الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 72]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72)
شَجَرَ الْأَمْرُ: الْتَبَسَ، يَشْجُرُ شُجُورًا وَشَجَرًا، وَشَاجَرَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ فِي الْأَمْرِ نَازَعَهُ فِيهِ، وَتَشَاجَرُوا. وَخَشَبَاتُ الْهَوْدَجِ يُقَالُ لَهَا شِجَارٌ لِتَدَاخُلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَرُمْحٌ شَاجِرٌ، وَالشَّجِيرُ الَّذِي امْتَزَجَتْ مَوَدَّتُهُ بِمَوَدَّةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّجَرِ شُبِّهَ بِالْتِفَافِ الْأَغْصَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي الْبَقَرَةِ وَأُعِيدَتْ لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ.
نَفَرَ الرَّجُلُ يَنْفِرُ نَفِيرًا، خَرَجَ مُجِدًّا بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الْمُضَارِعِ وَضَمِّهَا، وَأَصْلُهُ الْفَزَعُ، يُقَالُ: نَفَرَ إِلَيْهِ إِذَا فَزِعَ إِلَيْهِ، أَيْ طَلَبَ إِزَالَةَ الْفَزَعِ. وَالنَّفِيرُ النَّافُورُ، وَالنَّفَرُ الْجَمَاعَةُ. وَنَفَرَتِ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ بِضَمِّ الْفَاءِ نُفُورًا أَيْ هَرَبَتْ بِاسْتِعْجَالٍ.
الثِّبَةُ: الْجَمَاعَةُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَهُ: الْمَاتُرِيدِيُّ. وَقِيلَ: هِيَ فَوْقَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَزْنُهَا فِعْلَةٌ. وَلَامُهَا قِيلَ: وَاوٌ، وَقِيلَ: يَاءٌ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَثَبَّيْتُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أَثْنَيْتَ عَلَيْهِ، كَأَنَّكَ جَمَعْتَ مَحَاسِنَهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لَامَهَا وَاوٌ، جَعَلَهَا مِنْ ثَبَا يَثْبُو مِثْلَ حَلَا يَحْلُو. وَتُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ وَبِالْوَاوِ وَالنُّونِ فَتُضَمُّ فِي هَذَا الْجَمْعِ تَاؤُهْا، أَوْ تُكْسَرُ وَثِبَةُ الْحَوْضِ وَسَطُهُ الَّذِي يَثُوبُ الْمَاءُ إِلَيْهِ، الْمَحْذُوفُ مِنْهُ عَيْنُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ، وَتَصْغِيرُهُ ثُوَيْبَةٌ كَمَا تَقُولُ فِي سَهٍّ سُيَيْهَةٌ، وَتَصْغِيرُ تِلْكَ ثُبَيَّةٌ. الْبُطْءُ التَّثَبُّطُ عَنِ الشَّيْءِ. يُقَالُ:
أَبْطَأَ وَبَطُؤَ مِثْلَ أَسْرَعَ وَسَرُعَ مُقَابِلَهُ، وَبُطْآنِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى بَطُؤَ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى جَلَالَةِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ يَلْزَمُهُمْ طَاعَتُهُمْ، وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ تَجِبُ طَاعَتُهُ. وَلَامُ لِيُطَاعَ لَامُ كَيْ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِأَجْلِ الطَّاعَةِ. وَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ بِعِلْمِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِرْشَادِهِ. وَحَقِيقَةُ الْإِذْنِ التَّمْكِينُ مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِ مَا مُكِّنَ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِإِذْنِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيُطَاعَ. وَقِيلَ: بِأَرْسَلْنَا أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا بِأَمْرِ اللَّهِ أَيْ: بِشَرِيعَتِهِ، وَدِينِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى التَّعْلِيقَيْنِ فَالْكَلَامُ عَامُّ اللَّفْظِ، خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَدْ أَرَادَ مِنْ بَعْضِ خَلْقِهِ أَنْ لَا يُطِيعُوهُ، وَلِذَلِكَ خَرَّجَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى الْإِذْنِ إِلَى الْعِلْمِ، وَطَائِفَةٌ خَرَّجَتْهُ إِلَى الْإِرْشَادِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يُؤْمِنُ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيُطَاعَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَامًّا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِيُطِيعَهُ الْعَالَمُ، بَلِ الْمَحْذُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَاصًّا لِيُوَافِقَ الْمَوْجُودَ، فَيَكُونَ أَصْلَهُ: إِلَّا لِيُطِيعَهُ مَنْ أَرَدْنَا طَاعَتَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رَسُولَ إِلَّا وَمَعَهُ شَرِيعَةٌ لِيَكُونَ مُطَاعًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَمَتْبُوعًا فِيهَا، إِذْ لَوْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُطَاعًا، بَلِ الْمُطَاعُ هُوَ الرَّسُولُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي هُوَ الْوَاضِعُ لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى كُلِّ رَسُولٍ بِأَنَّهُ مُطَاعٌ انْتَهَى. وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُهُ:
الْوَاضِعُ لِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُخْطِهِمْ لِقَضَائِكَ أَوْ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ، أَوْ بِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. جاؤوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ، وَاعْتَذَرُوا إِلَيْكَ. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أَيْ: شَفَعَ لَهُمُ الرَّسُولُ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ. وَالْعَامِلُ في إذ جاؤوك، وَالْتَفَتَ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفَرَ لهم الرسول، ولم يجىء عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي جاؤوك تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الرَّسُولِ، وَتَعْظِيمًا لِاسْتِغْفَارِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الشَّرِيفَ وَهُوَ إِرْسَالُ اللَّهِ إِيَّاهُ مُوجِبٌ لِطَاعَتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «1» وَمَعْنَى وَجَدُوا:
عَلِمُوا، أَيْ: بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ قَبِلَ توبتهم ورحمهم.
(1) سورة النساء: 4/ 64.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: فَائِدَةٌ ضُمَّ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ إِلَى اسْتِغْفَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَى الطَّاغُوتِ خَالَفُوا حُكْمَ اللَّهِ، وَأَسَاءُوا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَذِرُوا وَيَطْلُبُوا مِنَ الرَّسُولِ الِاسْتِغْفَارَ، أَوْ لَمَّا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ الرَّسُولِ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّمَرُّدُ، فَإِذَا تَابُوا وَجَبَ أَنْ يظهر منهم ما يزيد التَّمَرُّدَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الرَّسُولِ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ، أَوْ إِذَا تَابُوا بِالتَّوْبَةِ أَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْخَلَلِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهَا: لَوَجَدُوا اللَّهَ «1» وَهَذَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَوَّاباً رَحِيماً «2» قَبُولَ تَوْبَتِهِ انْتَهَى.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيٌّ بعد ما دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْرِهِ وَحَثَا مِنْ تُرَابِهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي التُّرْبِ أَعْظُمُهُ
…
فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ
…
فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
ثُمَّ قَالَ: قَدْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَوَعَيْتَ عَنِ اللَّهِ فَوَعَيْنَا عَنْكَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظلموا أنفسهم جاؤوك الْآيَةَ، وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبِي، فَاسْتَغْفِرْ لِي مِنْ رَبِّي، فَنُودِيَ مِنَ الْقَبْرِ أَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَكَ.
فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَرَادَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُ أشبه بنسف الْآيَاتِ.
وَقِيلَ: فِي شَأْنِ الرَّجُلِ الَّذِي خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي السَّقْيِ بِمَاءِ الْحَرَّةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَوْعَبَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فَقَالَ: احْبِسْ يَا زُبَيْرُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ» .
وَالرَّجُلُ هُوَ مِنَ الأنصار بدري. وقيل: هو حَاطِبِ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ نَافِيَةً لِإِيمَانِ الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَهُ عُمَرُ، لِكَوْنِهِ رَدَّ حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمُقِيمَةً عُذْرَ عُمَرَ فِي قَتْلِهِ، إذ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ عمر يجترىء عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ» .
وَأَقْسَمَ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى كَافِ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الْتِفَاتٌ رَاجِعٌ إِلَى قوله: جاؤُكَ «3» وَلَا فِي قَوْلِهِ:
فَلَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ رَدٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أنهم آمنوا بما
(1) سورة النساء: 4/ 64.
(2)
سورة النساء: 4/ 64.
(3)
سورة النساء: 4/ 64.
أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدَّمَ لَا عَلَى الْقَسَمِ اهْتِمَامًا بِالنَّفْيِ، ثُمَّ كَرَّرَهَا بَعْدُ توكيدا للتهم بِالنَّفْيِ، وَكَانَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ لَا الثَّانِيَةِ، وَيَبْقَى أَكْثَرُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ الْأُولَى، وَكَانَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْأُولَى وَيَبْقَى مَعْنَى النَّفْيِ، وَيَذْهَبُ مَعْنَى الِاهْتِمَامِ. وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ، وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ حَرْفِ النفي والنفي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ، كَمَا زِيدَتْ فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الْعِلْمِ.
وَلَا يُؤْمِنُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا زِيدَتْ لِتُظَاهِرَ لَا فِي. لَا يُؤْمِنُونَ.
(قُلْتُ) : يَأْبَى ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «1» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِثْلُ الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ولا والله لا يلقى لِمَا بِي
…
وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ
وَحَتَّى هُنَا غَايَةٌ، أَيْ: يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْإِيمَانُ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِذَا وَجَدَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَفِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ نِزَاعٌ وَتَجَاذُبٌ. وَمَعْنَى يُحَكِّمُوكَ، يَجْعَلُوكَ حَكَمًا. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ التَّقْدِيرُ: فَتَقْضِي بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَيْ ضِيقًا مِنْ حُكْمِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَكًّا لِأَنَّ الشَّاكَّ فِي ضِيقٍ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى يَلُوحَ لَهُ الْبَيَانُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِثْمًا أَيْ: سَبَبُ إِثْمٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مَا يَأْثَمُونَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا.
وَقِيلَ: هَمًّا وَحُزْنًا، وَيُسَلِّمُوا أَيْ يَنْقَادُوا وَيُذْعِنُوا لِقَضَائِكَ، لَا يُعَارِضُونَ فِيهِ بِشَيْءٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُسَلِّمُوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ لِحُكْمِكَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَكَّدَ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ صُدُورِ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَاصِلَةً. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:
فِيمَا شَجْرَ بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنْ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ بِخِلَافِ الضَّمَّةِ وَالْكَسْرَةِ، فَإِنَّ السُّكُونَ بَدَلَهُمَا مُطَّرِدٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قَالَتِ الْيَهُودُ لَمَّا لَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ بِحُكْمِ الرَّسُولِ: مَا رَأَيْنَا أَسْخَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيَطَئُونَ عَقِبَهُ، ثُمَّ لَا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا، وَبَلَغَ الْقَتْلُ فِينَا سَبْعِينَ أَلْفًا. فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: لَوْ كُتِبَ ذَلِكَ عَلَيْنَا لَفَعَلْنَا فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ هَذَا السَّبَبُ بِأَلْفَاظٍ مُتَغَايِرَةٍ وَالْمَعْنَى قريب.
(1) سورة الحاقة: 69/ 38- 40.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ، أَوْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا فَرَضَ ذَلِكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ اسْتُتِيبُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ لَمْ يُطِعْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَذَا فِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ حَيْثُ لَا يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَالَ السَّبِيعِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَمَرَنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: الرَّجُلُ القائل ذلك هو أبو بَكْرٍ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لَبَدَأْتُ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ: أَنَّهُ عُمَرُ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ عَمَّارٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ.
وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَحِينَئِذٍ يَصْعُبُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُ كُفْرُهُمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَمُنَافِقِهِمْ. وَكَسَرَ النُّونَ مِنْ أَنِ، وَضَمَّ الْوَاوَ مِنْ أَوُ، أَبُو عَمْرٍو. وَكَسَرَهُمَا حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ، وَضَمَّهُمَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَأَنْ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً عَلَى مَا قَرَّرُوا أَنَّ أَنْ تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صُعُوبَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ، إِذْ قَرَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَقَدْ خَرَجَ الصَّحَابَةُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَفَارَقُوا أَهَالِيَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، وَارْتَفَعَ قَلِيلٌ، عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي فَعَلُوهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَبِالرَّفْعِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: إِلَّا قَلِيلًا بِالنَّصْبِ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ اتِّبَاعُ مَا بَعْدَ إِلَّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ على طريقة البدل أو الْعَطْفِ، بِاعْتِبَارِ الْمَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذكرناهما.
وقال الزمخشري: وقرىء إِلَّا قَلِيلًا بِالنَّصْبِ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ عَلَى إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا انْتَهَى. إِلَّا مَا النَّصْبُ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَهُوَ الَّذِي وَجَّهَ النَّاسُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَى إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا فَهُوَ ضَعِيفٌ لِمُخَالَفَةِ مَفْهُومِ التَّأْوِيلِ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ، وَلِقَوْلِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ: لَوْ قُلْتَ مَا ضَرَبُوا زَيْدًا إِلَّا ضَرْبًا قَلِيلًا مِنْهُمْ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنِ اقْتُلُوا أَوِ اخْرُجُوا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ مَا فَعَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى
الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُورَتُهُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ نَحْوِيٍّ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً الضَّمِيرُ فِي: وَلَوْ أَنَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَطَاعَتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِمَا يَرَاهُ وَيَحْكُمُ بِهِ، لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِإِيمَانِهِمْ، وَأَبْعَدَ مِنْ الِاضْطِرَابِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ اتَّعَظُوا وَأَنَابُوا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَتَثْبِيتًا مَعْنَاهُ يَقِينًا وَتَصْدِيقًا انْتَهَى. وَكِلَاهُمَا شَرَحَ مَا يُوعَظُونَ بِهِ بِخِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ. لِأَنَّ الَّذِي يُوعَظُ بِهِ لَيْسَ هُوَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَطَاعَتَهُ، وَلَيْسَ مَدْلُولُ مَا يُوعَظُونَ بِهِ اتَّعَظُوا وَأَنَابُوا، وَقِيلَ: الْوَعْظُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ فَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ. وَقَالَ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ: مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَيْ: مَا يُوصَوْنَ وَيُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّسْلِيمِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا الْمَوْعِظَةَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا مَا كُلِّفُوا بِهِ وَأُمِرُوا، وَسُمِّيَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَالْأَمْرُ وَعْظًا، لِأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونَةٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَعْظًا. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَقِيلَ مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا تَفَاسِيرُ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ الْوَعْظَ هُوَ التِّذْكَارُ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ العقاب، فالموعظ بِهِ هِيَ الْجُمَلُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِأَنْ يفعلوا الموعظ بِهِ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمْ شَرْحُ ذَلِكَ بِمَا خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّهُمْ عَلَّقُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: مَا يُوعَظُونَ، عَلَى طَرِيقَةِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِكَ: وَعَظْتُكَ بِكَذَا، فَتَكُونُ الْبَاءُ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى الشيء الموعظ بِهِ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَعْظِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيُحْمَلُ إِذْ ذَاكَ اللَّفْظُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَصِحُّ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي يُوعَظُونَ بِسَبَبِهِ أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِهِ. وَدَلَّ عَلَى حَذْفِ تَرْكِهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا. وَيَبْقَى لَفْظُ يُوعَظُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا تَأَوَّلُوهُ.
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ: أَيْ يَحْصُلُ لَهُمْ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، فَلَا يَكُونُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَهُ أَيْ: لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ، فَهُوَ أَبْقَى وَأَثْبَتُ. أَوْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى أَمْثَالِهَا، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ أَوَّلًا تَحْصِيلَ الْخَيْرِ، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ
بَقَاءَهُ. فَقَوْلُهُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَه: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ.
وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَإِذًا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَاذَا يَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا بَعْدَ التَّثْبِيتِ؟ فَقِيلَ: وَإِذًا لَوْ ثَبَتُوا لَأَتَيْنَاهُمْ. لِأَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَعْنَيَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. ذَهَبَ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَوَابًا فَقَطْ فِي مَوْضِعٍ، وَجَوَابًا وَجَزَاءً فِي موضع نفي، مثل: إذن أَظُنُّكَ صَادِقًا لِمَنْ قَالَ: أَزُورُكَ، هِيَ جَوَابُ خَاصَّةٍ. وفي مثل: إذن أُكْرِمَكَ لِمَنْ قَالَ: أَزُورُكَ، هِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ إِلَى أَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِالْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وُقُوفًا مَعَ ظَاهِرِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَالْأَجْرُ كِنَايَةٌ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَوَصْفُهُ بِالْعِظَمِ بِاعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّرَفِ. وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِيمَانُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَلَمَّا فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْإِيمَانِ قَالَ: وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهِدَايَةَ قَبْلَ إِعْطَاءِ الْأَجْرِ، لِأَنَّ الْمَقْصِدَ إِنَّمَا هُوَ تَعْدِيدُ مَا كَانَ اللَّهُ يُنْعِمُ بِهِ عَلَيْهِمْ دُونَ تَرْتِيبٍ، فَالْمَعْنَى: وَكَهَدَيْنَاهُمْ قَبْلُ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْتَى الْأَجْرَ انْتَهَى. وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَتِ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ هُنَا بِأَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، أَوِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، فَإِنَّهُ يُظْهِرُ التَّرْتِيبَ.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ فَقَالَ:«يَا ثَوْبَانُ مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ، غَيْرَ أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَكَ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، وَاسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَأَخَافُ أَنْ لَا أَرَاكَ هُنَاكَ، لِأَنِّي أَعْرِفُ أَنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلٍ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلِكَ، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَذَلِكَ حِينَ لَا أَرَاكَ أَبَدًا.
انْتَهَى قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَحُكِيَ مِثْلُ قَوْلِ ثَوْبَانِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا مُتَّ وَمُتْنَا، كُنْتَ فِي عِلِّيِّينَ فَلَا نَرَاكَ وَلَا نَجْتَمِعُ بِكَ، وَذَكَرَ حُزْنَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ.
وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْمِنِي حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا بَعْدَهُ، فَعَمِيَ.
وَالْمَعْنَى فِي مَعَ النَّبِيِّينَ: إِنَّهُ مَعَهُمْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ مَنْ فِيهَا رُزِقَ الرِّضَا بِحَالِهِ، وَهُمْ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ بَعُدَ مَكَانُهُ.
وَقِيلَ: الْمَعِيَّةُ هُنَا كَوْنُهُمْ يُرْفَعُونَ إِلَى مَنَازِلِ الأنبياء متى شاؤوا تَكْرِمَةً لَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ لِيَتَذَاكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ: الْأَوَّلُ: إِشْرَاقُ الْأَرْوَاحِ بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ. وَالثَّانِي: كَوْنُهُمْ مَعَ النَّبِيِّينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ فِي الدَّرَجَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، بَلْ مَعْنَاهُ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ النَّاقِصَةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ عَلَائِقَهَا مَعَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ فِي الدُّنْيَا بَقِيَتْ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ تِلْكَ الْعَلَائِقُ، فَيَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَتَصِيرُ أَنْوَارُهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ لِي انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْهُ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْأَرْوَاحِ إِذَا فَارَقَتِ الْأَجْسَادَ. وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ يَأْبَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَلَكِنْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَحُبُّهُ جَرَى فِي كَلَامِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «1» وَهُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ النَّبِيِّينَ، تَفْسِيرٌ لِلَّذِينِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْكُمْ أَلْحَقَهُ اللَّهُ بِالَّذِينِ تَقَدَّمَهُمْ مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالثَّوَابِ: النَّبِيُّ بِالنَّبِيِّ، وَالصِّدِّيقُ بِالصِّدِّيقِ، وَالشَّهِيدُ بِالشَّهِيدُ، وَالصَّالِحُ بِالصَّالِحِ. وَأَجَازَ الرَّاغِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنَ النَّبِيِّينَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ. أَيْ: مِنَ النَّبِيِّينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِشَارَةً إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى. ثُمَّ قَالَ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ الْمَوْتِ «اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى»
وَهَذَا ظَاهِرٌ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ النَّحْوِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ يُطِيعُهُ وَيُطِيعُ رَسُولَهُ فَهُوَ مَعَ مَنْ ذَكَرَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ مُعَلَّقًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: مِنَ النَّبِيِّينَ تَفْسِيرًا لِمَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ يُطِيعُونَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لأنه قد
(1) سورة الفاتحة: 1/ 6.
(2)
سورة النساء: 4/ 69.
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ.
وَقَالَ هُوَ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»
. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ فَمَا قَبْلَ فَاءِ الْجَزَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، لَوْ قُلْتَ: إِنْ تَقُمْ هِنْدٌ فَعَمْرٌو ذَاهِبٌ ضَاحِكَةً، لَمْ يَجُزْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بَعْدَ النَّبِيِّينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّهَا أَوْصَافٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا وَصَالِحًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكُلِّ وَصْفِ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ. فَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَهُوَ فِعِّيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَشِرِّيبٍ. فَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الصِّدْقِ، وَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الصَّدَقَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الَّذِي لَا يَتَخَالَجُهُ فِيهِ شَكٌّ فَهُوَ صِدِّيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ «1» . الثَّانِي: أَفَاضِلُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ. الثَّالِثُ: السَّابِقُ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ. فَصَارَ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِسَائِرِ النَّاسِ. وَأَمَّا الشَّهِيدُ: فَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْمَخْصُوصُ بِفَضْلِ الْمَيْتَةِ. وَفَرَّقَ الشَّرْعُ حُكْمَهُمْ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُمْ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِهِمْ سُمُّوا شُهَدَاءَ، وَلَكِنَّ لَفْظَ الشُّهَدَاءِ فِي الْآيَةِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَقْتُولَ الْكَافِرِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لِدِينِ اللَّهِ تَارَةً بِالْحُجَّةِ بِالْبَيَانِ، وَتَارَةً بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ. فَالشُّهَدَاءُ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْقِسْطِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «2» . وَالصَّالِحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا فِي اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْكِيبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ التَّنَزُّلِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، إِلَى أَدْنَى مِنْهُ. وَفِي هَذَا التَّرْغِيبُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، حَيْثُ وُعِدُوا بِمُرَافَقَةِ أَقْرَبِ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَرْفَعِهِمْ دَرَجَاتٍ عِنْدَهُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: قَسَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ مَنَازِلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، وَحَثَّ كَافَّةَ النَّاسِ أَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: الْأَوَّلُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تُمِدُّهُمْ قُوَّةُ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ عِيَانًا مِنْ قَرِيبٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى «3» . الثَّانِي: الصِّدِّيقُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُزَاحِمُونَ الأنبياء في المعرفة،
(1) سورة الحديد: 57/ 19.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 18.
(3)
سورة النجم: 53/ 12.
وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ عِيَانًا مِنْ بَعِيدٍ وَإِيَّاهُ عَنَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ
قِيلَ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأعبد شيئا لَمْ أَرَهُ ثُمَّ قَالَ: «لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِشَوَاهِدِ الْأَبْصَارِ، وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ.
الثَّالِثُ: الشُّهَدَاءُ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الشَّيْءَ بِالْبَرَاهِينِ. وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمِرْآةِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، كَحَالِ حَارِثَةَ حَيْثُ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَإِيَّاهُ قَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ
قَالَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» .
الرَّابِعُ: الصَّالِحُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الشَّيْءَ بِاتِّبَاعَاتِ وَتَقْلِيدَاتِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَمَثَلُهُمْ كَمَنْ يَرَى الشَّيْءَ مِنْ بَعِيدٍ فِي مِرْآةٍ. وَإِيَّاهُ قَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بِقَوْلِهِ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الْمُتَصَوِّفَةِ.
وَقَالَ عكرمة: النبيون محمد صلى الله عليه وسلم، وَالصِّدِّيقُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَالشُّهَدَاءُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَالصَّالِحُونَ صالحو أمة محمد صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الْحَصْرِ فَلَا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، إِذِ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الصِّفَةِ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُولَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً لِدُخُولِ الْمُنَافِقِينَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ بِأَنْ تُحْمَلَ الطَّاعَةُ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أُولَئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
لَمْ يَكْتَفِ بِالْمَعِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ رُفَقَاءَ لَهُمْ، فَالْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُوَافِقُونَهُ وَيَصْحَبُونَهُ، وَالرَّفِيقُ الصَّاحِبُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلِارْتِفَاقِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ رَفِيقًا عَلَى الْحَالِ مِنْ أُولَئِكَ، أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَإِذَا انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْقُولًا، فَيَجُوزُ دُخُولُ مِنْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُمَيَّزَ. وَجَاءَ مُفْرَدًا إِمَّا لِأَنَّ الرَّفِيقَ مِثْلَ الْخَلِيطِ وَالصَّدِيقِ، يَكُونُ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَإِمَّا لِإِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ فِي بَابِ التَّمْيِيزِ اكْتِفَاءً وَيُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، وَيُحَسِّنُ ذَلِكَ هُنَا كَوْنُهُ فَاصِلَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا مِنَ الْفَاعِلِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُمَيَّزَ وَالتَّقْدِيرُ: وَحَسُنَ رَفِيقُ أُولَئِكَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، وَجُمِعَ عَلَى مَعْنَى مِنْ وَيَجُوزُ فِي انْتِصَابِ رَفِيقًا إلا وجه السَّابِقَةُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحَسُنَ بِضَمِّ السِّينِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَلُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:
وَحَسْنَ بِسُكُونِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمَ. وَيَجُوزُ: وَحُسْنٌ بِسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الْحَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ نَقْلِ حَرَكَةِ السِّينِ إِلَيْهَا، وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ بَنِي قَيْسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. وَلِاسْتِقْلَالِهِ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ قرىء:
وَحَسُنَ بِسُكُونِ السِّينِ. يَقُولُ الْمُتَعَجِّبُ. وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَعَ التَّسْكِينِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَخْلِيطُ، وَتَرْكِيبُ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ. فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي فِعْلٍ الْمُرَادُ بِهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، فَذَهَبَ الْفَارِسِيُّ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ فَاعِلًا إِلَّا بِمَا يَكُونُ فَاعِلًا لَهُمَا. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ إِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِبَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، فَيُجْعَلُ فَاعِلُهَا كَفَاعِلِهِمَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَإِلَى جَوَازِ إِلْحَاقِهِ بِفِعْلِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ فِي الْفَاعِلِ، وَلَا فِي بَقِيَّةِ أَحْكَامِهِمَا، بَلْ يَكُونُ فَاعِلُهُ مَا يَكُونُ مَفْعُولًا لِفِعْلِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُ: لَضَرَبْتُ يَدَكَ وَلَضَرَبْتُ الْيَدَ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَتَّبِعْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، بَلْ خَلَّطَ وَرَكَّبَ، فَأَخَذَ التَّعَجُّبَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَأَخَذَ التَّمْثِيلَ بِقَوْلِهِ: وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ، وَحَسُنَ الْوَجْهُ وَجْهُكَ مِنْ مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَلِاسْتِقْلَالِهِ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، قرىء: وَحُسْنٌ بِسُكُونِ السِّينِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّبَ يَقُولُ:
وَحَسُنَ وَحُسْنٌ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْفَرَّاءَ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ لُغَاتٌ لِلْعَرَبِ، فَلَا يَكُونُ التَّسْكِينُ، وَلَا هُوَ والنقل لأجل التَّعَجُّبِ.
ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى كَيْنُونَةِ الْمُطِيعِ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحْكُومُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ وَكَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ أَيْ:
وَمَا الْمُوجِبُ لَهُمُ اسْتِوَاؤُهُمْ مَعَ النَّبِيِّينَ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بَيِّنٌ؟ فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ، لَا بِوُجُوبٍ عَلَيْهِ. وَمَعَ اسْتِوَائِهِمْ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَهُمْ مُتَبَايِنُونَ فِي الْمَنَازِلِ.
وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا. وَقِيلَ: إِلَى الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمُرَافَقَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَا أُعْطِيَ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَمُرَافَقَةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ تَفَضَّلَ بِهِ عليهم تبعا لثوابهم، وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومن اللَّهِ حَالٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ صِفَةً، وَالْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ.
وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً لَمَّا ذَكَرَ الطَّاعَةَ وَذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ يُطِيعُ أَتَى بِصِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْجَزَاءَ أَيْ: وَكَفَى بِهِ مُجَازِيًا لِمَنْ أَطَاعَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِيهِ مَعْنَى أَنْ تَقُولَ:
فَشَمِلُوا فِعْلَ اللَّهِ وَتَفَضُّلَهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَاكْتَفَوْا بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَدُلَّ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَكَفَى، انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ قَوْلَكَ: كَفَى بِزَيْدٍ مَعْنَاهُ اكْتَفِ بِزَيْدٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «1» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا، بِجَزَاءِ مَنْ أَطَاعَهُ. أَوْ أَرَادَ فَصْلَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَمَزِيَّتَهُمْ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ اكْتَسَبُوهُ بِتَمْكِينِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا بِعِبَادِهِ، فَهُوَ يُوَفِّقُهُمْ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِهِمْ انْتَهَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهَمِّ الطَّاعَاتِ إِحْيَاءُ دِينِ اللَّهِ، أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِإِحْيَاءِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ دَعْوَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْتَحِمُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ عَلَى جَهَالَةٍ فَقَالَ: خُذُوا حِذْرَكُمْ. فَعَلَّمَهُمْ مُبَاشَرَةَ الْحُرُوبِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبُولِ مَقَالَاتِهِمْ وَتَثْبِيطِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، فَنَادَى أولا بَاسِمِ الْإِيمَانِ عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَنْهَاهُمْ، وَالْحَذَرَ وَالْحَذَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالُوا: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَخْذُ حِذْرَكَ لِأَخْذِ حِذْرِكَ. وَمَعْنَى خُذْ حِذْرَكَ: أَيِ اسْتَعِدَّ بِأَنْوَاعِ مَا يُسْتَعَدُّ بِهِ لِلِقَاءِ مَنْ تَلَقَّاهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَخْذُ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ. وَيُقَالُ: أَخَذَ حِذْرَهُ إِذَا احْتَرَزَ مِنَ الْمُخَوَّفِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ الْحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَتَّقِي بِهَا وَيَعْتَصِمُ، وَالْمَعْنَى: احْتَرِزُوا مِنَ الْعَدُوِّ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، أَوْ كَتِيبَةً وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَانْفِرُوا بكسر الفاء فبهما. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِضَمِّهَا فِيهِمَا، وانتصاب ثبات وجميعا عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُقْرَأْ ثُبَاتٍ فِيمَا عَلِمْنَاهُ إِلَّا بِكَسْرِ التَّاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَخْفِضُ هَذِهِ التَّاءَ فِي النَّصْبِ وَتَنْصِبُهَا. أَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ:
فَلَمَّا جَلَاهَا بِالَايَّامِ تَحَيَّزَتْ
…
ثُبَاتًا عَلَيْهَا ذُلُّهَا وَاكْتِئَابُهَا
يُنْشَدُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا انْتَهَى. وَأَوْفَى أَوِ انْفَرُوا لِلتَّخْيِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» قِيلَ: وَإِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ التَّخْصِيصُ إِذْ لَيْسَ يلزم النفر جماعتهم.
(1) سورة النساء: 4/ 45.
(2)
سورة التوبة: 9/ 122.
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الْخِطَابُ لِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنِ زيد فِي آخَرِينَ: لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَجُعِلُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، أَوِ النَّسَبِ، أَوِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ ظَاهِرًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وأصحابه. وقيل: هُمْ ضَعَفَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ: عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً «1» وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ «2» وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ، إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ مُنَافِقٍ. وَاللَّامُ فِي لَيُبَطِّئَنَّ لَامُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: لَلَّذِي وَاللَّهِ لَيُبَطِّئَنَّ. وَالْجُمْلَتَانِ مِنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ صِلَةٌ لِمَنْ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي لَيُبَطِّئَنَّ.
قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ قُدَمَاءِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصْلُ الْمَوْصُولِ بِالْقَسَمِ وَجَوَابِهِ إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ قَدْ عَرِيَتْ مِنْ ضَمِيرٍ، فَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي الَّذِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ قَامَ أَبُوهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّ جُمْلَةَ الْقَسَمِ مَحْذُوفَةٌ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ. وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ «3» فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ كُلًّا وَخَفَّفَ مِيمَ لَمَا أَيْ: وَإِنْ كُلًّا لَلَّذِي لَيُوَفِّيَنَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ التَّخَارِيجِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي لَيُبَطِّئَنَّ لَامُ قَسَمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ تَأْكِيدٍ بَعْدَ تَأْكِيدٍ انْتَهَى.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي خَطَأٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيُبَطِّئَنَّ، بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: لَيُبَطِّئَنَّ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْقِرَاءَتَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِيهِمَا لَازِمًا، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَبْطَأَ وَبَطَّأَ فِي مَعْنَى بَطُؤَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ مِنْ بَطُؤَ، فعل اللُّزُومِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَثَاقَلُ وَيُثَبَّطُ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود، وَعَلَى التَّعَدِّي أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً الْمُصِيبَةُ:
الْهَزِيمَةُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَتَبِ بِتَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْتَارُ الْمَوْتَ عَلَى الْهَزِيمَةِ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً كَمَا حَدَّثْتِنِي
…
فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُمُ
…
وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ
(1) سورة النساء: 4/ 72. [.....]
(2)
سورة النساء: 4/ 73.
(3)
سورة هود: 11/ 111.