الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَّرَ بِفَنَاءِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ما يخلفونه فَهُوَ وَارِثُهُ. وَهُوَ خِطَابٌ عَلَى مَا يَفْهَمُ الْبَشَرُ، دَلَّ عَلَى فَنَاءِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَالِكٌ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَزَلْ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَعْنَاهَا التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ عَلَى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ مِنَ الْبُخْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَعْمَلُونَ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى يَبْخَلُونَ وَسَيُطَوَّقُونَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْبَاخِلِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا «1» .
انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِهِ الْتِفَاتًا، وَالْأَحْسَنُ الِالْتِفَاتُ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فُنُونًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْبَدِيعِ. الِاخْتِصَاصُ فِي: أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالتَّكْرَارُ فِي: يَسْتَبْشِرُونَ، وَفِي: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، وَفِي: اسْمِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَفِي:
لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي: ذِكْرِ الْإِمْلَاءِ. وَالطِّبَاقِ فِي: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَفِي:
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: يُسَارِعُونَ، وَفِي: اشْتَرَوْا، وَفِي: نُمْلِي وَفِي:
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، وَفِي: الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: فَآمِنُوا وَإِنْ تُؤْمِنُوا.
وَالِالْتِفَاتُ فِي: أَنْتُمْ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، وَفِي: تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فِيمَنْ قَرَأَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالْحَذْفُ في مواضع.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 185]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَاّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
(1) سورة آل عمران: 3/ 179.
الزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ. يُقَالُ: زَبَرْتُ أَيْ كَتَبْتُ، فَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ:
مَزْبُورٍ، كَالرُّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي
…
كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ يَمَانِ
وَيُقَالُ: زَبَرْتُهُ قَرَأْتُهُ، وَزَبَرْتُهُ حَسَّنْتُهُ، وَتَزَبَّرْتُهُ زَجَرْتُهُ. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُ الزَّبُورِ مِنَ الزُّبْرَةِ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الَّتِي تُرِكَتْ بِحَالِهَا.
الزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ، تَكْرِيرُ الزَّحِّ وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ وَيُقَالُ: مَكَانٌ زَحْزَحٌ أَيْ بَعِيدٌ.
الْفَوْزُ: النَّجَاةُ مِمَّا يُحْذَرُ وَالظَّفَرُ بِمَا يُؤَمَّلُ، وَسُمِّيَتِ الْأَرْضُ الْقَفْرُ الْبَعِيدَةُ الْمَخُوفُ مِنَ الْهَلَاكِ فِيهَا مَفَازَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ تَفْوِيزٍ، وَمَظِنَّةُ هَلَاكٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: فَوَّزَ الرَّجُلُ مَاتَ.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، حَاوَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَقَالَ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنَعَهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَهْدَ، فَشَكَاهُ إِلَى الرَّسُولِ وَأَنْكَرَ مَا قَالَ، فَنَزَلَتْ تَكْذِيبًا لِفِنْحَاصٍ، وَتَصْدِيقًا لِلصَّدِيقِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ إِسْحَاقَ رضي الله عنهم، وَسَاقُوا الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَالَ هُوَ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَمَعْمَرٌ وَغَيْرُهُمْ: فِي الْيَهُودِ. وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ فِي إِلْيَاسِ بْنِ عُمَرَ. وَلَمَّا نَزَلَ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قَالَ أَوْ قَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمْعٌ، فَيُمْكِنُ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ فِنْحَاصٍ أَوْ حَيِيٍّ أَوَّلًا، ثُمَّ تَقَاوَلَهَا الْيَهُودُ، أَوْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَنُسِبَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى عَادَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الْقَبِيلَةِ فِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ: أَنَّهُ لَمْ يُخْفَ عَلَيْهِ تَعَالَى مَقَالَتُهُمْ، وَمَقَالَتُهُمْ هَذِهِ إِمَّا على سبيل
(1) سورة البقرة: 2/ 245.
الْجَوَالِيقِيُّ: الْمُتَفَتِّيَةُ وَالْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ، وَالْفَتَى الرَّفِيقُ، وَمِنْهُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «1» وَالْفَتَى: الْعَبْدُ. وَمِنْهُ:
«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» .
الْمَيْلُ:
الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النِّسَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشَةِ هُنَا: الْمُسَاحَقَةُ، جَعَلَ حَدَّهُنَّ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ يَمُتْنَ أَوْ يَتَزَوَّجْنَ. قَالَ:
ونزلت وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ «2» فِي أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَالَّتِي فِي النُّورِ: فِي الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «3» وَخَالَفَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ. وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النِّسَاءِ فَذَكَرَ إِيتَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ وَتَوْرِيثَهُنَّ، وَقَدْ كُنَّ لَا يُوَرَّثْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِنَّ، إِذْ هُوَ نَظَرٌ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِنَّ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقَامَ عَلَيْهِنَّ الْحُدُودُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ فِي أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ.
وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُودَهُ وَأَشَارَ بِتِلْكَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَقَعَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ، فَكَانَ فِي مَبْدَأِ السُّورَةِ التَّحَصُّنُ بِالتَّزْوِيجِ وَإِبَاحَةُ مَا أَبَاحَ مِنْ نِكَاحِ أَرْبَعٍ لِمَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ، اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوَانِي، وَأَفْرَدَهُنَّ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُنَّ عَلَى مَا قِيلَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرِّجَالِ، ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ ثَانِيًا مَعَ الرِّجَالِ الزَّانِينَ في قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَصَارَ ذِكْرُ النِّسَاءِ الزَّوَانِي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْإِفْرَادِ، وَمَرَّةً بِالشُّمُولِ.
وَاللَّاتِي جَمْعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَّتِي، وَلَهَا جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أغربها: اللاآت، وَإِعْرَابُهَا إِعْرَابُ الْهِنْدَاتِ.
وَمَعْنَى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ: يَجِئْنَ وَيَغْشَيْنَ. وَالْفَاحِشَةُ هُنَا الزِّنَا بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَتَبِعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسَاحَقَةُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأُطْلِقَ عَلَى الزِّنَا اسْمُ الْفَاحِشَةِ لِزِيَادَتِهَا فِي الْقُبْحِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِحِ. قِيلَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: الْقُوَى الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ ثَلَاثٌ: النَّاطِقَةُ وَفَسَادُهَا بِالْكُفْرِ
(1) سورة الكهف: 18/ 60.
(2)
سورة النساء: 4/ 16.
(3)
سورة النور: 24/ 2.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِحَمْزَةَ رضي الله عنه لَمَّا طَعَنَهُ وَحْشِيٌّ: ذُقْ عُقُقُ، وَاسْتُعِيرَ لِمُبَاشَرَةِ الْعَذَابِ الذَّوْقُ، لِأَنَّ الذَّوْقَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْمُبَاشَرَةِ، وَحَاسَّتُهَا مُتَمَيِّزَةٌ جِدًّا. وَالْحَرِيقُ:
الْمُحْرِقُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ، كَأَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ. وَقِيلَ: الْحَرِيقُ طَبَقَةٌ مِنْ طِبَاقِ جَهَنَّمَ.
وَقِيلَ: الْحَرِيقُ الْمُلْتَهِبُ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ تَشْمَلُ الْمُلْتَهِبَةَ وَغَيْرَ الْمُلْتَهِبَةِ، وَالْمُلْتَهِبَةُ أَشَدُّهَا.
وَالظَّاهِرُ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِمْ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْحِسَابِ، أَوْ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَأَنَّ وَمَا بَعْدَهَا مَحْكِيٌّ بِقَالُوا. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِالْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ. قَالَ: وَإِعْمَالُ الْأَوَّلِ أَصْلٌ ضَعِيفٌ، وَيَزْدَادُ ضَعْفًا لِأَنَّ الثَّانِي فِعْلٌ وَالْأَوَّلُ مَصْدَرٌ، وَإِعْمَالُ الْفِعْلِ أَقْوَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِيمَا قَالُوا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَنَكْتُبُ وَقَتْلَهُمْ بِالنَّصْبِ. وَنَقُولُ: بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظَّمِ. أَوْ تَكُونُ لِلْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ: سَيَكْتُبُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَتْلُهُمْ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَا، إِذْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِسَيَكْتُبُ، وَيَقُولُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُونَ. وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْهُ: سَتَكْتُبُ مَا قَالُوا بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى مَعْنَى مَقَالَتِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُقَالُ ذُوقُوا. وَنَقَلُوا عَنْ أَبِي مُعَاذٍ النَّحْوِيِّ أَنَّ فِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُونَ وَنَقُولُ لَهُمْ ذُوقُوا.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ من عِقَابِهِمْ، وَنُسِبَ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّةِ إِلَى الْأَيْدِي عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْأَيْدِيَ تُزَاوِلُ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ كُلُّ عَمَلٍ وَاقِعٌ بِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي المقول، وبخوا بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُمُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمُ الْعِقَابَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَعْمُولِ قَوْلِهِ وَنَقُولُ.
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، أَيْ ذَلِكَ الْعِقَابُ حَاصِلٌ بِسَبَبِ مَعَاصِيكُمْ، وَعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيكُمْ. وَجَاءَ لَفْظُ ظَلَّامٍ الْمَوْضُوعُ لِلتَّكْثِيرِ، وَهَذَا تَكْثِيرٌ بِسَبَبِ الْمُتَعَلِّقِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ فِعَالًا قَدْ يَجِيءُ لَا يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً
…
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدُ
لَا يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا، لِأَنَّ عَجُزَ الْبَيْتِ يَدْفَعُهُ، فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْبُخْلِ فِي
كُلِّ حَالٍ، وَتَمَامُ الْمَدْحِ لَا يَحْصُلُ بِإِرَادَةِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: إِذَا نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ اتَّبَعَ الْقَلِيلَ ضَرُورَةً، لِأَنَّ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ نَفْعِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّفْعُ وَالضَّرَرُ كَانَ لِلظُّلْمِ الْقَلِيلِ الْمَنْفَعَةِ أَتْرَكُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ: لَوْ كَانَ ظَالِمًا لَكَانَ عَظِيمًا، فَنَفَاهُ عَلَى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا وَالْعَبِيدُ جَمْعُ عَبْدٍ، كَالْكَلِيبِ. وَقَدْ جَاءَ اسْمُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ نَحْوِ الضَّيْفَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، جَوَازَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِخْبَارُ الْوَاحِدِ كَأَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، وَنَاسَبَ لَفْظُ هَذَا الْجَمْعِ دُونَ لَفْظِ الْعِبَادِ، لِمُنَاسَبَةِ الْفَوَاصِلِ الَّتِي قَبْلَهُ مِمَّا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ، كَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ، وَكَمَا نَاسَبَ لَفْظُ الْعِبَادِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجُمِعَ عَبْدًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَبِيدٍ لِأَنَّهُ مَكَانُ تَشْقِيقٍ وَتَنْجِيَةٍ مِنْ ظُلْمٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا تَظْهَرُ لِي هَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْجَمْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَلِمَ عَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، على بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَكَيْفَ جَعَلَ كونه غير ظلام للعبيد شَرِيكًا لِاجْتِرَاحِهِمُ السَّيِّئَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَى كونه غير ظلام للعبيد: أَنَّهُ عَادِلٌ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُعَاقِبَ الْمُسِيءَ منهم ويشيب الْمُحْسِنَ انْتَهَى. وَفِيهِ رَائِحَةُ الِاعْتِزَالِ.
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
قَالَ الْكَعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَوَهْبٌ بنِ يَهُوذَا، وَزَيْدِ بْنِ مَانُوهٍ، وَفِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَهِدَ إِلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَإِنْ جِئْتَنَا بِهِ صَدَّقْنَاكَ.
وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ، فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فَآمِنُوا بِهِمَا مِنْ غَيْرِ قُرْبَانٍ. وَقِيلَ: كَانَ أَمْرُ الْقَرَابِينِ ثَابِتًا، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ. وَقِيلَ: ذِكْرُهُمْ هَذَا الْعَهْدِ هُوَ مِنْ كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ.
وَمَعْنَى عَهِدَ: وَصَّى، وَالْعَهْدُ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَا يَتَطَاوَلُ أَمْرُهُ وَيَبْقَى فِي غَابِرِ الزَّمَانِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَتَعَدَّى نُؤْمِنُ بِاللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَما آمَنَ لِمُوسى «1» يؤمن
(1) سورة يونس: 10/ 83.
لِلَّهِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَالرَّهْنِ، وَكَانَ حُكْمُهُ قَدِيمًا فِي الْأَنْبِيَاءِ. أَلَا تَرَى إِلَى قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ، وَكَانَ أَكْلُ النَّارِ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ الْعَمَلِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوْ صِدْقِ مَقَالَةٍ. وَإِذَا لَمْ تَنْزِلِ النَّارُ فَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ، وَكَانَتِ النَّارُ أَيْضًا تَنْزِلُ لِلْغَنَائِمِ فَتَحْرِقُهَا. وَإِسْنَادُ الْأَكْلِ إِلَى النَّارِ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ عَنْ إِذْهَابِ الشَّيْءِ وَإِفْنَائِهِ، إِذْ حَقِيقَةُ الْأَكْلِ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي، وَالْقُرْبَانُ وَأَكْلُ النَّارِ مُعْجِزٌ لِلنَّبِيِّ يُوجِبُ الْإِيمَانَ بِهِ، فَهُوَ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ سَوَاءٌ. وَلِلَّهِ أَنْ يُعَيِّنَ مِنَ الْآيَاتِ مَا شَاءَ لِأَنْبِيَائِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا يَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيزِ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَا اقْتَرَحُوهُ لَمَا آمَنُوا.
وَالَّذِينَ قَالُوا صِفَةٌ لِلَّذِينِ قَالُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ صِفَةٌ لِلْعَبِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمَعْنَى وَالْوَصْفِ انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَجَوَّزُوا قَطْعَهُ لِلرَّفْعِ، وَالنَّصْبِ، وَإِتْبَاعَهُ بَدَلًا. وَفِي أَنْ لَا نُؤْمِنَ تَقْدِيرُ حَرْفِ جَرٍّ، فَحُذِفَ وَبَقِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ: أَهْوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ؟ وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى تَضْمِينِ عَهِدَ مَعْنَى الْزَمْ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِقُرُبَانٍ بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَافِ، وَلَيْسَ بِلُغَةٍ.
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فُعُلَانِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ السُّلُطَانُ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَالَ:
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِتْبَاعِ انْتَهَى. وَلَمْ يَقُلْ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِتْبَاعِ، بَلْ قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي الْكَلَامِ فُعْلَانِ وَلَا فُعُلَانِ، وَلَا شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّحْوِ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَلَكِنَّهُ جَاءَ فُعُلَانِ وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالُوا: السُّلْطَانُ وَهُوَ اسْمٌ انْتَهَى. وَقَالَ الشارح: صاحب في اللُّغَةِ لَا يُسَكَّنُ وَلَا يُتْبَعُ، وَكَذَا ذَكَرَ التَّصْرِيفِيُّونَ أَنَّهُ بِنَاءُ مُسْتَقْبَلٍ. قَالُوا فِيمَا لَحِقَهُ زِيَادَتَانِ بَعْدَ اللَّامِ وَعَلَى فُعْلَانِ وَلَمْ يجيء إِلَّا اسْمًا: وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوَ سُلْطَانٍ.
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَأَكْذَبَهُمْ فِي اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَلْزَمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالَّذِي قَالُوهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ وَبِالْآيَاتِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، بَلْ قَتَلُوهُمْ. وَلَمْ يَكْتَفُوا بِتَكْذِيبِهِمْ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِمْ شَرَّ فِعْلٍ، وَهُوَ إِتْلَافُ النَّفْسِ بِالْقَتْلِ.
فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مِنْكُمْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ تَعَلُّلٌ وَتَعَنُّتٌ، وَلَوْ جَاءَهُمْ بِالْقُرْبَانِ لَتَعَلَّلُوا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَرِحُونَهُ. وَالِاقْتِرَاحُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا يُجَابُ طَالِبُهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَهُ، كَقِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ
قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اقْتِرَاحِ قُرَيْشٍ فَأَبَى عليه السلام وَقَالَ: بَلْ أَدْعُوهُمْ
وَأُعَالِجُهُمْ
وَمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ يُلْزِمُ بِإِتْيَانِ الْبَيِّنَاتِ وَالْقُرْبَانِ، أَوْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْكُمْ.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لَمَّا ظَهَرَ كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ بِذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي افْتَرَوْهُ، وَكَانَ فِي ضِمْنِهِ تَكْذِيبُهُ إِذْ عَلَّقُوا الْإِيمَانَ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مُقْتَرَحٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَلَمْ يُجِبْهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ، فَسَلَّى الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ هَذَا دَأْبُهُمْ، وَسَبَقَ مِنْهُمْ تَكْذِيبُهُمْ لِرُسُلٍ جَاءُوا بِمَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ مِنْ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَبِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ النَّيِّرَةِ الْمُزِيلَةِ لِظُلَمِ الشُّبَهِ.
وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ سُمِّيَ بِذَلِكَ قِيلَ: لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ، إِذْ يُقَالُ: زَبَرَهُ كَتَبَهُ. أَوْ لِكَوْنِهِ زَاجِرًا مِنْ زَبَرَهُ زَجَرَهُ، وَبِهِ سُمِّي كِتَابُ دَاوُدَ زَبُورًا لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ، أَوْ لِأَحْكَامِهِ. وَالزُّبُرُ: الْأَحْكَامُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الزَّبُورُ كُلُّ كِتَابٍ فِيهِ حِكْمَةٌ.
قِيلَ: وَالْكِتَابُ هُوَ الزُّبُرُ. وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ وَاحِدٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَيَاهُمَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَالزُّبُرُ الزَّوَاجِرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُتُبُ. أي:
جاؤوا بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَةِ وَالتَّخْوِيفَاتِ وَالْكُتُبِ النَّيِّرَةِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ بِهِ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ الْجَوَابَ لِمُضِيِّهِ، إِذْ جَوَابُ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ لَا مَحَالَةَ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَاضِي هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَامُحِ لَا الْحَقِيقَةِ. وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَلَى تَكْذِيبِ الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ تَكْذِيبُ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَقَدْ كَذَّبَتْ أُمَمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ الرُّسُلَ. قِيلَ: وَنَكَّرَ رُسُلٌ لِكَثْرَتِهِمْ وَشِيَاعِهِمْ. وَمِنْ قَبْلِكَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُذِّبَ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: جاؤوا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرُسُلٍ انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّنَاتِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالتَّعْدِيَةَ، أَيْ:
جاؤوا أُمَمَهُمْ مَصْحُوبَيْنَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَوْ جاؤوا الْبَيِّنَاتَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالزُّبُرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ:
وَبِالزُّبُرِ، وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّأْمِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ بِخِلَافٍ عَنْهُ وَبِالْكِتَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْكِتَابُ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْعَطْفِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَكَانَ ذِكْرُ
الْكِتَابِ مُفْرَدًا وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ، وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ أَنْ يُجْمَعَ كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا لِذَلِكَ.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا الْوَعْظَ وَالتَّسْلِيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَالْوَعْدَ بِالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ بِذَكَرِ الْمَوْتِ، وَالْفِكْرَةِ فِيهِ تُهَوِّنُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَغَيْرِهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُكَذِّبِينَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، نُبِّهُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَمَآلُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، فَفِيهَا يَظْهَرُ النَّاجِي وَالْهَالِكُ، وَأَنَّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَتُّعِ الْمَغْرُورِ بِهِ، كُلُّهَا تَضْمَحِلُّ وَتَزُولُ وَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ يُوَفَّاهُ فِي الْآخِرَةِ، يُوَفَّى عَلَى طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، وَعَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ انْتَهَى. وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النفس تموت. وقال أَيْضًا: لَفْظُ النَّفْسِ مُخْتَصٌّ بِالْأَجْسَامِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ:
ذَائِقَةٌ بِالتَّنْوِينِ، الْمَوْتَ بِالنَّصْبِ، وَذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَنَقَلَهَا غَيْرُهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَيَحْيَى، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فِيمَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَائِقَةُ بِغَيْرِ تَنْوِينِ الْمَوْتَ بِالنَّصْبِ وَمِثْلُهُ:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ
…
وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلَا
حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ «1» بِحَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ أَحَدٍ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَفْظُ التَّوْفِيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْمِيلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ الْقَبْرِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ، هُوَ بَعْضُ الْأُجُورِ وَمَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ فَهُوَ غَيْرُ مُوَفًّى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْأَجْرَ هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَصَّ تَعَالَى ذِكْرَ الْأُجُورِ لِشَرَفِهَا، وَإِشَارَةٍ إِلَى مَغْفِرَتِهِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ يَوْمَ القيامة يقع فيه توفية الْأُجُورُ، وَتَوْفِيَةُ الْعُقُوبَاتِ انْتَهَى.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ عَلَّقَ الْفَوْزَ وَهُوَ نَيْلُ الحظ من الخير
(1) سورة الإخلاص: 112/ 1- 2.
وَالنَّجَاةِ مِنَ الشَّرِّ عَلَى التَّنْحِيَةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ ينح عَنِ النَّارِ بَلْ أُدْخِلَهَا، وَإِنْ كَانَ سَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَمْ يَفُزْ كَمَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَمَنْ نُحِّيَ عَنْهَا وَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ كَأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، لَمْ يَفُزْ أَيْضًا.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، قِيلَ: فَازَ مَعْنَاهُ نَجَا. وَقِيلَ: سَبَقَ.
وَقِيلَ: غَنِمَ.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الْمَتَاعُ: مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مِنْ آلَاتٍ وَأَمْوَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ: بِالْفَأْسِ، وَالْقَصْعَةِ، وَالْقِدْرِ. وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ فَقَالَ: هُوَ كَخُضْرَةِ النَّبَاتِ، وَلَعِبِ الْبَنَاتِ لَا حَاصِلَ لَهُ يَلْمَعُ لَمْعَ السَّرَابِ، وَيَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَهَذَا مِنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيَغُرُّ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُدَلِّسُ. الْغَرُورُ انْتَهَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا هَذَا لِمَنْ آثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ بِهَا فَإِنَّهَا مَتَاعٌ بَلَاغٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: مَتَاعُ الْغُرُورِ الْقَوَارِيرُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مَنْ الِانْكِسَارِ وَالْفَسَادِ، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الدُّنْيَا كُلُّهُ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ مِنْ عِكْرِمَةَ وَالْغُرُورُ الْخُدَعُ وَالتَّرْجِئَةُ بِالْبَاطِلِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ كَزَادِ الرَّاعِي يُزَوِّدُ الْكَفَّ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّيْءَ مِنَ الدَّقِيقِ يَشْرَبُ عَلَيْهِ اللَّبَنَ، يَعْنِي: أَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ لَا يَكْفِي مَنْ تَمَتَّعَ بِهِ وَلَا يُبَلِّغُهُ سَفَرَهُ.
وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عِشْ وَلَا تَغْتَرَّ. أَيْ: لَا تجتزىء بِمَا لَا يَكْفِيكَ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا حَسَنًا وَلَهُ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ، وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى مَخَبَّآتِ النَّاسِ وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْغَرُورِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرُ بَيْعٍ وَبَاطِنٌ مَجْهُولٌ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ تَقْدِيرُهُ: وَمَا نَفْعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا نَفْعُ الْغُرُورِ. أَيْ: نَفْعٌ يُغْفِلُ عَنِ النَّفْعِ الْحَقِيقِيِّ لِدَوَامِهِ، وَهُوَ النَّفْعُ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَإِضَافَةُ الْمَتَاعِ إِلَى الْغُرُورِ إِنْ جُعِلَ الْغُرُورُ جَمْعًا فَهُوَ كَقَوْلِكَ: نَفْعُ الْغَافِلِينَ. وَإِنْ جُعِلَ مَصْدَرًا فَهُوَ كَقَوْلِكَ: نَفْعُ إِغْفَالٍ، أَيْ إِهْمَالٍ فَيُورِثُ الْغَفْلَةَ عَنِ التَّأَهُّبِ لِلْآخِرَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر: المغرور بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَفُسِّرَ بِالشَّيْطَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعُولًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: مَتَاعُ الْمَغْرُورِ، أَيْ: الْمَخْدُوعِ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قَالُوا: وَالْمُمَاثِلَ فِي: قَالُوا، وَسَنَكْتُبُ مَا قَالُوا، وَفِي: كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ. وَالطِّبَاقُ فِي: فَقِيرُ وَأَغْنِيَاءُ، وَفِي: الْمَوْتُ