الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْحَيَاةُ، وَفِي: زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: سَنَكْتُبُ وَنَقُولُ، وَفِي:
أُجُورَكُمْ، إِذْ تَقَدَّمَهُ كُلُّ نَفْسٍ. وَالتَّكْرَارُ فِي: لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَفِي الْبَيِّنَاتِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي:
سَنَكْتُبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْكِتَابَةَ حَقِيقَةً، وَفِي: قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَفِي: تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَفِي: ذُوقُوا وَذَائِقَةٌ. وَالْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ فِي: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: أَيْدِيكُمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي: ذَلِكَ، وَالشَّرْطُ الْمُتَجَوَّزُ فِيهِ. وَالزِّيَادَةُ لِلتَّوْكِيدِ فِي: وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَالْحَذْفُ فِي مواضع.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 200]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. الْمُرَابَطَةُ: الْمُلَازَمَةُ فِي الثَّغْرِ لِلْجِهَادِ، وَأَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حِينَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ الْقُرْآنَ: إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: أَغْشِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَتَسَابَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ. وَقِيلَ:
فِيمَا جَرَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَفِنْحَاصٍ. وَقِيلَ: فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِهَذَا الِابْتِلَاءِ وَالسَّمَاعِ لِيَكُونُوا أَحْمَلَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا سَبَقَ الْإِخْبَارُ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ فَجْأَةً فَإِنَّهُ يَكْثُرُ تَأَلُّمُهُ. وَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَاسَبَتْ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: لَتُبْلَوْنَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُهَاجِرُونَ، أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رِبَاعَهَمْ فَبَاعُوهَا، وَأَمْوَالَهُمْ فَنَهَبُوهَا. وَقِيلَ: الِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ هُوَ مَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَعَدَدِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَقَعُ مِنَ الِامْتِحَانِ فِي
الْأَمْوَالِ، بِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي تَكَالِيفِ الشَّرْعِ، وَالِابْتِلَاءِ فِي النَّفْسِ بِالشَّهَوَاتِ أَوِ الْفُرُوضِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، أَوْ فَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، أَوْ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ وَالْأَسْرِ، وَأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ أَقْوَالٌ. وَقَدَّمَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَنْفُسِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي إِلَى الْأَشْرَفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكَثْرَةِ. لِأَنَّ الرَّزَايَا فِي الْأَمْوَالِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّزَايَا فِي الْأَنْفُسِ. وَالْأَذَى: اسْمٌ جَامِعٌ فِي مَعْنَى الضَّرَرِ، وَيَشْمَلُ أَقْوَالَهُمْ فِي الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَفِي اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْبِيَائِهِ. وَالْمَطَاعِنِ فِي الدِّينِ وَتَخْطِئَةِ مَنْ آمَنَ، وَهِجَاءِ كَعْبٍ وَتَشْبِيبِهِ بِنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ وَذَلِكَ السَّمَاعِ.
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ أَيْ فَإِنَّ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى.
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قِيلَ: مِنْ أَشَدِّهَا وَأَحْسَنِهَا. وَالْعَزْمُ: إِمْضَاءُ الْأَمْرِ الْمُرَوَّى الْمُنَقَّحِ. وقال النقاش: العزم والحزم بِمَعْنًى وَاحِدٍ، الْحَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا خَطَأٌ. الْحَزْمُ جَوْدَةُ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ، وَنَتِيجَتُهُ الْحَذَرُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَالْعَزْمُ قَصْدُ الْإِمْضَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ «1» فَالْمُشَاوَرَةُ وَمَا كَانَ فِي معناها هو الجزم. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَحْزِمُ لَوْ أَعْزِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ. أَيْ: مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ مِنَ الْأُمُورِ. أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، يَعْنِي:
أَنَّ ذَلِكَ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا. وَقِيلَ: مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مِنْ جَدِّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ، أَيْ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ هُمُ الْيَهُودُ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَكَتَمُوهُ وَنَبَذُوهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَعُلَمَاءُ هَذَا الْأُمَّةِ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا عَلَى الْغَيْبَةِ، إِذْ قَبْلَهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَبَعْدَهُ فَنَبَذُوهُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «2» قرىء بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: لِلْمِيثَاقِ. وَقِيلَ: لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ لِقَوْلِهِ:
(1) سورة آل عمران: 3/ 159.
(2)
سورة البقرة: 2/ 83.
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» وَارْتِفَاعُ وَلَا تَكْتُمُونَهُ لِكَوْنِهِ وَقَعَ حَالًا، أَيْ: غَيْرَ كَاتِمِينَ لَهُ وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. قَالُوا وَلِلْحَالِ لا للعطف، كَقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ «2» وَقَوْلِهِ: وَلَا يَسْأَلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ النُّونَ وَرَفَعَ اللَّامَ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ مَنْفِيًّا بِلَا لَمْ يُؤَكَّدْ، تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ زَيْدٌ، فَلَا تَدْخُلُهُ النُّونُ.
وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي أَعْرَبُ وَأَفْصَحُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، قَبْلَ لَا، حَتَّى تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسمية في موضع الحال، إِذِ الْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ بِلَا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: لَيُبَيِّنُونَهُ بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ لَا تَلْزَمُ هَذِهِ النُّونَ لَامُ التَّوْكِيدِ، قَالَهُ: سِيبَوَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ تَعَاقُبُ اللَّامِ وَالنُّونِ عِنْدَهُمْ ضَرُورَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي سِعَةِ الْكَلَامِ، فَيُجِيزُونَ: والله لا لأقوم، والله أَقُومَنَّ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَيْشُكِ يَا سَلْمَى لَأُوقِنُ إِنَّنِي
…
لِمَا شِئْتِ مُسْتَحْلٍ وَلَوْ أَنَّهُ الْقَتْلُ
وَقَالَ آخَرُ:
يَمِينًا لَأُبْغِضُ كُلَّ امْرِئٍ
…
يُزَخْرِفُ قَوْلًا وَلَا يَفْعَلُ
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي فَنَبَذُوهُ عَلَى النَّاسِ إِذْ يَسْتَحِيلُ عَوْدُهُ عَلَى النَّبِيِّينَ، أَيْ: فَنَبَذَهُ النَّاسُ الْمُبَيَّنُ لَهُمُ الْمِيثَاقُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْنَى:
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فِي قَوْلِهِ: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «3» .
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ مَا بَعْدَ بِئْسَ فأغنى ذلك عَنِ الْإِعَادَةِ.
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَزْوِ، فَإِذَا جَاءَ اسْتَعْذَرُوا لَهُ، فَيُظْهِرُ الْقَبُولَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَهُ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ. وَأَتَى تَكُونُ بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «4» أي مفعولا.
(1) سورة آل عمران: 3/ 81.
(2)
سورة يونس: 10/ 19.
(3)
سورة البقرة: 2/ 101.
(4)
سورة مريم: 19/ 61.
فَمَعْنَى بِمَا أَتَوْا بِمَا فَعَلُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِمَا فَعَلُوا. وَفِي الَّذِي فَعَلُوهُ وَفَرِحُوا بِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا كَتْمُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ الرَّسُولُ، وَإِخْبَارُهُمْ بِغَيْرِهِ، وَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِهِ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّانِي مَا أَصَابُوا مِنَ الدُّنْيَا وَأَحَبُّوا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ عُلَمَاءُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَتْمُهُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ قَالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ. الرَّابِعُ كُتُبُهُمْ إِلَى الْيَهُودِ يَهُودِ الْأَرْضِ كلها أن محمدا لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَاثْبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ. وَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. الْخَامِسُ قَوْلُ يَهُودِ خَيْبَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ: نَحْنُ عَلَى دِينِكُمْ، وَنَحْنُ لَكُمْ رِدْءٌ، وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِضَلَالِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحْمَدَهُمْ بِمَا لَمْ يفعلوا قاله: قتادة. السَّادِسُ تَجْهِيزُ الْيَهُودِ جَيْشًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْفَاقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ قَالَهُ:
النَّخَعِيُّ. السَّابِعُ إِخْبَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ عَرَفُوهَا، فَحَمِدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبْطَنُوا خلاف ما أظهر، وأذكره الزَّجَّاجُ. الثَّامِنُ اتِّبَاعُ النَّاسِ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِ تَأْوِيلِ التَّوْرَاةِ، وَأَحَبُّوا حَمْدَهُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا نَافِعًا وَلَا صَحِيحًا قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. التَّاسِعُ تَخَلُّفُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْغَزْوِ وَحَلِفُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُسَرُّونَ بِنَصْرِهِمْ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُجَاهِدِينَ قَالَهُ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
وَالْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ غَيْرُ هَذَا الْأَخِيرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اليهود. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِكُلِّ مَنْ يَأْتِي بِحَسَنَةٍ فَرِحَ بِهَا فَرَحَ إِعْجَابٍ، وَيُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِالدِّيَانَةِ وَالزُّهْدِ، وَبِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: لَا يَحْسَبُنَّ وَلَا يَحْسَبُنَّهُمْ بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَرَفْعِ بَاءِ يَحْسَبَنَّهُمْ عَلَى إِسْنَادِ يَحْسَبَنَّ لِلَّذِينَ، وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُوَ أَنَّ لَا يَحْسَبُنَّ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ، وَالَّذِينَ رُفِعَ بِهِ.
وَقَدْ تَجِيءُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَغْوًا لَا فِي حُكْمِ الْجُمَلِ الْمُفِيدَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَمَا خِلْتُ أَبْقَى بَيْنَنَا مِنْ مودّة
…
عراض المداكي الْمُشْنِقَاتِ الْقَلَائِصَا
وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا ظَنَنْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَتَتَّجِهُ الْقِرَاءَةُ بِكَوْنِ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ وَهُمَا: الضَّمِيرُ وَبِمَفَازَةٍ، وَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنِ الْمَفْعُولَيْنِ، كَمَا اسْتَغْنَى فِي قَوْلِهِ:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ
…
تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحَسَبُ
أَيْ: وَتَحْسَبُ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مَا قاله الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا عَلَى لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَفَازَةٍ، بِمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ أَنْفُسَهُمُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فَائِزِينَ. وَفَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما «1» وَإِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَصِحُّ فَيُطَّلَعُ هُنَاكَ. وَتَعَدَّى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِعْلُ الْحُسْبَانِ إِلَى ضَمِيرَيْهِ الْمُتَّصِلَيْنِ:
الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْصُوبِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ ظَنَنْتُ وَأَخَوَاتُهَا، وَمِنْ غَيْرِهَا: وَجَدْتُ، وَفَقَدْتُ، وَعَدِمْتُ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ حمزة، والكسائي، وعاصم: لَا تَحْسَبَنَّ، وَفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا خِطَابًا لِلرَّسُولِ، وَخُرِّجَتِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ هُوَ: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ. وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ كَمَا قِيلَ آنِفًا فِي الْمَفْعُولَيْنِ. وَحَسُنَ تَكْرَارُ الْفِعْلِ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَهِيَ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَأَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ، وَالثَّانِي بِمَفَازَةٍ. وَقَوْلُهُ: فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَوْكِيدٌ تَقْدِيرُهُ لَا يَحْسَبَنَّهُمْ، فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ فائزين. وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بِتَاءِ الْخِطَابِ وَضَمِّ الْبَاءِ فِيهِمَا خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَالْخِلَافِ فِيهِ فِي قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَحْسَبَنَّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ فِيهِمَا، وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَيْهِمَا. وَلَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْبَدَلُ الَّذِي جُوِّزَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو لِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَإِذَا كَانَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ تَوْكِيدًا أَوْ بَدَلًا، فَدُخُولُ الْفَاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ فَاءَ جَوَابِ الْجَزَاءِ. وَأَنْشَدُوا عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
حَتَّى تَرَكْتُ الْعَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ
…
يَقُلْنَ فَلَا تَبْعُدْ وَقُلْتُ لَهُ: ابْعُدِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَمَّا اتَّقَى بيد عظيم جرمها
…
فتركت ضَاحِيَ: كَفِّهِ يَتَذَبْذَبُ
أَيْ: لَا تَبْعُدْ، وَأَيْ تَرَكْتُ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِمَا آتَوْا بِمَعْنَى: أعطوا.
(1) سورة آل عمران: 3/ 178. [.....]
وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِمَا أُوتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي أَتَوْا، وَبَعْضُهَا يَسْتَقِيمُ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ، وَأُسْقِطَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ. ومفازة مَفْعَلَةٌ مِنْ فَازَ، وَهِيَ لِلْمَكَانِ أَيْ: مَوْضِعِ فَوْزٍ، أَيْ: نَجَاةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أي ببعد مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ مَعْنَاهُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَزَيُّنَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَحُبَّهُ الْمَدْحَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَذْمُومٌ شَرْعًا. وَقَالَ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «1»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَاسَبَ وَصْفُهُ بِأَلِيمٍ لِأَجْلِ فَرَحِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمُ الْمَحْمَدَةَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلُوا.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا مَلَكَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مَمْلُوكُونَ مَقْهُورُونَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسُوا بِنَاجِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى لَآيَاتٍ: لَعَلَامَاتٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الصَّانِعِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا لِذَوِي الْعُقُولِ يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا كَمَا تَنْظُرُ الْبَهَائِمُ.
وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، حِينَ ذَكَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ موسى عليهما السلام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَاتٍ وَاضِحَةً لِذَوِي الْعُقُولِ.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ. هَذِهِ الْهَيْئَاتُ الثَّلَاثَةُ هِيَ غَالِبُ مَا يَكُونُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ، فَاسْتُعْمِلَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ. كَمَا
قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَلَاءِ. وَقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عُمَرَ، وابن سيرين والنخعي. وكرهه:
(1) سورة الصف: 61/ 2.
ابن عباس، وعطاء، والشعبي. وعن ابن عمر وعروة بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمَ الْعِيدِ إِلَى المصلى فجعلوا يذكروا اللَّهَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قِيَامًا وَقُعُودًا؟
فَقَامُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ»
وَإِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ: وَالذِّكْرُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الصَّلَوَاتُ، فَفِي حَالِ الْعُذْرِ يُصَلُّونَهَا قُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَسَمَّاهَا ذِكْرًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الذِّكْرِ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ صَلَاةُ النَّفْلِ يُصَلِّيهَا كَيْفَ شَاءَ. وَجَلَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشْيَاءَ مِنْ كَيْفِيَّةِ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَخِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَدَلَائِلِهِمْ.
وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ تَفْسِيرِ الذِّكْرِ فَتَقْدِيمُ الْقِيَامِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ أَخَفُّ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حَالَةِ الْقُعُودِ وَالذِّكْرُ فِيهِ أَشَقُّ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْعُدُ غَالِبًا إِلَّا لِشُغْلٍ يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى هَيْئَةِ الِاضْطِجَاعِ وَالذِّكْرُ فِيهَا أَشَقُّ مِنْهُ فِي هَيْئَةِ الْقُعُودِ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ هُوَ هَيْئَةُ اسْتِرَاحَةٍ وَفَرَاغٍ عَنِ الشَّوَاغِلِ. وَيُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَا هُوَ أقصر زمانا، فبدىء بِالْقِيَامِ لِأَنَّهَا هَيْئَةٌ زَمَانُهَا فِي الْغَالِبِ أَقْصَرُ مِنْ زَمَانِ الْقُعُودِ، ثُمَّ بِالْقُعُودِ إِذْ زَمَانُهُ أَطْوَلُ، وَبِالِاضْطِجَاعِ إِذْ زَمَانُهُ أَطْوَلُ مِنْ زَمَانِ الْقُعُودِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّيْلَ جَمِيعَهُ هُوَ زَمَانُ الِاضْطِجَاعِ، وَهُوَ مُقَابِلٌ لِزَمَانِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ، وَهُوَ النَّهَارُ؟ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَالْهَيْئَاتُ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ. فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَا يُصَلِّي قَاعِدًا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ لَا يُصَلِّي مُضْطَجِعًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُرَادُ بِهِ صَلَاةُ النَّفْلِ فَالْهَيْئَاتُ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْضَلِيَّةِ، إِذِ الْأَفْضَلُ التَّنَفُّلُ قَائِمًا ثُمَّ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا. وَأَبْعَدُ فِي التَّفْسِيرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى:
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا بِأَوَامِرِهِ، وَقُعُودًا عَنْ زَوَاجِرِهِ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ أَيْ تَجَانُبُهُمْ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِكَلَامِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ.
وَجَوَّزُوا فِي الَّذِينَ النَّعْتَ وَالْقَطْعَ لِلرَّفْعِ وَالنَّصْبَ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ حَالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ، وَهُنَا عَطَفَ الْمَجْرُورَ عَلَى صَرِيحِ الِاسْمِ. وَفِي قَوْلِهِ: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا عَطَفَ صَرِيحَ الِاسْمِ عَلَى الْمَجْرُورِ.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، فَلَا
مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، عُطِفَتْ عَلَى الْحَالِ قَبْلَهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ الذِّكْرَ الَّذِي مَحَلُّهُ اللِّسَانُ، ذَكَرَ الْفِكْرَ الَّذِي مَحَلُّهُ الْقَلْبُ. وَيَحْتَمِلُ خَلْقِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ، فَإِنَّ الْفِكْرَةَ فِي الْخَلْقِ لِهَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ الْغَرِيبَةِ الشَّكْلِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْشَاءِ هَذِهِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْأَحَدِيَّةِ إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ.
وَفِي الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ مَا يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَيَسْتَغْرِقُ الْخَوَاطِرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَيَكُونُ أَضَافَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى الظَّرْفَيْنِ، لَا إِلَى المفعول، والفكر في ما أودع الله في السموات مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ وَالْأَفْلَاكِ الَّتِي جَاءَ النَّصْرُ فِيهَا وَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا أَيْضًا يُبْهِرُ الْعَقْلَ وَيُكْثِرُ الْعِبَرَ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
…
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
وَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّهِ فَقَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّكُمْ لَا تُقَدِّرُونَ قَدْرَهُ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَفَكِّرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَالنَّاظِرِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي مَخْلُوقِ الْآخِرَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ» .
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي التَّفَكُّرِ وَمِنْ أَعْيَانِ الْمُتَفَكِّرِينَ كَثِيرًا، رَأَيْنَا أَنْ لَا نُطَوِّلَ كِتَابَنَا بِنَقْلِهَا رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ. وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْخَلْقِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ، أَوْ إلى السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَخْلُوقِ. أَيْ: مَا خَلَقْتَ هَذَا الْمَخْلُوقَ الْعَجِيبَ بَاطِلًا. قِيلَ: الْمَعْنَى خَلْقًا بَاطِلًا أَيْ: لِغَيْرِ غَايَةٍ، بَلْ خَلَقْتَهُ وَخَلَقْتَ الْبَشَرَ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُوَحِّدَ وَيَعْبُدَ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَعَّمْتَهُ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْ ذَلِكَ عَذَّبْتَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى مَا خَلَقْتَهُ خَلْقًا بَاطِلًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ لِدَاعِي حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهُوَ: أَنْ تَجْعَلَهَا مَسَاكِنَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَأَدِلَّةً لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِكَ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِكَ. وَلِذَلِكَ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَقِنَا عذاب النار، لأنه جَزَاءُ مَنْ عَصَى وَلَمْ يُطِعْ انْتَهَى. وَفِيهِ إِشَارَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ خَلَقْتَهُ لِدَاعِي حِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ انْتِصَابُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بَاطِلًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ، أَيْ بِبَاطِلٍ، بَلْ خَلَقْتَهُ بِقُدْرَتِكَ الَّتِي هِيَ حَقٌّ. وَقِيلَ: عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَفَاعِلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ بُطُولًا. وَقِيلَ: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِخَلَقَ،
وَهِيَ بِمَعْنَى جَعَلَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَهَذَا عَكْسُ الْمَنْقُولِ فِي النَّحْوِ وَهُوَ: أَنَّ جَعَلَ يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. أَمَّا أَنَّ خَلَقَ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعَلَ فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ وَمِنْهُ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ أَعَارِيبِهِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا، وَهِيَ حَالٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ «1» لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تُحْذَفَ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَلَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْبَدِيعَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ أُولِي الْأَلْبَابِ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمُتَفَكِّرِينَ فِي الْخَلْقِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهَالَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَّهُوهُ تَعَالَى عَنْ مَا يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُبْطِلُونَ مِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: لَاعِبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً «2» وَاعْتُرِضَ بِهَذَا التَّنْزِيهِ الْمُتَضَمِّنِ بَرَاءَةَ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَأَفْعَالِ الْمُحْدَثِينَ. بَيْنَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ رَغْبَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَلَا اكْتِرَاثٌ بِهَا، إِنَّمَا تَضَرَّعُوا فِي سُؤَالِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ نَتِيجَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْرَارِ وَالتَّنْزِيهِ. وَالْفَاءُ فِي: فَقِنَا لِلْعَطْفِ، وَتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: لِتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ سُبْحَانَ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ: نَزَّهْنَاكَ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ فَقِنَا. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى مَا تَضَمَّنَ النِّدَاءَ.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ هذه استجارة واستعادة. أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِنَا ذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْمَلُ بِعَمَلِهَا. وَمَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: فَضَحْتَهُ. مِنْ خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزَى خِزْيًا، إِذَا افْتَضَحَ. وَخِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ فِي الْمَصْدَرِ فَمِنَ الِافْتِضَاحِ خِزْيٌ، وَمِنَ الِاسْتِحْيَاءِ خَزَايَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي «3» أَيْ لَا تَفْضَحُونِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهَنْتَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَهْلَكْتَهُ. وَيُقَالُ: خَزَيْتُهُ وَأَخْزَيْتُهُ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا، وَالرُّبَاعِيُّ أَكْثَرُ وَأَفْصَحُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَخْزِيُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُذَلُّ الْمَحْقُورُ بِأَمْرٍ قَدْ لَزِمَهُ،
(1) سورة الأنبياء: 21/ 16.
(2)
سورة المؤمنون: 23/ 115.
(3)
سورة هود: 11/ 78.
يُقَالُ: أَخْزَيْتُهُ أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً أَذْلَلْتُهُ مَعَهَا. وَقَالَ أَنَسٌ وسعيد، وقتادة، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمْ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، أَمَّا مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَالْإِيمَانِ فَلَيْسَ بِمَخْزِيٍّ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله وَغَيْرُهُ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ مَخْزِيٌّ وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا، وَإِنَّ فِي دُونِ ذَلِكَ لَخِزْيًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ هُوَ مِنْ قَوْلِ الدَّاعِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الظَّالِمُونَ هُنَا هُمُ الْكَافِرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2» وَيُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ فِيمَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ نَفْيَ النَّاصِرِ إِمَّا بِمَنْعٍ أَوْ شَفَاعَةِ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَاللَّهُ نَاصِرُهُ وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم شَافِعُهُ،
وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُ لِبَعْضٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا لِلظَّالِمِينَ اللَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَمْ فاسقا، ومن مَفْعُولَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ مَا نَصُّهُ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ: فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ.
وَأَجَازَ آخَرُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ مُبْتَدَأً، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ الْخَبَرَ انْتَهَى. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَصَادِرٌ عَنْ جَاهِلٍ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِعْرَابُ مَنْ مُبْتَدَأً فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. وَأَمَّا إِدْخَالُهُ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي الْخَبَرِ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَجَهَالَةٌ. وَمَنْ أَعْظَمُ وِزْرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا سَمِعَ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَسْمُوعٍ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ نَحْوُ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَوَاسِّ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَى ذَاتٍ وَجَاءَ بَعْدَهُ فِعْلٌ أَوِ اسْمٌ فِي مَعْنَاهُ نَحْوُ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَقُولُ كَذَا، فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ. مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوِ الِاسْمَ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ نَكِرَةٌ كَانَ صِفَةً لَهَا، أَوْ مَعْرِفَةٌ كَانَ حَالًا مِنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ أَوِ الِاسْمَ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِسَمِعَ، وَجَعَلَ سَمِعَ مِمَّا يُعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَسْمُوعٍ، وَإِلَى اثْنَيْنِ إِنْ دَخَلَ عَلَى ذَاتٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ يُنَادِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ قَبْلَهُ نَكِرَةً، وَعَلَى
(1) سورة البقرة: 2/ 254.
(2)
سورة لقمان: 31/ 13.
مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: تَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ كَذَا، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، لِتُوقِعَ الْفِعْلَ عَلَى الرَّجُلِ، وَتَحْذِفَ الْمَسْمُوعَ لِأَنَّكَ وَصَفْتَهُ بِمَا يَسْمَعُ، أَوْ جَعَلْتَهُ حَالًا عَنْهُ، فَأَغْنَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ. وَلَوْلَا الْوَصْفُ أَوِ الْحَالُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَأَنْ يُقَالَ: سَمِعْتُ كَلَامَ فُلَانٍ، أَوْ قَوْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلَا الْوَصْفُ أَوِ الْحَالُ إِلَى آخِرِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَكُونُ وَصْفٌ وَلَا حَالٌ، وَيَدْخُلُ سَمِعَ عَلَى ذَاتٍ، لَا عَلَى مَسْمُوعٍ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ بِالْمَسْمُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا وَلَا حَالًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ «1» أَغْنَى ذِكْرُ ظَرْفِ الدُّعَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْمَسْمُوعِ.
وَالْمُنَادَى هُنَا هُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. قَالَ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ «2» ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ «3» قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: أَوِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْقَوُا الرَّسُولَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفُهُ بِالنِّدَاءِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الثَّانِي مَجَازًا، وَجُمِعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: مُنَادِيًا يُنَادِي، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْأَوَّلَ مُطْلَقًا وَقَيَّدَ الثَّانِيَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْمُنَادِي، لِأَنَّهُ لَا مُنَادِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَادِيَ إِذَا أُطْلِقَ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى مُنَادٍ لِلْحَرْبِ، أَوْ لِإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ، أَوْ لِإِغَاثَةِ الْمَكْرُوبِ، أَوْ لِكِفَايَةِ بَعْضِ النَّوَازِلِ، أَوْ لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ. فَإِذَا قُلْتَ: يُنَادِي لِلْإِيمَانِ فَقَدْ رَفَعْتَ مِنْ شَأْنِ الْمُنَادِي وَفَخَّمْتَهُ. واللام متعلقة بينادي، وَيُعَدَّى نَادَى، وَدَعَا، وَنَدَبَ بِاللَّامِ وَبِإِلَى، كَمَا يُعَدَّى بِهِمَا هَدَى لِوُقُوعِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، وَانْتِهَاءِ الْغَايَةِ جَمِيعًا. ولهذا قال بعضهم: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى. لَمَّا كَانَ يُنَادِي فِي مَعْنَى يَدْعُو، حَسُنَ وُصُولُهَا بِاللَّامِ بِمَعْنَى: إِلَى. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَالسَّمَاعُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ سَمِعْنَا صَوْتَ مُنَادٍ. قِيلَ: وَمَنْ جَعَلَ الْمُنَادِيَ هُوَ الْقُرْآنَ، فَالسَّمَاعُ عِنْدَهُ مَجَازٌ عن القبول، وأن مُفَسِّرَةٌ التَّقْدِيرُ: أَنْ آمِنُوا. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، أَيْ: بِأَنْ آمِنُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَعَلَى الثَّانِي لَهَا مَوْضِعٌ وَهُوَ الْجَرُّ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْخِلَافِ. وَعَطْفُ فَآمَنَّا بِالْفَاءِ مُؤْذِنٌ بِتَعْجِيلِ الْقَبُولِ، وَتَسْبِيبِ الْإِيمَانِ عَنِ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَالْمَعْنَى: فَآمَنَّا بِكَ أَوْ بربنا.
(1) سورة الشعراء: 26/ 72.
(2)
سورة الأحزاب: 33/ 46.
(3)
سورة النحل: 16/ 125.
رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذُّنُوبُ هِيَ الْكَبَائِرُ، وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الصَّغَائِرُ. وَيُؤَيِّدُهُ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «1» وَقِيلَ: الذُّنُوبُ تَرْكُ الطَّاعَاتِ، وَالسَّيِّئَاتُ فِعْلُ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ أَمْرٌ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لَكِنَّهُ كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِأَنَّهَا مَنَاحٍ مِنَ السَّتْرِ وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذُّنُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالْغُفْرَانُ وَالتَّكْفِيرُ بِمَعْنًى، وَالذُّنُوبُ وَالسَّيِّئَاتُ بِمَعْنًى، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً، وَلِيَكُونَ فِي ذَلِكَ إِلْحَاحٌ فِي الدُّعَاءِ.
فَقَدْ رُوِيَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» .
وَقِيلَ: في التفكير مَعْنًى وَهُوَ: التَّغْطِيَةُ، لِيَأْمَنُوا الْفُضُوحَ. وَالْكَفَّارَةُ هِيَ الطَّاعَةُ الْمُغَطِّيَةُ لِلسَّيِّئَةِ، كَالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ. وَرَجُلٌ مُكَفَّرٌ بِالسِّلَاحِ، أَيْ مُغَطًّى.
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ جَمْعُ بَرٍّ، عَلَى زن فَعَلٍ، كَصَلَفٍ. أَوْ جَمْعُ بَارٍّ عَلَى وَزْنٍ فَاعِلٍ كَضَارِبٍ، وَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ. وَهُمُ: الطَّائِعُونَ لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْبِرِّ. وَقِيلَ: هُمْ هُنَا الَّذِينَ بَرُّوا الآباء والأبناء. ومع هُنَا مَجَازٌ عَنِ الصُّحْبَةِ الزَّمَانِيَّةِ إِلَى الصُّحْبَةِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ: تَوَفَّنَا أَبْرَارًا مَعْدُودِينَ فِي جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ. وَالْمَعْنَى: اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَفَّيْتَهُمْ طَائِعِينَ لَكَ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى احْشُرْنَا مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى رُسُلِهِ، فَفَسَّرَ هَذَا الْمَوْعُودَ بِهِ بِالْجَنَّةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَوْعُودُ بِهِ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَقِيلَ: اسْتِغْفَارُ الأنبياء، كاستغفار نوح وابراهيم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى رُسُلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقَدَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى تصديق رسلك. قال: فعلى هَذِهِ صِلَةٌ لِلْوَعْدِ فِي قَوْلِكَ:
وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا وَعَدْتَنَا عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ. أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَقَوْلُهُ: آمَنَّا وَهُوَ التَّصْدِيقُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ: مَا وَعَدْتَنَا مُنْزِلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى رُسُلِكَ، لِأَنَّ الرُّسُلَ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ وَالظَّرْفَ مَتَى كَانَ الْعَامِلُ فِيهِمَا مُقَيَّدًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَلَا يُحْذَفُ الْعَامِلُ إِلَّا إِذَا كَانَ كَوْنًا مُطْلَقًا. مثال ذلك: زيد
(1) سورة النساء: 4/ 31.
ضَاحِكٌ فِي الدَّارِ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ ضَاحِكٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا قُلْتَ: زِيدٌ فِي الدَّارِ فَالْعَامِلُ كَوْنٌ مُطْلَقٌ يُحْذَفُ. وَكَذَلِكَ زِيدٌ نَاجٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ نَاجٍ. وَلَوْ قُلْتَ: زِيدٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ جَازَ عَلَى تَقْدِيرِ كَائِنٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمَحْذُوفُ فِيمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ:
مُنْزَلًا أَوْ مَحْمُولًا، لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ مُقَيَّدًا صَارَ ذَلِكَ الظَّرْفُ أَوِ الْمَجْرُورُ نَاقِصًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ صلة، ولا خبر إلا فِي الْحَالِ. وَلَا فِي الْأَصْلِ، وَلَا صِفَةً، وَلَا حَالًا، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ: أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْتِيهُمُ اللَّهُ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى مُنْجِزٌ مَا وَعَدَ، فَسَأَلُوا إِنْجَازَ مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْجَازَ الْوَعْدِ. وَقِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّضَرُّعَ لَهُ، كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَغْفِرُونَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّذَلُّلَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَيْهِ وَالِالْتِجَاءَ.
وَقِيلَ: استبطؤوا النَّصْرَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَسَأَلُوا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ وَعْدَهُ، فَعَلَى هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ النَّصْرَ يَكُونُ الْإِيتَاءُ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَنَّةَ يَكُونُ الْإِيتَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: عَلَى رُسْلِكَ بِإِسْكَانِ السِّينِ.
وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ فُسِّرَ الْإِخْزَاءُ هُنَا بِمَا فُسِّرَ في فقد أخزيته. ويوم الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا تُخْزِنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بتخزنا وبآتنا مَا وَعَدْتَنَا، إِذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ الْجَنَّةَ.
إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «2» فَهَذَا وَعْدُهُ تَعَالَى، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخِزْيَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْخُلُودِ انْتَهَى.
وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ مُحَاوَرَةِ هَؤُلَاءِ الذَّاكِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ خَاطَبُوا اللَّهَ تَعَالَى بِلَفْظَةِ رَبَّنَا، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ أَصْلَحَهُمْ وَهَيَّأَهُمْ لِلْعِبَادَةِ، فَأَخْبَرُوا أَوَّلًا بِنَتِيجَةِ الْفِكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا «3» ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمُ النَّارَ بَعْدَ تَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ.
وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِ مَنْ يَدْخُلِ النَّارَ وَهُمُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَلَا يتفكرون فِي
(1) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 194.
(2)
سورة التحريم: 66/ 8.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 191.
مَصْنُوعَاتِهِ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَيْضًا مَا أَنْتَجَ لَهُمُ الْفِكْرُ مِنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ، إِذْ ذَاكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ بَاطِلًا. ثُمَّ سَأَلُوا غُفْرَانَ ذُنُوبِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي أَخْبَرُوا بِهِ فِي قَوْلِهِمْ: فَآمَنَّا. ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَنْ لَا يَفْضَحَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ مَا سَأَلُوهُ.
وَتَكَرَّرَ لَفْظُ رَبَّنَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْطَافِ وَتَطَلُّبِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنِدَائِهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ الدَّالِّ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْمِلْكِ وَالْإِصْلَاحِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ هَذَا الِاسْمُ فِي قصة آدم ونوح وَغَيْرِهِمَا. وَفِي تَكْرَارِ رَبَّنَا رَبَّنَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ كَثْرَةِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالُوا يَقُولُونَ ربنا ربنا حتى استحاب لَهُمْ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ خِلَافًا لبعض الصوفية، إذا جاز ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ لا بالدنيا، ولبعض المتصرفة أَيْضًا إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَوَلَّى مَنِ اتَّبَعَ الْأَمْرَ «1» وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ وَارْتَفَعَ عَنْهُ كُلَفَ طَلَبَاتِهِ وَدُعَائِهِ.
خرج أبو نصر الوابلي السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ»
يَعْنِي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِهِ، ويستفتح قيامه بقراءة هذه الْعَشْرِ آيَاتٍ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ،
وَنَزَلَ آيَاتٌ فِي مَعْنَاهَا فِيهَا ذِكْرُ النِّسَاءِ. وَمَعْنَى اسْتَجَابَ: أَجَابَ، وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي «2» وَنَقَلَ تَاجُ الْقُرَّاءِ أَنَّ أَجَابَ عَامٌّ، واستجاب خَاصٌّ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنِّي عَلَى إِسْقَاطِ الْبَاءِ، أَيْ: بِأَنِّي. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِأَنِّي بِالْبَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَيَكُونُ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ عَلَى الْحِكَايَةِ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجَابَ. لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُضِيعُ مِنْ أَضَاعَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: أُضَيِّعُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَيَّعَ، وَالْهَمْزَةُ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلنَّقْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(1) سورة. [.....]
(2)
سورة البقرة: 2/ 186.
كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ
…
بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ
وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَا أَتْرُكُ جَزَاءَ عَامِلٍ منكم. ومنكم فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ: كَائِنٍ مِنْكُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قِيلَ: مِنْ تَبْيِينٌ لِجِنْسِ الْعَامِلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ ذكر أو أنثى. ومن قِيلَ: زَائِدَةٌ لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ فِي الْكَلَامِ. وَقِيلَ: مِنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِي مِنْكُمْ أَيْ: عَامِلٍ كَائِنٍ مِنْكُمْ كَائِنًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَدَلٌ مِنْ مِنْكُمْ، بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ قَدْ أَعَادَ العامل وهو حرف الجر، وَيَكُونُ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا مِنْ مُخَاطَبٍ. وَيُعَكِّرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا عَطْفُهُ بأو، وَالْبَدَلُ التَّفْصِيلِيُّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ:
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ
…
وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ
وَيُعَكِّرُ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ مُخَاطَبٍ أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ.
هَكَذَا أَطْلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْخِلَافَ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ الْبَدَلُ فِيهِ لِإِحَاطَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذْ ذَاكَ. وَهَذَا التَّقْيِيدُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ «تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا» «1» فَقَوْلُهُ لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَنَا. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَقَامِنَا
…
ثَلَاثَتِنَا حتى أرينا المنائيا
فثلاثتنا بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَأَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدَلٌ فِي مَعْنَى التَّوْكِيدِ، وَيَشْهَدُ لِمَذْهَبِ الْأَخْفَشِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ
…
وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَشَوْهَاءُ تَغْدُو بِي إِلَى صَارِخِ الْوَغَى
…
بِمُسْتَلْئِمٍ مثل الفنيق المرجل
فقريش بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ. وبمستلئم بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ تَجِيءُ أَوْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ إِذَا عَطَفَتْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ:
قَوْمٌ إِذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ
…
مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
(1) سورة المائدة: 5/ 114.
يُرِيدُ: وَسَافِعِ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ ذَلِكَ هُنَا فِي أَوْ، أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَمَلَ عَامِلٍ دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَعَطَفَ عَلَى أحد الجزئين مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ الْعُمُومُ إِلَّا بِعُمُومٍ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْعَطْفِ حَتَّى يُفِيدَ الْمَجْمُوعُ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ تَأْكِيدَ الْعُمُومِ، فَصَارَ نَظِيرَ مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ. لِأَنَّ بَيْنَ لَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَطْفِ مُصَاحِبِ مَجْرُورِهَا.
وَمَعْنَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: أَيْ مَجْمَعُ ذُكُورِكُمْ وَإِنَاثِكُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنَ الْآخَرِ أَيْ مِنْ أَصْلِهِ. فَإِذَا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْأَجْرِ وَتَقَبُّلِ الْعَمَلِ. فَيَكُونُ مِنْ هُنَا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ الْحَقِيقِيَّ، وَيُشِيرُ بِذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ الْأَصْلِيِّ إِلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَجْرِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ يَجْمَعُهُمْ، كَمَا
جَاءَ «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الذُّكُورُ مِنَ الْإِنَاثِ، وَالْإِنَاثُ مِنَ الذُّكُورِ، فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ. فَكَمَا اشْتَرَكُوا فِي هَذِهِ الْبَعْضِيَّةِ كَذَلِكَ اشْتَرَكُوا فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَمَحْصُولُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ جِيءَ بِهَا لِتَبْيِينِ شَرِكَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْعَامِلِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا وَهُوَ: سُؤَالُ أُمِّ سَلَمَةَ وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ.
فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، ذَكَرَ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ السَّنِيَّةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا أَنْ لَا يَضِيعَ عَمَلُهُ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ جَزَاؤُهُ. فَذَكَرَ أَوَّلًا الْهِجْرَةَ وَهِيَ: الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ دِينِهِ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ الَّذِي رَبَا فِيهِ وَنَشَأَ مَعَ أَهْلِهِ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَلَوْلَا نَوَازِعُ الْغَوَى الْمُرَبَّى عَلَى وَازِعِ النَّشْأَةِ مَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى لِقَوْلِ الشَّاعِرِ هُمَا لِابْنِ الرُّومِيِّ:
وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرجال إليهم
…
مآب قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ
…
عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا
وَقَالَ ابْنُ الصَّفِيِّ رَفَاعَةُ بْنُ عَاصِمٍ الْفَقْعَسِيُّ:
أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ مَا بَيْنَ مَنْعِجٍ
…
إِلَيَّ وَسَلْمَى أَنْ يصوب سجابها
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي
…
وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا
بِهَا طَالَ تجراري ردائي حقبة
…
وزينت رَيَّا الْحَجْلِ دَرْمٌ كِعَابُهَا
وَاسْمُ الْهِجْرَةِ وَفَضْلُهَا الْخَاصُّ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي هَاجَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ وَهُوَ: أَنَّهُمْ أُلْجِئُوا وَاضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إِلْزَامُ الذَّنْبِ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ سُوءُ عِشْرَةِ الْكُفَّارِ وَقَبِيحُ أَفْعَالِهِمْ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَإِذَا كَانَ الْخُرُوجُ بِرَأْيِ الْإِنْسَانِ وَقُوَّةٍ مِنْهُ عَلَى الْأَعْدَاءِ جَاءَ الْكَلَامُ بِنِسْبَةِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: خَرَجَ فُلَانٌ، قَالَ مَعْنَاهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: فَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ أَنْشَدَهُ.
وَرَدَّنِي إِلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْتُهُ كُلَّ مَطْرَدِ
فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدٍ»
إِنْكَارًا عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
…
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ
…
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْإِذَايَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: فِي دِينِ اللَّهِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَاصِّ وَهِيَ الْهِجْرَةُ وَكَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَنَّى بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ. فَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا كَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَخُرُوجِ أَبِي جَنْدَلٍ إِذْ لَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ بِالْمَدِينَةِ. وَأَتَى ثَالِثًا بِذِكْرِ الْإِذَايَةِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِإِخْرَاجٍ مِنَ الدِّيَارِ أو غير ذلك من أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَارْتَقَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ السَّنِيَّةِ إِلَى رُتْبَةِ جِهَادِ مَنْ أَخْرَجَهُ وَمُقَاوَمَتِهِ وَاسْتِشْهَادِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ رُتَبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنْ تَنْقِيصِ أَحْوَالِهِ فِي الْحَيَاةِ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ بِالْمُهَاجَرَةِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِهِ وَإِذَايَتِهِ فِي اللَّهِ، وَمَآلِهِ أَخِيرًا إِلَى إِفْنَائِهِ بِالْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ:
الْإِخْبَارُ عَنْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا بِالْخَبَرِ الَّذِي بَعْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ من عطف الصلاة. وَالْمَعْنَى: اخْتِلَافُ الْمَوْصُولِ لَا اتِّحَادُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا، وَالَّذِينَ أُخْرِجُوا، وَالَّذِينَ أُوذُوا، وَالَّذِينَ قَاتَلُوا، وَالَّذِينَ قُتِلُوا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا يَبْدَآنِ بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ،
(1) سورة البقرة: 2/ 217.
ثُمَّ بِالْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، فَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ الْوَاوِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ الثَّانِي وَقَعَ أَوَّلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَالْمَعْنَى: قُتِلَ بَعْضُهُمْ وَقَاتَلَ بَاقِيهِمْ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَبَدَأَ بِبِنَاءِ الْأَوَّلِ لِلْفَاعِلِ، وَبِنَاءِ الثَّانِي لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَعْنَى، مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْحَالَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَعَارَفِ. وَقَرَأَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: وَقَتَلُوا بِفَتْحِ الْقَافِ وَقَاتَلُوا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا بِضَمِّ قَافِ الْأُولَى، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَهِيَ فِي التَّخْرِيجِ كَالْقِرَاءَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ:
وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ قُطِّعُوا فِي الْمَعْرَكَةِ.
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَأُكَفِّرَنَّ:
جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْقَسَمُ وَمَا تَلَقَّى بِهِ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هاجَرُوا «1» وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ «2» وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «3» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
جَشَأَتْ فَقُلْتُ اللَّذْ خَشِيتِ لِيَأْتِيَنْ
…
وَإِذَا أَتَاكِ فَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ عَلَى أحمد بن يحيى ثعلب إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ لَا تَكُونُ قَسَمِيَّةً.
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ انْتَصَبَ ثَوَابًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ هُوَ الْمُثَابُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْعَطَاءُ هُوَ الْمُعْطَى. وَاسْتُعْمِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِعْطَاءُ، فَوَضَعَ ثَوَابًا مَوْضِعَ إِثَابَةً، أَوْ مَوْضِعَ تَثْوِيبًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِي مَعْنَى لَأُثِيبَنَّهُمْ. وَنَظِيرُهُ صُنْعَ اللَّهِ وَوَعْدَ اللَّهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ أَيْ: مُثَابًا بِهَا، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ «4» أَيْ مُثَابِينَ. وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جَنَّاتٍ عَلَى تَضْمِينِ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ مَعْنَى: وَلَأُعْطِيَنَّهُمْ. وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: يُعْطِيهِمْ ثَوَابًا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ لِي مَعْنَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هُنَا.
وَمَعْنَى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ فَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، لَا يُثِيبُهُ غَيْرُهُ، وَلَا
(1) سورة آل عمران: 3/ 195.
(2)
سورة النحل: 16/ 41.
(3)
سورة العنكبوت: 29/ 69.
(4)
سورة آل عمران: 3/ 195.
يَقْدِرُ عَلَيْهِ. كَمَا تَقُولُ عِنْدِي مَا تُرِيدُ، تُرِيدُ اخْتِصَاصَكَ بِهِ وَتَمَلُّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِكَ.
وَأَعْرَبُوا عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ حُسْنُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، إِذْ قَدِ اعْتَمَدَ الظَّرْفُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا فَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ مُسْتَقِرٌّ، أَوِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ كَيْفَ يُدْعَى، وَكَيْفَ يُبْتَهَلُ إِلَيْهِ وَيُتَضَرَّعُ، وَتَكْرِيرُ رَبَّنَا مِنْ بَابِ الِابْتِهَالِ، وَإِعْلَامٌ بِمَا يُوجِبُ حُسْنَ الْإِجَابَةِ وَحُسْنَ الْإِثَابَةِ مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي دِينِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى صُعُوبَةِ تَكَالِيفِهِ، وَقَطْعٍ لِأَطْمَاعِ الْكُسَالَى الْمُتَمَنِّينَ عَلَيْهِ، وَتَسْجِيلٍ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الثَّوَابَ مَوْصُولًا إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ انْتَهَى. وَآخِرُ كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَطَعْنٍ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ فَيُصِيبُونَ الْأَمْوَالَ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَرَوْنَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ وَلِينِ الْعَيْشِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظٌ عَامٌّ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ. فَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: نَزَلَتْ لَا يَغُرُّنَّكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَةَ لَا تَظُنَّ أَنَّ حَالَ الْكُفَّارِ حَسَنَةٌ فَتَهْتَمَّ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغْتَرَّ فَارِحٌ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغْتَرُّ بِهِ. فَالْكُفَّارُ مُغْتَرُّونَ بِتَقَلُّبِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ مُهْتَمُّونَ بِهِ. لَكِنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ فِي نَفْسِ مُؤْمِنٍ أَنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيَجِيءُ هَذَا جُنُوحًا إِلَى حَالِهِمْ، وَنَوْعًا مِنَ الِاغْتِرَارِ، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ لَا يَغُرَّنَّكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ:«لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» الْمَعْنَى: لا تغتري بما ينم لِتِلْكَ مِنَ الْإِدْلَالِ فَتَقَعِي فِيهِ فَيُطَلِّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَغُرَّنَّكَ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ.
أَيْ: لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، وَالْمُضْطَرِبِ وَدَرْكِ الْعَاجِلِ وَإِصَابَةِ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَلَا نغترر بِظَاهِرِ مَا تَرَى مِنْ تَبَسُّطِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي الْبِلَادِ. (فَإِنْ قُلْتَ) :
كَيْفَ جَازَ أَنْ يَغْتَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهُ وَعَنِ الِاغْتِرَارِ بِهِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَدَرَةَ الْقَوْمِ وَمُقَدِّمَهُمْ يُخَاطَبُ بِشَيْءٍ فَيَقُومُ خِطَابُهُ مَقَامَ خِطَابِهِمْ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ. وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ غَيْرَ مَغْرُورٍ بِحَالِهِمْ، فَأَكَّدَ عَلَيْهِ مَا كَانَ وَثَبَتَ عَلَى الْتِزَامِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ «1» وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2»
(1) سورة هود: 13/ 14.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 14.
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «1» وَهَذَا فِي النَّهْيِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْأَمْرِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «3» وَقَدْ جُعِلَ النَّهْيُ فِي الظَّاهِرِ لِلتَّقَلُّبِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ. وَهَذَا مِنْ تَنْزِيلِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ، لِأَنَّ التَّقَلُّبَ لَوْ غَرَّهُ لَاغْتَرَّ بِهِ، فَمَنَعَ السَّبَبَ لِيَمْتَنِعَ الْمُسَبَّبَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، أوله عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّنْبِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ كَمَا قِيلَ:
قَدْ يُهَزُّ الْحُسَامُ وَهْوَ حُسَامٌ
…
وَيُجَبُّ الْجَوَادُ وَهْوَ جَوَادُ
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ: لَا يَغُرَّنْكَ ولا يصدنك ولا يصدنكم ولا يَغُرَّنْكُمْ وَشِبْهَهُ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَتَقَلُّبُهُمْ: هُوَ تَصَرُّفُهُمْ فِي التِّجَارَاتِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوْ مَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ قَالَهُ: عِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ. أَوْ تَصَرُّفُهُمْ غَيْرَ مَأْخُوذِينَ بِذُنُوبِهِمْ قَالَهُ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
مَتاعٌ قَلِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ وَالتَّبَسُّطِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مُتِّعُوا بِهِ، ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. وَقِلَّتُهُ بِاعْتِبَارِ انْقِضَائِهِ وَزَوَالِهِ،
وَرُوِيَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» أخرجه التِّرْمِذِيُّ.
أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ.
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ثُمَّ الْمَكَانُ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ جَهَنَّمُ، وَعَبَّرَ بِالْمَأْوَى إِشْعَارًا بِانْتِقَالِهِمْ عَنِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيهَا وَكَأَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيهَا إِنَّمَا كَانَتْ لَهُمْ أَمَاكِنَ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، لَا قَرَارَ لَهُمْ وَلَا خُلُودَ. ثُمَّ الْمَأْوَى الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ.
وَبِئْسَ الْمِهادُ أَيْ وَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي
…
إِلَى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكَاعِ
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لَمَّا تَضَمَّنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ التَّقَلُّبَ وَالتَّصَرُّفَ فِي الْبِلَادِ هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَنَّهُمْ يَأْوُونَ بَعْدُ إِلَى جَهَنَّمَ،
(1) سورة القلم: 68/ 8.
(2)
سورة الفاتحة: 1/ 5.
(3)
سورة النساء: 4/ 136.
فَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ مَا مُتِّعُوا بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِي النَّارِ. استدرك بلكن الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُتَّقِينَ بِمُقَابِلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ وَهِيَ الْجَنَّاتُ، وَالثَّانِي ذِكْرُ الْخُلُودِ فِيهَا وَهُوَ الْإِقَامَةُ دَائِمًا وَالتَّمَتُّعُ بِنَعِيمِهَا سَرْمَدًا. فَقَابَلَ جَهَنَّمَ بِالْجَنَّاتِ، وَقَابَلَ قِلَّةَ مَتَاعِهِمْ بِالْخُلُودِ الَّذِي هُوَ الدَّيْمُومَةُ فِي النَّعِيمِ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ هُنَا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأَنَّهُ آلَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ إِلَى تَكْذِيبِ الْكُفَّارِ وَإِلَى تَنْعِيمِ الْمُتَّقِينَ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَكِنْ خَفِيفَةَ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِالتَّشْدِيدِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا عَمَلٌ، لِأَنَّ اسْمَهَا مَبْنِيٌّ.
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النُّزُلُ مَا يُعَدُّ لِلنَّازِلِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالْقَرَى. ويجوز تسكين رايه، وَبِهِ قَرَأَ: الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، ومسلمة بْنُ مُحَارِبٍ، وَالْأَعْمَشُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ خَافَنَا
…
جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزْلَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّزُلُ الثَّوَابُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالنَّزِيلُ الضَّيْفُ. وَقِيلَ: النُّزُلُ الرِّزْقُ وَمَا يُتَغَذَّى بِهِ. وَمِنْهُ:
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ «2» أَيْ فَغِذَاؤُهُ. وَيُقَالُ: أَقَمْتُ لِلْقَوْمِ نُزُلَهُمْ أَيْ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَجَمْعُهُ أَنْزَالٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْأَنْزَالُ الَّتِي سُوِّيَتْ، وَنُزِلَ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: أَيْ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، وَسَمَّاهُ نُزُلًا لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ تَكَالِيفُ السَّعْيِ وَالْكَسْبِ، فَهُوَ شَيْءٌ مُهَيَّأٌ يُهَيَّأُ لَهُمْ لَا تَعَبَ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ هُنَاكَ، وَلَا مَشَقَّةَ. كَالطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ لَمْ يَتْعَبْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا فِي تَسْوِيَتِهِ وَمُعَالَجَتِهِ. وَانْتِصَابُ نُزُلًا قَالُوا: إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ لِتَخَصُّصِهَا بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي لَهُمْ. وَإِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: جَعَلَهَا نُزُلًا.
وَإِمَّا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَكْرِمَةً، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِزْقًا أَوْ عَطَاءً.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَصَدَقَةً انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَالِ.
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ظَاهِرُهُ حَوَالَةُ الصِّلَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبْرَارِ أَيْ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ: ابْنُ مَسْعُودٍ.
وَجَاءَ «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكفار،
(1) سورة آل عمران: 3/ 195.
(2)
سورة الواقعة: 56/ 93. [.....]
أَيْ: خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمَتَاعِ الزَّائِلِ. وَقِيلَ: خَيْرُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
وللأبرار متعلق بخير، وَالْأَبْرَارُ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وَقِيلَ:
فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ لِلْأَبْرَارِ خَيْرٌ لَهُمْ، وَهَذَا ذُهُولٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمَجْرُورَ إِذْ ذَاكَ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ الْوَاقِعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، وَلَا يُخْبَرُ عَنِ الْمَوْصُولِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ صِلَتَهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
لَمَّا مَاتَ أصمحة النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ. وَمَعْنَى أصمحة بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةٌ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ:«صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»
فَقَالَ قَائِلٌ: يُصَلَّى عَلَيْهِ الْعِلْجُ النَّصْرَانِيُّ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عباس، وأنس. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي أَرْبَعِينَ مِنْ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وثلاثين من الحبشة، وثمانية مِنَ الرُّومِ، كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن فِي لَمَنْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً أَيْ: لَقَوْمًا. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ هُوَ كِتَابُهُمْ.
خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كَمَا اشْتَرَتْ بِهَا أَحْبَارُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَانْتِصَابُ خَاشِعِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤَمِنُ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرُونَ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أُنْزِلَ. وَقِيلَ:
حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَشْتَرُونَ، وَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ. وَمَنْ جَعْلَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، يُجَوِّزُ أَنْ يكون خاشعين ولا يَشْتَرُونَ صِفَتَيْنِ لِلنَّكِرَةِ. وَجُمِعَ خَاشِعِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ كَمَا جُمِعَ فِي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُ، فَأُفْرِدَ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَمْلَانِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُبْدَأَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ. وَأَتَى فِي الْآيَةِ بِلَفْظِ يُؤْمِنُ دُونَ آمَنَ، وَإِنْ كَانَ إِيمَانُ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ قَدْ وَقَعَ إِشَارَةً إِلَى الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَوَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ الْمُنَافِي لِلتَّعَاظُمِ وَالِاسْتِكْبَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ «2» .
(1) سورة الفرقان: 25/ 24.
(2)
سورة المائدة: 5/ 82.
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ ثَوَابُ إِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْأَجْرُ مُضَاعَفٌ مَرَّتَيْنِ بِنَصِّ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: / وَأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ
يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ بِمَا تَضَاعَفَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ. وعند ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّهِمْ: أَيْ فِي الْجَنَّةِ.
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ سَرِيعُ الْإِتْيَانِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُمْ قَرِيبٌ إِتْيَانُهُ أَوْ سَرِيعٌ حِسَابُهُ لِنُفُوذِ عِلْمِهِ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا لِكُلِّ عَامِلٍ مِنَ الْأَجْرِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَوْفًى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوِصَايَةِ الَّتِي جَمَعَتِ الظُّهُورَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ وَالرِّبَاطِ. فَقِيلَ: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي تَكَالِيفِهِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ، وَرَابِطُوا فِي الثُّغُورِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَيْ: ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْتَبِطُهَا أَعْدَاؤُكُمْ. وَقَالَ أُبَيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هِيَ مُصَابَرَةُ وَعْدِ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، أَيْ: لَا تَسْأَمُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ. وَقِيلَ: رَابِطُوا، اسْتَعِدُّوا لِلْجِهَادِ كَمَا قَالَ:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1» . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرباط انتظارا الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم غَزْوٌ مُرَابَطٌ فِيهِ. وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ عليه السلام: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ثَلَاثًا
فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ رَابِطُوا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ أَنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمُلَازَمَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مُلَازِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا، وَاللَّقْطَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّبْطِ.
وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ
إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهٌ بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِذِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ مِنَ السُّبُلِ الْمُنْجِيَةِ، وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ. وَالْمُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْخَصُ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا قَالَهُ: ابْنُ الْمَوَّازِ، وَرَوَاهُ. فَأَمَّا سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هناك فهم وإن
(1) سورة الأنفال: 8/ 60.
كَانُوا حُمَاةً، لَيْسُوا بِمُرَابِطِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ أَيْ غَالِبُوهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْحَرْبِ، لَا تَكُونُوا أَقَلَّ صَبْرًا مِنْهُمْ وَثَبَاتًا. وَالْمُصَابَرَةُ بَابٌ مِنَ الصَّبْرِ، ذُكِرَ بَعْدَ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِشِدَّتِهِ وَصُعُوبَتِهِ.
وَرَابِطُوا: وَأَقِيمُوا فِي الثغور رباطين خَيْلَكُمْ فِيهَا مُتَرَصِّدِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1»
وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ كَعِدْلِ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَنْفَتِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ»
انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
وَفِي مُسْلِمٍ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ»
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ» .
وتضمنت هذه الآيات من ضُرُوبِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ الِاسْتِعَارَةَ. عَبَّرَ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَنِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبِالنَّبْذِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ عَنْ تَرْكِ عَمَلِهِمْ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَبِاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ عَنْ مَا تَعَوَّضُوهُ مِنَ الْحُطَامِ عَلَى كَتْمِ آيَاتِ اللَّهِ، وَبِسَمَاعِ الْمُنَادِي إِنْ كَانَ الْقُرْآنَ عَنْ مَا تَلَقَّوْهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالِاسْتِجَابَةِ عَنْ قَبُولِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَبِانْتِفَاءِ التَّضْيِيعِ عَنْ عَدَمِ مُجَازَاتِهِ عَلَى يَسِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِالتَّقَلُّبِ عَنْ ضَرْبِهِمْ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَكَاسِبِ، وَبِالْمِهَادِ عَنِ الْمَكَانِ المستقر فيه، وبالنزل عَمَّا يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَبِالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ تَهَدُّمُ الْمَكَانِ وَتَغَيُّرُ مَعَالِمِهِ عَنْ خُضُوعِهِمْ وَتَذَلُّلِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِالسُّرْعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَشْيِ عَنْ تَعْجِيلِ كَرَامَتِهِ.
قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحِسَابُ اسْتُعِيرَ لِلْجَزَاءِ، كَمَا اسْتُعِيرَ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ «2» لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُقَامُ لَهُمْ حِسَابٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «3» وَالطِّبَاقَ في: لتبيينه لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالسَّمَاءُ جِهَةُ الْعُلُوِّ وَالْأَرْضُ جِهَةُ السُّفْلِ، وَاللَّيْلُ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّلْمَةِ وَالنَّهَارُ عِبَارَةٌ عَنِ النُّورِ، وَفِي: قِيَامًا وقعودا ومن: ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَالتَّكْرَارَ: فِي لَا تَحْسَبَنَّ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ، وَفِي: رَبَّنَا فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، وَفِي: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا إِنْ كَانَ الْمَعْنَى واحدا
(1) سورة الأنفال: 8/ 60.
(2)
سورة الحاقة: 69/ 26.
(3)
سورة الكهف: 18/ 105.
وَفِي: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَفِي: ثوابا وحسن لثواب. وَالِاخْتِصَاصَ فِي: لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَفِي: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، وفي: توفنا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَفِي: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ فِي: أن آمنوا فَآمَنَّا، وَفِي:
عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ. وَالْمُغَايِرَ فِي: مُنَادِيًا يُنَادِي. وَالْإِشَارَةَ فِي: مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا، وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.