَنُورٌ، جَمْعُ سُوَارٍ وَنُوَارِ. فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهِمَا: سُورٌ وَنُورٌ. وَنَبَّهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ مُدْغَمًا فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعود بِإِبْدَالِ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً. وَزَادَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ شَرْطًا آخَرُ وَهُوَ: أَنْ لَا تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ نَحْوَ: التَّرَهْوُكُ وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَلُونَ، وَخَرَّجُوهَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزِ الْوَاوِ، وَنَقَلَ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحذفت إحدى الواوين الساكنين، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ:

هِيَ قِرَاءَةٌ مُتَرَكِّبَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ هَمَزَ الْوَاوَ الْمَضْمُومَةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ انْتَهَى. وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ تَخَيَّلَ هَذَا الرَّجُلُ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَتِ الْحَرَكَةُ إِلَى اللَّامِ فَاجْتَمَعَ وَاوَانِ سَاكِنَانِ، إِحْدَاهُمَا: الْوَاوُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، وَالْأُخْرَى: وَاوُ الضَّمِيرِ. فَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِأَنَّهُمَا سَاكِنَتَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي صِنَاعَةِ النَّحْوِ. لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُتَرَكِّبَةً عَلَى لُغَةِ مَنْ هَمَزَ الْوَاوَ ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى اللَّامِ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ إِذْ ذَاكَ تُحْذَفُ، وَلَا يَلْتَقِي

ص: 385

واوان ساكنتان. وَلَوْ قَالَ: اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ، لِأَنَّ الضَّمَّةَ كَأَنَّهَا وَاوٌ، فَصَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ جَمَعَ ثَلَاثَ وَاوَاتٍ، فَتَنْقَلِبُ الضَّمَّةُ إِلَى اللَّامِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتِ الْأُولَى مِنْهُمَا، وَلَمْ يُبْهِمْ فِي قَوْلِهِ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لَأَمْكَنَ ذَلِكَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، أَمَّا أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ هَمَزَ عَلَى زَعْمِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعَ وَلِيَ وَعُدِّيَ بِعَلَى، عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى الْعَطْفِ. أَيْ: لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَاصِمٍ: تُلْوُونَ مِنْ أَلْوَى، وَهِيَ لُغَةٌ فِي لَوَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَحَدٍ الْعُمُومُ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبَّرَ بأحد عَنْهُ تَعْظِيمًا لَهُ وَصَوْنًا لِاسْمِهِ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ ذَهَابِهِمْ عَنْهُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ.

وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أُحُدٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْحَاءِ، وَهُوَ الْجَبَلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَالْقِرَاءَةُ الشَّهِيرَةُ أَقْوَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجَبَلِ إِلَّا بَعْدَ مَا فَرَّ النَّاسُ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ إِصْعَادِهِمْ إِنَّمَا كَانَتْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخِطَابُ فِيهِ لِمَنْ أَمْعَنَ فِي الْهَرَبِ ولم يصعد الجبل مع مَنْ صَعِدَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تلوون على أحد، أي مَنْ كَانَ عَلَى جَبَلِ أُحُدٍ، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ صَعِدُوا. وَتَلْوُونَ هُوَ مِنْ لَيِّ الْعُنُقِ، لِأَنَّ مَنْ عَرَجَ عَلَى الشَّيْءِ يَلْوِي عُنُقَهُ، أَوْ عِنَانَ دَابَّتِهِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الرَّسُولُ لِلْعَهْدِ. وَدُعَاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم،

رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ»

وَالنَّاسُ يَفِرُّونَ عَنْهُ.

وَرُوِيَ: «أَيْ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا» قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ

:

وَفِي رِوَايَةٍ: «ارْجِعُوا إِلَيَّ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ مَنْ يَكِرُّ لَهُ الْجَنَّةُ»

وَهُوَ قَوْلُ: السُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَانَ دُعَاؤُهُ تَغْيِيرٌ لِلْمُنْكَرِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمُنْكَرَ وَهُوَ الِانْهِزَامُ ثُمَّ لَا يَنْهَى عَنْهُ.

وَمَعْنَى فِي أُخْرَاكُمْ: أَيْ فِي سَاقَتِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمُ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ. يُقَالُ:

جِئْتُ فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَاهُمْ، كَمَا تَقُولُ: فِي أَوَّلِهِمْ وَأُولَاهُمْ بِتَأْوِيلِ مُقَدِّمَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمُ الْأُولَى. وَفِي قَوْلِهِ: فِي أُخْرَاكُمْ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَعْقَابِ الشُّجْعَانِ وَهُمْ فُرَّارٌ وَالثَّبَاتُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِلْأَبْطَالِ الْأَنْجَادِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْجَعَ النَّاسِ.

قَالَ سَلَمَةُ: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَاهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ الْفَاعِلُ بِأَثَابَكُمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِثَابَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُغَالَبَةِ انْتَهَى. وَسُمِّيَ الْغَمُّ ثَوَابًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَائِمٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ مَقَامَ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْلَا الْفِرَارُ. فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:

ص: 386

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ وَقَوْلُهُ:

أَخَافَ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ

أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

جَعَلَ الْقُيُودَ وَالسِّيَاطَ عَطَاءً، وَمُحَدْرَجَةٌ بِمَعْنَى مُدَحْرَجَةٍ. وَالْبَاءُ فِي بِغَمٍّ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَوْ لِلسَّبَبِ. فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُصَاحَبَةِ وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا بِمَعْنَى: مَعَ.

وَالْمَعْنَى: غَمًّا مُصَاحِبًا لِغَمٍّ، فَيَكُونُ الْغَمَّانِ إِذْ ذَاكَ لَهُمْ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي: إِشْرَافُ خَالِدٍ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ سَبَبُهُ فِرَارُهُمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي سَبَبُهُ فِرَارُهُمْ حِينَ سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي حِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ، قَالَهُ: قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقِيلَ: عَكْسُ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَعَزَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ.

وَالثَّانِي: إِشْرَافُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ هُوَ قَتْلُهُمْ وَجِرَاحُهُمْ وَكُلُّ مَا جَرَى فِي ذَلِكَ الْمَأْزِقِ. وَالثَّانِي: إِشْرَافُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، قَالَهُ:

السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا. وَعَبَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْغَمَّيْنِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ، وَغَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ مِنَ الِاغْتِمَامِ بِمَا أُرْجِفَ بِهِ مِنْ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْجُرْحِ، وَالْقَتْلِ، وَظَفَرِ الْمُشْرِكِينَ، وَفَوْتِ الْغَنِيمَةِ، وَالنَّصْرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ: غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى بَعْدَ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى غَمًّا عَلَى غَمٍّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، فَيَكُونُ الْغَمُّ الْأَوَّلُ لِلصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ:

مُتَعَلِّقُهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَثَابَكُمْ غَمًّا بِالْغَمِّ الَّذِي أُوقِعَ عَلَى أَيْدِيكُمْ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْبَاءُ عَلَى هَذَا بَاءُ مُعَادِلَةٍ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ بَدْرٍ: وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقُهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالْمَعْنَى: جَازَاكُمْ غَمًّا بِسَبَبِ الْغَمِّ الَّذِي أَدْخَلْتُمُوهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: فَأَثَابَكُمْ لِلرَّسُولِ، أَيْ فَآسَاكُمْ فِي الِاغْتِمَامِ، وَكَمَا غَمَّكُمْ مَا نَزَلْ بِهِ مِنْ كَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ وَالشَّجَّةِ وَغَيْرِهِمَا غَمَّهُ مَا نَزَلْ بِكُمْ، فأثابكم غما اغْتَمَّهُ لِأَجْلِكُمْ بِسَبَبِ غَمٍّ اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم عَلَى عِصْيَانِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ

ص: 387

لِيُسْلِيَكُمْ وَيُنَفِّسَ عَنْكُمْ، كَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الْأَفْعَالُ السَّابِقَةُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ «1» وَقَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ «2» وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ «3» وَاللَّهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَثَابَكُمْ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَذِكْرُ الرَّسُولِ إِنَّمَا جَاءَ فِي جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ نَعَى عَلَيْهِمْ فِرَارَهُمْ مَعَ كَوْنِ مَنِ اهْتَدَوْا عَلَى يَدِهِ يَدْعُوهُمْ، فَلَمْ يجىء مَقْصُودًا لِأَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ، إِنَّمَا الْجُمْلَةُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ إِذْ هِيَ حَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَأَثَابَكُمْ عَطْفٌ عَلَى صَرَفَكُمْ انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ، لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، لِأَنَّ إِذْ تَصْرِفُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي، إِذْ هِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى. وَالْمَعْنَى: إِذْ صَعِدْتُمْ وَمَا لَوَيْتُمْ عَلَى أَحَدٍ فَأَثَابَكُمْ.

لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ اللَّامُ لَامُ كَيْ، وَتَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ:

فَأَثَابَكُمْ. فَقِيلَ: لَا زَائِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاغْتِمَامِ انْتِفَاءُ الْحُزْنِ. فَالْمَعْنَى: عَلَى أَنَّهُ غَمَّهُمْ لِيُحْزِنَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مُوَافَقَتِهِمْ قَالَهُ: أَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ. وَتَكُونُ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «4» إِذْ تَقْدِيرُهُ: لِأَنْ يَعْلَمَ. وَيَكُونُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ تَبْكِيتًا لَهُمْ، وَزَجْرًا أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَا ثَابِتَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْإِثَابَةِ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ.

فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا لِتَتَمَرَّنُوا عَلَى تَجَرُّعِ الْغُمُومِ، وَتُضْرَوْا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، فَلَا تَحْزَنُوا فِيمَا بَعْدُ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَا عَلَى مُصِيبٍ مِنَ الْمَضَارِّ انْتَهَى.

فَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتِيَّةً، وَهِيَ التَّمَرُّنُ عَلَى تَجَرُّعِ الْغُمُومِ وَالِاعْتِيَادِ لِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْحُزْنِ، وَجَعَلَ ظَرْفَ الْحُزْنِ هُوَ مستقبل لا تعلق له بِقِصَّةِ أُحُدٍ، بَلْ لِيَنْتَفِيَ الْحُزْنُ عَنْكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى لِتَعْلَمُوا أَنَّ مَا وَقَعَ بِكُمْ إِنَّمَا هُوَ بِجِنَايَتِكُمْ، فَأَنْتُمْ آذَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَعَادَةُ الْبَشَرِ أَنَّ جَانِيَ الذَّنْبِ يَصْبِرُ لِلْعُقُوبَةِ، وَأَكْثَرُ قَلَقِ الْمُعَاقَبِ وَحُزْنِهِ إِنَّمَا وَقَعَ هُوَ مَعَ ظَنِّهِ الْبَرَاءَةَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ، وَيَكُونُ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَصَابِهِمْ وَعِوَضًا لَهُمْ عَنْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَمِّ، لِأَنَّ عَفْوَهُ يُذْهِبُ كُلَّ غَمٍّ. وَفِيهِ بُعْدٌ لِطُولِ الْفَصْلِ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور، وهو فأثابكم.

(1) سورة آل عمران: 3/ 152.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 152.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 152.

(4)

سورة الْحَدِيدِ: 29/ 57.

ص: 388

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْهَزِيمَةِ، وَمِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِصْعَادَهُمْ وَفِرَارَهُمْ مُجِدِّينَ فِي الْهَرَبِ فِي حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْهَرَبِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَتِهِ، كَانَ الْجِدُّ فِي الْهَرَبِ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الْغُمُومِ بِهِمْ، وَشُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ طَلَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ: شُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاغْتِمَامُهُمُ الْمُتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ خَوْفِ الْقَتْلِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمُصَابٍ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ لِإِخْوَانِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَارُوا فِي حَالَةٍ مِنِ اغْتِمَامِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ بِنَجَاةِ أَنْفُسِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ حُزْنٌ عَلَى شَيْءٍ فَايِتٍ وَلَا مُصَابٍ وَإِنْ جَلَّ، فَقَدْ شَغَلَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِيَنْتَفِيَ الْحُزْنُ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي تَهْدِيدًا، وَخَصَّ الْعَمَلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ تَعَالَى خَبِيرًا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنْ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْفِرَارِ، وَهِيَ أَعْمَالٌ تُخْشَى عَاقِبَتُهَا وَعِقَابُهَا. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ، قَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْأَمَنَةُ تَكُونُ مَعَ بَقَاءِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ أَسْبَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْنِ. أَوْ جمع آمن كبار وَبَرَرَةٍ، وَيَأْتِي إِعْرَابُهُ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَمْنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى الْأَمْنِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: امْتِنَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَمْنِهِمْ بَعْدَ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ، بِحَيْثُ صَارُوا مِنَ الْأَمْنِ يَنَامُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّدِيدَ الْخَوْفَ وَالْغَمَّ لَا يَكَادُ يَنَامُ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ الَّذِي غَشِيَهُمْ كَأَبِي طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي غَشِيَهُمْ فِيهِ النُّعَاسُ.

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: حِينَ ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَوْضِعِ الْحَرْبِ،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ وَكَانَ مِنَ الْمُتَحَيِّزِينَ إِلَيْهِ: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى الْقَوْمِ فَإِنْ كَانُوا جَنَبُوا الْخَيْلَ فَهُمْ نَاهِضُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى خَيْلِهِمْ فَهُمْ عَائِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا»

وَوَطِّنْهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَمَضَى عَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ: أَنَّهُمْ جَنَبُوا الْخَيْلَ، وَقَعَدُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ عِجَالًا، فَأَمِنَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ. وَبَقِيَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُصَدِّقُونَ، بَلْ كَانَ ظَنُّهُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَؤُمُّ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ نَوْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّهُمْ فِي أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَثَبَتَ

فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَفِي طَرِيقٍ رَفَعْتُ رَأْسِي فَجَعَلْتُ مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا وَهُوَ يَمِيلُ تَحْتَ

ص: 389

جَحْفَتِهِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ وَهُمْ فِي الْمَصَافِّ وَسِيَاقُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ. وَالْغَمُّ كَانَ بَعْدَ أَنْ كُسِرُوا وَتَفَرَّقُوا عَنْ مَصَافِّهِمْ وَرَحَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْمَصَافَّ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ أَبُو طَلْحَةَ كَانَ فِي الْجَبَلِ بَعْدَ الْكَسْرَةِ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ عُلُوٍّ فِي الْخَيْلِ الْكَثِيرَةِ، فَرَمَاهُمْ مَنْ كَانَ انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَارَةِ، وَأَغْنَى هُنَاكَ عُمَرُ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، وَمَا زَالُوا صَافِّينَ حَتَّى جَاءَهُمْ خَبَرُ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، فَأَمِنُوا وَلَمْ يَأْمَنِ المنافقون. والفاعل بأنزل ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فأثابكم. وعليكم يَدُلُّ عَلَى تَجَلُّلِ النُّعَاسِ وَاسْتِعْلَائِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَنِسْبَةُ الْإِنْزَالِ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْأَجْرَامِ. وَأَعْرَبُوا أَمَنَةً مَفْعُولًا بِأَنْزَلَ، وَنُعَاسًا بَدَلٌ مِنْهُ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَتَصَوَّرُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يَتَصَوَّرُ اشْتِمَالَ الْعَامِلِ عَلَيْهِمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعَارِفِ. أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِاخْتِلَالِ أَحَدِ الشُّرُوطِ وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، فَفَاعِلُ الْإِنْزَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفَاعِلُ النُّعَاسِ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. وَقِيلَ: نُعَاسًا هُوَ مَفْعُولُ أَنْزَلَ، وَأَمَنَةً حَالٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ. التَّقْدِيرُ: نُعَاسًا ذَا أَمَنَةٍ، لِأَنَّ النُّعَاسَ لَيْسَ هُوَ إلا من. أَوْ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَوِي أَمَنَةٍ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ آمِنٍ، أَيْ آمِنِينَ، أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لِأَمَنَةٍ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِمَا ضَعَّفْنَا بِهِ قَوْلَ مَنْ أَعْرَبَ نُعَاسًا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ.

يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، عَامٌّ مَخْصُوصٌ، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَنْزَلَ إِلَّا عَلَى مَنْ آمَنَ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَغْشَى بِالتَّاءِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ أَمَنَةٍ هَكَذَا قَالُوا. وَقَالُوا: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْبَدَلِ وَعَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ إِذَا اجْتَمَعَتْ. فَمَنْ أَعْرَبَ نُعَاسًا بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ لَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمَنْ أَعْرَبَهُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ فَفِيهِ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ بِهَذِهِ الْفَضْلَةِ. وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ نَظَرٌ مَعَ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ: اتِّحَادُ الْفَاعِلِ. فَإِنْ جَعَلْتَ تَغْشَى جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً وَكَأَنَّهَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: مَا حُكْمُ هَذِهِ

ص: 390

الْأَمَنَةِ؟ فَأَخْبَرَ تَعَالَى تَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ، جَازَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ انْتَهَى. لَمَّا أَعْرَبَ نُعَاسًا بَدَلًا مِنْ أَمَنَةٍ، كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّثَ عَنِ الْبَدَلِ لَا عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَحَدَّثَ هُنَا عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْتَ: إِنَّ هِنْدًا حُسْنُهَا فَاتِنٌ، كَانَ الْخَبَرُ عَنْ حُسْنِهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ كَمَا أَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الْآيَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

إِنَّ السُّيُوفَ غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا

تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الْأَعْضَبِ

وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:

وَكَأَنَّهُ لَهَقُ السَّرَاةِ كَأَنَّهُ

مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ

فَقَالَ: تَرَكْتُ، وَلَمْ يَقُلْ تَرَكَا. وَقَالَ مُعَيَّنٌ: وَلَمْ يَقُلْ مُعَيَّنَانِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ السُّيُوفُ، وَالضَّمِيرُ فِي كَأَنَّهُ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْبَدَلِ وَهِيَ: غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا وحاجبيه. وما زَائِدَةٌ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ. وَلَا حُجَّةَ فِيمَا اسْتُدِلَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا عَلَى الظَّرْفِ لَا عَلَى الْبَدَلِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنٌ خَبَرًا عَنْ حَاجِبَيْهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إِخْبَارَ الْوَاحِدِ. كَمَا قَالَ:

لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلُّ

بِهَا الْعَيْنَانِ تَنْهَلُّ

وَقَالَ:

وَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ

أَوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فَانْهَلْتِ

فَقَالَ: تَنْهَلُ وَكُحِلَتْ له، وَلَمْ يَقُلْ: تَنْهَلَانِ، وَلَا كُحّلَتَا بِهِ. وَهَذَا كَمَا أَجَازُوا أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْ هَذَيْنِ إِخْبَارَ الْمُثَنَّى قَالَ:

إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنَيَّ الزَّمَانَ الَّذِي مَضَى

بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تَكِفَانِ

فَقَالَ: ظَلَّتَا وَلَمْ يَقُلْ: ظَلَّتْ تَكِف. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يَغْشَى بِالْيَاءِ، حَمَلَهُ عَلَى لَفْظِ النُّعَاسِ.

وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قَالَ مَكِّيٌّ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمُ

ص: 391

الْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: غَشِيَ النُّعَاسُ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، فَكَانَ سَبَبًا لِأَمْنِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ.

وَعَرَّى مِنْهُ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ، فَكَانَ سَبَبًا لِجَزَعِهِمْ وَانْكِشَافِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِهِمْ فِي مَصَافِّهِمْ انْتَهَى.

وَيُقَالُ: أَهَمَّنِي الشَّيْءُ، أَيْ: كَانَ مِنْ هَمِّي وَقَصْدِي. أَيْ: مِمَّا أَهَمَّ به وأقصد.

وَأَهَمَّنِي الْأَمْرُ أَقْلَقَنِي وَأَدْخَلَنِي فِي الْهَمِّ، أَيِ الْغَمِّ. فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَأَكْثَرُهُمْ: هُوَ بِمَعْنَى الْغَمِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُفُوسَهُمُ الْمَرِيضَةَ وَظُنُونَهُمُ السَّيِّئَةَ قَدْ جَلَبَتْ إِلَيْهِمْ خَوْفَ الْقَتْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوْ قَدْ أَوْقَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ فِي الْغُمُومِ وَالْأَشْجَانِ، فَهُمْ فِي التَّشَاكِي.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ مِنْ هَمَّ بِالشَّيْءِ أَرَادَ فِعْلَهُ. وَالْمَعْنَى: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمُ الْمُكَاشِفَةَ وَنَبْذَ الدِّينِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْ قَالَ: قد قتل محمد فلترجع إِلَى دِينِنَا الْأَوَّلِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، مَا بِهِمْ إِلَّا هَمُّ أَنْفُسِهِمْ، لَا هَمُّ الدِّينِ، وَلَا هَمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهَمَّنِي الشَّيْءُ أَيْ:

كَانَ مِنْ هَمِّي وَإِرَادَتِي. وَالْمَعْنَى: أَهَمَّهُمْ خَلَاصُ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، أَيْ: كَانَ مِنْ هَمِّهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ خَلَاصُ أَنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَمِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَأَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْهَبُ وَيَزُولُ.

وَمَعْنَى ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْمُدَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ:

حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ «1» وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ «2» وَكَمَا تَقُولُ: شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى ظَنُّ الْفِرْقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، وَنَحَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: قَتَادَةُ وَالطَّبَرِيُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ظَنُّوا أَنَّ أَمْرَهُ مُضْمَحِلٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ مُدَّتَهُ قَدِ انْقَضَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ. وَقِيلَ: ظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ إِبْطَالُ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: يَأْسُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَشَكُّهُمْ فِي سَابِقِ وَعْدِهِ بِالنُّصْرَةِ. وَقِيلَ: يَظُنُّونَ أَنَّ الْحَقَّ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، فَلِذَلِكَ نُصِرُوا. وَقِيلَ: كَذَّبُوا بِالْقَدَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَظَنُّ الْجَاهِلِيَّةِ كَقَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ وَرَجُلُ صِدْقٍ، تُرِيدُ الظَّنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ لَا يَظُنُّ مِثْلَ ذَلِكَ الظَّنِّ إِلَّا أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ.

انْتَهَى وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ الِاسْتِفْهَامُ؟

(1) سورة الفتح: 48/ 26. [.....]

(2)

سورة الأحزاب: 33/ 33.

ص: 392

فَقِيلَ: سَأَلُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، هَلْ لَهُمْ مَعَاشِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصْرِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْعَدُوِّ شَيْءٌ أَيْ نَصِيبٌ؟ وَأَجِيبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ «1» وَهُوَ النَّصْرُ وَالْغَلَبَةُ.

«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»

«وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» .

وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ النَّصْرُ لَنَا، بَلْ هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ: قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ يُرِيدُ: أَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ لَنَا، وَلَوْ كَانَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ لَسُمِعَ مِنْ رَأْيِنَا وَلَمْ نَخْرُجْ وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنَّا.

وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بِأَجَلَيْنِ. وَذَكَرَ الَمَهَدَوِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ: أَنَّ الْمَعْنَى لَسْنَا عَلَى حَقٍّ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ.

وَيُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ. فَافْهَمْ أَنَّ كَلَامَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى سُوءِ الرَّأْيِ فِي الْخُرُوجِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ.

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ.

وَلَمَّا أُكِّدَ فِي كَلَامِهِمْ بِزِيَادَةِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ، جَاءَ الْكَلَامُ مُؤَكَّدًا بِأَنْ، وَبُولِغَ فِي تَوْكِيدِ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: كُلُّهُ لِلَّهِ. فَكَانَ الْجَوَابُ أَبْلَغَ.

وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ، مُتَوَجِّهٌ إِلَى الرَّسُولِ بِلَا خِلَافٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لِأَنَّهُمْ أُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ لَمْ يُجَابُوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ لَا يُجَاوَبُ بِذَلِكَ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ مَعَ جُمْلَةِ النَّفْيِ جُمْلَةً ثُبُوتِيَّةً لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَلْ لِغَيْرِنَا مِمَّنْ حَمَلَنَا عَلَى الْخُرُوجِ وَأَكْرَهَنَا عَلَيْهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِهَذَا الْمُقَدَّرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْجَوَابِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ.

وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَطَائِفَةٌ، وَاوُ الْحَالِ. وَطَائِفَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ خَبَرُهُ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ هُنَا إِذْ فِيهِ مُسَوِّغَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاوُ الْحَالِ وَقَدْ ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْمُسَوِّغَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّاعِرُ:

سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا

مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ

وَالْمُسَوِّغُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ. إِذِ الْمَعْنَى: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَنَامُوا، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ:

إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لم يحوّل

(1) سورة آل عمران: 3/ 154.

ص: 393

وَنَصْبُ طَائِفَةً عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ الْإِعْرَابِ جَائِزٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ في موضع الصفة، ويظنون الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَالْجُمْلَتَانِ صِفَتَانِ، التَّقْدِيرُ: وَمِنْكُمْ طَائِفَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَظُنُّونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَهَمَّتْهُمْ، وَانْتِصَابُ غَيْرَ الْحَقِّ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِتَظُنُّونَ، أَيْ أَمْرًا غَيْرَ الْحَقِّ، وَبِاللَّهِ الثَّانِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَيْرَ الْحَقِّ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ:

يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنَّ الجاهلية، وغير الْحَقِّ تَأْكِيدٌ لِيَظُنُّونَ كَقَوْلِكَ: هَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مَا تَقُولُ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا قَوْلُكَ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَمْ يَذْكُرْ لِيَظُنُّونَ مَفْعُولَيْنِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً كَمَا تَقُولُ:

ظَنَنْتُ بِزَيْدٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَتَعَدَّ ظَنَنْتُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: جَعَلْتُ مَكَانَ ظَنِّي زَيْدًا. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذَا. وَعَلَيْهِ:

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ

سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمَسَرَّدِ

أَيِ: اجْعَلُوا مَكَانَ ظَنِّكُمْ أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ. وَانْتِصَابُ ظَنَّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ، أَيْ:

ظَنًّا مِثْلَ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيَجُوزُ فِي: يَقُولُونَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَظُنُّونَ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ فِي غَيْرِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جواز تعداده.

ومن شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، إِذْ مِنْ زَائِدَةٌ، وَخَبَرُهُ في لنا، ومن الْأَمْرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ شَيْءٍ لَكَانَ نَعْتًا لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يكون من الْأَمْرِ هُوَ الْخَبَرُ، وَلَنَا تَبْيِينٌ وَبِهِ تَتِمُّ الْفَائِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» وَهَذَا لَا يَجُوزُ:

لِأَنَّ مَا جَاءَ لِلتَّبْيِينِ الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَعْنِي لَنَا هو من جُمْلَةٌ أُخْرَى، فَيَبْقَى الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ جُمْلَةً لَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَهُمَا لَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ لَهُ مَعْمُولٌ لِكُفُوًا، وَلَيْسَ تَبْيِينًا. فَيَكُونُ عَامِلُهُ مُقَدَّرًا، وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ، أَيْ مُكَافِيًا لَهُ، فَصَارَ نَظِيرَ لَمْ يكن له ضار بالعمرو، فَقَوْلُهُ: لِعَمْرٍو لَيْسَ تَبْيِينًا، بَلْ مَعْمُولًا لِضَارِبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلَّهُ بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ تَوْكِيدًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْمَوْضِعِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ وَهُوَ: الْجَرْمِيُّ، وَالزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَجَّحَ النَّاسُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَمْلَكُ بِلَفْظَةِ كُلٍّ انْتَهَى. وَلَا تَرْجِيحَ، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَوَاتِرٌ، وَالِابْتِدَاءُ بِكُلٍّ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.

(1) سورة الإخلاص: 112/ 4.

ص: 394

يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَتَسَتَّرُونَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْضِ كُفْرٍ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَمَّا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُظْهِرُوا مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ النَّزَغَاتِ. وَقِيلَ: الَّذِي أَخْفَوْهُ قَوْلَهُمْ: لَوْ كُنَّا فِي بُيُوتِنَا مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَقِيلَ: النَّدَمُ عَلَى حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِأُحُدٍ.

يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِيمَا أَسْنَدَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ: وَاللَّهِ لِكَأَنِّي أَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي مَا أَسْمَعُهُ إِلَّا كَالْحُلُمِ حِينَ قَالَ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. وَمُعَتِّبٌ هَذَا شَهِدَ بَدْرًا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ. وَالْمَعْنَى: مَا قُتِلَ أَشْرَافُنَا وَخِيَارُنَا، وَهَذَا إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مَجَازًا.

وَقَوْلُهُ: يَقُولُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي أَخْفَوْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بَعْدَ إِبْهَامِ قَوْلِهِ:

مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ. وَمَعْنَاهُ: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.

وَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَمْرِ، فُسِّرَ الْأَمْرُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَإِنَّهُمُ الْغَالِبُونَ، لَمَا غُلِبْنَا قَطُّ، وَلَمَا قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، وَقِيلَ:

مِنَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقِيلَ: مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ. أَيْ لَسْنَا عَلَى حَقٍّ فِي اتِّبَاعِهِ.

وَجَوَابُ لَوْ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِمَا. وَإِذَا نَفَيْتَ بِمَا فَالْفَصِيحُ أَنْ لَا تُدْخِلَ عَلَيْهِ اللَّامَ.

قِيلَ: وَفِي قِصَّةِ أُحُدٍ اضْطِرَابٌ. فَفِي أَوَّلِهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجَعُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا أُحُدًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَالُوا هَذَا بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ أَصْحَابِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا قُتِلُوا بِأُحُدٍ، فَكَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ فِي سَمَاعِهِ مُعَتِّبًا يَقُولُ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَتِّبًا حَضَرَ أُحُدًا؟ فَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَيَكُونُ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَحَضَرَ أُحُدًا، فَيَتَّجِهُ قَوْلُهُ هَاهُنَا، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَيُوَجَّهُ قَوْلُهُ:

هَاهُنَا إِلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أُحُدٍ إِشَارَةَ الْقَرِيبِ الْحَاضِرِ لِقُرْبِ أُحُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ هَذَا النَّوْعُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ يُسَمَّى الِاحْتِجَاجُ النَّظَرِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَعْقُولِ نَحْوَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «2»

(1) سورة الأنبياء: 21/ 22.

(2)

سورة يس: 36/ 79.

ص: 395

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ «1» وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ: الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

جَرَى الْقَضَاءُ بِمَا فِيهِ فَإِنْ تُلِمِ

فَلَا مَلَامَ عَلَى مَا خُطَّ بِالْقَلَمِ

وَكَتَبَ: بِمَعْنَى فَرَضَ، أَوْ قَضَى وَحَتَّمَ، أَوْ خَطَّ فِي اللَّوْحِ، أَوْ كَتَبَ ذَلِكَ الْمَلَكُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَجِنَّةٌ، أَقْوَالٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَخَلَّفْتُمْ فِي الْبُيُوتِ لَخَرَجَ مَنْ حُتِّمَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ إِلَى مَكَانِ مَصْرَعِهِ فَقُتِلَ فِيهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى قَوْلِ مُعَتِّبٍ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرِئٍ لَهُ أَجْلٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي سَبَقَ لَهُ فِي الْأَزَلِ وَإِلَّا مَاتَ لِذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَخُرُوجِ رُوحِهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ بِأَيِّ أَسْبَابِ الْمَرَضِ، أَوْ فَجَأَهُ مِنْ غَيْرِ مَرْضٍ هُوَ أَجَلٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ امْرِئٍ وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا بِأَلْفَاظٍ مُسْهَبَةٍ عَلَى عَادَتِهِ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ يَعْنِي- مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْرَعُ فِي هَذِهِ الْمُصَارِعِ- وَكَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُجُودِهِ. فَلَوْ قَعَدْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ مِنْ بَيْنِكُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَهِيَ مَصَارِعُهُمْ، لِيَكُونَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ قَتْلَ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَتَبَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يَظْهَرُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَإِنَّمَا يَنْكُبُونَ بِهِ فِي بَعْضِ الأوقات. تمحيص لهم، وترغيب فِي الشَّهَادَةِ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ مِمَّا يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَتَحْصُلُ الْغَلَبَةُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ وَاضِحٌ جِدًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّطْوِيلِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَبَرَزَ، ثُلَاثِيًّا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. أَيْ لَصَارُوا فِي الْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: لَبُرِّزَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، عَدَّى بَرَّزَ بِالتَّضْعِيفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُتِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُفِعَ القتل. وقرىء: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنُصِبَ الْقَتْلُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ:

الْقِتَالُ مَرْفُوعًا. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: لَوْ تَخَلَّفْتُمْ أَنْتُمْ لَبَرَزَ الْمُطِيعُونَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَخَرَجُوا طَائِعِينَ إِلَى مَوَاضِعِ اسْتِشْهَادِهِمْ، فَاسْتَغْنَى بِهِمْ عَنْكُمْ.

وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالَ وَلَمْ يَنْصُرْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لِيَخْتَبِرَ

(1) سورة يس: 36/ 81.

ص: 396

صَبْرَكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ إِنْ تُبْتُمْ وَأَخْلَصْتُمْ. وَقِيلَ: لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِ.

وَقِيلَ: لِيَقَعَ مِنْكُمْ مُشَاهَدَةُ عِلْمِهِ غَيْبًا كَقَوْلِهِ: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «1» . وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ: وَلِيَبْتَلِيَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَا فِي صُدُورِكُمْ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ.

وَالْوَاوُ قِيلَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرَهُ وَلِيَبْتَلِيَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَطْفٌ عَلَى لِيَبْتَلِيَكُمْ، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أَعَادَهُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ لِيُمَحِّصَ. وَقِيلَ:

تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مُتَأَخِّرٍ، التَّقْدِيرُ: وَلِيَبْتَلِيَ وَلِيُمَحِّصَ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ. وَكَانَ مُتَعَلِّقُ الِابْتِلَاءِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الصُّدُورُ وَهِيَ الْقُلُوبُ كَمَا قَالَ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» وَمُتَعَلِّقُ التَّمْحِيصِ وَهُوَ التَّصْفِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنَ النِّيَّاتِ وَالْعَقَائِدِ.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَجَاءَ بِهَا عَقِيبَ قَوْلِهِ:

وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الصُّدُورُ، وَمَا أَضْمَرَتْهُ مِنَ الْعَقَائِدِ، فَهُوَ يُمَحِّصُ مِنْهَا مَا أَرَادَ تَمْحِيصَهُ.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا خَطَبَ عُمَرُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَرَأَ آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَطَبَ أَنْ يَقْرَأَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ فَهُزِمْنَا مَرَرْتُ حَتَّى صَعِدْتُ الْجَبَلَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْزُو كَأَنَّنِي أَرَوَى، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَجِدُ أَحَدًا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا عَلَى الْجَبَلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِيمَنْ فَرَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِرَارًا كَثِيرًا مِنْهُمْ: رَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ.

وَالَّذِينَ تَوَلَّوْا: كُلُّ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَهُ: عُمَرُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ كُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقْتَ الْهَزِيمَةِ قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ رِجَالٌ بِأَعْيَانِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ: عَتَبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الزُّرَقِيُّ، وَأَخُوهُ سَعْدٌ وَغَيْرُهُمَا،

بَلَغُوا الْجَلْعِبَ جَبَلًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْأَعْوَصَ فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ:«لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً» وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَبَاقِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ منهم: أبو

(1) سورة الأعراف: 7/ 129.

(2)

سورة الحج: 22/ 46.

ص: 397

طَلْحَةَ

، وَظَاهِرُ تَوَلَّوْا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّوَلِّي يَوْمَ اللِّقَاءِ، سَوَاءٌ فَرَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمْ صَعِدَ الْجَبَلَ.

وَالْجَمْعُ: اسْمُ جَمْعٍ. وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يُثَنَّى، لَكِنَّهُ هُنَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَعْقُولِيَّةَ اسْمِ الْجَمْعِ، بَلْ بَعْضَ الْخُصُوصِيَّاتِ. أَيْ: جَمْعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمْعَ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ تَثْنِيَتُهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإِنْ هُمَا

تَعَاطَى القنا قوما هما أَخَوانِ

فَثَنَّى قَوْمًا لِأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْقَبِيلَةِ. وَاسْتَزَلَّ هنا استفعل لطلب، أَيْ طَلَبَ مِنْهُمُ الزَّلَلَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى وَسْوَسَتِهِ وَتَخْوِيفِهِ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ طَلَبِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْعَائِهِ حُصُولُهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى أَفْعَلَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى:

أَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الزَّلَلِ، وَيَكُونُ اسْتَزَلَّ وَأَزَلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَاسْتَبَانَ وَأَبَانَ، وَاسْتَبَلَّ وَأَبَلَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «1» عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَاتِهِ.

وَاسْتِزْلَالُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ التَّوَلِّي، أَيْ كَانُوا أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَاجْتَرَحُوا ذُنُوبًا قَبْلُ مَنَعَتْهُمُ النَّصْرَ فَفَرُّوا. وَقِيلَ: الِاسْتِزْلَالُ هُوَ تَوَلِّيهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. أَيْ: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ فِي التَّوَلِّي بِبَعْضِ مَا سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ الذَّنْبَ يَجُرُّ إِلَى الذَّنْبِ، فَيَكُونُ نَظِيرُ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا. وَفِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ بَعْضُ مَا كسبوا هو ذنوب سلفت لهم. قال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة.

وقيل: بَعْضُ مَا كَسَبُوا هُوَ تَرْكُهُمُ الْمَرْكَزَ الَّذِي أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالثَّبَاتِ فِيهِ، فَجَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْهَزِيمَةِ. وَلَا يَظْهَرُ هَذَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ مِنَ الرُّمَاةِ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ. وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا هُوَ حُبُّهُمُ الْغَنِيمَةَ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ. وَذَهَبُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ ذَكَّرَهُمْ بِذُنُوبٍ لَهُمْ مُتَقَدِّمَةٍ، فَكَرِهُوا الْمَوْتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِقْلَاعِ عَنْهَا، فَأَخَّرُوا الْجِهَادَ حَتَّى يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُجَاهِدُوا عَلَى حَالَةٍ مَرْضِيَّةٍ. وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ وَفِي حَالِ الْقَتَّالِ،

«وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»

وَظَاهِرُ التَّوَلِّي: هُوَ تَوَلِّي الْإِدْبَارِ وَالْفِرَارِ عَنِ الْقِتَالِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُتَحَيِّزٍ إِلَى جِهَةٍ اجْتَمَعَ فِي التَّحَيُّزِ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ فِيهَا. وَظَاهِرُ هَذَا التولي

(1) سورة البقرة: 2/ 36.

ص: 398

أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِذِكْرِ اسْتِزْلَالِ الشَّيْطَانِ وَعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّوَلِّيَ لَيْسَ مَعْصِيَةً، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا التَّحَصُّنَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَطْعَ طَمَعِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوا دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

«إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ»

لِلْهَوْلِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَالْعَدُوُّ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَجُوزُ الِانْهِزَامُ. أَوْ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الرَّسُولَ مَا انْحَازَ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ ظَهْرَهُ الْمَدِينَةَ. فَمَذْهَبُهُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَجُوزُ الْفِرَارُ مَعَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِزْلَالَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ وَعَفْوَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَمْ يجىء بِمَا كَسَبُوا، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ كَمَا قال تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» فَالِاسْتِزْلَالُ كَانَ بِسَبَبِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَعْفُ عَنْهَا، فَجُعِلَتْ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ. وَلَوْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ لَمَا كَانَ سَبَبًا لِلِاسْتِزْلَالِ.

وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هُنَا هُوَ حَطُّ التَّبِعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ عُثْمَانُ فِي مُحَاوَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ كُنْتَ تَوَلَّيْتَ مَعَ مَنْ تَوَلَّى يَوْمَ الْجَمْعِ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: قَالَ اللَّهُ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ الرَّجُلِ الْعِرَاقِيِّ حِينَ نَشَدَهُ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ: أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ أَجَابَهُ: بِأَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعٍ فِيمَا عَلِمْتُ، وَعَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي الْمُوبِقَاتِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمَا» انْتَهَى وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ عَنِ الذَّنْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ تَابَ، وَأَنَّ الذَّنْبَ إِذَا لَمْ يُتَبْ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْعَفْوُ، دَسَّ مَذْهَبَهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لِتَوْبَتِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ انْتَهَى.

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أَيْ غَفُوُرُ الذُّنُوبِ حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّعْلِيلِ لِعَفْوِهِ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، وَاسِعُ الْحِلْمِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قتلوا،

(1) سورة المائدة: 5/ 15.

ص: 399

وَكَانَ قَوْلًا بَاطِلًا وَاعْتِقَادًا فَاسِدًا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ وَالِاعْتِقَادِ السيّء. وَهُوَ أَنَّ مَنْ سَافَرَ فِي تِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا فَمَاتَ، أَوْ قَاتَلَ فَقُتِلَ، لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ لَعَاشَ وَلَمْ يَمُتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلسَّفَرِ فِيهِ أَوْ لِلْقِتَالِ، وَهَذَا هُوَ مُعْتَقَدُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَوْلِ بِالْأَجَلَيْنِ، وَالْكُفَّارِ الْقَائِلُونَ. قِيلَ: هُوَ عَامٌّ، أَيِ اعْتِقَادُ الْجَمِيعِ هَذَا قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ سُمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ:

مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ هُوَ وَمُعَتِّبٌ وَجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَأَصْحَابُهُمْ.

وَاللَّامُ فِي: لِإِخْوَانِهِمْ لَامُ السَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ. وَلَيْسَتْ لَامَ التَّبْلِيغِ، نَحْوَ:

قُلْتُ لَكَ. وَالْأُخُوَّةُ هُنَا أُخُوَّةُ النَّسَبِ، إِذْ كَانَ قَتْلَى أُحُدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ. وَيَكُونُ الْقَائِلُونَ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ جَمَعَهُمْ أَبٌ قَرِيبٌ، أَوْ بَعِيدٌ، أَوْ أُخُوَّةُ الْمُعْتَقَدِ وَالتَّآلُفِ، كَقَوْلِهِ» فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «1» وَقَالَ:

صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ

وَقُلْنَا الْقَوْمُ إِخْوَانُ

وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: الْإِبْعَادُ فِيهَا، وَالذَّهَابُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:

الضَّرْبُ هُنَا السَّيْرُ فِي التِّجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: السَّيْرُ فِي الطَّاعَاتِ.

وَإِذَا ظَرْفٌ لما يستقبل. وقالوا: مَاضٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ جَرَّدَهُ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ وَجَعَلَهُ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ بِمَعْنَى حِينَ، فَأَعْمَلُ فِيهِ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلَتْ إِذَا وَهِيَ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ مِنْ حَيْثُ الَّذِينَ اسْمٌ فِيهِ إِبْهَامٌ يَعُمُّ مَنْ قَالَ فِي الْمَاضِي، وَمَنْ يَقُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ حَيْثُ هَذِهِ النَّازِلَةِ تُتَصَوَّرُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قِيلَ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ مَعَ قَالُوا؟ (قُلْتُ) : هُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِكَ: حِينَ تَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُمْكِنُ إِقْرَارُ إِذَا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ لَهَا مِنَ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مُضَافٌ مُسْتَقْبَلٌ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّا نُقَدِّرُهُ مُسْتَقْبَلًا حَتَّى يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا عَائِدًا عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَفْظًا، وَعَلَى غَيْرِهِمْ مَعْنًى، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ «2» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

قَالَتْ: أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا

إِلَى حمامتنا ونصفه فقد

(1) سورة آل عمران: 3/ 103.

(2)

سورة فاطر: 35/ 11.

ص: 400

الْمَعْنَى: مِنْ مُعَمَّرٍ آخَرَ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَنِصْفُ حَمَامٍ آخَرَ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى دِرْهَمٍ وَالْحَمَامِ لَفْظًا لَا مَعْنًى. كَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا، يَعُودُ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَفْظًا وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ إِخْوَانُنَا الْآخَرُونَ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقَالُوا مَخَافَةَ هَلَاكِ إِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى: لَوْ كَانَ إِخْوَانُنَا الْآخَرُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ مَوْتُهُمْ وَقَتْلُهُمْ عِنْدَنَا- أَيْ مُقِيمِينَ- لَمْ يُسَافِرُوا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ تَثْبِيطًا لِإِخْوَانِهِمُ الْبَاقِينَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَعَنِ الْغَزْوِ، وَإِيهَامًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ إِخْوَانِهِمُ الْآخَرِينَ الَّذِينَ سَبَقَ مَوْتُهُمْ وَقَتْلُهُمْ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْغَزْوِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي إِذَا هَلَاكٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِأَنْ وَالْمُضَارِعِ، أَيْ مَخَافَةَ أَنْ يَهْلَكَ إِخْوَانُهُمُ الْبَاقُونَ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ كَانُوا غُزًّا. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى إِذْ عَرَضُوا لِلْأَحْيَاءِ بِالْإِقَامَةِ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَالُوا فِي مَعْنَى. وَيَقُولُونَ: وَتَعْمَلُ فِي إِذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا بِمَعْنَى إِذْ فَيَبْقَى، وَقَالُوا عَلَى مُضِيِّهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِذْ ذَاكَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فَمَاتُوا، أَوْ كَانُوا غُزًّا فَقُتِلُوا. وَمَا أَجْهَلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ لَوْلَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْغَزْوُ وَتَرْكُ الْقُعُودِ فِي الْوَطَنِ لَمَا مَاتَ الْمُسَافِرُ وَلَا الْغَازِي، وَأَيْنَ عَقْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عَقْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِ حَيْثُ يَقُولُ:

يَقُولُونَ لِي: لَوْ كَانَ بِالرَّمْلِ لَمْ يمت

نسيبة وَالطُّرَّاقِ يَكْذِبُ قِيلُهَا

وَلَوْ أَنَّنِي اسْتَوْدَعْتُهُ الشَّمْسَ لَارْتَقَتْ

إِلَيْهِ الْمَنَايَا عَيْنُهَا، وَرَسُولُهَا

قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الْغَزْوَ بَعْدَ الضَّرْبِ، لِأَنَّ مِنَ الْغَزْوِ مَا لَا يَكُونُ ضَرْبًا، لِأَنَّ الضَّرْبَ الْإِبْعَادُ، وَالْجِهَادُ قَدْ يَكُونُ قَرِيبَ الْمَسَافَةِ، فَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْغَزْوَ عَنِ الضَّرْبِ انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا فَتَغَايَرَا، فَصَحَّ إِفْرَادُهُ، إِذْ لَمْ يَنْدَرِجْ مِنْ جِهَةٍ تَحْتَهُ. وَقِيلَ: لَا يُفْهَمُ الْغَزْوُ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِكَثْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غزا بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَوَجْهٌ عَلَى حَذْفِ أَحَدِ الْمُضَعَّفَيْنِ تَخْفِيفًا، وَعَلَى حَذْفِ التَّاءِ، وَالْمُرَادُ: غُزَاةٌ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ وَجَّهَ عَلَى أَنَّهُ حَذْفُ التَّاءِ وَهُوَ: ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَهَذَا الْحَذْفُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَمْدَحُ الْكِسَائِيَّ:

(1) سورة المزمل: 73/ 20.

ص: 401

أَبَى الذَّمُّ أَخْلَاقَ الْكِسَائِيِّ وَانْتَحَى

بِهِ الْمَجْدُ أَخْلَاقَ الْأُبُوِّ السَّوَابِقِ

يُرِيدُ الْأُبُوَّةَ. جَمْعُ أَبٍ، كَمَا أَنَّ الْعُمُومَةَ جَمْعُ عَمٍّ، وَالْبُنُوَّةُ جَمْعُ ابْنٍ. وَقَدْ قَالُوا: ابْنٌ وَبُنُوٌّ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا الْحَذْفُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، بَلْ لَا يُوجَدُ مِثْلُ رَامٍ وَرَمَى، وَلَا حَامٍ وَحَمَى، يُرِيدُ: رُمَاةٌ وَحُمَاةٌ. وَإِنْ أَرَادَ حَذْفَ التَّاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَالْمُدَّعَى إِنَّمَا هُوَ الْحَذْفُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الْحَذْفَ- أَعْنِي حَذْفَ التَّاءِ- كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ بِنَاءَ الْجَمْعِ جَاءَ عَلَيْهَا، ثُمَّ حُذِفَتْ كَثِيرًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ جَاءَ عَلَى فَعُولٍ نَحْوَ: عَمٌّ وَعُمُومٌ، وَفَحْلٌ وَفُحُولٌ، ثُمَّ جِيءَ بِالتَّاءِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَلَا نَقُولُ فِي عُمُومٍ: إِنَّهُ حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ كَثِيرًا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ قُضَاةٍ وَرُمَاةٍ فَإِنَّ الْجَمْعَ بُنِيَ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا تَكَلَّفَ النَّحْوِيُّونَ لِدُخُولِهَا فِيمَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ، أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تَأْكِيدِ الْجَمْعِ، لَمَّا رَأَوْا زَائِدًا لَا مَعْنًى لَهُ ذَكَرُوا أَنَّهُ جَاءَ بِمَعْنَى التَّوْكِيدِ، كَالزَّوَائِدِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ لَهَا مَعْنًى غَيْرُ التَّأْكِيدِ.

وَأَمَّا الْبَيْتُ فَالَّذِي يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ: إِنَّهُ مِمَّا شَذَّ جَمْعُهُ وَلَمْ يُعَلَّ، فَيُقَالُ فِيهِ: أَبَى كَمَا قَالُوا: عَصَى فِي عَصَا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ جَمْعٌ عَلَى فُعُولٍ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ أُبُوَةُ. وَلَا يُجْمَعُ ابْنٌ عَلَى بُنُوَّةٍ، وَإِنَّمَا هُمَا مَصْدَرَانِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ لَوْ وَجَوَابُهَا هِيَ مَعْمُولُ الْقَوْلِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَجَاءَتْ عَلَى نَظْمِ مَا بَعْدَ إِذَا مِنْ تَقْدِيمِ نَفْيِ الْمَوْتِ عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ، كَمَا قَدَّمَ الضَّرْبَ عَلَى الْغَزْوِ. وَالضَّمِيرُ فِي: لَوْ كَانُوا، هُوَ لِقَتْلَى أُحُدٍ، قَالَهُ: الْجُمْهُورُ. أَوْ لِلسَّرِيَّةِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَالَهُ: بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ الدِّمْيَاطِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَا قُتِلُوا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:

بِتَشْدِيدِهَا لِلتَّكْثِيرِ فِي الْمَحَالِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّكْثِيرُ فِيهِ.

لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّامِ فَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ.

وَقِيلَ: لَامُ الصَّيْرُورَةِ. فَإِذَا كَانَتْ لَامُ كَيْ فَبِمَاذَا تَتَعَلَّقُ، وَلِمَاذَا يُشَارُ بِذَلِكَ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ، التَّقْدِيرُ: أَوْقَعَ ذَلِكَ، أَيِ الْقَوْلَ وَالْمُعْتَقَدَ فِي قُلُوبِهِمْ لِيَجْعَلَهُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَثْبِيطًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالنَّهْيِ وَهُوَ: لَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ كَفَرُوا. لِأَنَّ جَعْلَ اللَّهِ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، لَا يَكُونُ سَبَبًا لِنَهْيِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْكُفَّارِ.

ص: 402

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أَوْرَدَ سُؤَالًا عَلَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ لِيَجْعَلَ، قَالَ: أَوْ لَا يَكُونُوا بِمَعْنَى: لَا يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي النُّطْقِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاعْتِقَادِهِ، لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ خَاصَّةً، وَيَصُونَ مِنْهَا قُلُوبَكُمْ انتهى كلمه. وَهُوَ كَلَامُ شَيْخٍ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، لِأَنَّ جَعْلَ الْحَسْرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّهْيِ كَمَا قُلْنَا، إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ امْتِثَالِ النَّهْيِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الِانْتِفَاءُ وَالْمُخَالَفَةِ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ يَحْصُلُ عَنْهُ مَا يَغِيظُهُمْ وَيَغُمُّهُمْ، إِذْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ. فَلَا تَضْرِبُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا تَغْزُوا، فَالْتَبَسَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ اسْتِدْعَاءُ انْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ لِحُصُولِ الِانْتِفَاءِ، وَفَهْمُ هَذَا فِيهِ خَفَاءٌ وَدِقَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ دُونَكُمْ انْتَهَى. وَمِنْهُ أَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَكِنَّ ابْنَ عِيسَى نَصَّ عَلَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، وَذَاكَ لَمْ يُنَصَّ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ.

وَإِذَا كَانَتْ لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَعَلَّقَتْ بِقَالُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِجَعْلِ الْحَسْرَةِ، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، فَصَارَ مَآلُ ذَلِكَ إِلَى الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، وَلَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ، إِنَّمَا آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا لَا يُثْبِتُونَ لِلَّامِ هَذَا الْمَعْنَى- أَعْنِي أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالْمَآلِ- وَيَنْسُبُونَ هَذَا الْمَذْهَبَ لِلْأَخْفَشِ. وَأَمَّا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّنِّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْضُرُوا لَمْ يُقْتَلُوا، كَانَ حَسْرَتُهُمْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَشَدَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّطْقِ وَالِاعْتِقَادِ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ الَّذِي لَهُمْ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً، لِأَنَّ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ مَوْتٍ وَقَتْلٍ بِأَجَلٍ سَابِقٍ يَجِدُ بَرْدَ الْيَأْسِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِهِ، وَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ حَمِيمَهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَمُتْ يَتَحَسَّرُ وَيَتَلَهَّفُ انْتَهَى. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَوَافِقَةٌ فِيمَا أُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَوْنِ مِثْلَ الْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْمُعْتَقَدِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَسَمَهُمْ بِمُعْتَقَدٍ وَأَمَرَ بِخِلَافِهِمْ كَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّهْيِ وَالِانْتِهَاءِ مَعًا، فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى.

وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَالُوا، وَأَنَّ اللَّامَ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَاصِدِينَ التَّثْبِيطَ عَنِ الْجِهَادِ وَالْإِبْعَادِ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ صِحَّتَهَا أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِيهَا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَائِلٌ بِأَجَلٍ وَاحِدٍ، فَخَابَ هَذَا الْقَصْدُ، وَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ

ص: 403

أَيْ غَمًّا عَلَى مَا فَاتَهُمْ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا مَقْصِدَهُمْ مِنَ التَّثْبِيطِ عَنِ الْجِهَادِ. وَظَاهِرُ جَعْلِ الْحَسْرَةِ وَحُصُولِهَا أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْغَمُّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ بُلُوغِ مَقْصِدِهِمْ. وَقِيلَ: الْجَعْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ، وَلِمَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ. وَأَسْنَدَ الْجَعْلَ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْغَمَّ وَالْحَسْرَةَ فِي قُلُوبِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ.

وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ الْحَتْمِ وَالْأَمْرُ بِيَدِهِ. قَدْ يُحْيِي الْمُسَافِرَ وَالْغَازِي، وَيُمِيتُ الْمُقِيمَ وَالْقَاعِدَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عنه مَوْتِهِ: مَا فِيَّ مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ متعلقة بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا «1» أَيْ: لَا تَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُحْيِي، مَنْ قَدَّرَ حَيَاتَهُ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْجِهَادِ، وَالْمُمِيتُ مَنْ قَدَّرَ لَهُ الْمَوْتَ لَمْ يَبْقَ وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ، قَالَهُ: الرَّازِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا:

الْمُرَادُ مِنْهُ إِبْطَالُ شُبْهَتِهِمْ، أَيْ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ آخَرَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَتَبَدَّلُ.

وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ انْتَهَى. وَرُدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ سَائِرَ الْأَعْمَالِ مَفْرُوغٌ مِنْهَا كَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَمَا قُدِّرَ وُقُوعُهُ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَإِذًا لَا فَرْقَ.

وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَالَ الرَّاغِبُ: عَلَّقَ ذَلِكَ بِالْبَصَرِ لَا بِالسَّمْعِ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ قَوْلًا مَسْمُوعًا لَا فَعْلًا مَرْئِيًّا. لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَ الْكَافِرِ قَصْدًا مِنْهُمْ إِلَى عَمَلٍ يُحَاوِلُونَهُ، فَخَصَّ الْبَصَرَ بِذَلِكَ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ يَقْصِدُ فِعْلًا يُحَاوِلُهُ: أَنَا أَرَى مَا تَفْعَلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأَخَوَانِ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَهُوَ وَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: لَا تَكُونُوا، فَهُوَ تَوْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ، وَوَعْدٌ لِمَنِ امْتَثَلَ.

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فِي سَفَرٍ وَغَزْوٍ لَوْ كَانَ أَقَامَ مَا مَاتَ وَمَا قُتِلَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّخَاذُلِ عَنِ الْغَزْوِ وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَمَّ مَا يَحْذَرُونَهُ مِنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْمَوْتِ فِيهِ، فَمَا

(1) سورة آل عمران: 3/ 156. [.....]

ص: 404

يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، لَوْ لَمْ يَهْلَكُوا بِالْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ. لِأَنَّ اللَّامَ فِي لَئِنْ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ: لَمَغْفِرَةٌ. وَكَانَ نَكِرَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَيْسَرَ جُزْءٍ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ كَافٍ فِي فَوْزِ الْمُؤْمِنِ. وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِقَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ نَكِرَةً وَمُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِهَا، كَوْنُهَا عُطِفَتْ عَلَى مَا يَسُوغُ بِهِ الِابْتِدَاءُ. أَوْ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً فِي الْمَعْنَى إِذِ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةٌ مِنْهُ. وَثَمَّ صِفَةٌ أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَقْدِيرُهَا: وَرَحْمَةٌ لَكُمْ. وَخَيْرٌ هُنَا عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ ذَهَبَةٌ حَمْرَاءُ. وَارْتِفَاعُ خَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ إِشَارَةً إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَمَّى ذَلِكَ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً، إِذْ هُمَا مُقْتَرِنَانِ بِهِ. وَيَجِيءُ التَّقْدِيرُ لِذَلِكَ: مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ. وَتَرْتَفِعُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ الْمُقَدَّرِ. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ صِفَةٌ لَا خَبَرُ ابْتِدَاءٍ انْتَهَى قَوْلُهُ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ إِنْ قُتِلْتُمْ مَحْذُوفٌ، لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: سد مسد جواب الشرط إِنْ عَنَى أَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَتِ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الموت فيه.

وَقَالَ الرَّازِيُّ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَبُّدِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَرَحْمَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَبُّدِهِ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِالظَّاهِرِ. وَقَدَّمَ الْقَتْلَ هُنَا لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ، فَقَدَّمَ الْأَشْرَفَ الْأَهَمَّ فِي تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذِ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِهِ.

قَالَ الرَّاغِبُ: تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِلْزَامًا هُوَ جَارٍ مَجْرَى قِيَاسَيْنِ شَرْطِيَّيْنِ اقْتَضَيَا الْحِرْصَ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلُهُ: إِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مُتُّمْ، حَصَلَتْ لَكُمُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَهُمَا خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ. فَإِذَا الْمَوْتُ وَالْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ فَالْحَشْرُ لَكُمْ حَاصِلٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ وَالْقَتْلُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْحَشْرُ فَنَتِيجَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ اللَّذَيْنِ يوجبان المغرفة وَالرَّحْمَةَ خَيْرٌ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ اللَّذَيْنِ لَا يُوجِبَانِهِمَا انْتَهَى.

وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَالْأَبَوَانِ بِضَمِّ الْمِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَحَفْصٍ فِي هَذَيْنِ أَوْ مُتُّمْ، وَلَئِنْ

ص: 405

مُتُّمْ، وَكَسَرَ الْبَاقُونَ. وَالضَّمُّ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ. وَالْكَسْرُ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْقِيَاسِ، جَعَلَهُ الْمَازِنِيُّ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ، نَظِيرُ دُمْتَ تَدُومُ، وَفَضَّلْتَ تُفَضِّلُ، وَكَذَا أَبُو عَلِيٍّ، فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ. وَقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُمَا فِيهِ لُغَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: فَعَلَ يَفْعُلُ، فَتَقُولُ مَاتَ يَمُوتُ.

وَالْأُخْرَى: فَعَلَ يَفْعَلُ نَحْوَ مَاتَ يَمَاتُ، أَصْلُهُ مَوَتَ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَاذٍّ، إِذْ هُوَ مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، فَأَصْلُهُ مَوَتَ يَمُوتُ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ وَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: مُتُّمْ مِنْ مَاتَ يَمَاتُ قَالَ الشَّاعِرُ:

عِيشِي وَلَا تُومِي بِأَنْ تَمَاتِي وَسُفْلَى مُضَرَ يَقُولُونَ: مُتُّمْ بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، نَقَلَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَجْمَعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى سِيَاقِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ. وَقَرَأَ قَوْمٌ مِنْهُمْ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ، أَيْ مِمَّا يَجْمَعُهُ الْكُفَّارُ الْمُنَافِقُونَ وَغَيْرُهُمْ.

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. أَعْلَمَ فِيهِ أَنَّ مَصِيرَ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ أُطْلِقَا وَلَمْ يُقَيَّدَا بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قُيِّدَا فِي الْآيَةِ، فَهِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْخِطَابِ السَّابِقِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَإِلَى الرَّحِيمِ الْوَاسِعِ الرَّحْمَةِ الْمُمِيتِ الْعَظِيمِ الثَّوَابِ تُحْشَرُونَ. قَالَ: وَلِوُقُوعِ اسْمِ اللَّهِ هَذَا الْمَوْقِعَ مَعَ تَقْدِيمِهِ وَإِدْخَالِ اللَّامِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُتَّصِلِ بِهِ سِيَّانِ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ انْتَهَى. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِهِ: مِنْ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ، فَكَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَإِلَى اللَّهِ لَا غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ. وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ التَّقْدِيمُ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالشَّيْءِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنَّ تأخر الفعل هنا فاضلة، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْمَجْرُورُ لَفَاتَ هَذَا الْغَرَضُ وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ تَحْقِيرَ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْحِرْصَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ مَصِيرَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَالْمُوَافَاةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَمْثَلُ بِالْمَرْءِ لِيُحْرِزَ ثَوَابَهَا وَيَجِدْهُ وَقْتَ الْحَشْرِ. وَقَدَّمَ الْمَوْتَ هُنَا عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّهَا آيَةُ وَعْظٍ بِالْآخِرَةِ وَالْحَشْرِ، وَتَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ، وَالْمَوْتُ فِيهَا مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ بِشَيْءٍ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُخْتَصًّا بِمَنْ خُوطِبَ قَبْلُ أَوْ عَامًّا وَانْدَرَجَ أُولَئِكَ فِيهِ، فَقُدِّمَ لِعُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَبُ فِي النَّاسِ مِنَ الْقَتْلِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ. مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا:

فَقَدَّمَ الْمَوْتَ عَلَى الْقَتْلِ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى «1»

(1) سورة آل عمران: 3/ 156.

ص: 406

وَتَقَدَّمَ الْقَتْلُ عَلَى الْمَوْتِ بَعْدُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَحْرِيضٍ عَلَى الْجِهَادِ، فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ وَالْأَشْرَفَ.

وَقَدَّمَ الْمَوْتَ هُنَا لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ، وَلَمْ يُؤَكَّدِ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ اللام المتلقى بها القسم وَبَيْنَهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ: لَتُحْشَرُنَّ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ:

لِيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ كَهَذَا، أَوْ بِسَوْفَ. كَقَوْلِهِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «1» أَوْ بِقَدْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

كَذَبْتِ لَقَدْ أَصْبَى عَلَى الْمَرْءِ عِرْسِهِ

وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يَزِنَّ بِهَا الْخَالِي

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَصْلُ دُخُولُ النُّونِ فَرْقًا بَيْنَ لَامِ الْيَمِينِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَضَلَاتِ، فَبِدُخُولِ لَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْفَضْلَةِ وَقَعَ الْفَصْلُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى النُّونِ. وَبِدُخُولِهَا عَلَى سَوْفَ وَقَعَ الْفَرْقُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى النُّونِ، لِأَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ حَالًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فَلَا.

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ الْمُؤْمِنُونَ. فَالْمَعْنَى: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِنْتَ لَهُمْ، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ امْتُنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ. أَيْ: دَمِثَتْ أَخْلَاقُكَ وَلَانَ جَانِبُكَ لَهُمْ بَعْدَ مَا خَالَفُوا أَمَرَكَ وَعَصَوْكَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ الْمُخَاطَبُ صلى الله عليه وسلم، أَيْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاكَ جَعَلَكَ لَيِّنَ الْجَانِبِ مُوَطَّأَ الْأَكْنَافِ، فَرَحِمْتَهُمْ وَلِنْتَ لَهُمْ، وَلَمْ تُؤَاخِذْهُمْ بِالْعِصْيَانِ وَالْفِرَارِ وَإِفْرَادِكَ لِلْأَعْدَاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الرَّحْمَةِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ جَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَبَعْثَهُ بِتَتْمِيمِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُؤْمِنِينَ، بأن لينه لهم.

وما هُنَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَزِيَادَتُهَا بَيْنَ الْبَاءِ وَعَنْ وَمِنْ وَالْكَافِ، وَبَيْنَ مَجْرُورَاتِهَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فِي اللِّسَانِ، مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا منكرة تامة، ورحمة بَدَلٌ مِنْهَا. كَأَنَّهُ قِيلَ: فَبِشَيْءٍ أُبْهِمَ، ثُمَّ أُبْدِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ، فَقَالَ: رَحْمَةٌ.

وَكَأَنَّ قَائِلَ هَذَا يَفِرُّ مِنَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهَا أنهار زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مَا هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. قَالَ الرَّازِيُّ:

قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: دُخُولُ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الْوَضْعِ فِي كَلَامِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لِلتَّعَجُّبِ تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّ جِنَايَتَهُمْ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةً ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ أَلْبَتَّةَ تَغْلِيظًا فِي الْقَوْلِ، وَلَا خُشُونَةً فِي الْكَلَامِ، عَلِمُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَأْيِيدٍ رَبَّانِيٍّ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا قاله المحققون:

(1) سورة الشعراء: 26/ 49.

ص: 407

صَحِيحٌ، لَكِنَّ زِيَادَةَ مَا لِلتَّوْكِيدِ لَا يُنْكِرُهُ فِي أَمَاكِنِهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَعَلُّقٍ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ مَنْ يَتَعَاطَى تَفْسِيرَ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ مُهْمَلًا فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لِلتَّعَجُّبِ. ثُمَّ إِنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ مَا مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تُضَافُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَلَا أَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ أي بلا خلاف، وكم عَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ.

وَالثَّانِي: إِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ فَيَكُونُ إِعْرَابُهُ بَدَلًا، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَحَظَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَلْفَاظِ، وَكَانَ يُغْنِيهِ عَنْ هَذَا الِارْتِبَاكِ وَالتَّسَلُّقِ إِلَى مَا لَا يُحْسِنُهُ وَالتَّسَوُّرُ عَلَيْهِ. قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي مَا هَذِهِ؟ إِنَّهَا صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ.

وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ثَمَرَةَ اللِّينِ هِيَ الْمَحَبَّةُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ. وَأَنَّ خِلَافَهَا مِنَ الْجَفْوَةِ وَالْخُشُونَةِ مُؤَدٍّ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ شَافَهْتُهُمْ بِالْمَلَامَةِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْفِرَارِ لِتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِكَ هَيْبَةً مِنْكَ وَحَيَاءً، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِ مَادَّتِهِ، وَإِطْمَاعًا لِلْعَدُوِّ وَاللِّينِ وَالرِّفْقِ، فَيَكُونُ فِيمَا لَمْ يُفْضِ إِلَى إِهْمَالِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:

وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وفي وَصْفِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ. وَالْوَصْفَانِ قِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَجُمِعَا لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: الْفَظَاظَةُ الْجَفْوَةُ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَغِلَظُ الْقَلْبِ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ خُلِقَ صُلْبًا لَا يَلِينُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَعَنِ الْغِلَظِ تَنْشَأُ الْفَظَاظَةُ تَقَدَّمَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْحِسِّ عَلَى مَا هُوَ خَافٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِظُهُورِ أَثَرِهِ.

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ خَاصًّا بِهِ مِنْ تَبِعَةٍ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمُشَاوَرَتِهِمْ. وَفِيهَا فَوَائِدُ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ، وَالرَّفْعُ مِنْ مِقْدَارِهِمْ بِصَفَاءِ قَلْبِهِ لَهُمْ، حَيْثُ أَهَّلَهُمْ لِلْمُشَاوَرَةِ، وَجَعَلَهُمْ خَوَاصَّ بَعْدَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَتَشْرِيعُ الْمُشَاوَرَةِ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَالِاسْتِظْهَارُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ. فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَاخْتِبَارُ عُقُولِهِمْ، فَيُنْزِلُهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَاجْتِهَادُهُمْ فِيمَا فِيهِ وَجْهُ الصَّلَاحِ. وَجَرَى عَلَى مَنَاهِجِ الْعَرَبِ وَعَادَتِهَا فِي الِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ، وَإِذَا لَمْ يُشَاوِرْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَصَلَ فِي نفسه شيء،

(1) سورة التوبة: 9/ 73.

ص: 408

وَلِذَلِكَ عَزَّ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ كَوْنُهُمُ اسْتَبَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَشُورَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وفيما ذا أُمِرَ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ. قِيلَ: فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَالدُّنْيَا وَقِيلَ: فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ، وَلِذَلِكَ اسْتَشَارَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ.

وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى تريب زَمَانِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَرَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغٍ، أَمَرَ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ فِيمَا يَخُصُّهُ، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ فِيمَا لِلَّهِ، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ انْتَهَى.

وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّدْرِيجُ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ هَذِهِ حِكْمَةُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. أَمَرَ أَوَّلًا بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، إِذْ عَفْوُهُ عَنْهُمْ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ، وَدَلِيلٌ على رضاه صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ. وَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِهِ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ اللَّهُ لِيَكْمُلَ لَهُمْ صَفْحُهُ وَصَفْحُ اللَّهِ عَنْهُمْ، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا زَالَتْ عَنْهُمُ التَّبِعَاتُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ شَاوَرَهُمْ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَالْخُلَّةِ النَّاصِحَةِ، إِذْ لَا يَسْتَشِيرُ الْإِنْسَانَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا فِيهِ الْمَوَدَّةَ وَالْعَقْلَ وَالتَّجْرِبَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاعْفُ عَنْهُمْ أَمْرٌ لَهُ بِالْعَفْوِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَلْنِي الْعَفْوَ عَنْهُمْ لِأَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ وَالْمَسْئُولُ الِاسْتِغْفَارُ لِأَجْلِهِ. قِيلَ: فِرَارُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرْكُ إِجَابَتِهِ، وَزَوَالُ الرُّمَاةِ عَنْ مَرَاكِزِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُبْدُونَ مِنْ هَفَوَاتِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ السَّقَطَاتِ الَّتِي لَا يَعْتَقِدُونَهَا، كَمُنَادَاتِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: أن كان ابن عمتك وَجَرُّ رِدَاءِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي عُنُقِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْهَفْوَةِ. وَمِنْ غَرِيبِ النُّقُولِ وَالْمَقُولِ وَضَعِيفِهِ الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ قَوْلُ بَعْضُهُمْ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، أَنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ. وَالْمَعْنَى: وَلِيُشَاوِرُوكَ فِي الْأَمْرِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا جُمْلَةً مِمَّا وَرَدَ فِي الْمُشَاوَرَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

أَنَّ الشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ، هَذَا مَا لَا خِلَافَ لَهُ. وَالْمُسْتَشَارُ فِي الدِّينِ عَالِمُ دِينٍ، وَقَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَمُلَ دِينُ امْرِئٍ لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَاقِلٌ مُجَرِّبٌ وَادٍ فِي الْمُسْتَشِيرِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: فِي الْأَمْرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ. إِذْ لَا يُشَاوِرُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْأَمْرُ: اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكُلِّ وَلِلْبَعْضِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: فَإِذَا عَقَدْتَ قَلْبَكَ عَلَى أَمْرٍ بَعْدَ الِاسْتِشَارَةِ فَاجْعَلْ تَفْوِيضَكَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالْأَصْلَحِ لَكَ، وَالْأَرْشَدِ لِأَمْرِكَ، لَا يَعْلَمُهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ وَتَخْمِيرِ

ص: 409

الرَّأْيِ وَتَنْقِيحِهِ، وَالْفِكْرِ فِيهِ. وَإِنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا خِلَافًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنْ:

تَرْكِ الْمَشُورَةِ، وَمِنَ: الِاسْتِبْدَادِ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي عَاقِبَةٍ، كَمَا قَالَ:

إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ

وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا

وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ

وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَزَمْتَ عَلَى الْخِطَابِ كَالَّذِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَزَمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى أَنَّهَا ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى فَإِذَا عَزَمْتُ لَكَ عَلَى شَيْءٍ أَيْ أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُكَ تَقْصِدُهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقِ ضَمِّ التَّاءِ لَكَانَ فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ وَنَظِيرُهُ فِي نِسْبَةِ الْعَزْمِ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ عَزَمَ الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ حَثَّ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَالْمَرْءُ سَاعٍ فِيمَا يُحَصِّلُ لَهُ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فُنُونًا مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْإِبْهَامِ فِي: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ قَالَ: هُوَ الرَّسُولُ أَبْهَمَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ فِيهِ هَضْمٌ لِقَدْرِهِ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: غَمًّا بِغَمٍّ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ. وَالطِّبَاقُ: فِي يُخْفُونَ وَيُبْدُونَ، وَفِي فَاتَكُمْ وَأَصَابَكُمْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: تَظُنُّونَ وَظَنَّ، وَفِي فَتَوَكَّلْ وَالْمُتَوَكِّلِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي فَظًّا وَلَانْفَضُّوا، وَلَيْسَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَادَّتَانِ وَالتَّفْسِيرُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي مَا لَا يُبْدُونَ يَقُولُونَ. وَالِاحْتِجَاجُ النَّظَرِيُّ فِي: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ فِي: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَفِي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَفِي يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، وَفِي لِنْتَ، وَفِي غَلِيظَ الْقَلْبِ. وَالتَّكْرَارُ فِي: مَا مَاتُوا، وَمَا قُتِلُوا، وَمَا بَعْدَهُمَا، وَفِي: عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ. وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ لِلتَّأْكِيدِ فِي: فَبِمَا رَحْمَةٍ. وَالِالْتِفَاتُ وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ هَذَا الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى الْخِطَابِ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْضَحَ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنَ النَّصْرِ أَوِ الْخِذْلَانِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِمَا يَشَاءُ. وَأَنَّهُ مَتَى نَصَرَكُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْلِبَكُمْ أَحَدٌ، وَمَتَى خَذَلَكُمْ فَلَا نَاصِرَ لَكُمْ فِيمَا وَقَعَ لَكُمْ مِنَ النَّصْرِ، أَوْ بِكُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ كَيَوْمَيْ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَبِمَشِيئَتِهِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَمَّا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْفِرَارِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ

ص: 410

بِالتَّوَكُّلِ، وَنَاطَ الْأَمْرَ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يُنَاسِبُ مَعَهُ التَّوَكُّلَ وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُصَدِّقٌ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ بِيَدِهِ النَّصْرُ وَالْخِذْلَانُ. وَأَشْرَكَهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي مَطْلُوبِيَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ إِضَافَةُ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَيْهِ.

وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ مِنْ فُرُوضِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِالتَّشْمِيرِ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَزَامَةِ بِغَايَةِ الْجُهْدِ، وَمُعَاطَاةِ أَسْبَابِ التَّحَرُّزِ، وَلَيْسَ الْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ وَالْإِهْمَالُ لِمَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بِتَوَكُّلٍ، وَإِنَّمَا هو كَمَا

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ»

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «1» وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا يُخْذَلُ مِنَ الَّذِي يُنْصَرُ. وَإِمَّا أَنْ لَا يحتاج إلى تقدير هذا الْمَحْذُوفِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِذَا جَاوَزْتَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَقَدْ خَذَلَكَ فَمَنْ ذَا الَّذِي تُجَاوِزُهُ إِلَيْهِ فَيَنْصُرُكَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْخِذْلَانِ. وَجَاءَ جَوَابُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ بِصَرِيحِ النَّفْيِ الْعَامِّ، وَجَوَابُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ، وَهُوَ مِنْ تَنْوِيعِ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يُصَرِّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، بَلْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِي السُّؤَالَ عَنِ النَّاصِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ النَّاصِرِ. لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْمُتَضَمِّنِ، فَلَمْ يُجْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْكُفَّارِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ بِالصَّرِيحِ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «2» وظاهره النُّصْرَةِ أَنَّهَا فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى مُكَافَحَتِهِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا النُّصْرَةَ بِالْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَبِالْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَالُوا: الْمَعْنَى إِنْ حَصَلَتْ لَكُمُ النُّصْرَةُ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَعْرِضُ مِنَ الْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ غَلَبَةً، وَإِنْ خَذَلَكُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْقَهْرِ فِي الدُّنْيَا نُصْرَةً، فَالنُّصْرَةُ وَالْخِذْلَانُ معتبران بالمئال. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ نَصَرَهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ، وَلِيَخُصَّ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، لعلمهم أَنَّهُ لَا نَاصِرَ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ إِيمَانَكُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَخَذَ الِاخْتِصَاصَ مِنْ تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يُوجِبُ الْحَصْرَ وَالِاخْتِصَاصَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْذُلُكُمْ مِنْ خَذَلَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَخْذُلُكُمْ

(1) سورة فاطر: 35/ 2.

(2)

سورة محمد: 47/ 13.

ص: 411

مِنْ أَخْذَلَ رُبَاعِيًّا، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أَيْ: يَجْعَلُكُمْ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: فُقِدَتْ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ مِنَ الْمَغَانِمِ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فَنَزَلَتْ

، وَقَائِلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ لَمْ يَظُنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا. وَقِيلَ: مُنَافِقٌ.

وَرُوِيَ أَنَّ الْمَفْقُودَ سَيْفٌ.

وَقَالَ النَّقَّاشُ: قَالَتِ الرُّمَاةُ يَوْمَ أُحُدٍ:

الْغَنِيمَةُ الْغَنِيمَةُ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ:«خَشِيتُمْ أَنْ نَغُلَّ» فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ.

وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ إِعْلَامًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْغَنَائِمِ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِالنَّارِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ مِدْعَمٍ، فَحَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مَا كَانَ لِزَيْدٍ أَنْ يَفْعَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ أَنْ يَغُلَّ مِنْ غَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْغُلُولَ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ الْمَعَاصِي، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَهَذَا النَّفْيُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: أَنْ يُغَلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مِنْ غَلَّ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخُونَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، فَهِيَ نَهْيٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْغُلُولِ فِي الْمَغَانِمِ، وَخُصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ أشنع لما يحب مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، كَالْمَعْصِيَةِ بِالْمَكَانِ الشَّرِيفِ، وَالْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَغَلَّ رُبَاعِيًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ غَالًّا كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ وَجَدَ مَحْمُودًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ أَغَلَّ أَيْ نُسِبَ إِلَى الْغُلُولِ. وَقِيلَ لَهُ: غَلَلْتَ كَقَوْلِهِمْ: أَكْفَرَ الرَّجُلُ، نُسِبَ إِلَى الْكُفْرِ.

وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَأْتِي بِعَيْنِ مَا غَلَّ، وَرَدَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

فَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ الْغُلُولَ وَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ:«لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ»

الْحَدِيثَ وَكَذَلِكَ مَا

جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا وفرس له حمجة

وَفِي حَدِيثِ مِدْعَمٍ: «إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غُلَّتْ مِنَ الْمَغَانِمِ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا وَمَجِيئُهُ بِمَا غَلَّ

ص: 412

فضيحة له على رؤوس الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَقَالَ الكلبي بمثل لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي غَلَّهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ فَخُذْهُ، فَيَنْزِلُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ صَوْمَعَتَهُ وَقَعَ فِي النَّارِ، ثُمَّ كُلِّفَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ.

وَقِيلَ: يَأْتِي حَامِلًا إِثْمَ مَا غَلَّ. وَقِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ عِوَضَ مَا غَلَّ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ الْغُلُولِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ هَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغُلُولِ، وَمَا يَجْرِي لِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ غَلَّ، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ تُوَفَّى جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، فَصَارَ الْغَالُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِخُصُوصِهِ، وَمَرَّةً بِانْدِرَاجِهِ فِي هَذَا الْعَامِّ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ مِنْ تَبِعَةِ مَا غَلَّ، وَمِنْ تبعة مَا كَسَبَتْ مِنْ غَيْرِ الْغُلُولِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَيْسَ مَنِ اتَّبَعَ رِضَا اللَّهِ فَامْتَثَلَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ مَنَاهِيهِ كَمَنْ عَصَاهُ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعِيَّةِ. جَعَلَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ كَالدَّلِيلِ الَّذِي يَتْبَعُهُ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ، وَجَعَلَ الْعَاصِيَ كَالشَّخْصِ الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَرَجَعَ مَصْحُوبًا بِمَا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أفمن اتبع ما يؤول بِهِ إِلَى رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، فَبَاءَ بِرِضَاهُ كَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ ذَلِكَ فَبَاءَ بِسَخَطِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْجُمْهُورُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَغُلَّ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ حِينَ غَلَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِتَخَلُّفِهِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: رِضْوَانُ اللَّهِ الْجِهَادُ، وَالسُّخْطُ الْفِرَارُ. وَقِيلَ:

رِضَا اللَّهِ طَاعَتُهُ، وَسُخْطُهُ عِقَابُهُ. وَقِيلَ: سُخْطُهُ مَعْصِيَتُهُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَيَعْسُرُ مَا يَزْعُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَقْدِيرِ مَعْطُوفٍ بَيْنَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَتَقْدِيرُهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا فِيهِ، رَجَحَ إِذْ ذَاكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مِنْ أَنَّ الْفَاءَ مَحَلُّهَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ، لَكِنْ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي رِضْوَانَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِئْنَافٌ.

وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فَمَكَانُهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ هُوَ جَهَنَّمُ، وَأَفْهَمَ هَذَا أَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ مَأْوَاهُ الْجَنَّةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي صِلَةِ مَنْ فَوَصَلَهَا بِقَوْلِهِ: بَاءَ. وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَانَ الْمَعْنَى: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَآلَ إِلَى النَّارِ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: أَيْ جَهَنَّمَ.

ص: 413

هُمْ دَرَجاتٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَقَوْلِهِ: هُمْ طَبَقَاتٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْغَالِّ وَتَارِكِ الْغُلُولِ، وَالدَّرَجَةُ: الرُّتْبَةُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ:

تَقْدِيرُهُ لَهُمْ دَرَجَاتٌ. قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ رَادًّا عَلَيْهِ: اتَّبَعَ الرَّازِيُّ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ بِجَهْلِهِ وَجَهْلِهِمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ حَذْفَ لَامِ الْجَرِّ هُنَا لَا مَسَاغَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُحْذَفُ لَامُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ، أَوْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ. عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى دُونَ حَذْفِهَا حَسَنٌ مُتَمَكِّنٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ مُنْتَظِرٌ لِلْجَوَابِ قِيلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ: لَا، لَيْسُوا سَوَاءً، بَلْ هُمْ دَرَجَاتٌ.

عِنْدَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ اللَّامِ، لَوْ كَانَ سَائِغًا كَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ انْتَهَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَيَحْمِلُ تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى: لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلَى تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، لَا تَفْسِيرَ اللَّفْظِ الْإِعْرَابِيِّ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُمْ دَرَجَاتٌ، أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ، فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ جَاءَ التَّفَاوُتُ فِي الْعَذَابِ كَمَا جَاءَ التَّفَاوُتُ فِي الثَّوَابِ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فِي حُكْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الرِّضْوَانِ، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مَعْنَاهَا التَّشْرِيفُ وَالْمَكَانَةُ لَا الْمَكَانُ. كَقَوْلِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «1» وَالدَّرَجَاتُ إِذْ ذَاكَ مَخْصُوصَةٌ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ: ابْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُقَاتِلٍ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض في الْمَسَافَةِ أَوْ فِي التَّكْرِمَةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَرَجَاتٌ، فَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلَفْظِ هُمْ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ دَرَجَةً بِالْإِفْرَادِ.

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِأَعْمَالِهِمْ وَدَرَجَاتِهَا، فَمُجَازِيهِمْ عَلَى حَسَبِهَا.

وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الطِّبَاقَ فِي: يَنْصُرُكُمْ وَيَخْذُلُكُمْ، وَفِي رِضْوَانِ اللَّهِ وَبِسَخَطٍ.

وَالتَّكْرَارُ فِي: يَنْصُرُكُمْ وَيَنْصُرُكُمْ، وَفِي الْجَلَالَةِ فِي مَوَاضِعَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: فِي يَغُلُّ وَمَا غَلَّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الذي معناه النفي فِي: أَفَمَنِ اتَّبَعَ الْآيَةَ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَفِي: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ، وَفِي: بِمَا يَعْمَلُونَ خُصَّ الْعَمَلُ دُونَ الْقَوْلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ جُلُّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

(1) سورة القمر: 54/ 55.

ص: 414