الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَاعِلِ إِلَى غَيْرِهِ: فِي يَتْلُونَ وَمَا بَعْدَهُ، وَفِي يَظْلِمُونَ. وَالِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَاقِي فِي: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْمُقَابَلَةُ: فِي تأمرون وتنهون، وَفِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طِبَاقًا مَعْنَوِيًّا، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص: في عليم بالمتقين، وفي أموالهم ولا أولادهم، وفي كمثل ريح، وفي حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وفي عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. وَالتَّشْبِيهُ: فِي مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ، وَفِي بِطَانَةً، وَفِي عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَفِي تمسسكم حسنة وتصبكم سَيِّئَةٌ. شَبَّهَ حُصُولَهُمَا بِالْمَسِّ وَالْإِصَابَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ. وَفِي مُحِيطٍ شَبَّهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَالْعِلْمَ بِهَا بِالشَّيْءِ الْمُحْدِقِ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: في ظلمهم ويظلمون، وَفِي تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ، وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ وبغيظكم. والالتفات: في وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، وَفِي ما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ: فِي مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عَبَّرَ بِهَا عَنِ الْأَلْسِنَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّهَا. وَالْحَذْفُ فِي مواضع.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 127]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
غَدَا الرَّجُلُ: خَرَجَ غُدْوَةً. وَالْغُدُوُّ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. وَفِي اسْتِعْمَالِ غَدَا بِمَعْنَى صَارَ، فَيَكُونُ فِعْلًا نَاقِصًا خِلَافٌ.
الْهَمُّ: دُونَ الْعَزْمِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ هَمَّ يَهُمُّ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَمَمْتُ وَهَمْتُ يَحْذِفُونَ أَحَدَ
الْمُضَعَّفَيْنِ كَمَا قَالُوا: أَمَسْتُ، وَظَلْتُ، وَأَحَسْتُ، فِي مَسَسْتُ وَظَلَلْتُ وَأَحْسَسْتُ. وَأَوَّلُ مَا يَمُرُّ الْأَمْرُ بِالْقَلْبِ يُسَمَّى خَاطِرًا، فَإِذَا تَرَدَّدَ صَارَ حديث نفس، فإذ تَرَجَّحُ فِعْلُهُ صَارَ هَمًّا، فَإِذَا قَوِيَ وَاشْتَدَّ صَارَ عَزْمًا، فَإِذَا قَوِيَ الْعَزْمُ وَاشْتَدَّ حَصَلَ الْفِعْلُ أَوِ الْقَوْلُ.
الْفَشَلُ فِي الْبَدَنِ: الْإِعْيَاءُ. وَفِي الْحَرْبِ: الْجُبْنُ وَالْخَوَرُ، وَفِي الرَّأْيِ: الْعَجْزُ وَالْفَسَادُ. وَفِعْلُهُ: فَشِلَ بِكَسْرِ الشِّينِ.
التَّوَكُّلُ: تَفَعُّلٌ مِنْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا فَوَّضَهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ إِظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِكِ، يُقَالُ. فُلَانٌ وَكَلَةٌ تُكَلَةٌ، أي عاجز يكل أَمْرِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ:
هُوَ مِنَ الْوِكَالَةِ، وَهُوَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِهِ ثِقَةً بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ.
بَدْرٌ فِي الْآيَةِ: اسْمُ عَلَمٍ لِمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَفَائِهِ، أَوْ لِرُؤْيَةِ الْبَدْرِ فِيهِ لِصَفَائِهِ، أَوْ لِاسْتِدَارَتِهِ. قِيلَ: وَسُمِّيَ بِاسْمِ صَاحِبِهِ بَدْرِ بْنِ كلدة. قيل: بَدْرُ بْنُ بَجِيلِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَقِيلَ: هُوَ بِئْرٌ لِغِفَارٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادِي الصَّفْرَاءِ. وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ بَيْنَ المدينة والحجاز.
الْفَوْرُ: الْعَجَلَةُ وَالْإِسْرَاعُ. تَقُولُ: اصْنَعْ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ. وَأَصْلُهُ مِنْ فَارَتِ الْقِدْرُ اشْتَدَّ غَلَيَانُهَا، وَبَادَرَ مَا فِيهَا إِلَى الْخُرُوجِ. وَيُقَالُ: فَارَ غَضَبُهُ إِذَا جَاشَ وَتَحَرَّكَ. وَتَقُولُ:
خَرَجَ مِنْ فَوْرِهِ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ، لَمْ يَلْبَثْ اسْتُعِيرَ الْفَوْرُ لِلسُّرْعَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَا تَعْرِيجَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صَاحِبِهَا.
الْخَمْسَةُ: رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ، وَيُصَرَّفُ مِنْهَا فَعَّلَ يُقَالُ: خَمَّسْتُ الْأَرْبَعَةَ أَيْ صَيَّرْتُهُمْ فِي خَمْسَةٍ.
الطَّرْفُ: جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِبًا أَخِيرًا. الْكَبْتُ: الْهَزِيمَةُ. وَقِيلَ: الصَّرْعُ عَلَى الْوَجْهِ أَوْ إِلَى الْيَدَيْنِ. وَقَالَ النَّقَاشُ وَغَيْرُهُ:
التَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ. أَصْلُهُ: كَبَّدَهُ، أَيْ فَعَلَ فِعْلًا يُؤْذِي كَبِدَهُ. الْخَيْبَةُ: عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَيْ خَالِ أَخْبِرْنِي عَنْ قِصَّتِكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: اقْرَأِ الْعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ تَجِدُ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ- إِلَى- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ «1» وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا
(1) سورة آل عمران: 3/ 21- 154.
قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عن اتخاذ بطانة من الْكُفَّارِ وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا فَلَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. ذَكَّرَهُمْ بِحَالَةٍ اتَّفَقَ فِيهَا بَعْضٌ طَوَاعِيَةً، وَاتِّبَاعٌ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ انْخَذَلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاتَّبَعَهُ فِي الِانْخِذَالِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِيهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ هَذَا الْغُدُوُّ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَهُوَ قَوْلُ: مُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. لِأَنَّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ كَانَ فِيهِ ظَفْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَجِرِ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ قِصَّتَاهُمَا مُتَبَايِنَتَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: كَانَ هَذَا الْغُدُوُّ يَوْمَ بَدْرٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَلْفَاظِ الْآيَةِ بَعْضَ تَعَلُّقٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ، خُرُوجُهُ غُدْوَةً مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ. وَفُسِّرَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُدْوَةً حِينَ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَمِنْ مُشِيرٍ بِالْإِقَامَةِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إن جاؤوا قَاتَلُوهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ رأيه صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ مُشِيرٍ بِالْخُرُوجِ وَهُمْ: جَمَاعَةٌ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ فَاتَتْهُمْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَتَبْوِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنْ يقسم أفطار الْمَدِينَةِ عَلَى قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: غُدُوُّهُ هُوَ نُهُوضُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَتَبْوِئَتُهُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الْقِتَالِ. وَسَمَّاهُ غُدُوًّا إِذْ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ غُدْوَةً. وَقِيلَ: غُدُوُّهُ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلْقِتَالِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ مُوَافِقَةً لِلْغُدُوِّ وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ، وَالْعَامِلُ فِي إذا ذكر.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا «1» أَيْ وَآيَةٌ إِذْ غَدَوْتَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ فِي مَعْنَى مَعَ، أَيْ: وَإِذْ غَدَوْتَ مَعَ أَهْلِكَ. وَهَذِهِ تَخْرِيجَاتٌ يَقُولُهَا وَيَنْقُلُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ مَنْ لَا بَصَرَ لَهُ بِلِسَانِ العرب. ومعنى تبوىّء: تُنَزِّلُ، مِنَ الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَرْجِعُ وَمِنْهُ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٌ
…
بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَمَا بَوَّأَ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزِلًا
…
بِشَرْقِيِّ أَجْيَادِ الصفا والمحرم
(1) سورة آل عمران: 3/ 13.
(2)
سورة العنكبوت: 29/ 58.
وَمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٌ، وَهُوَ هُنَاكَ مَكَانُ الْقُعُودِ. وَالْمَعْنَى: مَوَاطِنُ وَمَوَاقِفُ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْمَقْعَدُ وَالْمَقَامُ فِي مَعْنَى الْمَكَانِ. وَمِنْهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «1» وقَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «2» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدِ اتَّسَعَ فِي قَعَدَ وَقَامَ حَتَّى أُجْرِيَا مَجْرَى صَارَ انْتَهَى. أَمَّا إِجْرَاءُ قَعَدَ مَجْرَى صَارَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا جَاءَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ شَاذَّةٌ لَا تَتَعَدَّى، وَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ: شَحَذَ شَفْرَتَهُ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا حَرْبَةٌ، أَيْ صَارَتْ. وَقَدْ نُقِدَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَخْرِيجُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً «3» عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَتَصِيرُ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَطَّرِدُ. وَفِي الْيَوَاقِيتِ لِأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْقَعْدُ الصَّيْرُورَةُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَعَدَ فُلَانٌ أميرا بعد ما كَانَ مَأْمُورًا أَيْ صَارَ. وَأَمَّا إِجْرَاءٌ قَامَ مَجْرَى صَارَ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا عَدَّهَا فِي أَخَوَاتِ كَانَ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ، وَلَا ذَكَرَ لَهَا خَبَرًا إِلَّا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ الخضراوي فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ
…
إِنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظَةُ الْقُعُودِ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الرُّمَاةَ إِنَّمَا كَانُوا قُعُودًا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا، وَالْمُبَارِزَةُ وَالسَّرَعَانُ يَجُولُونَ. وَجَمَعَ الْمَقَاعِدَ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لَهُمْ مَوَاقِفَ يَكُونُونَ فِيهَا: كَالْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَالْقَلْبِ، وَالشَّاقَّةِ. وَبَيَّنَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُمُ الَّذِي يَقِفُونَ فِيهِ.
خَرَجَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، فَمَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ، فَجَعَلَ يَصِفُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَأَنَّمَا يَقُومُ بِهِمُ الْقَدَحُ. إِنْ رَأَى صَدْرًا خَارِجًا قَالَ:«تَأَخَّرَ» ، وَكَانَ نُزُولُهُ فِي غُدْوَةِ الْوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ. وَأَمَّرَ عبد الله بن جبير عَلَى الرُّمَاةِ وَقَالَ لَهُمْ:«انصحوا عَنَّا بِالنَّبْلِ» لَا يَأْتُونَا من ورائنا» .
وتبوىء جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. فَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ خَرَجْتَ قَاصِدَ التَّبْوِئَةِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْغُدُوِّ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التَّبْوِئَةِ. وقرأ الجمهور تبوىء مِنْ بَوَّأَ. وَقَرَأَ عَبْدُ الله:
تبوّىء مِنْ أَبْوَأَ، عَدَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالتَّضْعِيفِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: تَبْوَى بِوَزْنِ تَحْيَا، عَدَّاهُ بِالْهَمْزَةِ، وَسَهَّلَ لَامَ الْفِعْلِ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً نَحْوَ: يقرى في يقرىء. وقرأ
(1) سورة القمر: 59/ 55.
(2)
سورة النمل: 27/ 39. [.....]
(3)
سورة الإسراء: 17/ 29.
عَبْدُ اللَّهِ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِلَامِ الْجَرِّ عَلَى مَعْنَى: تُرَتِّبُ وتهيىء. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْأَصْلَ تَعْدِيَتُهُ لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَلِلْآخَرِ بِاللَّامِ لِأَنَّ ثَلَاثِيهِ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ.
وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ: مَقَاعِدَ الْقِتَالِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَانْتِصَابُ مَقَاعِدَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لتبوى. وَمَنْ قَرَأَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَانَ مفعولا لتبوىء، وَعَدَّاهُ بِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» وَقِيلَ: اللَّامُ فِي لِإِبْرَاهِيمَ زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي لِلْقِتَالِ لَامُ الْعِلَّةِ تتعلق بتبوئ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لمقاعد. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ الْعَسَاكِرِ وَيَخْتَارُونَ لَهُمُ الْمَوَاضِعَ لِلْحَرْبِ، وَعَلَى الْأَجْنَادِ طَاعَتُهُمْ قَالَهُ:
الْمَاتُرِيدِيُّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِكُمْ. وَجَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُنَا لِأَنَّ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُشَاوَرَةً وَمُجَاوَبَةً بِأَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَانْطِوَاءً على نيات مضطربة حبسما تَضَمَّنَتْهُ قِصَّةُ غَزْوَةِ أُحُدٍ.
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا الطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَهُمَا الْجَنَاحَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الطَّائِفَتَانِ هُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ.
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي أَلْفٍ. وَقِيلَ: فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ. وَوَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا، فَانْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ. وَسَبَبُ انْخِذَالِهِ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ حِينَ شَاوَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُشَاوِرْهُ قَبْلَهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ، وَعَصَانِي. وَقَالَ: يَا قَوْمُ على م نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلَادَنَا، فَتَبِعَهُمْ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللَّهَ فِي نَبِيِّكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَهَمَّ الْجَبَانُ بِاتِّبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ وَمَضَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَضْمَرُوا أَنْ يَرْجِعُوا، فَعَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى الرُّشْدِ فَثَبَتُوا، وَهَذَا الْهَمُّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، إِذْ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ، إِنَّمَا هُوَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ. وَلَا شك أن النفس عند ما تُلَاقِي الْحُرُوبَ وَمَنْ يُجَالِدُهَا يُزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلَيْنِ وَأَكْثَرَ، يَلْحَقُهَا بَعْضُ الضَّعْفِ عَنِ الْمُلَاقَاةِ، ثُمَّ يُوَطِّئُهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْقِتَالِ فَتَثْبُتُ وَتَسْتَقِرُّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشاعر:
(1) سورة الحج: 22/ 26.
وَقَوْلِي: كُلَّمَا جَشَأْتُ وَجَاشَتْ
…
مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
وإِذْ هَمَّتْ: بَدَلٌ مِنْ إِذْ غَدَوْتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَمِلَ فِيهِ مَعْنَى سَمِيعٌ عَلِيمٌ انْتَهَى. وَهَذَا غَيْرُ مُحَرَّرٍ، لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ وَصْفَيْنِ، فَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: أَوْ عَمِلَ فِيهِ مَعْنَى سَمِيعٍ أَوْ عَلِيمٍ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لتبوىء، ولغدوت. وهمّ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: بِأَنْ تَفْشَلَا وَالْمَعْنَى: أَنْ تَفْشَلَا عن القتال.
وأما أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَشَلِ:
قَاتِلُوا الْقَوْمَ بِالْخِدَاعِ وَلَا
…
يَأْخُذْكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ فَشَلُ
الْقَوْمُ أَمْثَالُكُمْ لهم شعر
…
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وَأَدْغَمَ السَّبْعَةُ تَاءَ التَّأْنِيثِ فِي الطَّاءِ، وَعَنْ قَالُونَ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي عِقْدِ اللآلئ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْعَوَالِي مِنْ إِنْشَائِنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْهَمَّ كَانَ عِنْدَ تَبْوِئَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَانْخِذَالِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَنِ انْخَذَلَ. وَقِيلَ: حِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ وَخَالَفُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ. وَفِي قَوْلِهِ: طَائِفَتَانِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ مَا لَا يُنَاسِبُ وَالسِّتْرِ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُعَيِّنِ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَلَا صَرَّحَ بِمَنْ هَمَّا مِنْهُ مِنَ الْقَبَائِلِ سَتْرًا عَلَيْهِمَا.
وَاللَّهُ وَلِيُّهُما مَعْنَى الْوِلَايَةِ هُنَا التَّثْبِيتُ وَالنَّصْرُ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يَفْشَلَا. وَقِيلَ:
جَعَلَهَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُثَابِرِينَ عَلَى طَاعَتِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:
فِينَا نَزَلَتْ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ، وبنو سلمة. وما تحب أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِ اللَّهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قَالَ ذَلِكَ جَابِرٌ لِفَرْطِ الِاسْتِبْشَارِ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَفِ بِثَنَاءِ اللَّهِ، وَإِنْزَالِهِ فِيهِمْ آيَةً نَاطِقَةً بِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْهِمَّةَ الْمَصْفُوحَ عَنْهَا لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ عَزْمًا كَانَتْ سَبَبًا لِنُزُولِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمْ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «2» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ جَاءَتْ مُسْتَأْنِفَةً لِثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا هَمَّتْ بِهِ الطَّائِفَتَانِ مِنَ الْفَشَلِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّهُمَا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلِيُّهُ فَلَا يُفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَّا إِلَيْهِ. أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِلِاعْتِنَاءِ بِمَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَنَبَّهَ
(1) سورة الحجرات: 49/ 9.
(2)
سورة الحج: 22/ 19.
عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ خَيْرٌ أَنْ لَا يَكُونَ اتِّكَالُهُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» وَأَتَى بِهِ عَامًّا لِتَنْدَرِجَ الطَّائِفَتَانِ الْهَامَّتَانِ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ مَنْ قَامَ بِهِ الْإِيمَانُ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّغْبِيطِ بِمَا فَعَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ مِنِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسِيرِ مَعَهُ.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ذَكَّرَهُمْ بِمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَنَّى لَهُمْ وَيَسَّرَ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ فِي حَالِ قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ النَّصْرُ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالثِّقَةِ بِهِ. وَالنَّصْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِبَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، أَوْ بِكَفِّ الْحَصَى الَّتِي رَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» أَقْوَالٌ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي نَصَرَكُمْ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فِي أَعْيُنِ غَيْرِكُمْ، إِذْ كَانُوا أَعِزَّةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدُوِّهِمْ، وَجَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْمُتَأَمِّلِ مَغْلُوبِينَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَمْ تُعْبَدْ» .
وَالْأَذِلَّةُ: جَمْعُ ذَلِيلٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ ذِلَّانٌ، فَجَاءَ عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ لِيَدُلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ. وَالذِّلَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ هِيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الضَّعْفِ وَقِلَّةِ السِّلَاحِ وَالْمَالِ وَالْمَرْكُوبِ. خَرَجُوا عَلَى النَّوَاضِحِ يَعْتَقِبُ النَّفَرُ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَمَعَ عَدُوِّهِمْ مِائَةُ فَرَسٍ. وَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا: سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَصَاحِبُ رَايَتِهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَصَاحِبُ رَايَتِهِمْ سَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ. وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ زُهَاءَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ ما بال أسوة عَادِيًا
…
تَفَانَتْ وَفِيهَا قِلَّةٌ وَخُمُولُ
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا
…
فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا
…
عَزِيزٌ وجار الأكثرين ذليل
(1) سورة المائدة: 5/ 23.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 126.
وَالنَّصْرُ بِبَدْرٍ هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، وَعَلَى يَوْمِ بَدْرٍ انْبَنَى الْإِسْلَامُ. وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَمَرَ بِالتَّقْوَى مُطْلَقًا. وَقِيلَ: فِي الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَجِّيهِ الشُّكْرَ إِمَّا عَلَى الْإِنْعَامِ السَّابِقِ بِالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ عَلَى الْإِنْعَامِ الْمَرْجُوِّ أَنْ يَقَعَ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَعَلَّكُمْ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أُخْرَى فَتَشْكُرُونَهَا. وَضَعَ الشُّكْرَ مَوْضِعَ الْإِنْعَامِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ اتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا مِنْ قِصَّةِ بَدْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، فيكون إذ معمولا لنصركم. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ قِصَّةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ «1» مُعْتَرَضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالثَّبَاتِ لِلْقِتَالِ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ الْمَدَدُ فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَلِفٍ، وَهُنَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسَةِ آلَافٍ.
وَالْكُفَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا أَلْفًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الثُّلُثِ. فَكَانَ عَدَدُ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَوُعِدُوا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ أَيِ الْإِمْدَادُ. وَيَوْمَ بَدْرٍ ذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ؟ (قُلْتُ) : قَالَهُ لَهُمْ مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَتَّقُوا حَيْثُ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلِ الْمَلَائِكَةُ، وَلَوْ تَمُّوا عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ لَنَزَلَتْ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْوَعْدَ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ وَيَعْزِمُوا عَلَى الثَّبَاتِ، وَيَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ تَنْزِلْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ مُجَاهِدٌ: حَضَرَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ تُقَاتِلْ، فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ يَسْقُطُ السُّؤَالُ. وَقَوْلُهُ: قَالَهُ لَهُمْ مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَلَمْ يَتَّقُوا إِلَى آخِرِهِ الْمَشْرُوطُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى هُوَ الْإِمْدَادُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. أَمَّا الْإِمْدَادُ الْأَوَّلُ وَهُوَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِنْزَالِ خَمْسَةِ آلَافٍ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَنْ لَا يُنْزِلَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا، وَأُجِيبَ عَنْ عَدَمِ إِنْزَالِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ: أَنَّهُ وَعْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَوَّأَهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَأَمَرَهُمْ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا، فَكَانَ هَذَا الْوَعْدُ مَشْرُوطًا بِالثُّبُوتِ فِي تلك المقاعد. فلما
(1) سورة آل عمران: 3/ 123.
أَهْمَلُوا الشَّرْطَ لَمْ يَحْصُلِ الْمَشْرُوطُ انْتَهَى. وَلَا خَفَاءَ بِضَعْفِ هَذَا الْجَوَابِ. قَالَ الضَّحَّاكُ:
كَانَ هَذَا الْوَعْدُ وَالْمَقَالَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَفَرَّ النَّاسُ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَلَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا مُدُّوا يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ يَصْبِرُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يَصْبِرُوا، وَلَمْ يَتَّقُوا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَمُدُّوا. وَلَوْ مَدُّوا لَمْ يَنْهَزِمُوا. وَكَانَ الْوَعْدُ بِالْإِمْدَادِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَظَاهَرُ اتِّصَالِ الْكَلَامِ. وَلِأَنَّ قِلَّةَ الْعَدَدِ، وَالْعُدَدِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِلَى تَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ بِالْوَعْدِ أَحْوَجَ. وَلِأَنَّ الْوَعْدَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ كَانَ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ، فَوَجَبَ حُصُولُهُ. وَإِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أَلْفٍ وَثَلَاثَةِ آلَافٍ كَانَ غَيْرَ مَشْرُوطٍ، فَوَجَبَ حُصُولُهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّهُمْ مُدُّوا أَوَّلًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ زِيدَ فِيهِمْ أَلْفَانِ، وَصَارَتْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ. أَوْ مُدُّوا بِأَلْفٍ أَوَّلًا، ثُمَّ بَلَغَهُمْ إِمْدَادُ الْمُشْرِكِينَ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، فوعدوا بِالْخَمْسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ إِمْدَادِ الْكُفَّارِ. فَلَمْ يَمُدَّ الْكُفَّارَ، فَاسْتَغْنَى عَنْ إِمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْأَعْدَادِ إِدْخَالُ النَّاقِصِ فِي الزَّائِدِ، فَيَكُونُ وُعِدُوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهِ أَلْفَانِ، ثُمَّ أَلْفَانِ، فَصَارَ خَمْسَةً. وَمَنْ ضَمَّ النَّاقِصَ إِلَى الزَّائِدِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُونَ قَدْ وُعِدُوا بِثَمَانِيَةِ آلَافٍ. أَوْ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ فَيَكُونُونَ قَدْ وُعِدُوا بِتِسْعَةِ آلَافٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِقِتَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَقَتْلِهِمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْآيَةِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ وَتَظَافَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَضَرَتْ بَدْرًا وَقَاتَلَتْ.
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَمَّا لَمْ تَتَعَرَّضُ لَهُ الْآيَةُ لَمْ نُكَثِّرْ كِتَابَنَا بِنَقْلِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: لَمْ تُمَدَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْضُرُ حُرُوبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَدَدًا، وَهِيَ تَحْضُرُ حُرُوبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَخَالَفَ النَّاسُ الشَّعْبِيَّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عُمَرَ الرَّازِيُّ مَا نَصُّهُ وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَذَكَرَ عَنْهُ حُجَجًا ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ هَذِهِ الشُّبَهِ تَلِيقُ بِمَنْ يُنْكِرُ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ نَاطِقَانِ بِذَلِكَ، يَعْنِي بِإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي نُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ. فَقِيلَ:
بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ: بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ فِي الْمَدَدِ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ الْجَيْشَ فِي الْقِتَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ حُضُورِهِمْ كَافِيًا انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَدَخَلَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، لِانْتِفَاءِ الْكِفَايَةِ بِهَذَا
الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ حَرْفُ النَّفْيِ «لَنْ» الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِقْبَالِ مِنْ لَا، إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ كَالْآيِسِينَ مِنَ النصر.
وَبَلَى: إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ لَنْ، يَعْنِي: بَلَى يَكْفِيكُمُ الْإِمْدَادُ بِهِمْ، فَأَوْجَبَ الْكِفَايَةَ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: أَلَا يَكْفِيَكُمْ انْتَهَى. وَمُعْظَمُهُ مِنْ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمُ الْكِفَايَةَ فِي هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَافِيَةٌ، بَادَرَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى جَوَابٍ لِيَبْنِيَ مَا يَسْتَأْنِفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: بَلَى، وَهِيَ جَوَابُ الْمُقَرِّرِينَ. وَهَذَا يَحْسُنُ فِي الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي لَا مَحِيدَ فِي جَوَابِهَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ «1» انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن أَبِي الْفَضْلِ الْمَرْسِيُّ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ جَوَابُ الصَّحَابَةِ حِينَ قَالُوا: هَلَّا أَعْلَمْتَنَا بِالْقِتَالِ لِنَتَأَهَّبَ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ» .
قَالَ ابْنُ عِيسَى:
وَالْكِفَايَةُ مِقْدَارُ سَدِّ الْخُلَّةِ، وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِثَلَاثَهْ آلَافٍ يَقِفُ عَلَى الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُضَافَ وَالْمُضَافَ إِلَيْهِ يَقْتَضِيَانِ الِاتِّصَالَ، إِذْ هُمَا كَالِاسْمِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا الثَّانِي كَمَالُ الْأَوَّلِ. وَالْهَاءُ إِنَّمَا هِيَ أَمَارَةُ وَقْفٍ، فَتَعَلَّقَ الْوَقْفُ فِي مَوْضِعٍ إِنَّمَا هُوَ لِلِاتِّصَالِ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ نَحْوُ هَذَا لِلْعَرَبِ فِي مَوَاضِعَ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَكَلْتُ لَحْمًا شَاةً، يُرِيدُونَ لَحْمَ شَاةٍ، فَمَطَلُوا الْفُتْحَةَ حَتَّى نَشَأَتْ عَنْهَا أَلِفٌ، كَمَا قَالُوا فِي الْوَقْفِ قَالَا: يُرِيدُونَ. قَالَ: ثُمَّ مَطَلُوا الْفُتْحَةَ فِي الْقَوَافِي وَنَحْوِهَا فِي مَوَاضِعِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّثَبُّتِ. وَمِنْ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُ الشاعر:
ينباع من زفرى غَضُوبٍ جَسْرَةً
…
زيَّانَةٍ مِثْلِ الْعَتِيقِ الْمُكْرَمِ
يُرِيدُ يَنْبُعَ فَمَطَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أقول إذ حزت عَلَى الْكَلْكَالِ
…
يَا نَاقَتَا مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ
يُرِيدُ الْكَلْكَلَ فَمَطَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
فَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى
…
وَمِنْ ذَمَّ الرِّجَالَ بِمُنْتَزَاحِ
يُرِيدُ بِمُنْتَزِحٍ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْتَرِضَ هَذَا التَّمَادِيَ بَيْنَ أَثْنَاءِ الكلمة
(1) سورة الأنعام: 6/ 19.
الْوَاحِدَةِ، جَازَ التَّمَادِي وَالتَّأَنِّي بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَتَنْظِيرٌ بِغَيْرِ مَا يُنَاسِبُ، وَالَّذِي يُنَاسِبُ تَوْجِيهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنَّهَا مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَبْدَلَهَا هَاءً فِي الْوَصْلِ، كَمَا أَبْدَلُوا لَهَا هَاءً فِي الْوَقْفِ، وَمَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِجْرَاءُ الْوَقْفِ مَجْرَى الْوَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
لَكِنْ قَدْ جَاءَ نَحْوُ هَذَا لِلْعَرَبِ فِي مَوَاضِعَ، وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ إِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ.
وَإِشْبَاعُ الْحَرَكَةِ لَيْسَ نَحْوَ إِبْدَالِ التَّاءِ هَاءً فِي الْوَصْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: ثَلَاثَهَ ارْبَعَهْ، أَبْدَلَ التَّاءَ هَاءً، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ هَمْزَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَيْهَا، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، فَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ فِي الْإِبْدَالِ. وَلِأَجْلِ الْوَصْلِ نُقِلَ إِذْ لَا يَكُونُ هَذَا النَّقْلُ إِلَّا فِي الْوَصْلِ.
وقرىء شاذا بثلاثة آلاف بتسكين التَّاءِ فِي الْوَصْلِ، أَجْرَاهُ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ التَّاءِ السَّاكِنَةِ أَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي يُوقَفُ عَلَيْهَا أَمْ تَاءُ التَّأْنِيثِ هِيَ؟ وَهِيَ الَّتِي يُوقَفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ كَمَا هِيَ؟ وَهِيَ لُغَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْزَلِينَ بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْضًا، وَالْهَمْزَةُ وَالتَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُمَا سِيَّانِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُنَزِّلِينَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ بِتَخْفِيفِهَا وَكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: يُنْزِلُونَ النَّصْرَ.
إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ رَتَّبَ تَعَالَى عَلَى مَجْمُوعِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْعَدَدِ مِنْ فَوْرِهِمْ إِمْدَادَهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْثَرِ مِنَ الْعَدَدِ السَّابِقِ وَعَلَّقَهُ عَلَى وُجُودِهَا، بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ تَحَلِّيهِمْ بِثَلَاثَةِ الْأَوْصَافِ. وَمَعْنَى مِنْ فَوْرِهِمْ: مِنْ سَفَرِهِمْ. هَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَقَيْسٍ، وَغَيْلَانَ، وَكِنَانَةَ: أَوْ من غصبهم هَذَا قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ مَوْلَى أم هانىء أَوْ مَعْنَاهُ فِي نَهْضَتِهِمْ هَذِهِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. أَوْ الْمَعْنَى مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَلَفْظَةُ الْفَوْرِ تَدُلُّ عَلَى السُّرْعَةِ وَالْعَجَلَةِ. تَقُولُ: افْعَلْ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ، لَا عَلَى التَّرَاخِي. وَمِنْهُ الْفَوْرُ فِي الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ. وَفِي إِسْنَادِ الْإِمْدَادِ إِلَى لَفْظَةِ رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ إِشْعَارٌ بِحُسْنِ النَّظَرِ لَهُمْ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ.
وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ وَالْأَخَوَانِ مُسَوَّمِينَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ:
بكسرها. وقيل: مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ يكون عَلَى الشَّاةِ وَغَيْرِهَا، يُجْعَلُ عَلَيْهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا لِتُعْرَفَ. وَقِيلَ: مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ تَرْعَى. فَعَلَى الْأَوَّلِ
رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ، إِلَّا جِبْرِيلَ فَبِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ كَالزُّبَيْرِ قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: بِعَمَائِمَ صُفْرٍ كَالزُّبَيْرِ قَالَهُ: عُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الزُّبَيْرِ، وَعَبَّادُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
، وَالْكَلْبِيُّ وَزَادَ: مُرْخَاةٌ عَلَى أَكْتَافِهِمْ. قِيلَ: وَكَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، وَكَانَتْ سِيمَاهُمْ قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ خَيْلُهُمْ مَجْزُوزَةَ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ، مَعْلَمَتُهَا بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ. قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. فبفتح الواو ومعلمين، وَبِكَسْرِهَا مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَيْلَهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ الْكَسْرِ،
بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «سَوِّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوَّمَتْهُ»
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ السَّوْمُ. فَمَعْنَى مُسَوِّمِينَ بكسر الواو: وسوّموا خَيْلَهُمْ أَيْ أَعْطَوْهَا مِنَ الْجَرْيِ وَالْجَوَلَانِ لِلْقِتَالِ، وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا بِفَتْحِ الْوَاوِ فَيَصِحُّ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، قَالَهُ: الَمَهَدَوِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ. أَيْ سَوَّمَهُمُ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ يَجُولُونَ وَيَجْرُونَ لِلْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَوَّمَ الرَّجُلُ خَيْلَهُ أَيْ أَرْسَلَهَا فِي الْغَارَةِ.
وَحَكَى بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: سَوَّمَ الرَّجُلُ غُلَامَهُ أَرْسَلَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَلِهَذَا قال الأخفش: معنى مسوّميم مُرْسَلِينَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْعَلَامَةِ لِلْقَبَائِلِ وَالْكَتَائِبِ لِتَتَمَيَّزَ كُلُّ قَبِيلَةٍ وَكَتِيبَةٍ عِنْدَ الْحَرْبِ.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْهَاءَ فِي جَعَلَهُ عَائِدَةٌ عَلَى المصدر والمفهوم مِنْ يُمْدِدْكُمْ وَهُوَ الْإِمْدَادُ. وَجَوَّزَ أَنْ يَعُودَ عَلَى التَّسْوِيمِ، أَوْ عَلَى النَّصْرِ، أَوْ عَلَى التَّنْزِيلِ، أَوْ عَلَى الْعَدَدِ، أَوْ عَلَى الوعد. وإلّا بُشْرَى مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، أَيْ: مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ فَرُغَ لَهُ الْعَامِلُ، وَبُشْرَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَشُرُوطُ نَصْبِهِ مَوْجُودَةٌ وَهُوَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ متحد الفاعل والزمان. ولتطمئن مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ بُشْرَى، إِذْ أَصْلُهُ لِبُشْرَى. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ فِي وَلِتَطْمَئِنَّ، أُتِيَ بِاللَّامِ إِذْ فَاتَ شَرْطُ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ بُشْرَى هُوَ اللَّهُ، وَفَاعِلُ تَطْمَئِنُّ هُوَ قُلُوبُكُمْ. وَتَطْمَئِنُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ لَامِ كَيْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى تَوَهُّمِ. مَوْضِعِ اسْمٍ آخَرَ، وجعل عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِلَّا بُشْرَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى البدل من الْهَاءِ، وَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِالْمَدَدِ. وَقِيلَ: بُشْرَى مفعول ثان لجعله اللَّهُ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَتَعَلَّقُ اللَّامُ فِي لِتَطْمَئِنَّ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ لَيْسَ قَبْلَهُ عَطْفٌ يُعْطَفُ عَلَيْهَا. قَالُوا: تَقْدِيرُهُ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ
بَشَّرَكُمْ. وَبُشْرَى: فُعْلَى مَصْدَرٌ كرجعى، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ بَشَرَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَالْهَاءُ فِي بِهِ تَعُودُ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ فِي جَعْلَهُ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي ولتطمئن متعلقة تفعل مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعَلَهُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ:
وَمَا كَانَ هَذَا الْإِمْدَادُ إِلَّا لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِ، وَتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمُ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ عِنْدَهُ أَنْ يَعْطِفَ وَلِتَطْمَئِنَّ عَلَى بُشْرَى عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مِنْ شرط العطف على الموضع- عِنْدَ أَصْحَابِنَا- أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ لِلْمَوْضِعِ، وَلَا مُحْرِزَ هُنَا، لِأَنَّ عَامِلَ الْجَرِّ مَفْقُودٌ. وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُحْرِزَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِنْ لَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ فِي وَلِتَطْمَئِنَّ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي ذِكْرِ الْإِمْدَادِ: مَطْلُوبَانِ، أَحَدُهُمَا: إِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بُشْرَى. وَالثَّانِي: حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةَ بِالنَّصْرِ، فَلَا تَجْبُنُوا، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ. فَفَرَّقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَقْوَى حُصُولُ الطُّمَأْنِينَةِ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَرْتِيبٍ وَتَنَاقُشٍ فِي قَوْلِهِ: فَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَدْخَلَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرَ.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حَصَرَ كَيْنُونَةَ النَّصْرِ فِي جِهَتِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ تَكْثِيرِ الْمُقَاتِلَةِ، وَلَا مِنْ إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ تَقْوِيَةً لِرَجَاءِ النَّصْرِ لَهُمْ، وَتَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمْ. وَذَكَرَ وَصْفَ الْعِزَّةِ وَهُوَ الْوَصْفُ الدَّالُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، وَوَصْفَ الْحِكْمَةِ وَهُوَ الْوَصْفُ الدَّالُّ عَلَى وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا مِنْ: نَصْرٍ وَخِذْلَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ الطَّرَفُ: مَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ هُمْ سَبْعُونَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، أَوْ من قتل بأحد وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، أَوْ مَجْمُوعُ الْمَقْتُولِينَ فِي الْوَقْعَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَكَنَّى عَنِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ: طَرَفًا، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي حَرْبٍ هُمْ طَرَفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَلُونَ الْقَاتِلِينَ، فَهُمْ حَاشِيَةٌ مِنْهُمْ. فَكَانَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ رُفْقَةٌ، وَهَؤُلَاءِ الْمَقْتُولُونَ طَرَفًا مِنْهَا. قِيلَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: طَرَفًا دَابِرًا أَيْ آخِرًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الطَّرَفِ، لِأَنَّ آخِرَ الشَّيْءِ طَرَفٌ مِنْهُ.