الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي غنيا وفقيرا، وَفِي: قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالتَّكْرَارَ فِي: اتَّقُوا، وَفِي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لَا تَعْدِلُوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِي الْيَتَامَى، وَفِي النِّسَاءِ، وَفِي فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَفِي نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَفِي قوله:
وليخش، وخافوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَرَادِفَيْنِ، وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ فِي: وَلَا تَأْكُلُوا وَشِبْهِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ سَبَبٌ لِلْأَكْلِ. وَتَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي: وَآتُوا الْيَتَامَى، سَمَّاهُمْ يَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَالتَّأْكِيدَ بِالْإِتْبَاعِ فِي: هَنِيئًا مَرِيئًا وَتَسْمِيَةَ الشيء باسم ما يؤول إِلَيْهِ فِي: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ، وَفِي نَارًا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أنها حَقِيقَةٌ. وَالتَّجْنِيسَ الْمُمَاثِلَ فِي: فَادْفَعُوا فَإِذَا دَفَعْتُمْ، وَالْمُغَايِرَ فِي: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا.
وَالزِّيَادَةَ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى فِي: فَلْيَسْتَعْفِفْ. وَإِطْلَاقَ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ فِي: الْأَقْرَبُونَ، إِذِ الْمُرَادُ أَرْبَابُ الْفَرَائِضِ. وَإِقَامَةَ الظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ مَقَامَ الزماني في: من خَلْفِهِمْ، أَيْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِمْ. وَالِاخْتِصَاصَ فِي: بُطُونِهِمْ، خَصَّهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لِلْمَأْكُولَاتِ. وَالتَّعْرِيضَ فِي: فِي بُطُونِهِمْ، عَرَّضَ بِذِكْرِ البطون لخستهم وَسُقُوطِ هِمَمِهِمْ وَالْعَرَبُ تَذُمُّ بِذَلِكَ قَالَ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
…
وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
وَتَأْكِيدَ الْحَقِيقَةِ بِمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ بِقَوْلِهِ: فِي بُطُونِهِمْ. رُفِعَ الْمَجَازُ الْعَارِضُ فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «1» وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَنَظِيرُ كَوْنِهِ رَافِعًا لِلْمَجَازِ قَوْلُهُ:
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» ، وَقَوْلُهُ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «3» . وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
(1) سورة الحجرات: 49/ 12.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 38.
(3)
سورة البقرة: 2/ 79.
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا أُبْهِمَ فِي قَوْلِهِ: نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ «1» فِي الْمِقْدَارِ وَالْأَقْرَبِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَقَادِيرَ وَمَنْ يَرِثُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَبَدَأَ بِالْأَوْلَادِ وَإِرْثِهِمْ مِنْ وَالِدَيْهِمْ، كَمَا بَدَأَ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ بِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ إِجْمَالٌ أَيْضًا بَيَّنَهُ بَعْدُ. وَبَدَأَ بِقَوْلِهِ:
لِلذَّكَرِ، وَتَبَيَّنَ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الذَّكَرِ أَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ مِنْ ذِكْرِ بَيَانِ نَقْصِ الْأُنْثَى عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، فَكَفَاهُمْ إِنْ ضُوعِفَ لَهُمْ نَصِيبُ الْإِنَاثِ فَلَا يُحْرَمْنَ إِذْ هُنَّ يُدْلِينَ بِمَا يُدْلُونَ بِهِ مِنَ الْوَلَدِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَمُضْمَنُ أَكْثَرِ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَزَلَتْ تَبْيِينًا لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَابِرٍ إِذْ مَرِضَ، فعاده الرسول فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟
وَقِيلَ: كَانَ الْإِرْثُ لِلْوَلَدِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. قِيلَ: مَعْنَى يُوصِيكُمْ يَأْمُرُكُمْ. كَقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «2» وعدل
(1) سورة النساء: 4/ 7.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 151.
إِلَى لَفْظِ الْإِيصَاءِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَطَلَبِ حُصُولِهِ سُرْعَةً، وَقِيلَ: يَعْهَدُ إِلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً «1» وَقِيلَ: يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي أَوْلَادِكُمْ مَقَادِيرَ مَا أَثْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ للرّجال وأولوا الْأَرْحَامِ «2» وَقِيلَ: يَفْرِضُ لَكُمْ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَالْخِطَابُ فِي: يُوصِيكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَوْلَادِكُمْ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ:
فِي أَوْلَادِ مَوْتَاكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ الْحَيُّ بِقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فِي أَوْلَادِهِ وَيُفْرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ المعنى بيوصيكم يُبَيِّنُ جَازَ أَنْ يُخَاطِبَ الْحَيَّ، وَلَا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَالْأَوْلَادُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَنْ قَامَ بِهِ مَانِعُ الْإِرْثِ، فَأَمَّا الرِّقُّ فَمَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَكَذَلِكَ، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنْ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِنْ قَتَلَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ، وَكَذَا إِذَا قَتَلَ جَدَّهُ وَأَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ، لَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يَرِثُ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا. وَاسْتَثْنَى النَّخَعِيُّ مِنْ عُمُومِ أَوْلَادِكُمُ الْأَسِيرَ، فَقَالَ: لَا يَرِثُ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ يَرِثُ، فَإِنْ جُهِلَتْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْعُمُومِ الْمِيرَاثُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْجَنِينُ فَإِنْ خَرَجَ مَيْتًا لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا فَقَالَ الْقَاسِمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، وَالشَّافِعِيُّ: يَسْتَهِلُّ صَارِخًا، وَلَوْ عَطَسَ أَوْ تَحَرَّكَ أَوْ صَاحَ أَوْ رَضَعَ أَوْ كَانَ فِيهِ نَفَسٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ وَالشَّافِعِيُّ:
إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيِّ فِي الْإِرْثِ. وَأَمَّا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَرِثُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الَّذِي لَهُ فِيهِ سَهْمٌ. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا خِلَافَ فِي تَوْرِيثِهِ، وَالْخِلَافُ فِيمَا يَرِثُ وَفِيمَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ خُنْثَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرِثُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ: وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ وَالسَّفِيهُ فَيَرِثُونَ إِجْمَاعًا، وَالْوَلَدُ حَقِيقَةٌ فِي وَلَدِ الصُّلْبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي وَلَدِ الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ. إِذْ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوِ التَّوَاطُؤِ لَشَارَكَ وَلَدَ الصلب مطلقا،
(1) سورة الشورى: 42/ 13.
(2)
إشارة إلى الآية 7 من سورة النساء.
وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ مَنْ لَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ مِنْهُمْ.
وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ الْأَبِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْخُلُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ وَلَدُ صُلْبٍ.
وللذكر: إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ، أَوْ تَنُوبُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنِ الضَّمِيرِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِذَكَرِهِمْ. ومثل: صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَظٌّ مِثْلُ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَعْمَلْ يُوصِيكُمُ فِي مِثْلُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْقَبُولِ فِي حِكَايَةِ الْجُمَلِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيوصيكم. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ارْتَفَعَ مِثْلُ عَلَى حَذْفِ أَنْ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لِلذَّكَرِ. وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةُ اجْتِمَاعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلَهُ سَهْمَانِ، كَمَا أَنَّ لَهُمَا سَهْمَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ الِابْنُ فَيَأْخُذُ الْمَالَ أَوِ الْبِنْتَانِ، فَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلنَّصِّ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: نَصِيبُ الذَّكَرِ هُنَا هُوَ الثُّلُثَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبَ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَ نَصِيبُهَا مَعَ الذَّكَرِ الثلث، فلا أن يَكُونَ نَصِيبُهَا مَعَ أُنْثَى الثُّلُثَ أَوْلَى، لِأَنَّ الذَّكَرَ أَقْوَى مِنَ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: حَظُّ الْأُنْثَيَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ حَظِّ الْأُنْثَى، وَإِلَّا لَزِمَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَى، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُمَا الثُّلُثَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ. وَفِي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَ حُكْمَ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ، وَحُكْمَ الْأُخْتَيْنِ، وَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ، فَصَارَتِ الْآيَتَانِ مُجْمَلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، مُبَيَّنَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ.
فَنَقُولُ: لَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَيْنِ، كَانَتِ الْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ. وَلَمَّا كَانَ نَصِيبُ الْبَنَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ نَصِيبُ الْأَخَوَاتِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبِنْتَ لَمَّا كَانَتْ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الْأَضْعَفِ زَائِدًا عَلَى الْأَقْوَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ إِذَا لَمْ يكن مَعَهُ أُنْثَى، لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ مَا لِلْأُنْثَيَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَ لِلْأُنْثَى النِّصْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذَكَرٌ
بِقُولِهِ: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ «1» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ مِثْلَيْ ذَلِكَ وَمِثْلَا النِّصْفِ، هُوَ الْكُلُّ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الحسن واب أَبِي عَبْلَةَ: يُوَصِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ. قرأ الْحَسَنُ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والأعرج: ثلثا وثلث وَالرُّبْعَ وَالسُّدْسَ وَالثُّمْنَ بِإِسْكَانِ الْوَسَطِ، وَالْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ لغة الحجاز وبني أَسَدٍ، قَالَهُ: النَّحَّاسُ مِنَ الثُّلْثِ إِلَى الْعُشْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ هِيَ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالسُّكُونَ تَخْفِيفٌ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي شَأْنِ أَوْلَادِكُمُ الْوَارِثِينَ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ حَظٌّ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِمْ مِمَّا تَرَكَ الموروثون إِنِ انْفَرَدَ بِالْإِرْثِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ذُو فَرْضٍ كَانَ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ لَهُمَا، وَالْفُرُوضُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ سِتَّةٌ: النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ.
فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ ظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا تَرَكَ مَوْرُوثُهُمَا، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ انْحِصَارُ الْوَارِثِ فِيهِنَّ.
وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْأَوْلَادِ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَقَصَدَ هُنَا بَيَانَ حُكْمِ الْإِنَاثِ، أَخْلَصَ الضَّمِيرَ لِلتَّأْنِيثِ. إِذِ الْإِنَاثُ أَحَدُ قِسْمَيْ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْأَوْلَادُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي أَوْلادِكُمْ «2» فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: فِي أَوْلادِكُمْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالنُّونِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ أَضْلَلْنَ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِ: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ «3» فَلَأَنْ يَعُودَ عَلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْعَاقِلِ الْجَامِعِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَنَّثُ أَوْلَى، وَاسْمُ كَانَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيِ الْأَوْلَادِ، وَالْخَبَرُ نِسَاءً بِصِفَتِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا تَسْتَقِلُّ فَائِدَةُ الْأَخْبَارِ بِقَوْلِهِ: نِسَاءً وَحْدَهُ، وَهِيَ صِفَةٌ لِلتَّأْكِيدِ تَرْفَعُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَمْعِ قَبْلَهُمَا طَرِيقُ الْمَجَازِ، إِذْ قَدْ يُطْلَقُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ التثنية. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نساء خبرا ثانيا، لكان، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِهِ فَائِدَةُ الْإِسْنَادِ. وَلَوْ سَكَتَ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً لَكَانَ نَظِيرَ، إِنْ كَانَ الزَّيْدُونَ رِجَالًا، وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكَاتُ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْبَنَاتُ أَوِ الْمَوْلُودَاتُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تَفْسِيرًا لَهُمَا عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ؟ (قُلْتُ) : لَا أبعد ذلك انتهى.
(1) سورة النساء: 4/ 11.
(2)
سورة النساء: 4/ 11.
(3)
سورة البقرة: 2/ 233.
وَنَعْنِي بِالْإِبْهَامِ أَنَّهُمَا لَا يَعُودَانِ عَلَى مُفَسِّرٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ يَكُونُ مُفَسِّرُهُمَا هُوَ الْمَنْصُوبَ بَعْدَهُمَا، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يُبْعِدْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ بَعِيدٌ، أَوْ مَمْنُوعٌ أَلْبَتَّةَ. لِأَنَّ كَانَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَكُونُ فَاعِلُهَا مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ مِنَ الْأَفْعَالِ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِمَا، وَفِي بَابِ التَّنَازُعِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَمَعْنَى فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، اثْنَتَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَأَنَّ قُوَّةَ الْكَلَامِ تَقْتَضِي ذلك كابن عَطِيَّةَ، أَوْ أَنَّ فَوْقَ زَائِدَةٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ فَوْقَ قَدْ زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» فَلَا يُحْتَاجُ فِي رَدِّ مَا زَعَمَ إِلَى حُجَّةٍ لِوُضُوحِ فَسَادِهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ الثُّلُثَانِ كَالْبَنَاتِ. قَالُوا: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ يَرَى لَهُمَا النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَا كَحَالِهِمَا إِذَا اجْتَمَعَا مَعَ الذَّكَرِ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ أَوْسِ بْنِ ثابت: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ»
وَبَنَاتُ الِابْنِ أَوِ الْأَخَوَاتُ الْأَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ كَبَنَاتِ الصُّلْبِ فِي الثُّلُثَيْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ مَنْ يَحْجُبُهُنَّ.
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَاحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيِ الْبِنْتُ فَذَّةً لَيْسَ مَعَهَا أُخْرَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَاحِدَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ وواحدة الْفَاعِلُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: النُّصْفُ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا فِي فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ «2» فِي الْبَقَرَةِ.
وَبِنْتُ الِابْنُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتَ صُلْبٍ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لِأَبٍ، وَالزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ ابْنٍ كَبِنْتِ الصُّلْبِ لِكُلٍّ مِنْهُمُ النِّصْفُ.
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ لَمَّا ذَكَرَ الْفُرُوعَ وَمِقْدَارَ مَا يَرِثُونَ أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْأُصُولِ وَمِقْدَارِ مَا يَرِثُونَ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَرِثُ مِنْهُ أَبَوَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ السُّدُسَ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَأَبَوَاهُ هُمَا: أَبُوهُ وَأُمُّهُ. وَغَلَبَ لَفْظُ الْأَبِ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا قِيلَ:
الْقَمَرَانِ، فَغَلَبَ الْقَمَرُ لِتَذْكِيرِهِ عَلَى الشَّمْسِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ لَا تُقَاسُ. وَشَمَلَ قَوْلُهُ: وَلَهُ وَلَدٌ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ فَرْضَ الْأَبِ السُّدُسُ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَيَّ وَلَدٍ كَانَ، وَبَاقِي الْمَالِ لِلْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى أخذ السدس فرضا،
(1) سورة الأنفال: 8/ 12.
(2)
سورة البقرة: 2/ 237.
وَالْبَاقِي تَعْصِيبًا. وَتَعَلَّقَتِ الرَّوَافِضُ بِظَاهِرِ لَفْظِ وَلَدٌ فَقَالُوا: السُّدُسُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ أَوِ الِابْنِ، إِذِ الْوَلَدُ يَقَعُ عَلَى: الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْجَدِّ، وَبَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ، وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ مَعَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْوَاحِدَةِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَالْجَدَّاتِ كَالْأَبِ مَعَ الْبِنْتِ فِي السُّدُسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَرِثُ جَدَّةُ أَبِي الْأَبِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا تَرِثُ أُمُّ الْأُمِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي لِأَبَوَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي تَرَكَ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَيِّتِ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وسياقه. ولكل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَيُفِيدُ مَعْنَى التَّفْصِيلِ. وَتَبْيِينِ أَنَّ السُّدُسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْلَا هَذَا الْبَدَلُ لَكَانَ الظَّاهِرُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي السُّدُسِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ قَوْلِكَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، إِذْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِظْهَارِ، وَمَرَّةً بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والسدس مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ، وَالْبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: السُّدُسُ رُفِعَ بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالضَّمِيرِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لِجَوَازِ أَبَوَاكَ يَصْنَعَانِ كَذَا، وَامْتِنَاعِ أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعَانِ كَذَا. بَلْ تَقُولُ: يَصْنَعُ كَذَا. وَفِي قول الزمخشري: والسدس مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لِأَبَوَيْهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْخَبَرُ لَهُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، كَمَا مَثَّلْنَاهُ فِي قَوْلِكَ: أَبَوَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْنَعُ كَذَا، إِذَا أَعْرَبْنَا كُلًّا بَدَلًا. وَكَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا عَيْنَهُ حَسَنَةٌ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِذَا وَقَعَ الْبَدَلُ خَبَرًا فَلَا يَكُونُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ هُوَ الْخَبَرَ، وَاسْتَغْنَى عَنْ جَعْلِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرًا بِالْبَدَلِ كَمَا اسْتَغْنَى عَنِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ إِنَّ وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْبَدَلِ. وَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: وَلِأَبَوَيْهِ السدسان لا وهم التَّنْصِيفَ أَوِ التَّرْجِيحَ فِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ فِي غَايَةِ النَّصِّيَّةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ:
وَلِأَبَوَيْهِ، أَنَّهُمَا اللَّذَانِ وَلَدَا الْمَيِّتَ قَرِيبًا لَا جَدَّاهُ، وَلَا مَنْ عَلَا مِنَ الْأَجْدَادِ. وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْلَادِكُمْ، يَتَنَاوَلُ مَنْ سَفَلَ مِنَ الْأَبْنَاءِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ لَفْظٌ مُثَنًّى لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَلَا الْجَمْعَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي أولادكم. وفيما قالوه: نظروهما عِنْدِي سَوَاءٌ فِي الدَّلَالَةِ، إِنْ نُظِرَ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْأَبْنَاءَ الَّذِينَ وَلَدَهُمُ الْأَبَوَانِ قَرِيبًا، لَا مَنْ سَفَلَ كَالْأَبَوَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا، لَا مَنْ عَلَا. أَوْ إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ، فَيَشْتَرِكُ اللَّفْظَانِ فِي ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ الْأَبَوَانِ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُ قَرِيبًا. وَمَنْ عَلَا كَمَا يَنْطَلِقُ الْأَوْلَادُ عَلَى مَنْ وَلَدَاهُمْ قَرِيبًا وَمَنْ سَفَلَ يُبَيِّنُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ
لا يرث مع الِابْنَ، وَأَنَّ الْجَدَّةَ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمْ يُنَزَّلِ ابْنُ الِابْنِ مَنْزِلَةَ الِابْنِ مَعَ وُجُودِهِ، وَلَا الْجَدَّةُ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ «1» وورثه أَبَوَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِمِيرَاثِهِ لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ، لَا وَلَدٌ وَلَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ حُكْمًا لَهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ. فَإِذَا خَلُصَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ، فَذِكْرُ الْقِسْمِ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، لِزَيْدٍ مِنْهُ الثُّلُثُ، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ بَاقِيَهُ وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِعَمْرٍو.
فَلَوْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَهُوَ: الثُّلُثُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ، وَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ، وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، فَيَكُونُ مَعْنَى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مَعَ غَيْرِ وَلَدٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ. إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، فَيَتَقَاسَمَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبَ أَقْوَى فِي الْإِرْثِ مِنَ الْأُمِّ، إِذْ يَضْعُفُ نصيبه على نصيبها إذ انْفَرَدَا بِالْإِرْثِ، وَيَرِثُ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ وَبِهِمَا. وَفِي قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ: يَكُونُ لَهَا مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، فَتَصِيرُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُنْثَى لَهَا مِثْلَا حَظِّ الذَّكَرِ، وَلَا دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ.
وَفِي إِقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ خِلَافٌ. فَمَنْ قَالَ: أَنَّهُ أَبٌ وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ. وَقَالَ بِمَقَالَتِهِ بَعْدَ وفاته: أبي ومعاذ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ، وزيد، وَابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنَ الثُّلُثِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ، إِلَّا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَصُ مَعَهُمْ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا فِي قَوْلِ: زَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ: مَالِكٍ، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وَأَبِي يُوسُفَ. كَانَ عَلِيٌّ يُشْرِكُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فِي السُّدُسِ، وَلَا يُنْقِصُهُ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ بَنِي الْإِخْوَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، إِلَّا مَا
رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ علي: أنه أجرى بين الْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ مَجْرَى الإخوة.
(1) سورة النساء: 4/ 11. [.....]
وَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَتُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا، لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهَا الثُّلُثُ إِجْمَاعًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ، وَعَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ أُمَّهَا وَأُمَّ الْأَبِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْجُبُ أُمَّ الْأُمِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ وَابْنَتِهَا. فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ: أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَابْنَتُهَا حَيَّةٌ، وَبِهِ قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أيضا، وعمرو ابن مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَجَابِرٍ: أَنَّهَا تَرِثُ مَعَهَا.
وَقَالَ به: شريك، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ: كَمَا أَنَّ الْجَدَّ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا الْأَبُ، كَذَلِكَ الْجَدَّةُ لَا يَحْجُبُهَا إِلَّا الْأُمُّ.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: فَلِإِمِّهِ هُنَا مَوْضِعَيْنِ، وَفِي الْقَصَصِ فِي أُمِّها «1» وَفِي الزُّخْرُفِ: فِي أُمِّ الْكِتابِ «2» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِمُنَاسَبَةِ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ. وَكَذَا قَرَأَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «3» فِي النَّحْلِ وَالزَّمَرِ وَالنَّجْمِ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ «4» فِي النُّورِ. وَزَادَ حَمْزَةُ: فِي هَذِهِ كَسْرَ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَهَذَا فِي الدرج. فإذا ابتدأ بضم الْهَمْزَةَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ دَرَجًا وَابْتِدَاءً. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كَسْرَ الْهَمْزَةِ مِنْ أُمٍّ بَعْدَ الْيَاءِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ. وَذَكَرَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَنَّهَا لُغَةٌ هوازن وهذيل.
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، الْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ أب وأم وإخوة، كان نصيب الأم السدس، وحطها الإخوة مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَصَارَ الْأَبُ يَأْخُذُ خَمْسَةَ الْأَسْدَاسِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ يَأْخُذُونَ مَا حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ وَهُوَ السُّدُسُ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْأَبُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْأَبَ يَأْخُذُهُ لَا الْإِخْوَةَ، لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. قال قتادة: وَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْأَبُ دُونَهُمْ لِأَنَّهُ يَمُونُهُمْ وَيَلِي نِكَاحَهُمْ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ اخْتِصَاصُهُ بِالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، لِأَنَّ إِخْوَةٌ جَمْعُ أَخٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ فَقَالُوا: الْإِخْوَةُ تَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ دُونَ الْأَخَوَاتِ، وَعِنْدَنَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ. فَإِذَنْ يَصِيرُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِخْوَةٌ، مُطْلَقَ الْأُخُوَّةِ، أَيْ: أَشِقَّاءُ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ، ذكورا أو إناثا، أو الصِّنْفَيْنِ. وَظَاهِرُ لَفْظِ إِخْوَةٌ، الْجَمْعُ. وَأَنَّ الَّذِينَ يَحُطُّونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَخَوَاتُ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ لَا يُحَطَّانِ كَمَا لَا يُحَطُّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ حُكْمُهُمَا فِي الْحَطِّ حُكْمُ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا.
وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: هَلِ الْجَمْعُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا في أصول
(1) سورة القصص: 28/ 10، 12.
(2)
سورة الزخرف: 43/ 4.
(3)
سورة النحل: 16/ 78، وسورة الزمر: 39/ 6.
(4)
سورة النور: 24/ 61.
الْفِقْهِ، وَالْبَحْثُ فِيهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَلْيَقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِخْوَةُ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ، وَالتَّثْنِيَةُ كَالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ فِي إِفَادَةِ الْكَمِّيَّةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَدَلَّ بِالْإِخْوَةِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ دَعْوَى أَنَّ الْإِخْوَةَ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، بَلْ تُفِيدُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ التَّثْنِيَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ فِيمَا بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ دَعَوَاهُ إِلَى دَلِيلٍ. وَظَاهِرُ إِخْوَةٌ الْإِطْلَاقُ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ فَيَحْجُبُونَ كَمَا قُلْنَا قَبْلُ. وَذَهَبَ الرَّوَافِضُ: إِلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ مِنَ الْأُمِّ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْجُبُوهَا وَيَجْعَلُوهُ لِغَيْرِهَا فَيَصِيرُونَ ضَارِّينَ لَهَا نَافِعِينَ لِغَيْرِهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ تَقْلِبُ حَقَّ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا حُرِمَتِ الثُّلُثَ بِالْإِخْوَةِ وَانْتَقَلَتْ إِلَى السُّدُسِ فَلَأَنْ تُحْرَمَ بِالْبِنْتِ أَوْلَى.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ الْمَعْنَى: أَنَّ قِسْمَةَ الْمَالِ بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِدَيْنٍ. وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالتَّرِكَةِ سَوَاءً، إِذْ لَوْ هَلَكَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ذَهَبَ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَيَبْقَى الْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ، وَلَا يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِهَلَاكِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ. وَتَفْصِيلُ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ وَصِيَّةٍ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، بَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِنَقْصِ الْمَالِ. وَيُبَيِّنُ أَيْضًا ذَلِكَ قَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ «1» ، الْآيَةَ. إِذْ لَوْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَكَانَ هَذَا الْجَوَازُ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَقَدِ اسْتَحَبُّوا النُّقْصَانَ عَنْهُ هَذَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا فِي الثُّلُثِ. وَقَالَ شَرِيكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:
يَجُوزُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ مُعَلَّلٌ بِوُجُودِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَأَجَازَ لِظَاهِرِ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا فُقِدَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ جَازَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: من بعد وصية يوصي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَلَا وَصِيَّةٌ، يَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٌ لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ. وَالْوَصِيَّةُ مَنْدُوبٌ إليها، وقد كانت
(1) سورة النساء: 4/ 7.
وَاجِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ فَنُسِخَتْ. وَادَّعَى قَوْمٌ وُجُوبَهَا. وَتَتَعَلَّقُ مِنْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ:
يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، كَمَا فَصَّلَ من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وَهُوَ مُضَارِعٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا. وَمَعْنَى: أَوْ دَيْنٍ، لَزِمَهُ. وَقَدَّمَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِإِجْمَاعٍ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا عَلَى إِخْرَاجِهَا، إِذْ كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ شَاقًّا عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ فِيهَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ. فَإِنَّ نَفْسَ الْوَارِثِ مُوَطَّنَةٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ: أَوْ، فِي الْوُجُوبِ. أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا فِي الشَّرْعِ مَحْضُوضٌ عَلَيْهَا، فَصَارَتْ لِلْمُؤْمِنِ كَالْأَمْرِ اللَّازِمِ لَهُ. وَالدَّيْنُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وقد لا يكون، فبدىء بِمَا كَانَ وُقُوعُهُ كَاللَّازِمِ، وَأُخِّرَ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ. وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ العطف بأو، إِذْ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ رَاتِبٌ لَازِمٌ لَهُ، لَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَظُّ مَسَاكِينَ وَضِعَافٍ، وَالدَّيْنَ حَظُّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ. وَلَهُ فِيهِ مَقَالٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى أَوْ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَاهَا الْإِبَاحَةُ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا قُدِّمَ عَلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ، أَوِ ابْنَ سيرين انتهى.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ مَا وَجَبَ بِهَا سَابِقٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَسْبَقُ مَا يُخْرَجُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، إِذِ الْأَسْبَقُ هُوَ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَحَمْلِهِ وَوَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ، أَوْ ما يحتاج إليه من ذَلِكَ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: يُوصَى فِيهِمَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَتَابَعَهُمْ حَفْصٌ عَلَى الثَّانِي فَقَطْ، وَقَرَأَهُمَا الْبَاقُونَ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَدْرُونَ أَيُّ الْوَالِدَيْنِ أَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ لِيَشْفَعَ فِي وَلَدِهِ، وَكَذَا الْوَلَدُ فِي وَالِدَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى إِنْفَاقِهِمْ لِلْفَاقَةِ.
وَنَحَا إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقَدْ يُنْفِقُونَ دُونَ اضْطِرَارٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الْمِيرَاثِ وَالشَّفَاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
أَسْرَعُ مَوْتًا فَيَرِثُهُ الْآخَرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: أَيْ فَاقْسِمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَكُمْ مَنْ يَعْلَمُ النَّفْعَ وَالْمَصْلَحَةَ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنْتُمْ ذَلِكَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. قَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ الْفَرَائِضَ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ حِكْمَةً، وَلَوْ وَكَلَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ لَمْ تَعْلَمُوا أَيُّهُمْ
أَنْفَعُ لَكُمْ، فَتَضَعُونَ الْأَمْوَالَ عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً «1» حكما أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يَصْلُحُ لِخَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَأْنِيسٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُوَرِّثُونَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَقِيلَ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي مَوْتِ الْمَوْرُوثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا الْأَبُ بِالْحِفْظِ وَالتَّرْبِيَةِ، أَوِ الْأَوْلَادُ بِالطَّاعَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي يَعْلَى، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ يَتَفَاوَتُونَ فِي النَّفْعِ، حَتَّى لَا يُدْرَى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، لِأَنَّ الْأَوْلَادَ يَنْتَفِعُونَ فِي صِغَرِهِمْ بِالْآبَاءِ، وَالْآبَاءَ يَنْتَفِعُونَ فِي كِبَرِهِمْ بِالْأَبْنَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُعَلِّقًا هَذِهِ الْجُمْلَةَ: بِالْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ تَرْغِيبًا فِيهَا وَتَأْكِيدًا. قَالَ: لَا تَدْرُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، أَمَنْ أَوْصَى مِنْهُمْ أَمْ مَنْ لَمْ يُوصِ يَعْنِي:
أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ فَعَرَّضَكُمْ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِإِمْضَاءِ وَصِيَّتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، وَأَحْضَرُ جَدْوَى مِمَّنْ تَرَكَ الْوَصِيَّةَ فَوَفَّرَ عَلَيْكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَجَعَلَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَقْرَبَ وَأَحْضَرَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ذَهَابًا إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ عَاجِلًا قَرِيبًا فِي الصُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ فَانٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَبْعَدُ الْأَقْصَى، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ آجِلًا إِلَّا أَنَّهُ بَاقٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَقْرَبُ الْأَدْنَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ خِطَابُهُ. وَالْوَصِيَّةُ فِي الْآيَةِ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهَا لِمَشْرُوعِيَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا وَإِخْرَاجِ الدَّيْنِ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ عَنْهَا، وَتُفَسَّرُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَا. وَلَكِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الِابْنِ وَالْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَانَ حُكْمُ الِابْنِ إِذَا مَاتَ الْأَبُ عَنْهُ وَعَنْ أُنْثَى، أَنْ يَرِثَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَكَانَ حُكْمُ الْأَبَوَيْنِ إِذَا مَاتَ الِابْنُ عَنْهُمَا وَعَنْ وَلَدٍ أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَكَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْوَالِدِ أَوْفَرَ مِنْ نَصِيبِ الِابْنِ، إِذْ ذَاكَ لِمَا لَهُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّرْبِيَةِ مِنْ نَشْئِهِ إِلَى اكْتِسَابِهِ الْمَالَ إِلَى مَوْتِهِ، مَعَ مَا أُمِرَ بِهِ الِابْنُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بِرِّ أَبِيهِ. أَوْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِجْرَاءً لِلْأَصْلِ مَجْرَى الْفَرْعِ فِي الْإِرْثِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ قِسْمَتَهُ هِيَ الْقِسْمَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا وَشَرَعَهَا، وَأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ الَّذِينَ شُرِعَ فِي مِيرَاثِهِمْ مَا شُرِعَ لَا نَدْرِي نَحْنُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَفْعًا، بَلْ عِلْمُ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. فَالَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الْحَقُّ لَا مَا يَخْطُرُ بِعُقُولِنَا نَحْنُ، فَإِذَا كَانَ عِلْمُ ذَلِكَ عَازِبًا عَنَّا فَلَا نَخُوضُ فِيمَا لَا نَعْلَمُهُ، إِذْ هِيَ أَوْضَاعٌ مِنَ الشَّارِعِ لَا نَعْلَمُ نَحْنُ عِلَلَهَا ولا
(1) سورة النساء: 4/ 11.
نُدْرِكُهَا، بَلْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَجَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا تُعْقَلُ عِلَلُهَا هِيَ مِثْلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ سَوَاءٌ.
قَالُوا: وَارْتَفَعَ أَيُّهُمْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَقْرَبُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم اسْتِفْهَامٌ تَعَلَّقَ عَنِ الْعَمَلِ فِي لَفْظِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْبَاتِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَيَجُوزُ فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أَيُّهُمْ مَوْصُولَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الضم، وهي مفعول بتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هُمْ أَقْرَبُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ «1» وَقَدِ اجْتَمَعَ شَرْطُ جَوَازِ بِنَائِهَا وَهُوَ أَنَّهَا مُضَافَةٌ لَفْظًا مَحْذُوفٌ صَدْرُ صِلَتِهَا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ فَرِيضَةً انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ مَعْنَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ يَفْرِضُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ هِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، حَكِيمًا فِيمَا فَرَضَ، وَقَسَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَانَ إِذَا جَاءَتْ فِي نِسْبَةِ الْخَبَرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا التَّامَّةُ وَانْتَصَبَ عَلِيمًا عَلَى الْحَالِ فقوله: ضعيف، أو أنهار زَائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: خَطَأٌ.
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِيرَاثَ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ، وَمِيرَاثَ الْأُصُولِ مِنَ الْفُرُوعِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ مِيرَاثِ الْمُتَّصِلِينَ بِالسَّبَبِ لَا بِالنَّسَبِ وَهُوَ لِلزَّوْجِيَّةِ هُنَا، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ التَّوَارُثُ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ. وَالتَّوَارُثُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرْعِ هُوَ بِالنَّسَبِ، وَالسَّبَبِ الشَّامِلِ لِلزَّوْجِيَّةِ وَالْوَلَاءِ. وَكَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يُتَوَارَثُ بِالْمُوَالَاةِ وَالْخَلَفِ وَالْهِجْرَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقُدِّمَ ذِكْرُ مِيرَاثِ سَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى ذِكْرِ الْكَلَالَةِ وَإِنْ كَانَ بِالنَّسَبِ، لِتَوَاشُجِ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا، وَاسْتِغْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِعِشْرَةِ صَاحِبِهِ دُونَ عِشْرَةِ الكلالة، وبدىء بِخِطَابِ الرِّجَالِ لِمَا لَهُمْ مِنَ الدَّرَجَاتِ عَلَى النِّسَاءِ. وَلِمَا كَانَ الذَّكَرُ مِنَ الْأَوْلَادِ حَظُّهُ مَعَ الْأُنْثَى مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، جُعِلَ فِي سَبَبِ التَّزَوُّجِ الذِّكْرُ لَهُ مِثْلَا حَظِّ الْأُنْثَى. وَمَعْنَى: كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ أَيْ: مِنْكُمْ أَيُّهَا الْوَارِثُونَ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَالْوَلَدُ: هُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْ وَلَدَتْهُ لِبَطْنِهَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا كَانَ أو أكثر، وحكم بين الذُّكُورِ مِنْهَا وَإِنْ سَفَلُوا حُكْمُ الْوَلَدِ لِلْبَطْنِ، فِي أَنَّ فَرْضَ الزَّوْجِ مِنْهَا الرُّبُعُ مَعَ وُجُودِهِ بِإِجْمَاعٍ.
(1) سورة مريم: 19/ 69.
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الْوَلَدُ هُنَا كَالْوَلَدِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ. وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ إِنْ وُجِدْنَ، وَتَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدَةُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُمَا يُعْطَيَانِ فَرْضَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَوْلَ يَلْحَقُ فَرْضَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، كَمَا يَلْحَقُ سَائِرَ الْفَرَائِضِ الْمُسَمَّاةِ.
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الْكَلَالَةُ: خُلُوُّ الْمَيِّتِ عن الوالد والوالد قاله: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ فَقَطْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: إِنَّهُمْ يَحُطُّونَ الْأُمَّ وَيَأْخُذُونَ مَا يَحُطُّونَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ:
إِذْ وَرِثَهُمْ بِأَنَّ الْفَرِيضَةَ كَلَالَةً أَنْ يُعْطِيَهُمُ الثُّلُثَ بِالنَّصِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هِيَ الْخُلُوُّ مِنَ الْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إن الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَهُوَ مَوْرُوثٌ بِنَسَبٍ لَا بِتَكَلُّلٍ. وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ الْآنَ عَلَى أَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ ابْنٍ وَلَا أَبٍ، وَعَلَى هَذَا مَضَتِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ انْتَهَى.
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا. فَقِيلَ: مِنَ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ، فَكَأَنَّهُ يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى الْوَارِثِ مِنْ بَعْدِ إِعْيَاءٍ. قَالَ الأعشى:
فيا ليت لَا أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
…
وَلَا مِنْ وَجًى حَتَّى نُلَاقِيَ مُحَمَّدًا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَلَالَةُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَلَالِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقُوَّةِ مِنَ الْإِعْيَاءِ. فَاسْتُعِيرَتْ لِلْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، لِأَنَّهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَرَابَتِهَا كَالَّةٌ ضَعِيفَةٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مَنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَحَاطَ بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا فَقَدِ انْقَطَعَ طَرَفَاهُ، وَهُمَا عَمُودَا نَسَبِهِ، وَبَقِيَ مَوْرُوثُهُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ أَيْ: يُحِيطُ بِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ كَالْإِكْلِيلِ. وَمِنْهُ رَوْضٌ مُكَلَّلٌ بِالزَّهْرِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ
…
عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا يَرِثُهُ أَبٌ وَلَا أُمٌّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْكَلَالَةَ الْمَيِّتُ الَّذِي لَا والد لَهُ وَلَا مَوْلُودَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ صاحب الْعَيْنِ، وَأَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ، وَابْنِ عَرَفَةَ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، والعتبي، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَغَلِطَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي ذِكْرِ الْأَخِ
مَعَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ. وَقُطْرُبٌ فِي قَوْلِهِ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِمَنْ عَدَا الْأَبَوَيْنِ وَالْأَخِ، وَسُمِّي مَا عَدَا الْأَبَ وَالْوَلَدَ كَلَالَةً، لِأَنَّهُ بِذَهَابِ طَرَفَيْهِ تَكَلَّلَهُ الْوَرَثَةُ وَطَافُوا بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي جَابِرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ نُزُولِهَا ابْنٌ وَلَا أَبٌ، لِأَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَصَارَتْ قِصَّةُ جَابِرٍ بَيَانًا لِمُرَادِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فِي الْآيَةِ فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمَالُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلَالَةُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاغِبِ قَالَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِكُلِّ وَارِثٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمَرْءُ يَجْمَعُ لِلْغِنَى
…
وَلِلْكَلَالَةِ مَا يسيم
وقال عمرو ابن عَبَّاسٍ: الْكَلَالَةُ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْوَرَثَةُ بِجُمْلَتِهَا كُلُّهُمْ كَلَالَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُورَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مِنْ أُورِثَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مَنْ أَوْرَثَ أَيْضًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا. مِنْ وَرَّثَ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَمَعْنَى الْكَلَالَةِ أَنَّهُ الْمَيِّتُ أَوِ الوارث، فانتصاب الكلالة عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي يُورَثُ. وَإِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَارِثِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ: ذَا كَلَالَةٍ، لِأَنَّ الْكَلَالَةَ إِذْ ذَاكَ لَيْسَتْ نَفْسَ الضَّمِيرِ فِي يُورَثُ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَالَةِ الْقَرَابَةَ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: يُورَثُ لِأَجْلِ الْكَلَالَةِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْكَلَالَةُ هِيَ الْمَيِّتَ فَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ، التَّقْدِيرُ: يُورِثُ وَارِثَهُ مَالَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهَا الْوَارِثَ فَانْتِصَابُ الْكَلَالَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ به بيورث، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: يُورَثُ كَلَالَةً مَالُهُ أَوِ الْقَرَابَةُ، فَعَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ فِي كَانَ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، فَيَكُونَ يُورَثُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَتَامَّةً فَتَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ إِذَا كَانَتْ نَاقِصَةً وَالْكَلَالَةُ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، أَنْ يَكُونَ يُورَثُ صِفَةً، وَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى خَبَرِ كَانَ، أَوْ بِمَعْنَى الْوَارِثِ. فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ مَوْرُوثٌ ذَا كَلَالَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْكَلَالَةُ الْمَالُ، فَيَنْتَصِبُ كَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، سَوَاءٌ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلَالَةُ الْوِرَاثَةُ، وَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وِرَاثَةً كَلَالَةً.
وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمُلَخَّصُ مَا قِيلَ فِيهَا: أَنَّهَا الْوَارِثُ، أَوِ الْمَيِّتُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ، أَوِ الْوِرَاثَةُ، أَوِ الْقَرَابَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُورَثُ أَيْ: يُورَثُ مِنْهُ،
فَيَكُونُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَيُوَضِّحُهُ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ الرَّاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَإِنْ جَعَلْتَ يُورَثُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَوْرَثَ فَمَا وَجْهُهُ؟ (قُلْتُ) : الرَّجُلُ حِينَئِذٍ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَنْ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ؟ (قُلْتُ) : إِلَى الرَّجُلِ وَإِلَى أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِلَيْهِمَا (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا أَفَادَ اسْتِوَاءَهُمَا فِي حِيَازَةِ السُّدُسِ مِنْ غَيْرِ مُفَاضَلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَهَلْ تَبْقَى هَذِهِ الْفَائِدَةُ قَائِمَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ؟ [قُلْتُ] : نَعَمْ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السُّدُسُ لَهُ، أَوْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ أَوِ الْأُخْتِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ سَوَّيْتَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُ مَا قَالَ:
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ يُورِثُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ لَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة عَلَى رَجُلٌ، وَحَذَفَ مِنْهَا مَا قَيَّدَ بِهِ الرَّجُلَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَوِ امرة تُورَثُ كَلَالَةً. وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْعَطْفِ لَا يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْمَعْطُوفِ بِقَيْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَهُ، عَائِدٌ عَلَى الرَّجُلِ نَظِيرُ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» فِي كَوْنِهِ عَادَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَعْطُوفِ تَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ قَامَتْ، نَقَلَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ هَذَا الْحُكْمِ. وَزَادَ الْفَرَّاءُ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ: أَنْ يُسْنَدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا رَدَّدَتْ بَيْنَ اسمين بأو، أَنْ تُعِيدَ الضَّمِيرَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِلَى أَحَدِهِمَا أَيَّهَمَا شِئْتَ. تَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلْيَصِلْهُ. وَإِنْ شِئْتَ فَلْيَصِلْهَا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «2» وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ مَنَعَ الْوَجْهَ. وَأَصْلُ أُخْتٍ أَخَوَةٍ عَلَى وَزْنِ شَرَرَةٍ، كَمَا أَنَّ بِنْتًا أَصْلُهُ بَنَيَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي ابْنٍ، أَهُوَ الْمَحْذُوفُ مِنْهُ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ؟ قِيلَ: فَلَمَّا حُذِفَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ وَتَاءُ التَّأْنِيثِ، وَأَلْحَقُوا الْكَلِمَةَ بِقُفْلٍ وَجِذْعٍ بِزِيَادَةِ التَّاءِ آخِرَهُمَا قَالَ الْفَرَّاءُ: ضُمَّ أَوَّلُ أُخْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ وَاوٌ، وَكُسِرَ أَوَّلُ بِنْتٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَاءٌ انْتَهَى. وَدَلَّتْ هَذِهِ التَّاءُ الَّتِي لِلْإِلْحَاقِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنَ التَّأْنِيثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الْإِطْلَاقُ، إِذِ الْأُخُوَّةُ تكون بين الأحفاد وَالْأَعْيَانِ وَأَوْلَادِ الْعَلَّاتِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنَ الْأُمِّ. وَقِرَاءَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: وَلَهُ أخ أو أخت من أُمٍّ، وَاخْتِلَافُ الْحُكْمَيْنِ هُنَا، وَفِي آخِرِ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ، إِذْ هُنَا الِابْنَانِ أَوِ الْإِخْوَةُ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ. وَهُنَاكَ يَحُوزُونَ المال للذكر
(1) سورة الجمعة: 62/ 11.
(2)
سورة النساء: 4/ 135.
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْبِنْتَانِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى أَخٌ أَوْ أُخْتٌ. وَعَلَى مَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَأَحَدِ أَخٍ وَأُخْتٍ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَشِقَّاءَ فَلَهُ النِّصْفُ وَلَهُمَا السُّدُسُ، وَلَهُمُ الْبَاقِي أو لأم فَلَهُمُ الثُّلُثُ. أَوْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَشِقَّاءَ فَهَذِهِ الْحَمَّادِيَّةُ. فَهَلْ يَشْتَرِكُ الْجَمِيعُ فِي الثُّلُثِ، أَمْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ؟ قَوْلَانِ، قَالَ بِالتَّشْرِيكِ عُمَرُ فِي آخِرِ قَضَائِهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ بِالِانْفِرَادِ: عَلِيٌّ وأبو موسى، وأبي، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، أَيْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ السُّدُسَ هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا السُّدُسَ، فَتَصِحُّ الْأَكْثَرِيَّةُ فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ وَهُوَ ذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى هُنَا بِأَكْثَرَ يَعْنِي: فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِتَنَافِي مَعْنَى كَثِيرٍ وَوَاحِدٍ، إِذِ الْوَاحِدُ لَا كَثْرَةَ فِيهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فإن كانوا، وفهم شُرَكَاءُ غَلَبَ ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِالْوَاوِ وَبِلَفْظِ، فَهُمْ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا قُرِّرَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ أَخًا أَوْ أُخْتًا، أَيْ أَحَدَ هَذَيْنِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أَوْ أَكْثَرُ اشْتَرَكُوا فِي الثُّلُثِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَ اثْنَيْنِ مِنْ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ الضَّمِيرُ فِي يُوصَى عَائِدٌ عَلَى رَجُلٌ، كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي: وَلَهُ أَخٌ. وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْرُوثُ لَا الْوَارِثُ، لِأَنَّ الَّذِي يُوصِي أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ هُوَ الْمَوْرُوثَ لَا الْوَارِثَ. وَمَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ «1» أَنَّهُ هُوَ الْوَارِثُ لَا الْمَوْرُوثُ، جَعَلَ الْفَاعِلَ فِي يُوصَى عَائِدًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ المعنى من الْوَارِثِ. كَمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ «2» لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْمُوصِيَ وَالتَّارِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمَوْرُوثَ، لَا الْوَارِثَ. وَالْمُرَادُ: غَيْرُ مُضَارٍّ، وَرَثَتَهُ بِوَصِيَّتِهِ أَوْ دَيْنِهِ. وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ كَثِيرَةٌ: كَأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ لِوَارِثِهِ، أَوْ بِالثُّلُثِ، أَوْ يُحَابِيَ بِهِ، أَوْ يَهَبَهُ، أَوْ يَصْرِفَهُ إِلَى وُجُوهِ الْقُرْبِ مِنْ عِتْقٍ وَشِبْهِهِ فِرَارًا عَنْ وَارِثٍ مُحْتَاجٍ، أَوْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ لَيْسَ عَلَيْهِ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا دَامَ فِي الثُّلُثِ لَا يُعَدُّ مُضَارًّا، وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ هَذَا الْقَيْدِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ فِيمَا تَقَدَّمَ من ذكر قوله:
(1) سورة النساء: 4/ 12.
(2)
سورة النساء: 4/ 11.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها «1» وتُوصُونَ ويُوصِينَ «2» ويكون قَدْ حُذِفَ مِمَّا سَبَقَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي وَادِي جَهَنَّمَ» .
وَقَالَ قتادة: نَهَى اللَّهُ عَنِ الضِّرَارِ فِي الْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمَمَاتِ.
قَالُوا: وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُضَارٍّ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يُوصَى، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا يُوصَى. وَلَا يَجُوزُ مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ دَيْنٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ دَيْنٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنَ الْأَعْرَابِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا غَيْرَ مُضَارٍّ أَوْ دَيْنٍ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَّ لَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ قَامَ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. لَوْ قُلْتَ: تُرْسَلُ الرِّيَاحُ مُبَشِّرًا بِهَا بِكَسْرِ الشِّينِ، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرًا بِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ عَامًّا لِمَعْنَى مَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَلْزَمُ ذَلِكَ مَالَهُ أَوْ يُوجِبُهُ فِيهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِوَرَثَتِهِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ أَوِ الْإِيجَابِ. وَقِيلَ: يُضْمَرُ يُوصِي لِدَلَالَةِ يُوصَى عَلَيْهِ، كَقِرَاءَةِ يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ رِجَالٌ: أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً، كَمَا انْتَصَبَ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «3» .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُوصِيكُمُ. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «4» أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ «5» وَجَوَّزَ هُوَ والزمخشري نصب وصية بمضار عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا تَقَعُ بِالْوَرَثَةِ لَا بِالْوَصِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ قَدْ وَصَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ صَارَ الضَّرَرُ الْوَاقِعُ بِالْوَرَثَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْوَصِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ، فَخَفَضَ وَصِيَّةً بِإِضَافَةِ مُضَارٍّ إِلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ الْمَعْنَى: يَا سارقا في الليلة،
(1) سورة النساء: 4/ 11.
(2)
سورة النساء: 4/ 12.
(3)
سورة النساء: 4/ 11. [.....]
(4)
سورة النساء: 4/ 11.
(5)
سورة النساء: 4/ 12.
لَكِنَّهُ اتَّسَعَ فِي الْفِعْلِ فَعَدَّاهُ إِلَى الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرَ مُضَارٍّ فِي: وَصِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ، فَاتَّسَعَ وَعَدَّى اسْمَ الْفَاعِلِ إِلَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَسَاطَةٍ فِي تَعْدِيَتِهِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عَلِيمٌ بِمَنْ جَارَ أَوْ عَدَلَ، حَلِيمٌ عَنِ الْجَائِرِ لَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ أَيْ: أَنَّ الْجَائِرَ وَإِنْ لَمْ يُعَاجِلْهُ اللَّهُ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ حَلِيمٌ هُوَ أَنْ لَا يؤاخذه بِالذَّنْبِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى الصَّفْحِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ. وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَدَلَّ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمَوْرُوثُ فِي مُضَارَّتِهِ بِوَرَثَتِهِ فِي وَصِيَّتِهِ وَدَيْنِهِ، وَأَنَّ ذِكْرَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مُجَازَاتِهِ عَلَى مُضَارَّتِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّفْحِ عَمَّنْ شَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِقَابِ، إِلَّا وَيُرْدِفُ بِمَا دَلَّ عَلَى الْعَفْوِ. وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمِيرَاثِ، وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ هُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ النَّسَبُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ الْكَلَالَةُ.
فَتَقَدَّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ، وَالثَّانِي عَرَضٌ، وَأَخَّرَ الْكَلَالَةَ عَنْهُمَا لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ لَا يَعْرِضُ لَهُمَا سُقُوطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِكَوْنِ اتِّصَالِهِمَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَكْثَرِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قِيلَ: الْإِشَارَةُ بتلك إِلَى الْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ فِي أَحْوَالِ الْيَتَامَى وَالزَّوْجَاتِ وَالْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الشَّرَائِعَ حُدُودًا، لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَعَدُّوهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُدُودُ اللَّهِ طَاعَتُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: شُرُوطُهُ. وَقِيلَ: فَرَائِضُهُ. وَقِيلَ: سُنَنُهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لَمَّا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى عَامِلٍ بِهَا مُطِيعٍ، وَإِلَى غَيْرِ عَامِلٍ بِهَا عَاصٍ. وَبَدَأَ بِالْمُطِيعِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى الطَّاعَةُ، إِذِ السُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ بِخِطَابِ النَّاسِ عَامَّةً، ثُمَّ أَرْدَفَ بِخِطَابِ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ إِلَى آخِرِ الْمَوَارِيثِ، وَلِأَنَّ قِسْمَ الْخَيْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ وَأَنْ يُعْتَنَى بِتَقْدِيمِهِ. وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: يطع، ويدخله، فَأَفْرَدَ ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ. وَانْتِصَابُ خَالِدِينَ
عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُدْخِلْهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي يُدْخِلْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَمَعَ خَالِدِينَ عَلَى مَعْنَى مَنْ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ، وَعَكْسُ هَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ تَقَدُّمِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى ثُمَّ عَلَى اللَّفْظِ جَائِزٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَفِي مُرَاعَاةِ الْحَمْلَيْنِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ الْمُطَوَّلَةِ. وَقَالَ الزمخشري: وانتصب خالدين وخالدا عَلَى الْحَالِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صفتين لجنات ونارا؟ (قُلْتُ) : لَا، لِأَنَّهُمَا جَرَيَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هُمَا لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الضَّمِيرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: خَالِدِينَ هُمْ فِيهَا، وَخَالِدًا هُوَ: فِيهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ فُرِّعَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِبْرَازِ الضَّمِيرِ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ في الآية الزجاج والتبريزي أَخَذَ بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: نُدْخِلْهُ هُنَا، وَفِي: نُدْخِلْهُ نَارًا بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْيَاءِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الرَّاغِبُ: وَوَصْفُ الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدُّنْيَا الْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» وَالصَّغِيرُ وَالْقَلِيلُ فِي وَصْفِهِمَا مُتَقَارِبَانِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مُرَاعِي الْحُدُودِ ذَكَرَ عِقَابَ مَنْ يَتَعَدَّاهَا، وَغَلَّظَ فِي قِسْمِ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْعِصْيَانِ بَلْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ، وَنَاسَبَ الْخَتْمَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ الْمُتَعَدِّيَ لِلْحُدُودِ بَرَزَ فِي صُورَةِ مَنِ اغْتَرَّ وَتَجَاسَرَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقِلُّ الْمُبَالَاةُ بِالشَّدَائِدِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا الْهَوَانُ، وَلِهَذَا قَالُوا: الْمَنِيَّةُ وَلَا الدَّنِيَّةُ. قِيلَ: وَأَفْرَدَ خَالِدًا هُنَا، وَجَمَعَ فِي خَالِدِينَ فِيهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ أَهْلُ الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا شَفَعَ فِي غَيْرِهِ دَخَلَهَا، وَالْعَاصِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِهِ غَيْرَهُ، فَبَقِيَ وَحِيدًا انْتَهَى.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ: التَّفْصِيلَ فِي: الْوَارِثِ وَالْأَنْصِبَاءِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ الْآيَةَ. وَالْعُدُولَ مِنْ صِيغَةِ: يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ إِلَى يُوصِيكُمُ، لِمَا فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْحِرْصِ عَلَى اتِّبَاعِهَا. وَالطِّبَاقَ فِي: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي:
مَنْ يُطِعْ وَمَنْ يَعْصِ، وَإِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَرَكَ أَيْ: تَرَكَ الْمَوْرُوثُ. وَالتَّكْرَارَ فِي: لَفْظِ كَانَ، وَفِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ، وفي:
(1) سورة النساء: 4/ 77.